دراسات في الشريعة والعقيدة
سليمان بن محمد الهذال
إن حياة المسلم محدودة ومعدودة؛ ومهما بلغ من حرص وجهد لكسب
الحسنات والتسابق في الخيرات والعمل في مرضاة الله تعالى فلا يزال عمره قصيراً؛
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أعمار أمتي ما بين ستين وسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» [1] .
وإذا كان عمر الإنسان بهذا الحد وبهذا الحال فلا بد من بذل الجهد الذي يمكننا
من حصول البركة في أعمالنا وأوقاتنا، ولا سيما أن الأعمال المنوطة بالإنسان
كثيرة؛ فتجد كثيراً من الدعاة وطلاب العلم الذين يحترقون لنصرة هذا الدين والنجاة
من عذاب الآخرة تجدهم كثيراً ما يشتكون من عجزهم عن القيام ببعض الأعمال،
وذلك لعدم وجود الوقت الذي يتمكنون فيه من القيام بهذا العمل. وإنك لتتعجب أشد
العجب من حال السلف وعظم ما أنجزوه وصنفوه؛ إلاَّ أنك تجد أن هناك سراً في
حياتهم وهو تمكنهم من حصول البركة في جميع شؤونهم؛ فكانت البركة في حياتهم
أنهم جمعوا من العلم الشيء الكثير حتى قيل: إن الإنسان لو أفنى عمره في قراءتها
فلن ينتهي منها؛ فكيف درسوا هذا العلم وسجلوه؟ !
ومن ذلك حال شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول عنه تلميذه ابن القيم: «وقد
شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وكتابه أمراً عجيباً؛ فكان
يكتب في اليوم من التصانيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر
من قوته في الحرب أمراً عظيماً» [2] .
بل لم يكن هذا العمل هو الوحيد عند شيخ الإسلام وإنما كان صاحب عبادة
وتعليم وإنكار للمنكرات وجهاد، وسجن في آخر عمره، وخلف بعد وفاته مشروعاً
عظيماً لا يزال العلماء وطلبة العلم عيال عليه؛ فما السر في ذلك؟ ! لا شك أنه من
البركة في الوقت والعمل.
وهذا الموضوع يحتاج إليه العالم والمتعلم والمربي، والداعية إلى الله،
وأصحاب الأعمال، وأصحاب الأموال وغيرهم من الأمة الإسلامية، يحتاجون إليه
وخاصة الدعاة والعلماء وطلبة العلم، وحتى يتمثلوا بقول الله تعالى: [وَجَعَلَنِي
مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ] (مريم: 31) . في
أي مكان وزمان؛ فالبركة جعلها الله في تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر،
والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله؛ فكل من جالسه أو اجتمع به نالته بركته،
وسعد به مصاحبه « [3] .
أهمية الموضوع:
1 - أن العبرة في كثير من الأعمال والأمور إنما هو بالكيف وحصول البركة،
وليست بالكثرة مع عدمها، وقد ذم الله ذلك فقال: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]
(غافر: 61) .
2 - قلة الإنتاجية في بعض الأعمال الدعوية وغيرها مع كثرة الجهود
المبذولة في ذلك.
3 - حاجة الدعاة والمربين وطلاب العلم والعباد إلى حصول البركة في
أعمالهم.
4 - حاجة عامة المسلمين إلى حصول البركة في أعمالهم وأرزاقهم.
تعريف البركة لغةً:
1- أصل البركة الثبوت واللزوم. قال الراغب الأصفهاني:» برك البعير:
ألقى ركبه. واعتبر منه معنى اللزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا
موضع الحرب « [4] .
2 - النماء والزيادة. وفي معجم مقاييس اللغة:» قال الخليل: البركة من
الزيادة والنماء « [5] . وفي حديث أم سليم:» فحنكه وبرَّك عليه «أي: دعا له
بالبركة. وروى ابن عباس: ومعنى البركة الكثرة في كل خير.
وقال ابن الأثير في حديث:» وبارك على محمد وعلى آل محمد «أي:
أثبت له وأدم ما أعطيته من التشريف والكرامة. وهو من برك البعير إذا أناخ في
موضع فلزمه، وتطلق أيضاً على الزيادة والأصل الأول [6] .
ويمكن أن نخلص بتعريف للبركة بأنها: الزيادة في الخير والأجر وكل ما
يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات مباركة أو زمان مبارك [7] .
