الإسلام لعصرنا
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
ظلت وسائل الإعلام الأمريكي منذ سنين تربط الإسلام في أذهان الأمريكيين
بالإرهاب، وقد نجحت إلى حد كبير في جعل الصورة النمطية للمسلم هي صورة
الرجل الإرهابي الذي لا همَّ له إلا قتل الأبرياء من الغربيين وتحطيم حضارتهم.
ثم جاءت حوادث يوم الثلاثاء 11/9/2001م لتؤكد هذه الصورة، وليستغلها أعداء
الإسلام في داخل أمريكا وخارجها أسوأ استغلال، وليردد الجاهلون والسفهاء منهم
ما يقوله أئمة الضلال أولئك. وبدأ المسلمون يشعرون بالخوف الشديد حتى إن
بعض المساجد ألغت صلاة الجمعة خوفاً على أرواح المسلمين. ثم بدأ الشعور
بالعداء للمسلمين يتحول إلى صورة عملية من سبٍّ وشتمٍ وتهديدٍ وضربٍ بل وقتلٍ
وتخريب. لكنني وكثيرين غيري ممن خطبوا الجمعة التي تلت الحوادث حاولنا أن
نذكِّر إخواننا الذين شهدوا الصلاة وكانوا أقل من العدد المعهود وأن ننصحهم بالدعاء
واللجأ إلى الله تعالى. وكان مما قلت كلاماً فحواه أن الله تعالى قد يجعل من
المصائب أبواباً يأتي منها خير كثير، وذكرتهم بقول الله تعالى لرسوله والمسلمين
بعد حادثة الإفك: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ] (النور: 11) ،
وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «عَجِبْتُ لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ
أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ
فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ» [1] .
وقلت لهم كما قلت لغيرهم قبل الخطبة وبعدها: إنني أرى في هذه المصيبة
فرصة كبيرة للدعوة إلى الله، وتصحيح الصورة المشوهة للإسلام في أذهان
الأمريكان. وتذكرت أنواع كيد كثيرة فتح الله بها أبواب النصر لدينه. تذكرت
وقوف الكفرة على مداخل المسجد الحرام يحذِّرون الناس من الاستماع للرسول صلى
الله عليه وسلم، فإذا الدعاية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم تتحول إلى دعاية له
ما كان المسلمون المستضعفون ليقدروا على مثلها. ثم قلت كلاماً فحواه أنني كما
نصحت المسلمين نصيحة خاصة فأريد أن أنصح الشعب الأمريكي ولا سيما قادته
نصيحة عامة. قلت لهم: إنني أريد لكم أن تعرفوا الحقائق، وأن تبحثوا بحثاً
موضوعياً في ما يأخذه الناس عليكم؛ فإن أعداداً هائلة من المسلمين، وإن اختلفت
مع الذين قاموا بالتفجيرات في وسائلهم إلا أنهم يشاركونهم (إن صح أنهم مسلمون)
في مآخذهم عليكم. وقلت: إنكم تفاخرون كثيراً بنظامكم الديمقراطي وبما عندكم من
حرية والتزام بالقانون. لكن ينبغي أن تتذكروا أن هذا ليس هو الذي يراه الناس
فيكم باعتباركم قوة عالمية. بل إنكم بهذا الاعتبار تتصرفون تصرف الحكام
الدكتاتوريين المحليين. فأنتم في الداخل ديمقراطيون، وعلى الصعيد العالمي
دكتاتوريون يرى الناس فيكم كثيراً من خصال الدكتاتوريات المحلية؛ ففيكم كما فيهم
الصلف والغرور، فأنتم لا تكفُّون عن الفخر بأنكم أقوى دولة، وأن التاريخ البشري
لم ير مثلكم. لكن القرآن يذكرنا بأن أمماً قبلكم كانت هي الأخرى أقوى من غيرها
في زمانها، وأنهم قالوا كما تقولون اليوم: [مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] (فصلت: 15)
فجاءهم الرد الإلهي: [أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً]
(فصلت: 15) . وفيكم كما في الحكومات الدكتاتورية الظن بأنه بمثل هذه القوة
وبالعنف تحل كل المشكلات، وفيكم كما فيهم الاعتقاد بأن قوتكم تجعلكم فوق القانون،
مع أن الواجب عليكم باعتباركم قوة عالمية أن تكونوا مثالاً يحتذى في الالتزام
بالقانون الدولي. وذكَّرتهم بأن العدل ليس كله أرضياً، بل هنالك عدل سماوي،
وأنه إذا كان بعض الشعوب كأفغانستان لا تستطيع أن تقابل قوتكم المادية بقوة مثلها؛
فإنهم سيرفعون أيديهم إلى السماء مستجيرين بمن هو أشد منكم قوة.
