مجله البيان (صفحة 4050)

الافتتاحية

انحياز أم عداء لكن.. حتى متى؟ !

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

وبعد:

فإن المتابع للواقع المأساوي الذي يعيشه إخواننا في فلسطين من العدوان

الصهيوني عليهم والحرب الهمجية التي لم يبق بيت ولا حقل ولا سكن إلا ناله من

جرائها الكثير، من قتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ بأساليب وحشية على

مسمع العالم وبصره بدعوى مقاتلة المجاهدين الفلسطينيين الذين ضاقوا ذرعاً بالقتل

والحصار والاستئصال الصهيوني بكل الوسائل الحربية المحرمة دولياً حتى السلاح

الأمريكي (الممنوع استخدامه للاعتداء على المدنيين) استخدموه، ولم يحرك ذلك

شعرة لدى الإدارة الأمريكية! وبدلاً من أن تحذر أمريكا ربيبتها (إسرائيل)

وتُوقفها عند حدها وتستخدم الوسائل التأديبية التي استخدمت مع بعض الطواغيت

أمثال (صدام، وميلوسوفيتش) نجد الإدارة الأمريكية تتحاشى حتى الإدانة

الكلامية، ونجد (نائب الرئيس الأمريكي تشيني) يقول: «إن لـ (إسرائيل)

الأسباب التي تسوِّغ ما تقوم به من عمليات ضد (الإرهابيين) ! !» وهي في

مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة العنصرية ترفض وصف الصهيونية بالعنصرية مع أنه

سبق للأمم المتحدة أن أصدرت قراراً بذلك وألغي بضغوط أمريكية عام 1993م.

ونتساءل وبكل صراحة: أين الحرية، وأين حقوق الإنسان، وأين حقوق

الشعوب في تقرير مصيرها التي طالما جعجع بها الغرب وعلى رأسه أمريكا حيث

اتخذت حيال تجاوزها المواقف الصلبة كالحصار والقصف الجوي؟ أم أن ذلك

لشعوب دون شعوب، ولدول دون دول؟ وهذا هو الحاصل أمام المذابح الصهيونية

ضد الشعب الفلسطيني.

والأعجب أن تصطنع الولايات المتحدة الأمريكية ما تسميه بالدول المارقة!

وتعني بها بعض الدول الخارجة عن نطاق سيطرتها والتي ترفض الآستكانة

لضغوطها الجائرة، وللدول الإسلامية النصيب الأكبر كما هو معروف للجميع، نعم!

قد يكون لبعض الدول تصرفات ومواقف لا تُرضى؛ لكن ما بال الشعوب تهان

وتحاصر وتحطم مقدراتها؛ بينما دولة الكيان الصهيوني تعربد وتضرب بما يسمى

عندهم بالشرائع والقوانين عرض الحائط وتستهتر بكل الأنظمة المرعية ولا تمس

منها شعرة وهي لا تقلّ انحرافاً ولا همجية عما تسميه أمريكا: (الدول المارقة) ؟

هذه الانحرافات اليهودية البشعة التي لا يصدقها عاقل حتى ضج منها بعض

الغربيين أنفسهم. ولا يغيب عن الذهن البرنامج الوثائقي الذي بثه التلفزيون

البريطاني عن جرائم رئيس الوزراء الصهيوني (شارون) والمذابح التي تبين

ضلوعه فيها مما يفوق بدرجات كبيرة ما يسمونه بالهلوكست. وأذاعت القناة الرابعة

للتلفزيون البريطاني مؤخراً برنامجاً آخر بعنوان: (الحكام السريون في العالم)

الذي أذاعه المذيع البريطاني المعروف (ديفيد إيك) وقال عن هؤلاء الحكام:

(إنهم الذين يمسكون بلجام القوة في العالم ويعيثون فساداً فيه) ، ومع إيماننا بأن مثل

