دراسات في الشريعة والعقيدة
د. عثمان جمعة ضميرية [*]
تمهيد:
برزت في حياتنا المعاصرة بعض ظواهر الانحراف في العقيدة والفكر
والسلوك، وانطلقت الأصوات تدعو للوقوف في وجه تلك الانحرافات ومعالجتها،
وتوسّلت إلى ذلك من جملة ما توسّلت به بالدعوة إلى الوسطيّةِ وعدمِ التطرف، وفي
أثناء ذلك جمح الحماس ببعضهم فوصموا كلّ ملتزم بدينه وبخاصة في الأمور
المظهرية بالتطرف والتنطّع ومجانبة الوسطية؛ فالذي يحافظ على السنن والآداب
في عباداته ومعاملاته: متشدّد، والذي يبتعد عن الخنا والفجور: متزمّت متحجّر،
والذي يجتهد في الطاعة والعبادة: غالٍ في الدين، والذي يدعو إلى تصحيح
المفاهيم ووضع الأمور في نصابها: متنطّع متحذلق، والذي يرتفع إلى مستوىً
عالٍ وأفقٍ وضيء: خياليّ مثاليّ.
أما التفريط في الدين؛ بحيث لا يتعرف المرء على دينه ولا يفهمه كما هو في
مصادره الأساسية الموحى بها، أو لا يحمل نفسَه على الالتزام بآدابه وسلوكه، ولا
يأخذ نفسه بالطاعة والعبادة، ولا يبالي بما يرتكب من آثام وموبقات؛ حيث يطلق
العنان لشهواته وأهوائه؛ فهذا وأمثاله ليس تطرفاً في الجهة المقابلة، بل هو عندهم
سَعةٌ في الأفق، وواقعيةٌ في السلوك، وإدراكٌ لحقّ النفس ومطالبها، وانفتاحٌ على
الحياة والمدنية المعاصرة.
وبين هذا الفهم وذاك ضاعت معاني الوسطية الصحيحة والتبست بمفاهيم
أخرى، وغدت حلاً وسطاً، أو انحلالاً وانخلاعاً من أحكام الدِّين؛ فكان من الخير
أن نعود بالأمر إلى نصابه لنتعرَّف على الوسطية بمفهومها الصحيح من خلال
المصادر الأصلية في ذلك، وبخاصة إذا أدركنا أنَّ هذه الوسطية هي السِّمَة العامة
لهذا الدِّين الذي أكرمَنا اللهُ تعالى به، ولهذه الأمة التي جعلها الله تعالى خيرَ أمةٍ
أخرجت للناس، وجعلَها الأمة الرائدة الشّاهدة على الناس، بما منحها الله تعالى من
مؤهلات القيادة والرّيادة والشهادة، ويزكّي هذا الموضوع ويزيده أهمية: أن
تحديد المصطلح في البحث العلميِّ يرفع الخلاف الواقع بين المختلفين، ويوفر
الجهد والوقت، وينأى بالباحث عن اللبس والخلط في المفاهيم؛ ولذلك نعقد
لهذا الموضوع فقرات عن معنى الوسطية في اللغة العربية، ووجوه استعمالها في
القرآن الكريم، وفَهْمِ العلماء لمعنى الإسلام ووسطيته بين الأديان، ووسطية الأمة
المسلمة، ودور هذه الأمة ومسؤوليتها. والله الموفق
(?) الوسط والوسطية في اللغة العربية:
الواو والسين والطاء: بناءٌ في اللغة صحيحٌ يدلُّ على العدل والنَّصَف،
وأعْدلُ الشيء: أوسَطُه ووسَطُه. وشيءٌ وسَط: بين الجيّد والرديء. ووَسَطُ
الشيء: ما بين طرفيه. قال الشاعر:
إذا رحلتُ فاجعلوني وسَطاً ... إنّي كبيرٌ، لا أطيق العُنَّدا
أي اجعلوني وسطاً لكم ترفُقُون بي وتحفظونني؛ فإني أخاف إذا كنت وحدي
أن تفرُط دابتي أو ناقتي فتصرعني.
والوسَط والأوسط: المعتدلُ من كل شيء، والعدلُ والخير. والوسط: ما
يكتنفه أطرافه ولو من غير تساوٍ، يوصف به المفرد وغيره. وهو من وسط قومه
ومن أوسطهم: من خيارهم. وفلانٌ وسيط في قومه: إذا كان أوسطهم نسباً
وأرفعَهم محلاً. قال العَرْجِيُّ:
كأنِّي لم أكنْ فيهم وسيطاً ... ولم تَكُ نِسْبَتي في آلِ عَمْرِو
قال أبو محمد بن بَرّي من علماء اللغة: إن «الوسَط» بالتحريك اسم لما بين
طرفي الشيء، وهو منه، كقولك: قبضت وسَط الحبْل وكسرت وسَط الرمح.
وجاء الوسَط محركاً أوسطُه على وزان يقتضيه في المعنى وهو الطَّرَف؛ لأن
نقيض الشيء يتنزّل منزلَة نظيرِهِ في كثيرٍ من الأوزان نحو جَوْعان وشَبْعان،
وطَويل وقَصير.