ثم تتالت الأحداث وما تزال تتالى. زادت الاعتداءات على الأفراد من الرجال
والنساء والأطفال، وعلى الجماعات والمنظمات والمراكز والمساجد حتى اضطر
الناس لأن يغيروا مظهرهم الإسلامي، بل اضطرت بعض النساء إلى خلع الحجاب،
وتوقف كثير من طلاب المدارس والجامعات عن الدراسة. ولكن صاحَبَ هذا كله
اهتمام بالإسلام لم تشهد له أمريكا مثيلاً في تاريخها. توزعت وسائل الإعلام
كبيرها وصغيرها على مساجد أمريكا كلها تقريباً لتستمع إلى ما يقوله الخطباء،
(وقد علمت أن قناة CNN نشرت بعض ما ذكرت في خطبتي) . ثم استمر الحديث
عن الإسلام والاتصال بالمسلمين والتحذير من الاعتداء عليهم. لكن الأهم من ذلك
كله هو إثارة الرغبة في نفوس الأمريكان لمعرفة المزيد عن الإسلام. فما زال
الدعاة يدعون للحديث عن الإسلام في الكنائس والمدارس والجامعات، وما زالت
المراكز توزع ما عندها من مواد دعوية حتى نفد ما عند بعضها فهرعت تطلب
المزيد. حكى لي بعض الأصدقاء أن بعض المستمعين في إحدى الكنائس قالوا له:
إننا لا نعرف شيئاً عن دينكم، ونقترح عليكم أن تقفوا في الشوارع توزعون مواد
تعرِّف به. وحكى الكثيرون من المسلمين أنه لأول مرة في تاريخهم يتصل بهم
جيرانهم ليعبِّروا لهم عن أسفهم لما حصل للمسلمين، وعن إنكارهم الشديد له. إن
المعروف أن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً بين الناس في هذه البلاد؛ فما يمر
يوم إلا ويدخل فيه عدد منهم، يقدِّره بعضهم بأكثر من خمسين شخصاً، بل ذكر لنا
أحد إخواننا الأمريكان ممن حباهم الله تعالى بنعمة اتخاذهم وسيلة لهداية الناس إلى
دينه، أنه قد أسلم على يديه في هذه الأيام العصيبة أكثر من عشرين شخصاً.
لو كان للمسلمين قيادة واحدة، ولو كان أمرهم شورى بينهم، لما قدم أحد منهم
على عمل يعرقل سير هذا الخير؛ إذ المعروف أن الدعوة مقدمة على القتال؛ لأن
القتال إنما يشرع حين يكون وسيلة لازمة لها. أما حين تتيسر بدونه، فإن عاقلاً
عالماً بدينه لا يلجأ إليه، فكيف إذا كان معرقلاً لها؟
ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في
الحديث المتفق عليه وهو يعطيه راية الجهاد: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ
بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ
لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» [2] .
لكننا نرجع فنقول لإخواننا الدعاة بأمريكا: [لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَّكُمْ] (النور: 11) ، نقولها تفاؤلاً ورجاءً لا تحقيقاً؛ فالعلم بالعواقب عند علام
الغيوب.
وهذا يقودني إلى موضوع تحدثت عنه في مناسبات كثيرة خاصة وعامة،
وكنت أنوي جعله موضوع مقالي لمجلة البيان هذا الشهر. وها قد شاء الله تعالى أن
يجعل هذه الحوادث أحسن مناسبة لذلك الحديث. كنت أريد أن أوجه للمحسنين من
المسلمين رجاءً ملحاً أن يبذلوا أموالهم بسخاء لتوفير الآلاف المؤلفة، إن لم تكن
الملايين من ترجمة كتاب الله الكريم إلى اللغة الإنجليزية. والسبب في ذلك أننا
وجدنا بالتجربة، ووجد بعض إخواننا بالدراسة العلمية أن أكثر ما يُدخِل الناس في
دين الله هو قراءتهم لترجمة هذا الكتاب العزيز. ولو رحت أحدثكم عمَّا سمعت أنا
وحدي عن مشاعر الرضى والطمأنينة واليقين لبعض من هداهم الله تعالى بالاطلاع
على ترجمة تنزيل رب العالمين لطال الحديث. لكنني سأكتفي ببعض ذلك عسى أن
تكون فيه لنا ذكرى، وزيادة إيمان ويقين.