هذه الأمور مبالغ فيها وتشكل دعاية غير مباشرة لليهود، ومع أن المذيع المذكور لم

يشر لليهود في برنامجه ومع ذلك فإنه تعرض لحملة صهيونية مضادة بدعوى

الإساءة لهم، غير أن هذا البرنامج قد أحدث ردود فعل إيجابية ضد الغطرسة

اليهودية كما جاء في المقال المنشور في صحيفة الحياة الصادرة في 2/4/1422هـ

هذه سلوكيات الصهاينة التي لا يقبلها شرع ولا عقل، ومع ذلك نجد الغرب بعامة

وأمريكا بخاصة يتجاهلون هذه الحرب العنصرية والهمجية ضد الشعب الفلسطيني

الأعزل، وللمرة الثانية تعلن أمريكا الفيتو ضد إيجاد قوة دولية لحماية الفلسطينيين

وكأنها تصر على تصفية للفلسطينيين بتلك الحرب الوحشية القائمة بدون مراعاة

حتى لآداب اللياقة الدولية مع الدول التي تربطها بهم مصالح وعلاقات؛ ولكن كما

قيل: من أمن العقاب أساء الأدب.

ونحن لا نطمع في انحياز الغرب بعامة وأمريكا بخاصة ليكونوا معنا ضد

(اليهود) ؛ وإنما نرغب ونطالب بالعدالة والعدالة وحدها، وإن كان ذلك فيما

نحسب مستبعداً لأسباب عقائدية وتاريخية ونفسية من أهمها:

1 - ما ذكره الله جل وعلا في كتابه: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ

النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .

2 - ما ترسب في النفسيات الغربية من آثار الحروب الصليبية التي سُجِّلت

برؤى معادية للإسلام والمسلمين مما لا يستغرب معها عداؤهم للأمة الإسلامية؛ مع

أن الحقيقة خلاف ذلك؛ فالصليبيون هم المعتدون؛ وقد تم طردهم من ديار الإسلام

بقوة الإسلام والمسلمين.

3 - العقلية النصرانية الصهيونية التي أوجدت اتجاهاً كبيراً له وزنه حتى

عند كبار صناع القرار في الغرب؛ فهم يوقنون بأن وجود دولة العدو في فلسطين

وقيام هيكلهم المزعوم يؤذن بعودة المسيح عليه السلام، وهذا الاتجاه مصادم للعقل

والنقل، والصحيح أن المسيح عند نزوله سيكون مصدقاً لرسالة الإسلام، وسيكسر

الصليب ويقتل الخنزير، كما روته كتب الصحاح والسنن النبوية ضمن أشراط

الساعة.

4 - التمسك بأي عذر حتى ولو كان كاذباً ومن ذلك ما يزعم أن محاربة العدو

الصهيوني معاداة للسامية، تلك الدعوى التي تولى كبرها الصهاينة لمصلحتهم؛

وإلا فإن شعوب المنطقة هم أقرب للسامية إن كان لها وجود من الصهاينة الوافدين

من شتى الآفاق والذين هم أبعد ما يكونون عن السامية حسب التصنيف المشهور

لكونهم من شذاذ الآفاق.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: لماذا يكون أعداؤنا أكثر إيماناً

بعقائدهم الباطلة منا نحن المسلمين بعقائدنا الصحيحة؟ ولماذا يكونون أكثر التزاماً

بمنطلقاتهم الدينية في الموالاة والمعاداة لبني دينهم؟ فهذا حال أمريكا مع عدونا

اليهودي، وتلك الحال نفسها بين روسيا والصرب السلافيين في حربهم للمسلمين

في البوسنة والهرسك والبلقان؛ فهم يؤيدون ويدعمون بني دينهم غير آبهين لما

يسمى بالقوانين الدولية ولا مبالين بمعاناة المسلمين من جراء ما يوجه إليهم من

عدوان وحشي معروف.

إن عداء أعدائنا لأمتنا وديننا لم يعد خافياً إلا على من ختم الله على قلوبهم

وأبصارهم؛ ومن ثم فإن التساهل مع الأعداء في انحيازهم ضد إخواننا المسلمين

في العقيدة والمصير غير مقبول؛ ولا بد للمسلمين بعامة أن يقفوا مواقف صلبة من

المنحازين ضدهم ومفاتحتهم بأن عدوانهم ولا مبالاتهم بما يُكاد لنا ولإخواننا هو

تواطؤ ضدنا غير مقبول؛ ولا بد له من مواجهة مؤثرة بالمقاطعة التي يجب أن

تَفُعَّل من جميع الشعوب الإسلامية ضد كل عدو لنا حتى ولو كان من أمريكا أو

روسيا.