والوسط قد يأتي صفةً، وإن كان أصله أن يكون اسماً، من جهة أن أوسط
الشيء: أفضله وخياره، ومنه «خيار الأمور أوساطها» ، فلما كان وسَطُ الشيء
أفضلَه وَأَعدله جاز أن يقع صفة، وذلك في مثل قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً] (البقرة: 143) أي عدلاً وقال بعضهم: خياراً، اللفظان مختلفان
والمعنى واحد؛ لأنَّ العدل خير، والخير عدل. فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه،
وأنه اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه.
وأما «الوَسْط» بسكون السين فهو ظرفٌ لا اسم، جاء على وزان نظيره في
المعنى وهو «بَيْن» ، تقول: جلست وسْط القوم. أي بينهم، قال سَوَّار بن
المُضَرَّب:
إنّي كأنّي أرى مَنْ لا حَياءَ له ... ولا أمانةَ، وسْطَ الناسِ، عُرْيانا
ولما كانت «بين» ظرفاً كانت «وسْط» ظرفاً، ولهذا جاءت ساكنة
الأوسط لتكون على وزنها، ولما كانت «بين» لا تكون بعضاً لما يضاف إليها
بخلاف «الوسَط» الذي هو بعض ما يضاف إليه، كذلك «وسْط» لا تكون
بعض ما تضاف إليه. ألا ترى أن وَسَط الدار منها، ووسْطَ القومِ غيرُهم؟
هذا، وقد يقع أحد اللّفظين مكان الآخر على جهة الاتساع والخروج عن الأصل،
وقيل: كلٌّ منهما يقع موقع الآخر، وهو الأشبه والأقوى.
والأصل في الوسط أن يُستعمل وصفاً للأمور الحسيّة المادية، كما في الأمثلة
السابقة: وسط الدار، وسط الحبل، وسط الرمح، ثم يُستعار ذلك لوصفِ الأمور
المعنوية نحو: أوسطهم نسباً وعلماً، والدين الوسط [1] .
(?) وجوه الوسطية في القرآن الكريم:
وقد عُني علماء التفسير وغريب القرآن ببيان معنى الوسط ووجوه استعماله
في القرآن الكريم، فقال الرَّاغبُ الأصفهانيُّ: «والوسط تارة يقال فيما له طرفان
مذمومان كالجود الذي هو بين البخل والسَّرَف، فيستعمل استعمالَ القصد المصون
عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل والنَّصَف، نحو قوله:
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) . وعلى ذلك قوله تعالى:
[قَالَ أَوْسَطُهُمْ] (القلم: 28) .
وتارة يقال فيما له طرف محمود وطرف مذموم كالخير والشر، ويكنى به
عن الرَّذِل، نحو قولهم: فلان وسط من الرجال، تنبيهاً أنه قد خرج من حدّ
الخير» [2] .
وقال أبو عبد الله الدّامَغانيّ: «تفسير الوسط على وجهين: العدل، الوسط
بعينه» .
فوجه منهما: (وسطاً) : أي عدلاً، كما في قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) . يعني عدلاً، وقوله تعالى: [مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ] (المائدة: 89) ، يعني أعدل.
والوجه الثاني: الوسط بعينه، كقوله سبحانه وتعالى: [حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى] (البقرة: 238) . يعني: صلاة العصر. وقيل:
الصبح « [3] .
(?) الإسلام بمعنييه العام والخاص:
والإسلام بمعناه العام هو إسلام الوجه لله تعالى، بمعنى التذلُّلِ لطاعته
والإذعان لأمره والخضوعِ الكامل له بالجوارح ظاهراً وباطناً، والخلوصُ من
الشرك بكلِّ صوره وأشكاله. قال الله تعالى: [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] (البقرة: 112) .
وقد أخبر الله تعالى في غير موضعٍ من كتابه الكريم: أن الإسلام هو دينُ
جميعِ الأنبياء والمرسلين من أولهم إلى آخرهم، وهو دين مَن اتّبعهم من الأمم
السابقة؛ وبذلك أعلن الوحدة الكبرى للدين من لدن آدمَ ونوح إلى موسى وعيسى
عليهم السلام إلى أن خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم [4] ، ثم خصَّ الله تعالى
الدعوة التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم باسم» الإسلام «وجعلها دعوة
عامة للناس جميعاً ختم بها الرسالات السابقةَ كلَّها، وتكفّل بحفظ مصدرها وكتابها
المنزّل، وجعله مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، وخصّ أتباعها باسم
» الأمة المسلمة «وباسم» المسلمين «: تشريفاً لها، واستجابة لدعوة إبراهيم
عليه السلام، وإظهاراً لمعنى الاستسلام لله والانقياد لربِّ العالمين، فأصبحت كلمة
الإسلام هكذا معرَّفة بالألف واللام مطلقاً لا تنصرف إلا إلى هذا الدين، وأصبحت
كلمة» المسلمين «عَلَماً على هذه الأمة التي جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت
للناس، وجعلها الأمة القائدة الرائدة الشاهدة على الأمم جميعها؛ لأنها تأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وهي أمة العدل والوسط، تحمل ميزان
العدالة من منتصفه ولا تلوي على الحافات والأطراف.