فهذا شاب هو الآن في صحبتنا يحدثنا أنه قرأ كتاباً لمؤلف غير مسلم عن
الأديان في العالم، وكان مما كتبه عن الإسلام ترجمة لسورة الفاتحة. يقول الشاب
إنني كثيراً ما كنت أتأثر تأثراً فكرياً ببعض ما أقرأ، لكنني حين قرأت ترجمة هذه
السورة شعرت بالتأثير في قلبي. ذهب الشاب يبحث عن المسلمين، فأسلم ثم انتقل
من بلده إلى واشنطن ليلتحق بمعهد العلوم العربية والإسلامية ليدرس اللغة العربية،
وليتعلم دينه. ومن قبله فتاة قالت: إنها لأبوين لا اهتمام لهما بالدين، لكنها عثرت
في بيتها على كتاب ديني قديم أثار اهتمامها فبدأت تبحث عن الأديان، فكان مما
قرأته شيئاً عن الإسلام. قالت وهي تسكن في مدينة نائية أشبه بالقرية إنها صحبت
بعض زميلاتها في الذهاب إلى سوق خارج القرية، لم تصحبهن إلا لتبحث عن
ترجمة للقرآن الكريم. عثرت على طلبتها، ثم بدأت تقرأ. تقول الفتاة إنها لم
تتجاوز الآية الثانية من سورة البقرة [ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ]
(البقرة: 2) حتى وضعت المصحف المترجم، وشهدت بأن لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله. ثم ذهبت تسأل عن المسلمين. ثم جاءت لواشنطن لإكمال
دراستها بجامعة جورج واشنطن وهي محجبة حجاباً كاملاً. ومن قبلها شاب لأبوين
كاثوليكيين كان يدرس الثانوية بمدرسة كاثوليكية، وكان مع ذلك يشهد دروساً دينية
خاصة. لكن عقله لم يقبل أبداً القول بأن لله ولداً؛ لذلك قرر أن يبحث عن دين
آخر. فكَّر في اليهودية لكنه لم يقتنع بها. ثم دخل الجامعة، وكان مما درسه مقرر
في التاريخ شمل الشرق الأوسط، وكان من ضمن ما ذكر لهم المحاضر من
المراجع القرآن الكريم. يقول إنه لم يكن قبل ذلك يظن أن هنالك ديناً يزعم أنه
سماوي إلا اليهودية والنصرانية! ولم يكن يعرف شيئاً عن الإسلام ألبتة؛ لكنه
حينما بدأ يقرأ في الترجمة اهتدى.
إن هذا الكتاب هو حقاً كلام الله تعالى، يميل كل قلب مهتدٍ إلى ما يناسب
حاله منه. فما علينا نحن إلا أن نوفره لهم ليتناولوا منه ما يشتهون فيهتدون. لقد
وجدنا بالتجربة مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على
الفطرة» [3] ، فما من أمة إلا وفيها من لا يزال قلبه ينبض بهذه الفطرة؛ ولولا ذلك
لما تحركت قلوبهم عند استقبالها للحق. إن نور الفطرة الداخلي هو الذي يستجيب
لنور الوحي الخارجي [نُّورٌ عَلَى نُورٍ] (النور: 35) .
فالذي أقترحه:
* طباعة الترجمة مجردة عن الأصل القرآني؛ وذلك لسببين أولهما: أن
المدعوين لا يقرؤون العربية. ثم إننا لا ندري ماذا سيفعلون به إذا ما وزعناه على
نطاق واسع؛ فقد يرميه بعضهم في أماكن غير مناسبة، وقد يقرؤه بعضهم في دورة
المياه كما هي عادتهم.
* أن تكون الغالبية العظمى منها طبعات شعبية ذات غلاف ورقي؛ لكي تقل
تكلفتها ويسهل حملها وتوزيعها.
* أن توزع بكميات كبيرة على كل المساجد والمراكز بالولايات المتحدة، بل
وعلى أكبر عدد من الأفراد المعروفين باهتمامهم بالدعوة.
كل هذا عمل يمكن أن يقوم به أفراد من المحسنين من غير تنسيق بينهم. لكن
الوضع الأمثل أن تكون لهذا الغرض مؤسسة حبذا لو كانت بالولايات المتحدة نفسها
تتولى هي طبع هذه المصاحف بأحجام وجَوْدات مختلفة، كما تتولى هي توزيعها
على سائر المؤسسات الإسلامية وغير الإسلامية. وحبذا لو استطاعت المؤسسة أن
توفر عدداً من المؤهلين للإجابة عن أسئلة من يطلعون على الترجمة ويرغبون في
مزيد تفسير وتوضيح.
لكن هذه ليست دعوة لأن تحل هذه المؤسسة محل مجمع الملك فهد لطباعة
القرآن، وإنما هي إضافة وتعضيد لها حتى لا يفوت عامة الناس فضل المشاركة
في هذا العمل العظيم الذي تقوم به الحكومة السعودية جزاها الله كل خير. إن
المجمع مهتم أساساً بطباعة المصحف الشريف نفسه، وهو عمل عظيم قد سدَّ وما
يزال يسدُّ حاجة ماسة في البلاد الإسلامية ولا سيما الفقيرة منها. ثم هو مهتم
بترجمة الكتاب العزيز إلى كل اللغات. أما الذي ندعو إليه فمؤسسة مختصة
بالترجمة الإنجليزية.
أيها الإخوة المحسنون! إن هذا والله لعمل مبارك، وإن الثواب عليه والله
لعظيم. كيف لا وقد تكون كل نسخة من ترجمة تنفق عليها سبباً في هداية إنسان
إلى الإسلام. ووالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، كما
أخبرنا الصادق المصدوق. وإذا كان خيراً لك من حمر النعم فهو خير لك من كل ما
تملك من مال إلا مالاً تنفقه في سبيل الله. فالبدار البدار ما دامت أبواب الدعوة إلى
الإسلام قد فتحت الآن على مصاريعها. والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.