أو هي: أن تعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيرك في الزمن الكثير.
ضوابط في البركة:
1 - البركة كلها من الله كما أن الرزق من الله؛ فلا تطلب البركة إلا من الله؛
ويدل على هذا قوله تعالى: [قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ]
(هود: 48) ، وقوله: [رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ] (هود: 73) .
وما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال:» كنا نعد الآيات
بركة وأنتم تعدونها تخويفاً، وكنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ
الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء. فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء،
ثم قال: حَيَّ على الطهور المبارك والبركة من الله. فلقد رأيت الماء ينبع من بين
أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم « [8] .
فإذا كانت من الله فطلبُها من غيره شرك.
2 - أن ما يُتبرك به من الأعيان والأقوال والأفعال التي ورد الشرع بها إنما
هو سبب للبركة وليس هو البركة.
كما أن ما يُتداوى به من الأدوية إنما هو سبب للشفاء وليس هو الشفاء، وما
ذكر الشرع أن فيه بركة فيُستعمل استعمال السبب الذي قد يتخلف تأثيره لفقد شرط
أو وجود مانع كما هو معلوم في قاعدة الأسباب الشرعية. وما تضاف البركة إليه
إنما هو من باب إضافة الشيء إلى سببه! كما قالت عائشة رضي الله عنها عن
جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:» فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على
قومها منها « [9] . أي: هي سبب للبركة وليست المعطية للبركة؛ فلذلك لما
تزوجها صلى الله عليه وسلم أعتق الصحابة من سَبَوْهُ من قومها بني المصطلق
لكونهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذه بركة عظيمة من الله والسبب
هو جويرية بنت الحارث؛ فهكذا الأشياء المباركة سبب للخير والنماء والزيادة.
3 - أن التماس البركة في شيء من الأشياء مبني على التوقيف؛ فالذي يدل
على حصول البركة من عدمها إنما هو الدليل الشرعي فحسب [10] .
4 - أن البركة التي توجد في بعض المخلوقات من الذوات أو الأماكن
وغيرها أن هذا من فضل الله اختصها الله بذلك لحكمة يعلمها [11] .
فيما تُجلب به البركة:
1- طلب البركة بأمور عبادية: ومنها:
أ - التقوى:
تقوى الله ومراقبته في السر والعلن سبب رئيس في حصول البركة؛ فلهذا
قال عز من قائل عليم: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأعراف: 96) .
وقوله تعالى: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ] (الطلاق: 2) .
وقوله تعالى: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] (الطلاق: 4) .
قال الواحدي: أي: يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة.
فلهذا لو تأملنا حال السلف الذين مُكِّنوا من البركة فإن الواحد منهم كان له
نصيب من تقوى الله في جميع شأنه؛ فلو نظرنا إلى نموذج واحد منهم وهو شيخ
الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله حيث يقول عنه تلميذه ابن القيم:» وحضرت
شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من
انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد سقطت قوتي «أو
كلاماً قريباً من هذا. وقال لي مرة:» لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها
لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر؛ أو كلاماً هذا معناه « [12] .
ب - كثرة الاستغفار:
قال تعالى: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم
مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً]
(نوح: 10-12) .
وقوله تعالى: [وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ
مُّسَمًّى] (هود: 3) .
ج - الصلاة وإقامتها بالخشوع:
قال تعالى: [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ
وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] (طه: 132) .
وقال وهب:» كانت الكُرَبُ العظام تكشف عن الأولين بالصلاة «.
د - البر وصلة الأرحام وحسن الجوار:
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» من
أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصِلْ رحمه « [13] .
واختلف العلماء في معنى الإطالة الواردة في الحديث.
قيل: البركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في
الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. وهذا القول اختاره ابن حجر
والطيبي [14] .
الثاني: أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك؛
فيظهر لهم في اللوح المحفوظ أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها
زيد له أربعون.
الثالث: قيل المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت، وهذا ضعيف أو
باطل [15] .
واختار شيخ الإسلام:» أن الله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة فإذا
وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك
المكتوب « [16] .
وقال الألباني:» الحديث على ظاهره: أي أن الله جعل بحكمته صلة الرحم
سبباً شرعياً لطول العمر، وكذلك حسن الخلق وحسن الجوار كما في بعض
الأحاديث الصحيحة، ولا ينافي ذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة أن العمر
مقطوع به؛ لأن هذا بالنظر للخاتمة « [17] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛
فإن صلة الرحم منجاة في الأهل، منسأة في الأثر، مثراة في المال « [18] .