وهذا» الدين «:» الإسلام «منهجٌ إلهيٌّ للبشر ينبغي أن يصرّف حياة
الناس وينظمها؛ ولذلك يشمل عقيدةً تستقرُّ في قلب المسلم ويكونُ لها أثرها في
حياته وتصرُّفاته، وعبادةً تحدّد صلة العبد بربه تبارك وتعالى، وشريعةً أو منهجاً
تستقيم به حياةُ الإنسان، وسلوكاً أو أخلاقاً تتم بها المكارم التي تعاقَبَ الأنبياء
والرسل على الدعوة إليها، ويشمل أيضاً الأصولَ السليمةَ التي نتخذها للنظر
والاستدلال في معرفة هذه العقيدة والعبادة والسلوك [5] .
(?) وسطية الإسلام بين الأديان:
ومن أهم خصائص هذا الإسلام الذي أكرمنا الله تعالى به أنه وسط في المِلَل
والأديان، جعله الله تعالى وسطاً بين الإفراط والتفريط، أو بين الغلوِّ والتقصير؛
وتظهر هذه الوسطية في المجالات أو النواحي التي ألمحنا آنفاً إلى أن الدين يشملها
كلّها:
أ - ففي العقيدة: المسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ فهم
لم يغلوا فيهم غلوَّ البوذيين وغلوَّ النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من
دون الله والمسيح ابن مريم، ولا جَفَوْا عنهم كما جفَت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء
بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا
تهوى أنفسهم كذّبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، وكذَبوا على ربهم، بل المؤمنون المسلمون:
آمنوا برسل الله جميعاً، وعزّروهم ووقّروهم، وأحبُّوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم
ولم يتّخذوهم أرباباً، وآمنوا بجميع الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء، فكان ذلك
وسطية وتوازناً بين أمرين مذمومين.
وكذلك الوسطية والتوازن بين عبودية الإنسان المطلقة لله، ومقام الإنسان
الكريم في الكون؛ فقد نأى الإسلامُ بعقيدته الصافية عن كلِّ الإفراطات والتفريطات
وعن كلِّ الهزات والأرجحات التي تعاورت المذاهب والمعتقدات والتصورات ما
بين تأليه الإنسان في صُوَره الكثيرة، وتحقير الإنسان إلى حدّ الزراية والمهانة.
ويبدأ الإسلام فيفصل فصلاً تاماً بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وبين
خصائص الألوهية وخصائص العبودية، بينما تقول الكنيسة بألوهية المسيح عليه
السلام على اختلاف المذاهب الكنسية كما أن المذاهب والفلسفات الأوروبية وما قام
عليها من مناهج التفكير، لما أعلنت رفعة الإنسان ومقامه جعلت ذلك على حساب
إيمانها بألوهية الربّ سبحانه وما ينبغي له.
وكذلك توسطت العقيدة الإسلامية في الاهتمام بالمجالات المادية والروحية،
ونأت عن الإفراط والتفريط في كليهما؛ فوازنت بين الجانبين موازنة دقيقة،
وضبطت العلاقةَ والنسبةَ بينهما، وبذلك يلتقي العمل للدنيا والعمل للآخرة، وكلٌّ
منهما عبادة لله تعالى، وتحقيقٌ لغاية الوجود الإنساني، ضمن شروط معينة. بينما
تأرجحت المذاهب الأخرى بين الاهتمام بالنواحي المادية الذي يظهر في المدنية
الغربية الحديثة التي لا تقرّ الحاجة إلى خضوع مّا إلا لمقتضيات اقتصادية أو
اجتماعية، وأصبح معبودها هو المال والقوة والرفاهية والرقي الماديّ - وبين
الإزراء بهذا الرقيّ المادي والمتاع الدنيوي، كما هو الشأن في المذاهب التي تدعو
إلى الرهبنة وتعذيب الجسد من أجل رقيّ الروح وتهذيبها للوصول إلى مرحلة الفناء.
ب - وفي مجال العبادة والتحليل والتحريم: جاء الإسلام وسطاً بين الرهبانية
التي قطعت كل صلة بالحياة وانقطعت للعبادة وبين الإغراق في المجال المادي
والاهتمام بالنواحي الحسية والمادية والطغيان المالي والانصراف عن العبادة وترقية
النفس، كما أنَّ أمر التحليل والتحريم جاء في الإسلام وسطاً بين اليهود الذين حُرّم
عليهم كثير من أنواع الطعام واللباس، بسبب ظلمهم؛ فلا يأكلون ذوات الظفر مثل
الإبل والبط.. والنصارى الذين استحلّوا الخبائث وجميع المحرمات وباشروا
النجاسات، أما المؤمنون المسلمون فقد أحلَّ الله لهم الطيبات وحرَّم عليهم الخبائث.
ج - وفي التشريع: جاء الإسلام وسطاً بين اليهود الذين حرَّموا على الله أن
ينسخ ما يشاء ويمحو ما يشاء ويُثْبت، وبين النصارى الذين أجازوا لأكابر علمائهم
وعُبَّادهم أن يشرعوا بالتحليل والتحريم من دون الله.
د - وفي مجال السلوك والأخلاق: جاءت شريعة الإسلام وسطاً بين الإفراط
والتفريط في الإلزام الأخلاقي، بين الجنوح إلى المثالية الخيالية والواقعية المتزمتة؛
فهي لا تترك الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا الترف والميوعة والهوى الذي
يعصف بها في تيارات الخلاعة والمجون، ولكنها ترفع الضمائر بالتهذيب والتوجيه،
تعمرها بتقوى الله ومراقبته، وسلوك محاسن الأخلاق تأسياً بنبينا صلى الله عليه
وسلم الذي مدحه الله تعالى بعظمة الخُلُق؛ وهكذا في سائر العلاقات الفردية
والاجتماعية، والمصلحة الذاتية والجماعية.
