مجله البيان (صفحة 4130)

الافتتاحية

ليست مأساة دولة بل مأساة أمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،

وبعد:

فإن تسارع الأحداث في أفغانستان بهذا الشكل السريع لأمر مؤسف؛ فبعد

صمود شهر كامل أمام القصف الأمريكي الهمجي الذي لم يتورع عن ضرب المدن

والمساجد والمستشفيات ومستودعات الإغاثة فضلاً عن ضرب القواعد العسكرية

والمطارات والخطوط الأمامية، مع القصف بالطائرات العسكرية وبالقنابل

الانشطارية وغيرها من الأسلحة المحرمة دولياً بالتعاون بين (المعارضة الشمالية)

ليدخلوا على جثث إخوانهم في الدين والعقيدة؛ أدى كل ذلك بحكومة طالبان

للانسحاب حتى لا تحصل مجازر لسكان المدن التي سيكون وقودها المدنيين

الأبرياء.

وهذه الكارثة المؤسفة تذكرنا بواقعة تاريخية مشابهة حينما ترك المسلمون في

الأندلس العصابات النصرانية في الشمال تهاوناً بشأنها بينما النصارى يمدونها بالعدد

والعتاد فكَرُّوا هاجمين على المسلمين حتى طردوهم من (الفردوس المفقود) ، وهذا

ما حصل بالفعل حينما تركت (طالبان) تلك العصابات الخارجة تنعم بدعم الروس

والدول الشيوعية المحاذية لها. والمسألة قد لا تكون بمثل هذا الوصف تماماً؛ لأن

تدهور الأوضاع في أفغانستان له أسباب جوهرية أخرى ساعدت على تداعي الأمور

بهذا الشكل السريع والمريع؛ فلقد قامت دولة طالبان على أنقاض دولة قادها زعماء

فصائل متنازعين بعد أن كانوا متوحدين وقت الانتصار على الاتحاد السوفييتي

البائد؛ فبينما كان الشعب الأفغاني يلملم جراحه ويمنِّي النفوس بقيام دولة إسلامية

فوجئ أنها ليست سوى (كانتونات حزبية) متناحرة، بل إن السلبيات العقدية

والاجتماعية ما زالت قائمة، فزادت معاناة الشعب الأفغاني، ثم قامت دولة طالبان

بشكل سريع أثار إعجاب الجميع، ورحب بها الأفغانيون حيث شاع الأمن وقضي

على (مافيا المخدرات) ، ولولا مشاغلات المعارضة الشمالية من ناحية ومقاطعة

العالم لها من ناحية أخرى لأمكن قيامها بشكل مستقر وقوي، وهذا ما سبق أن

تطرقنا إليه وبيناه في البيان في أكثر من مقالة [1] .

ومع أن قيام دولة طالبان يرمز للدولة الإسلامية التي لم تستكمل كل مقوماتها؛

إلا أن الغرب فوجئ بقيام هذه الظاهرة الجديدة؛ وهذا بالطبع لا يسره ولا سيما

بعد إخفاقه في محاولات استغلالها ومحاولات تدجينها ليمرر من خلالها مصالحه

القريبة والبعيدة؛ لكن (طالبان) وقفت بشموخ ضد القوم وعلى رأسهم (أمريكا)

التي بدأت بالعمل المتواصل لاحتوائها؛ فقد كانت تحاول الاعتراف بها وفتح سفارة

لها في (كابل) ، وهذا ما أشار إليه مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون آسيا

الجنوبية المدعو (رابين روفائيل) باعتبارها القوة المحلية القادرة على الاحتفاظ

بالسلطة؛ فما الذي أوقف هذا الاتجاه بالرغم من أنها سيطرت على أكثر من 95%

من أراضي أفغانستان؟ لا شك أن رفض طالبان الائتمار بأمرها والسير وفق

رغباتها جعلها تتنكر لها وتعمل على الإيقاع بها بعد رفضها أن تكون منفذاً سهلاً

لمصالحها الاقتصادية، ولفوات أهدافها في استغلال مناجم الذهب في وادي

الوحوش، وهي ثروات يسيل لها اللعاب الأمريكي فضلاً عن حرمانها لموطئ قدم

في منطقة استراتيجية بالقرب من (روسيا والصين) والهند وباكستان.

ولذا عملوا على منع جل دول العالم من الاعتراف بها، واستصدروا قراراً

من مجلس الأمن باعتبار الدولة السابقة هي المعترف بها وحدها، وحرضوا

أعداءهم ومناوئيهم في الشمال بالدعم والتشجيع المنقطع النظير.

ونعتقد أن تراجع طالبان كدولة بالأسباب آنفة الذكر تدعمه أسباب أخرى يمكن

أن نجملها فيما يلي:

* أن هذه الدولة بالرغم من إسلاميتها وتبنيها للجهاد منطلقاً للبناء فقد جابهت

تحدياً كبيراً بواقع الشعب الأفغاني بأعراقه وطوائفه وأحزابه المختلفة التي لم

تستطع أن تنسى خلافاتها أو تخفف منها.