وقال ابن عمر رضي الله عنه:» من اتقى ربه، ووصل رحمه أنسئ له في
عمره يعني يزاد له في عمره وينمو ماله يعني يكثر ويحبه أهله « [19] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:» إن حسن الخلق، وحسن الجوار،
وصلة الرحم تعمر الدار وتزيد في الأعمار « [20] .
وقال أبو الليث:» وفي صلة الرحم خصال محمودة:
أولها: رضا الله؛ لأنه أمر بتقواه وصلة الرحم فقال: [وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ] (النساء: 1) .
الثاني: إدخال السرور عليهم. وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن.
الثالث: فرح الملائكة، وحسن الثناء من المسلمين، وزيادة في العمر،
وبركة في الرزق « [21] .
هـ - ذكر الله وتلاوة القرآن:
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:» إن لله ملائكة يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر؛ فإذا وجدوا
قوماً يذكرون تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء
الدنيا. قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال:
يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟
قال: فيقولون: لا، والله ما رأوك. قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون:
لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما
يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا،
والله يارب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم
رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: فمِمَّ
يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون:
لا، والله ما رأوها! قال يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا
أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال:
يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة! قال: هم الجلساء
لا يشقى بهم جليسهم « [22] .
فانظر إلى بركة الذكر؛ حيث كان سبباً لمغفرة الذنوب ودخول الجنة، بل إن
هذه البركة لم تقتصر على الذاكرين وحدهم بل شملت حتى الجالس معهم.
وقال تعالى: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] (الأنعام:
92) .
وقوله تعالى: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
(ص: 29) .
قال الآلوسي:» قوله [مُبَارَكٌ] (ص: 29) أي كثير الفائدة والنفع
لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة « [23] .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:» اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه.
اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما
غمامتان أو كأنهم غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافٍّ تحاجَّان عن أصحابهما،
اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تسطيعها
البَطَلَة « [24] .
2 - طلب البركة في الأمكنة المباركة، ومنها:
1 - المساجد:
لِمَا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» أحب البلاد إلى الله
تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها « [25] .
وطلب البركة في المسجد؛ وذلك يكون من خلال الاعتكاف فيه، وانتظار
الصلوات وصلاة الجماعة، وحضور مجالس الذكر [26] ، ونحو ذلك مما هو
مشروع.
فمن المساجد التي لها مزية وزيادة في البركة: المسجد الحرام، ومسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء؛ لقوله صلى
الله عليه وسلم كما في الصحيحين:» صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة
فيما سواه إلا المسجد الحرام « [27] . وعند الإمام أحمد بزيادة:» وصلاة في
المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا « [28] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم:» لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي
هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى « [29] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم:» من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء
وصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة « [30] .
2 - مكة والمدينة والشام واليمن:
قال تعالى عن مكة: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى
لِّلْعَالَمِينَ] (آل عمران: 96) . قال القفال في تأويل البركة هنا:» يجوز أن
تكون بركته ما ذكر في قوله: [يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ] (القصص: 57) .
وقيل: «بركته دوام العبادة فيه ولزومها» [31] .
وقال الطبري: «لأن الطواف به مغفرة للذنوب» [32] .
وقال القرطبي: «جعله مباركاً لتضاعف العمل فيه؛ فالبركة كثرة
الخير» [33] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «والله إنكِ لخير أرض الله وأحب أرض إلى
الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» [34] .
وقال صلى الله عليه وسلم عن المدينة: «اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي
ثمارنا، وفي مُدِّنا، وفي صاعنا، بركة مع بركة» [35] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني
حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلَيْ ما دعا
إبراهيم لأهل مكة» [36] .
وأما الشام فقال صلى الله عليه وسلم: «طوبى للشام. فقلت: لأي شيء ذاك؟
فقال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه» [37] .
وقال تعالى: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] (الإسراء: 1) .
واختصت الشام بهذه البركة؛ لأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بُعثوا فيها،
وانتشرت في العالم شرائعهم.
وأما اليمن فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك
لنا في يمننا» [38] .