هـ - وأما في منهج النظر والاستدلال: فإن الإسلام وَازَنَ بين مصادرِ
المعرفة، وهي الوحيُ والعقلُ والحسُّ، ولم يسمح بالصراع بين هذه المصادر، ولم
يكن إعلاء شأن أحدها سبباً لإهمال الأخرى، فلكلٍّ مجاله ودوره وخصائصه،
بخلاف ما وقع من صراع بينها في الكنيسة الأوروبية، وفي المذاهب المادية
الوضعية، فإن الاعتراف بمصدر عندهم معناه إلغاء المصادر الأخرى، وكذلك جاء
الإسلام وسطاً يوازن بين أمور الغيب وأمور عالم الشهادة، وفي سائر الأمور
المتقابلة [6] .
الوسطية والاقتصاد في أعمال الخير:
وهذه الوسطية، لم تكن بمنأى عن اهتمام علمائنا رحمهم الله؛ فقد أوْلَوْهَا جُلّ
عنايتهم في مباحث كثيرة، وحسبنا هنا مقتطفات من كلام سلطان العلماء العز بن
عبد السلام رحمه الله حيث عقد لها فصلاً في كتابه:» القواعد الكبرى «بعنوان:
» فصل في الاقتصاد في المصالح والخيور «، قال فيه:» الاقتصاد رتبة بين
رتبتين، ومنزلة بين منزلتين، والمنازل ثلاثة: التقصير في جلب المصالح،
والإسراف في جلبها، والاقتصاد بينهما، قال تعالى: [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً] (الإسراء: 29) . وقال
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «الحسنة بين السيئتين» ، ومعناه: أن التقصير
سيئة، والإسراف سيئة، والحسنة: ما توسط بين الإسراف والتقصير، وخير
الأمور أوساطها، فلا يكلف الإنسان نفسه من الطاعات إلا ما يطيق المداومة عليه،
ولا يؤدي إلى الملالة والسآمة، ومن تكلف من العبادة ما لا يطيقه فقد تسبب إلى
تبغيض عبادة الله إليه، ومن قصَّر عما يطيقه فقد ضيع حظّه مما ندبه الله إليه
وحثَّه عليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنطع في الدين وقال:
«هلك المتنطعون» [7] .
ثم قال: «وللاقتصاد أمثلة:
منها: الاقتصاد في استعمال مياه الطهارات، فلا يستعمل من الماء إلا قدر
الإسباغ ولا ينقص منه. ومنها الاقتصاد في المواعظ، فإذا كثرت المواعظ لم تؤثر
في القلوب فتسقط بإكثارها فائدة الوعظ، ومنها الاقتصاد في قيام الليل، والاقتصاد
في العقوبات والحدود والتعزيرات، فيعاقب كل واحد من الجناة على حسب قوته
وضعفه، وكذلك الاقتصاد في الضرب، ومنها الاقتصاد في الدعاء؛ لأن الغالب
على أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختصار فكان يدعو دعوات
مختصرات جامعات، ومنها الجهر بالكلام: لا يخافت بحيث لا يسمعه حاضروه
ولا يرفعه فوق حدّ أسماعهم؛ لأنه فضول لا حاجة إليه، ومنها الأكل والشرب: لا
يتجاوز فيهما حدّ الشبع والرّي، ولا يقتصر فيهما على ما يضعفه ويضنيه، ومنها
زيارة الإخوان: لا يكثر منها بحيث يملُّونه ويستثقلونه، ولا يقلل منها بحيث
يشتاقونه ويعتبونه، ومنها دراسة العلوم: لا يكثر منها بحيث يؤدي إلى السآمة
والكراهة، ولا يقللها بحيث يُعدُّ مقصِّراً فيها، وكذلك المزاح والضحك واللعب،
وكذلك المدح المباح.
وعلى الجملة: فالأوْلى بالمرء أن لا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جَلْب
مصلحة أو درء مفسدة، مع الاقتصاد المتوسط بين الغلو والتقصير» [8] .
ثم كان للإمام أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله نظرٌ دقيق نافذ أبانَ فيه أنَّ
الشريعةَ جاريةٌ في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعْدل الآخذ من
الطرفين بقسط لا مَيْلَ فيه، الداخلِ تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا
انحلال، بل هو تكليفٌ جارٍ على موازنةٍ تقتضي في جميع المكلَّفين غاية الاعتدال
كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شُرع
ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو شرع لسبب يرجع إلى عدم العلم
بطريق العمل؛ كقوله تعالى: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ] (البقرة: 215) ، وأشباه
ذلك.
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلّف، أو وجود مظنّة انحرافٍ عن الوسط
إلى أحد الطرفين، كان التشريع رداً إلى الوسط الأعدل؛ لكن على وجه يميل فيه
إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، فِعْلَ الطبيب الرفيق يحمل المريضَ على
ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا استقلت صحته
هيّأ طريقاً في التدبير وسطاً لائقاً به في جميع أحواله.
فإذا نظرت في كلية شرعية فتأمّلْها تجدْها حاملة على التوسط، فإن رأيت
ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقعٍ أو متوقَّع في الطرف
الآخر.
فطرف التشديد وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر يؤتى به في
مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص يؤتى به
في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط
لائحاً، ومسلك الاعتدال واضحاً. وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ
إليه.