نعم! قد تدعي بعض الدول بأن لها من الصلات والعلاقات مع الدول المعادية

لنا ما يصعب معه المقاطعة لها، ومع عدم قناعتنا بهذا العذر إلا أنه يجب تشجيع

الشعوب على مقاطعة كل من يعادينا باعتبار أن ذلك من حق الشعوب حيال كل من

يعاديها ويستهتر بمقدساتها أو يكون نصيراً لأعدائها؛ فمن حق الشعوب أن تثأر

لكرامتها، وأن تقف مواقف صلبة مع كل من يعاديها أو يقف في سبيل نهضتها

وقوتها.

إن هذه المواقف التي تقوم بها الدول الغربية ضد أمتنا وشعوبنا بالانحياز

لأعدائنا ليست محل المقت من شعوبنا المسلمة فقط بل هي محل مقت واستنكار

كثير من المنصفين في الغرب حتى في أمريكا نفسها؛ فهذا الدبلوماسي الأمريكي

(وليام ستولزفوس) وقد كان سفيراً لأمريكا سابقاً في الإمارات واليمن والكويت

يقول منتقداً السياسة الأمريكية لبلاده انتقاداً مريراً: «إن المصالح الأمريكية تختلف

اختلافاً بيِّناً بين المبادئ العامة التي تنادي بها واشنطن مثل مناصرة الديمقراطية

والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.... وعندما تصطدم المصالح الأمريكية

بالمبادئ لن تتردد واشنطن في التضحية بالمبادئ من أجل المصالح؛ وخاصة إذا

كان ذلك يهدد المصالح الأمريكية والإسرائيلية» [1] .

ويقول الكاتب الأمريكي (تشارلز ريس) : «إن مفتاح السلام في الشرق

الأوسط هو واشنطن وليس (القدس) ؛ ذلك أن حكوماتنا هي التي تتحكم وتوجه

الحكومة الإسرائيلية، ومن العبث أن يستمر الناس في نداءاتهم بتجديد عملية السلام

لكونها ماتت وانتهت» (الوطن العدد: 321) .

ولا يغيب عن الذهن نداءات وتحذيرات السياسي الأمريكي عضو مجلس

الشيوخ السابق (بول فندلي) في كتابه: (من يجرؤ على الكلام؟) الذي فضح

فيه اللوبي الصهيوني وأدواره المشبوهة في الحياة الأمريكية وائتمار الإدارة

الأمريكية بأوامره.

فلماذا يضيق أولئك المنصفون بانحياز بلادهم لـ (إسرائيل) ونحن

متساهلون وغير مبالين! ! يجب أن تُفهِم الشعوب المسلمة أمريكا ومن لف لفها أن

انحيازها لعدونا سيكون له ثمنه الكبير، وحينها لن تكون شعوبنا العربية ألعوبة في

أيدي العدو وحلفائه كائناً من كانوا. فاحتياجاتهم لعالمنا العربي والإسلامي أكبر من

احتياجنا لهم؛ وعندها سيفكرون وبعمق بمدى خطورة الصهاينة على مصالحهم؛

فالمسألة حرب مصالح؛ وتفريطنا في ذلك تساهل وتصاغر لا يليق بأمة الإسلام

التي كتب الله لها العزة. ويجب ألا يفتَّ في عضدنا بعض ما يكتبه بعض

المنهزمين ممن يزعم صعوبة وعدم إمكانية المقاطعة لأعدائنا ونقول لهم:

[وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) .

نعم! لقد جعل الله العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن، العزة المستمدة من

عزته تعالى التي لا تهون ولا تهن ولا تنحني ولا تلين ولا تزايل القلب المؤمن في

أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان؛ فإن استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه

مستقرة راسخة [2] .

فضلاً عن الآثار الكبيرة والخطيرة للمقاطعة قبل دعاوى السلام؛ ولذلك كثيراً

ما يطالبون بإيقافها لدورها المؤثر والخطير على مصالحهم؛ ومن ثم فإن من يدعون

للتطبيع مع العدو على شتى اتجاهاتهم في ظل الغطرسة والهمجية الصهيونية لا شك

أنهم خائنون لله وللمؤمنين، ويجب أن يُفضَحوا على رؤوس الأشهاد؛ لأن موالاة

الكفار ناقض من نواقض الإسلام، وصدق الله العظيم: [لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ

الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ]

(آل عمران: 28) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015