فمن سكن مكة أو المدينة أو الشام أو اليمن ملتمساً لبركات الله فقد وفق لخير
كثير.
3 - طلب البركة في أزمنة مباركة:
1 - كشهر رمضان:
قال صلى الله عليه وسلم: «قد جاءكم رمضان شهر مبارك، افترض الله
عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه
الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرم خيرها فقد حرم» [39] .
ومن بركات هذا الشهر:
1 - أنه سبب لمغفرة الذنوب: قال صلى الله عليه وسلم: «من صام
رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» [40] .
2 - فيه ليلة خير من ألف شهر.
3 - ما يحصل فيه من المنافع الدينية والدنيوية [41] .
وفيه ليلة القدر التي قال الله فيها: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنذِرِينَ] (الدخان: 3) ؛ ولبركة هذه الليلة وعظم شأنها أمر الرسول صلى
الله عليه وسلم بالتماسها فقال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر
الأواخر من رمضان» [42] .
ومن بركات هذه الليلة:
1 - فيها يفرق كل أمر حكيم؛ فيكتب فيها ما هو كائن في السنة من الخير
والشر.
2 - مضاعفة العمل فيها ومغفرة ذنوب من قامها.
3 - إنزال القرآن.
4 - تنزل الملائكة فيها [43] .
2 - عشر ذي الحجة:
كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر.
قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع
بشيء» [44] .
ومن بركات هذه العشر:
1 - فضل العمل الصالح في هذه الأيام.
2 - أن فيها يوم عرفة، ومن صامه حصل له تكفير سنتين، وفيها يوم
النحر وأيام التشريق.
3 - يوم الجمعة:
قال صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه
خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم
الجمعة» [45] .
ومن بركات هذا اليوم:
1 - أن فيه ساعة الإجابة؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: «فيه ساعة
لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه» [46] .
واختلف أهل العلم في تحديد هذه الساعة على أقوال أرجحها قولان:
أ - أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة.
ب - أنها آخر ساعة بعد العصر [47] .
2 - أن من أدى صلاة الجمعة بآدابها غفر له ما بين الجمعتين.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من
اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم
يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام» [48] .
4 - يوم الإثنين والخميس:
قال صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس،
فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شئياً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال:
أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظِروا هذين حتى
يصطلحا» [49] .
ومن بركة هذين اليومين:
1 - تفتح أبواب الجنة في هذين اليومين.
2 - أعمال الناس تعرض في هذين اليومين.
5 - الثلث الأخير من الليل:
كما قال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء
الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني
فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [50] .
4 -طلب البركة ببعض المطعومات، ومنها:
1 - الزيت: لقوله تعالى: [يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ] (النور: 35) . ولقوله صلى الله
عليه وسلم: «كلوا الزيت وادَّهِنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة» [51] .
2 - اللبن: لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا أُتي باللبن قال: «كم في البيت بركة أو بركتين» [52] .
3 - الحبة السوداء: لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام» [53] .
4 - العجوة: قال صلى الله عليه وسلم: «من تصبَّح سبع تمرات عجوة لم
يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» [54] .
«قال الخطابي: كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة
النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر. وقال النووي: في
الحديث تخصيص عجوة المدينة بما ذكر، وأما خصوص كون ذلك سبعاً فلا يعقل
معناه كما في عدد الصلوات ونُصُب الزكوات» ا. هـ.
وقال القرطبي: «ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السحر
والسم، والمطلق منها محمول على المقيد» ا. هـ.
وقال ابن حجر: «والأوْلى أن ذلك خاص بعجوة المدينة» [55] .
وقال ابن القيم: «وهذا الحديث من الخطاب الذي أريد به الخاص كأهل
المدينة ومن جاورهم، ولا ريب أن للأمكنة اختصاصاً بنفع كثير من الأدوية في
ذلك المكان دون غيره» [56] .
5 - الكمأة: قال صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن، وماؤها شفاء
للعين» [57] .
6 - العسل: قال تعالى: [يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ
لِّلنَّاسِ] (النحل: 69) .
7 - ماء زمزم: قال صلى الله عليه وسلم: «إنها مباركة، إنها طعام
طُعم» [58] .
وكان عبد الله بن المبارك إذا أتى زمزم استقبل القبلة ثم قال: اللهم إن ابن
أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «ماء زمزم لِمَا شُرِبَ له» ، وهذا أشربه لعطش القيامة. ثم شربه « [59] .