وعلى هذا: إذا رأيت في النقل من المعتَبَرِين في الدِّين مَنْ مال عن التوسط
فاعلم أنَّ ذلك مراعاةٌ منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى؛ وعليه يجري
النظر في الورع والزهد، وأشباهها، وما قابلها [9] .
الوسطية تعرف بالشرع:
ومعرفة الوسطية والتوسط لا تخضع للأهواء أو التقديرات الذاتية وإنما تُعْرَف
بالشرع، وقد تعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء، وإذا كنا قد ألمحنا إلى
معاني الوسطية ووجوه استعمالها، فإن ذلك يشير إلى أنَّ الوسطية هي: كون
الإنسان في دائرة المشروع، وهي الخير والعدل، فإذا وقف المرء دون هذه الدائرة
ولم يعمل فيها كان مقصِّراً مفرّطاً، وإذا تجاوزها كان مُفْرِطاً مغالياً متطرفاً إلى
الجهة الأخرى المذمومة، فليس معنى الوسطية إذن أن يكون الإنسان دائماً في نقطة
الوسط المادي بين جهتين أو صفتين، فقد يتعدى هذه النقطة ليصل إلى ما هو أعلى
منها دون أن يُخْرِجَه ذلك عن دائرة الوسطية، وليس هناك ما يمنع شرعاً من
تجاوز العدل إلى الفضل، بل هنا ما يحمل أصحاب النفوس العالية والهمم القوية
على الارتقاء دائماً والسموِّ والتطلُّع نحو الآفاق العالية الكبيرة التي لا يستطيعها
المهازيل أو ضعاف النفوس، ويحملُهم أيضاً على الاستكثار من الأعمال الصالحة
والتمسك بأحكام الكتاب والسنة.
وقد جعل الله تعالى هذه الأمة، التي ورثت الكتَاب والوحيَ، ثلاثة أصناف:
الأول: ظالمٌ لنفسه، وهو الذي يطيع الله تعالى، ولكنه يقصّر في العمل
بالكتاب وفي فعل بعض الواجبات، ويسرف على نفسه بارتكاب بعض المحرمات
وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه، وتربو سيئاتُه في العمل على حسناته، ووَجْه
كونه ظالماً لنفسه في هذه الحال: أنه فوَّت عليها الثواب، ونقَصَها منه بما فعل من
الصغائر؛ فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعاتٍ، لكان لنفسه فيها من الثواب
حظ عظيم.
ويصْدُق هذا الظلمُ للنفس على من يظلم غيره أيضاً؛ وذلك لأنه يعرّض نفسه
للعقاب الذي يترتب على ظلم الآخرين.
الثاني: مقتصدٌ في فعل الخيرات، وهو الذي يطيع الله تعالى ولا يعصيه،
فيؤدي الواجبات ويترك المحرمات، ولكنه لا يتقرَّب إلى الله تعالى بالنوافل من
الطاعات، ويترك بعض المستحبَّات، ويفعل بعض المكروهات؛ فهو يتردد بين
العمل ومخالفته، فيعمل تارة ويخالف أخرى، دون أن يصيب كبيرة من الكبائر،
وهو بهذا وسطٌ بين السابق والمقصِّر، تتعادل سيئاته وحسناته.
الثالث: سابقٌ بالخيرات بإذن الله، وهو الذي كثر عمله بكتاب الله، وزادت
حسناته على سيئاته، ويقوم بالواجبات ويتقرب إلى الله بالنوافل والمستحبات،
ويجتنب المحرمات والمكروهات وبعض المباحات، فيتقدم إلى ثواب الله وجنته
بالأعمال الصالحة، ويسبق بها الصنفين السابقين، في الدرجات بسبب الخيرات
وإحراز الفضل بسببها.
وهذه الرتبة التي يصل إليها هذا القسم من الأمة المسلمة عزيزةُ المنال صعبة
المأخذ، لا ينالها إلا من كان ذا همّة عالية تتوق إلى ما عند الله تعالى من الجنة
والرضوان، ومن كان له رسالة سامية في هذه الحياة فهو يسعى للقيام بها [10] .
وهذه الأصناف الثلاثة هي التي جاءت في الآية الكريمة من سورة فاطر، في
سياق الحديث عن الكتاب المنزل، وما فيه من الحق، وتوريث الكتاب لهذه الأمة
المسلمة، ودرجات الوارثين، قال الله تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ
الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32) .
(?) نقد نظرية الوسط في فلسفة الأخلاق:
واعتبار الخُلُق أو الفضيلة وسطاً بين طرفي الإفراط والتفريط، ليس قاعدة
إسلامية مسلَّمة، وإنما هي نوع من التحليل اليوناني لفلسفة الأخلاق اقتبسه بعض
الأخلاقيين الإسلاميين؛ لأنه أقرب إلى ما يوضح فكرة الآداب العامة عند المسلمين،
وليس في الإسلام ما يجعل التجاوز والسموَّ في الخلق مذموماً؛ فالمؤمنون درجات،
كلٌّ يعمل على أن يرتقي في معارج السالكين إلى أن يصل إلى أعلى درجات
اليقين والمحبة، وهم يقولون: إن الولاية لله لا تُحَدُّ مراتبها، وكلٌّ يعمل للوصول
إلى أسمى منازلها دون أن ينال ذلك، والكمال لا نهاية له، وهل يعقل أن يقال لمن
أنفق جميع ماله في سبيل الله: إنه مبذّر، أو إنه ارتكب مذموماً؟ أرأيت أبا بكر
الصديق رضي الله عنه وقد جاء بكل ماله ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم نفقة في سبيل الله، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: بارك الله
لك في أهلك ومالك؟ فهل كان بذلك مسرفاً متجاوزاً للحدّ في الإنفاق؟ وإنما يقال
ذلك في مجال الإنفاق الشخصي، أما في مجال الخير والتسابق فإنه لا إسراف فيه
ولا تبذير؛ بينما لو أنفق درهماً واحداً في وجه غير مشروع لكان ذلك تبذيراً
مذموماً منهياً عنه.