* أن جل قواتها العسكرية والأمنية هم من (طلاب العلم) الذي شاركوا في

حرب التحرير، فما عندهم من الخبرة الحياتية والعلمية والعملية مع الضغوط

والمحاصرة الخارجية ربما لم يكن كافياً في مجالات التنمية والإعمار والتحديث.

* أن قطاعاً كبيراً من جيشها كان في الأصل من أتباع الأحزاب الجهادية

السابقة مثل (الحزب الإسلامي) التابع للشيخ يونس خالص، و (الانقلاب

الإسلامي) للشيخ محمد نبي محمدي، ولعل هذا كان سبباً في أن صفوف طالبان،

وتكوينها التفصيلي لم يشكل نسيجاً مؤتلفاً واحداً يمكنه أن يكون جميعاً على قلب

رجل واحد أمام واحدة من أشد التحديات التي تعجز عن مواجهتها التكتلات الدولية

فضلاً عن الدول الضعيفة.

* الإعلام الغربي والشرقي الذي كثيراً ما شوه وشنع على (طالبان)

ووصفهم بأقذع الأوصاف من دعوى العدوانية والتعصب، وإهانة المرأة، وإذلال

الأقليات، وراح الإعلام العربي العلماني يردد دعاوى أسياده بشكل أكثر حدة وحقداً

بلا خوف من الله ولا وازع من ضمير، وهذا بلا شك كان لا بد أن يؤثر على

معنويات القائمين على تلك الدولة، فهُم بشر يحزنون ويغضبون.

* حصار هذه الدولة ومنع استفادتها من مستحقاتها في البنوك الدولية فضلاً

عن عدم الاعتراف بها كل ذلك أعجز اقتصادها وقعد بطموحاتها عن أن تتمكن من

إعادة بناء ما تدمر من البنى التحتية وبناء مقوماتها الحياتية.

* كان لزعماء طالبان رؤيتهم الخاصة في الإعلام مما جعل حركتهم تقاطع

وسائل الإعلام طوال الفترة التي سبقت الأحداث الأخيرة، إلا أنها غيرت من ذلك

أخيراً حينما اتفقت مع محطتي (الجزيرة) والـ (سي إن إن) لنقل واقع الحياة

والأحداث بها ولا سيما بعد الحرب المجنونة ضدها، والتي كشفت البربرية الغربية

والعدوانية الصليبية حيالها؛ مما كان سبباً في ضرب (فرع محطة الجزيرة) بشكل

بشع أثار استياء كل المتابعين، وأظهر في الوقت نفسه أن الأعلام الدولي يريد

صورة واحدة أمام العالم هي الصورة التي يراها هو فقط.

والعجيب أن أحداث 11/9/2001م ألقيت مسؤوليتها على دولة طالبان

بدعوى إيوائها (للمشتبه فيهم) ، مع أن حكومة أفغانستان طالبت بكشف الأدلة

المقنعة وحينها ستسلم المتهمين ليتم محاكمتهم في دولة محايدة، لكن الأهداف

المرسومة سلفاً لتدمير هذه الدولة الإسلامية لم يعد معها أي مسوِّغ لإيقاف الحرب

لتحقيق أهداف عديدة، منها:

- خداع الشعب الأمريكي وإقناعه بأن إدارته الحاكمة ستنتقم لهم من المشتبه

فيهم! !

- استثمار الحدث لتأديب (طالبان) لخروجها عن سيطرتها وعدم قبول

أوامرها.

- ضرب المد الإسلامي في الغرب والعالم كافة بدءاً من طالبان؛ ولذا لم

تكتف بعدم تحديد وقت لإنهاء حربها المزعومة ضد الإرهاب؛ بل أدخلت كل

الجماعات الإسلامية بدعوى أنها حركات إرهابية؛ في الوقت الذي لم تحدد حقيقة

الإرهاب حتى لا تدان بمساعدة الإرهاب الصهيوني وتحاسَب من العالم على الكيل

بمكيالين، وهذا لم يعد مجهولاً لأحد.

إن انسحاب طالبان من المدن الرئيسية كما قال زعماؤها ليس إلا رحمة

بالمدنيين الأبرياء، وإن كان على حساب كيانها بوصفها دولة قائمة، وهذا في

نظرنا يُحسَب لها، وإن انكمشت في بقاع محدودة؛ فهي ما زالت وحتى كتابة هذه

الافتتاحية متمسكة بمعقلها في قندهار ولا ندري ماذا سيكون بعد ذلك؛ فالحرب قائمة؟

نسأل الله أن يُحدث بعد ذلك أمراً لجنده المؤمنين ضد الكافرين والمنافقين.

ومما يؤسف له أن (المعارضة الشمالية) التي من ضمن زعمائها بعض قادة

الجهاد القدامى دخلوا تحت حماية القصف الأمريكي يحتلون المدن ويسومون جيش

طالبان وأنصارهم سوء العذاب بصور يندى لها جبين كل مسلم؛ مما جعلهم

يعيشون في حالة لا يحسدون عليها حين أصبحوا بين مطرقة القصف الأمريكي

وسندان القوات الشمالية الحاقدة؛ مما لا يخالف ما يسمى بالقانون الدولي فحسب؛

بل يخالف تعاليم الإسلام في ضمان استسلام الأسرى وعدم قتلهم بل إعطائهم الأمان؛

ليتم ذلك بصورة كريمة كما توضحها أحكام وتشريعات الجهاد في الإسلام. ولكن

أين القوم من أخلاق الإسلام وقد وضعوا أيديهم بأيدي أعدائهم لقتال إخوانهم في

الدين والعقيدة؟ !

إن هذا الواقع المؤلم الذي آلت إليه الأوضاع في أفغانستان ليس مأساة لهذه

الدولة التي تسلَّط الأعداء عليها في الداخل والخارج فحسب؛ بل هي مأساة أمتنا

الإسلامية التي جعل الله رسالتها للناس كافة، وجعلها أمة واحدة من دون

الناس، وصدق الله العظيم: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ]

(الأنبياء: 92) .

- إن أمتنا مع الأسف ما زال يسودها في كثير من البلدان النزعات الجاهلية

التي تعمل على تفتيت لُحمتها، كالروابط القومية والطائفية المنحرفة.

بل إن الروابط المصلحية كالروابط الاقتصادية والتعاونية هي أضعف ما

تكون فيما بينها.

- تفتت الرابطة العقدية إلى حد أن بعض الدول الإسلامية تتحالف مع

الأعداء ضد المسلمين كما حصل من (التعاون التركي الصهيوني) و (العربي

الصهيوني) فإلى الله المشتكى.

- إن أمتنا ما زالت خانعة تحت هيمنة الدول الغربية تدين بما يُطلب منها

بألاَّ تتسلح بالأسلحة الخطرة كالسلاح النووي بدعوى الالتزام بما صدر من قرارات

أممية والقصد منها أن تبقى أمتنا دائماً ذليلة خائفة. لكن الخروج من هذا الحصار

كما حصل في باكستان بتملكها القوة النووية كان يعد بادرة طيبة ينبغي أن يتم السير

على منوالها ما دام أن الحصار مفروض على الدول الإسلامية في الدرجة الأولى

لصالح الأعداء.

- أن الشعوب المسلمة بتأثير الكثير من حكوماتها العلمانية سائرة وفق

مخططات مدروسة لتبقى تابعة ذليلة؛ مع العمل المتواصل لإفسادها وتغريبها عن

طريق الإعلام والتعليم، والقاعدة المعروفة تبيِّن أن المغلوب أبداً مولع باتباع الغالب.

- فلولا هوان أمتنا لما شُقت صفوفنا بجنودنا، وضُربت قوتنا بسلاحنا،

ودُمرت مقدراتنا بأموالنا.

- ولولا هوان أمتنا لما ضربت أمريكا القلعة التي فيها المئات من أسرى

طالبان لتقتلهم من الجو، لو كان هؤلاء الأسرى روساً أو صينيين لما تجرأت على

ضربهم بهذه الوحشية.

- ولولا هوان أمتنا لما كان حل مشكلاتها يتم في المنتديات الدولية التي

يسيطر عليها اليهود والنصارى، كما حدث في المؤتمرات التي عقدت في ألمانيا

لحل (المشكلة الأفغانية) ، وكأنه ليست هناك منظمة تسمى (منظمة المؤتمر

الإسلامي) ، تلك المنظمة التي لم يشأ القائمون عليها والمؤتمرون فيها أن يدينوا

مجرد إدانة بدء الضربات الأمريكية ضد أفغانستان أثناء عقد مؤتمرهم في الدوحة،

بل إنما طالبوا فقط ويا للخزي! بأن يقتصر الضرب على أفغانستان! !

- ولولا هوان أمتنا لما طالبت الجامعة العربية على لسان أمينها في أكثر من

مناسبة، ألا تشمل الحرب ضد (الإرهاب) دولاً عربية، وكأن تلك الجامعة ما

صنعت إلا لتكريس الانفصام بين كل ما هو عربي وإسلامي.

- ولولا هوان أمتنا لما تجاهلت أمريكا هذه المناشدات العربية وتوعدت علناً

بضرب العراق واليمن والسودان، إمعاناً في إذلال (الإرادة العربية) التي بدت

كأنها من مخلفات الماضي الثوري البائد.

- ولولا هوان أمتنا لما تجلى ذلك الواقع المؤلم على ساحات العمل الإسلامي

نفسه؛ حيث ظهر للجميع أن إعلان المواقف تجاه الأحداث المتتابعة لم ينبع من

الثوابت العقدية والأصول الإسلامية بقدر ما كان انعكاساً للانتماءات الحزبية أو

الحساسيات الحكومية أو القناعات الشخصية.

فإلى من نشكو ضعف قوتنا، وتفرق كلمتنا، وهواننا على الناس؟ ! إننا لن

نشكوه إلا إلى ربِّ الناس، عازمين بلا تردد ولا كلل ولا ملل على الدعوة إلى

تصحيح المسيرة ومن قبلها إلى تصحيح النية، وعندها نقول لمن نشكو إليه حالنا

سبحانه وتعالى: إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015