ولما سئل ابن خزيمة: من أين أتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:» ماء زمزم لما شُرِبَ له «، وإني لما شربت سألت الله علماً
نافعاً [60] .
8 - ويلحق بما سبق:
أ - الخيل: لقوله صلى الله عليه وسلم:» الخيل معقود في نواصيها الخير
إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم « [61] .
ب - الغنم: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في مرابض
الغنم فقال:» صلوا فيها؛ فإنها بركة « [62] .
وقد ذكر القرطبي رحمه الله وجوه البركة في الغنم:» ما فيها من اللباس
والطعام والشراب وكثرة الأولاد؛ فإنها تلد في العام ثلاث مرات، إلى ما يتبعها من
السكينة، وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح، ولين الجانب « [63] .
ج - النخل: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينما نحن عند
النبي صلى الله عليه وسلم جلوس إذا أُتي بجمار نخلة فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:» إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم « [64] .
5 - طلب البركة في خصال حميدة، ومنها:
أ - الاجتماع على الطعام والأكل من جوانب القصعة، ولعق الأصابع، وكيل
الطعام [65] ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» فاجتمعوا
على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه « [66] .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:» كلوا جميعاً ولا تفرقوا؛ فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين
يكفي الثلاثة والأربعة، كلوا جميعاً ولا تفرقوا؛ فإن البركة في الجماعة « [67] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من
حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه « [68] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» إذا أكل أحدكم فليلعقن أصابعه؛ فإنه لا يدري
في أيتهن البركة « [69] .
ويقول الشيخ الألباني:» وفي الحديث أدب جميل من آداب الطعام الواجبة
ألا وهو لعق الأصابع ومسح الصحفة بها، وقد أخل بذلك أكثر المسلمين اليوم
متأثرين بعادات أوروبا الكافرة وآدابها القائمة على الاعتداد بالمادة ... إلخ « [70] .
وقال صلى الله عليه وسلم:» كيلوا الطعام يبارك لكم « [71] .
ب - الصدق في المعاملة: جاء في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا؛
فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما « [72] .
ومعنى قوله:» بورك لهما في بيعهما «أي: كثر نفع البيع والثمن [73] .
ت - سخاوة النفس في طلب المال: قال صلى الله عليه وسلم:» إن هذا
المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس
لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع « [74] .
ث - التسمية في جميع الأعمال: لما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال:» فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه « [75] .
ج - شكر الله على نعمه: قال تعالى: [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]
(إبراهيم: 7) .
وحقيقة الشكر: أن تُظهِر في قلبك الفرح بالله وبنعمته وفضله عليك، ثم
تخوض في العمل بموجبه، وذلك بالجوارح والقلب واللسان.
أما الجوارح فباستعمالها في طاعة الله، والقلب فشكره دوام المراقبة، واللسان
فشكره ذكر الله [76] .
د - استغلال أوقات البكور: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: بورك لأمتي في بكورها» [77] .
وعن صخر بن وادعة الغامدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها» ، وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم في
أول النهار، وكان صخر رجلاً تاجراً، وكان يبعث تجارته في أول النهار فأثرى
وكثر ماله [78] .
ما يُذهِب البركة:
1 - الذنوب والمعاصي:
قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]
(الرعد: 11) .
وقوله تعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الأنفال: 53) ، ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن
جميع الفساد في جوّه ونباته وحيوانه وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت
حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام
والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض، والأسقام والطواعين، والقحوط
والجدوب، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلب منافعها أو نقصانها
أموراً متتابعة يتلو بعضها بعضاً « [79] .
2 - الحرص وكثرة الطمع والرغبة في الدنيا:
قال صلى الله عليه وسلم:» إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بسخاوة
نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا
يشبع « [80] .
ويقول الحافظ:» ضرب المثل لما يعقله السامع من الأمثلة؛ لأن الغالب من
الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير؛ فبيَّن بالمثال المذكور أن البركة هي
خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون؛ فالآكل إنما يأكل ليشبع؛
فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه
وإنما هي لما يتحصل به من المنافع؛ فإذا كثر عند المرء تحصل منفعة كان
وجودها كالعدم « [81] .
3 - البعد عن أسباب جلب البركة:
وهي ما ذكرناه سابقاً.