وكذلك خُلُق الشجاعة، أليست هي بذل النفس في سبيل الخير، أو الإقدام
والجرأة؟ فهل يقال إن الشجاعة جزء من الجبن أو التهور حتى تكون وسطاً أو
طرفاً؟ وقد علمنا أن الوسط هو بعض ما يضاف إليه؛ فإن وسط الدار جزء منها
كما تقدم فلو كانت الشجاعة وسطاً بين الجبن والتهور لكانت جزءاً من الجبن
والتهور [11] .
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله: «ومذهب
الفلسفة اليونانية ينتهي بنا إلى مقياس للأخلاق شبيه بمقاييس الهندسة والحساب؛
بعيداً عن تقدير العوامل النفسية والقيم الروحية؛ في الأخلاق العليا على التخصيص،
وقد تصدق هذه الفلسفة إذا كان المطلوب من الإنسان أن يختار بين رذيلتين
محققتين، فإنه في هذه الحالة يحسن الاختيار بين طرفين متقابلين كلاهما مذموم
ومتروك، إلا أننا لا نقول مع ذلك: إن الكرم نقص في رذيلة البخل أو نقص في
رذيلة السَّرف، ولا نقول مع ذلك: إن الكرم إذا زاد أصبح سَرَفاً، وإن السَّرف إذا
نقص أصبح كرماً، بل تكون الزيادة في الكرم كرماً كبيراً، والنقص في السرف
سرفاً قليلاً، ولا يكون الكرم أبداً درجة من درجات السرف، ولا البخل درجة من
درجات الكرم، بل هي أخلاق متباينة في القيمة، يتقارب الطرفان فيها أحدهما من
الآخر؛ ولا يتقارب الطرف من الوسط كما يظهر من قياس الهندسة أو قياس
الحساب. ولقد رأينا في مباحث العلل النفسية التي كشفها العلم الحديث أن الشذوذ
يقرِّب بين المسرفين والبخلاء في أعراض متشابهة.
إلى أن يقول:
ولن يشذ الإنسان عن الاعتدال في الطبع إذا هو آثر أن يذهب في كل فضيلة
إلى نهايتها القصوى؛ فماذا يعاب في جمال الوجوه مثلاً، إذا انتهى إلى مثل تلك
الغاية في معهود البصائر؟ إن كلمة من كلمات اللغة العربية العامرة بمدلولاتها
النفسية والفكرية لَتَهْدِينا إلى قسطاس الحمد في كلِّ حسنةٍ مأثورةٍ بكلمة (ناهيك) ؛
حين نقول: ناهيك من رجل، أو ناهيك من عمل، أو ناهيك من خلق! هو
قسطاس الثناء فيما تنشده النفوس الإنسانية من كل فضل منشود» [12] .
(?) معنى الوسط في آية سورة البقرة:
وتلك المعاني التي أسلفت إنما هي قبس من الآية الكريمة التي وصفت هذه
الأمة «الوسط» بهذا الوصف؛ حيث قال الله تعالى في سياق آيات تحويل القبلة
من بيت المقدس إلى البيت الحرام، وبها تحولت قيادة البشرية إلى هذه الأمة:
[سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ
لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (البقرة: 142-
143) .
يعني بقوله: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) أي: كما
هديناكم أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاءكم به من عند الله،
فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته وفضلناكم على من سواكم من أهل الملل،
كذلك خصصناكم وفضّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطاً.
وقد اختلفت عبارات العلماء في معنى «الوسط» في الآية الكريمة فذكروا
أقوالاً أربعة:
الأول: الوسط هو العدل، ويدل على هذا قوله تعالى: [قَالَ أَوْسَطُهُمْ]
(القلم: 28) أي أعدلهم. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: [أُمَّةً
وَسَطاً] (البقرة: 143) قال: عدولاً. وهو منقول عن أئمة اللغة، وقال زهير
ابن أبى سُلْمى:
هم وَسَطٌ تَرْضى الأنامُ بِحُكْمِهمْ ... إذا نزلتْ إحدى الليّالي بِمُعْظَم
ويؤيد هذا من حيث المعنى: أن الوسط حقيقة هو البعد عن الطرفين، ولا
شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان؛ فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن
الطرفين، فكان معتدلاً فاضلاً. ثانياً: إنما سمي العدل وسطاً؛ لأنه لا يميل إلى
أحد الخصمين، وثالثاً: لا شك أن المراد بالآية المدحُ للأمة؛ فلما مدحهم بهذا
الوصف دلَّ على أنه يتعلق بالمدح في الدين، ولا يمدح الله تعالى الشهودَ حال
حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً، ورابعاً: أن أعدل الأمور الوسط
البعيد عن الأطراف التي يتسارع إليها الخلل والفساد، والوسط محميَّة أطرافه.
القول الثاني: الوسط من كل شيء: خياره، وهذا أوْلى من القول السابق كما
قال بعضهم لأنه مطابق لقوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] (آل
عمران: 110) .
القول الثالث: الوسط: الأكثر فضلاً، فإذا قيل: فلان أوسطنا نسباً، فالمعنى
أنه أكثر فضلاً، وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة.
القول الرابع: يجوز أن يكون وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين
المُفْرط والمفرّط والغالي والمقصر في الأشياء؛ فهم وسط بين اليهود والنصارى كما
تقدم.
وبالنظر في هذه الأقوال نجدها متقاربة غير متباينة؛ فهي تؤدي معنى واحداً،
أو تتلاقى في المعنى والنتيجة وإن اختلفت في العبارة، وهذا ما يسميه العلماء
اختلاف التنوع [13] . والله أعلم.
(?) الأمة الوسط في «ظلال القرآن» :
وفي ظلال هذه الآية الكريمة يقول صاحب الظلال يرحمه الله: «إنها الأمة
الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط
بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد
الروحي ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد،
أو جسد تتلبس به روح، وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقَّه المتكامل من كل
زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة
وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط،
في قصد وتناسق واعتدال.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في التفكير والشعور، لا تجمد على ما
عملت، ولا تغلق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتبع كذلك كل ناعق، أو تقلد تقليد
القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر
في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها
أخذها، في تثبت ويقين.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلها
للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب، إنما ترفع ضمائر البشر
بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب، وتزاوج بين هذه
وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان،
ولكن مزاج من هذا وذاك.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية
الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه
كذلك فرداً أَثِراً جشعاً لا همَّ له إلا ذاته، إنما تطلق من الدوافع ثم تضع من الكوابح
ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر
من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في
تناسق واتساق.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في المكان في سُرَّة الأرض، وفي أوسط
بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غَمَرَ أرضَها الإسلامُ إلى هذه اللحظة هي الأمة
التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها
هذا تشهد الناس جميعاً، وتشهد على الناس جميعاً، وتعطي ما عندها لأهل الأرض
قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك،
وتتحكم في هذه الحركة مادّيها ومعنويّها على السواء.
[أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من
قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية
ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل
والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي في
النماء، وتسير بها على الصراط السويِّ بين هذا وذاك» [14] .
مسؤولية الأمة المسلمة ودورها:
وهذه الوسطية للأمة المسلمة هي التي حددت وظيفتها الضخمة في هذه
الأرض، ودورها الأساسي في حياة الناس؛ فهي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم
بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو
الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها،
وتقول: هذا حق وهذا باطل، وهي لا تقوم بهذه الوظيفة إلا إذا كانت حاضرة
شاهدة؛ فإن الشهادة تدل على حضور وعلم وإعلام أو إخبار، وبهذه الشهادة تقام
الحقوق وتصان العدالة، وتحفظ الكرامة للإنسان، وتبنى الحضارة الإنسانية التي
تتطلع إليها الأجيال المعاصرة، بعد أن أنهكها الصراع، وتقاذفتها الأنظمة والأهواء
البشرية، ومزقت كيانها النفسي في رحلة الضياع التي تقلبت فيها بين طغيان
الكنيسة الأوروبية ورجالها إلى عقلية أوروبية مثالية، إلى حسية وضعية ومنفعة
مادية، وعندئذ شقيت البشرية بما عرفت من استعمار وأطماع، وبما وصلت إليه
من سقوط أخلاقي تجده ظاهراً في تفاهات الجنس والعري والمخدرات وانتشار كل
أنواع الجرائم والموبقات.
ولئن آل حال هذه الأمة المسلمة إلى ما نعرفه اليوم من تخلف وحرمان؛
حيث سبقتنا الأمم الأخرى أشواطاً كبيرة في مجال العلم والصناعة والمادة،
وأصبحنا نقتات على فتات موائدهم، لئن كان ذلك فإن مقومات الشهادة والريادة مرة
أخرى متوفرة كامنة في هذه الأمة؛ فهي وإن لم تستطع الآن على الأقل أن تقدم
للعالم علماً مادياً وتقنية ومدنية، فإنها تستطيع أن تقدم للبشرية الحائرة نظاماً إلهياً
يستنقذها مما تعاني منه، ويرتفع بها إلى مستوى إنسانيتها.
ويعبّر عن هذا خير تعبير كلمة الأستاذ إيرفنج، الأستاذ بجامعة (تنسي)
الأمريكية، حينما وقف مخاطباً تجمعاً للمسلمين في مدينة (جلاسجو) ببريطانيا منذ
سنوات، فقال: «إنكم لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علمياً، أو تقنياً، أو
اقتصادياً، أو سياسياً، أو عسكرياً، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا تلك الدول تجثو
على ركبها أمامكم بالإسلام. أفيقوا من غفلتكم لقيمة هذا النور الذي تحملون، والذي
تتعطش إليه أرواح الناس في مختلف جنبات الأرض! تعلموا الإسلام وطبّقوه،
واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويَدِنْ لكم كل ذي سلطان. أعطوني
أربعين شاباً ممن يفهمون هذا الدين فهماً عميقاً، ويطبقونه على حياتهم تطبيقاً دقيقاً،
ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر وأسلوبه وأنا أفتح بهم الأمريكتين [15] .
ويقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في محاضرة قيمة ألقاها في قاعة
المؤتمرات بوزارة الخارجية البريطانية في ديسمبر (كانون الأول) من عام
1996 م، تحمل دلالة واضحة بالنسبة للمعنى الذي أشرنا إليه:» إن المادية
المعاصرة تفتقر إلى التوازن، وأضرار عواقبها بعيدة في تزايد، إن القرون الثلاثة
الأخيرة شهدت في العالم الغربي على أقل تقدير انقساماً خطيراً في طريقة رؤيتنا
للعالم المحيط بنا؛ فقد حاول العلم بسط احتكاره، بل سطوته المستبدة، على طريقة
فهمنا للعالم، وانفصل الدين والعلم بعضهما عن بعض؛ بحيث صرنا الآن كما
قال الشاعر «وردزورث» : «لا نرى إلا القليل في أمنا الطبيعة التي نملكها» .
لقد سعى العلم إلى انتزاع الطبيعة من الخالق، فجزّأ الكون إلى فرق،
وأقصى «المقدّسَ» إلى زاوية نائية ثانوية من مَلَكةِ الفهم عندنا، وأبعده عن
وجودنا العمليّ. والآن فقط بدأنا نقدر العواقب المدمِّرة، ويبدو أننا نحن أبناء العالم
الغربي قد فقدْنَا الإحساسَ بالمعنى الكليِّ لبيئتنا، وبمسؤوليتنا إزاء الكون كله الذي
خلقه الله، وقادنا ذلك إلى إخفاق ذريع في تقدير أو إدراك التراث وحكمة السلف،
ذلك التراث المتراكم على مدار القرون. والحق أن ثَمَّةَ تحاملاً شديداً على التراث،
كما لو كان جذاماً اجتماعياً منفراً.
وثَمَّة الآن في نظري حاجة إلى مقابلةٍ كلية شاملة. لقد أدى العلم لنا خدمة
جليلة في تبيانه لنا أن العالم أعقد بكثير مما كنا نتخيل، ولكن العلم في شكله المادي
الحديث، الأحادي، عاجز عن تفسير كل شيء. إن الخالق ليس ذلك الرياضي
الذي تخيّله نيوتن، وليس صانعَ الساعة الأول [16] . إن انفصال التكنولوجيا عن
القيم والموازين الأخلاقية والمقدسة قد بلغ حداً مريعاً مفزعاً، وهذا ما نراه في
التلاعب بالمورثات (الجينات) أو في عواقب الغطرسة العلمية التي تتجلى في
أبشع صورها في مرض جنون الأبقار.
لقد كنت أستشعر دائماً أن التراث في حياتنا ليس من صنع الإنسان، إنما هو
إلهام فطري وهبه الخالق لنا لإدراك إيقاع الطبيعة، والتناغم الجوهري الذي ينشأ
عن وحدة أضداد متفرقة، ماثلة في كل مظهر الطبيعة. إن التراث يعكس النظام
السّرمدي للكون، ويشدّنا إلى الوعي بالأسرار العظيمة للكون الفسيح، بحيث
نستطيع كما قال الشاعر «وليم بليك» أن نرى كامل الكون في ذرة، ونرى
الأبدية في لحظة.
إن الثقافة الإسلامية في شكلها التراثي جاهدت للحفاظ على هذه الرؤية
الروحية المتكاملة للعالم بطريقة لم نجدها نحن خلال الأجيال الأخيرة في الغرب
موائمة للتطبيق، وهناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من رؤية العالم الإسلامي في
هذا المضمار.
إننا نحن أبناء الغرب نحتاج إلى معلمين مسلمين ليعلمونا كيف نتعلم بقلوبنا
كما نتعلم بعقولنا، وإن اقتراب الألف الثالثة قد يكون الحافز المثالي الذي يدفعنا
لاستكشاف هذه الصِّلات وتحفيزها. وآمل ألا تفوتَ الفرصة السانحة لإعادة
اكتشاف الجانب الروحي في رؤيتنا لوجودنا بأجمعه « [17] .
ويعزّز هذا أن علماء أوروبيين في تخصصات شتى يتطلّعون إلى هذه الأمة
ومنهجها وشريعتها لترسم لهم طريق الخلاص مما يعانونه من مشكلات فكرية
وخلقية وحضارية وقانونية، ويرى كثير من القانونيين الغربيين أن أحكام الشريعة
الإسلامية في المسائل الدولية يمكن الاستفادة منها وبخاصة في مجالين رئيسيين:
الأول: تطوير أحكام القانون الدولي في شأن مركز الفرد فيه والاعتراف به
شخصاً من أشخاص القانون الدولي.
المجال الثاني: إدخال المبادئ الأخلاقية في القانون الدولي؛ لأن الشريعة
الإسلامية غنية بالمسائل التي تتصل بهاتين المسألتين، وهما من الحاجات الملحَّة
لقانون العلاقات الدولية المعاصرة [18] .
وهذا كله يلقي على علماء الإسلام ومفكّريه وقادته مسؤوليةً ضخمة أمام الله
تعالى، وأمام دينهم وأمتهم والأجيال القادمة، ولعلهم يقدّرون هذه المسؤولية حقّ
قدرها.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .