مصطلحات ومفاهيم
أ. د. محمد يحيى
يتسم هذا المصطلح بدرجة من الغموض والعمومية؛ لتوزُّعه بين مجالات عدة
لكننا طبعاً نهتم بالمجال الفلسفي الفكري منه؛ لأن استعماله في المجال الخيري
مثلاً بمعنى المعونات الإنسانية أي الإغاثة والعون واضح. كذلك فإن استعماله
للدلالة على نزعة محبة عطوفة على البشر واضح. أما في مجال الفكر ونعني به
الفكر الأوروبي الغربي فإن المصطلح يعود إلى عصر النهضة أي إلى القرون من
الخامس عشر إلى السابع عشر؛ حيث اتسم ذلك العصر بظهور وسيادة ما عرف
بالنزعة الإنسانية، وكانت تلك النزعة ذات وجود متشعب في ميادين عدة؛ ففي فن
الرسم والنحت مثلاً كانت تعني اتخاذ موضوعات بين البشر والعناية بهم في مقابل
الموضوعات الدينية (المسيحية) التي هيمنت على الفترات السابقة، وكانت تعني
التصوير الواقعي والمثالي في آن واحد لتلك الموضوعات البشرية، أما في ميدان
الفكر فكانت النزعة الإنسانية تعني الاحتفاء بالبشر وشؤونهم الدنيوية في مقابل
الانكباب السابق على الأمور الدينية والتحلق حولها وإعلائها.
ويجب أن يكون واضحاً أن هذا الاهتمام بالبشر أو الإنسان لم يأت على خلفية
من نزعة الخير والعطف على الناس والمحبة لهم والحَدَب عليهم؛ بل كان مجرد
اعتناء عامٍّ وتركيز على الأمور البشرية بمعنى الدنيوية في مواجهة الدينية؛ منبعه
ما شعر به مفكرو تلك الحقبة في الغرب من اهتمام الفترات السابقة بالدين وشؤونه،
والعقيدة والآخرة على حساب الأمور الدنيوية حسب تصورهم، ومن هنا كانت
النزعة الإنسانية ومنذ نشأتها مرتبطة بتوجه علماني دنيوي يبعد الدين عن مجال
اهتمامه، ويقلل حجم المساحة التي يحتلها في بؤرة الضوء إن لم يناصبه العداء.
وتطورت تلك النزعة في العصور التالية، وتلقت الدعم من حركات العقلانية
والتنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ حيث وضعت العقلانية العقل
البشري موضع التأليه، وحولته إلى معيار الحكم على الأشياء، ووضع القيم
والمبادئ الحاكمة لسلوك المجتمعات ليحل محل الوحي الإلهي عند أهل الغرب الذي
أصبح موضع الشك الجسيم بعد حركات نقد نصوص كتابهم المقدس بكل ما يحتويه
من عقائد وقيم.
وجاءت حركة التنوير لتعمق تَوَجُّهَ العقلانية هذا، ولترسِّخ النزعة الإنسانية
بما وجهته إلى الدين المسيحي من ضربات قاصمة مست عقائده وهدمتها؛ مما جعل
الساحة خالية من أي مصدر للقيم والتوجيه يمكن تسميته أو وصفه بالوحي الإلهي،
ولم يتبقَّ إلا الإنسان وعقله مصدراً وحيداً للعناية والاهتمام، ولم يتبق سوى الدنيا
مجالاً وحيداً للاهتمام وبؤرة تتعلق بها الأفكار، وميداناً يسعى الجميع لتحويله إلى
جنة على الأرض بعد أن ضاع الإيمان بجنة في الآخرة.
وبهذا ارتبطت النزعة الإنسانية بالتدريج ليس فقط بالإقلال من أهمية الدين
ومكانته أو حتى بالعلمانية (الاتجاه الدنيوي) ؛ وإنما أيضاً وفي نهاية المطاف
بالتوجه الإلحادي المفارق للدين. وليس من قبيل المصادفة أن جمعيات الملحدين
وروابطهم في الغرب أصبحت تعرف في العقود الأخيرة بروابط الإنسانيين في
محاولة لتجنب لفظ الإلحاد الذي ما زال يصدم المشاعر حتى في البلدان التي
اعتمدت العلمانية منذ عقود وسنين طويلة.
والواقع أن النزعة الإنسانية بمعنى التحلق حول الأمور البشرية الدنيوية في
معارضة حادة مع أي وحي إلهي أو ديني كانت سمة ميزت الفكر الغربي على مر
القرن التاسع عشر ومعظم العشرين منه، وهو ما نشير إليه عادة بهيمنة النزعة
العلمانية. ولكن في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة نشأت اتجاهات فلسفية مثل
البنيوية والتفكيكية، أصبحت توصف في الفكر بأنها معادية للنزعة الإنسانية.
والمقصود بهذا المصطلح الفلسفي الجديد ليس الرجعة عن العلمانية أو التوجه
الدنيوي، بل على العكس هي تعني الإيغال فيه. ومعنى هذا المصطلح الجديد هو
القول بأن الظواهر اللغوية والاجتماعية والثقافية تتآلف وتتشكل من عناصر تتجمع
في قوانين أو كما تسمى (شِفْرات) خاصة بها، وتعلو على الفرد أو الجماعة
بحيث يصبح لها قوة وأثر وفعل متميز. والعداء للإنسانية في هذا الصدد يعني أن
الأفراد وحتى الجماعات لا يتمتعون بأي قوة منفردة وفاعلة في تشكيل الظواهر
والأحداث اللغوية والاجتماعية والثقافية، وإنما يتمتع بهذه القوة وهذا الأثر هو تلك
القوانين أو (الشِفْرات) العامة. وعلى الرغم من سيادة هذا الاتجاه في السنوات
الأخيرة إلا أنه أخذ يتعرض لنقد متصاعد من جانب تيارات الفكر الأقدم التي تنتمي
إلى النزعة الإنسانية التي يجب رغم ذلك أن نعتبرها التيار الأكثر حضوراً في
الفكر الغربي العام.
والنزعة الإنسانية عند طرحها في بلاد المسلمين في إطار عملية النقل
والترجمة تمر بعملية خداع وتمويه كبرى؛ فالذين يروِّجون لهذا المصطلح يوهمون
المتلقين بأنهم في الحقيقة ليسوا سوى مدافعين عن الإنسان والعقل، وهي أمور في
صميم جوهر الدين؛ أفلم يكرم الإسلام العقل والإنسان في آيات قرآنية عديدة؟
وهذه الخدعة تستخدم في تمرير العلمانية بحجة أن الاهتمام بالدنيا وبالبشر الذي هو
جوهر العلمانية (حسب المفهوم المموه لها) وهو أيضاً جوهر الإسلام عندهم ولم
يكن غريباً في هذا الصدد أن نسمع دعوة تتردد منذ سنوات (وحتى يرددها بعض
الإسلاميين المزعومين) من أن الإسلام دين علماني أو أن الإسلام والعلمانية شيء
واحد لا لسبب إلا لأن المذهبين يهتمان بالدنيا! ولا يهم بعد ذلك أن يكون هذا
الاهتمام بالدنيا مدفوعاً من ناحية بأنها مزرعة للآخرة، وعلى الناحية الأخرى بأنه
لا توجد آخرة ولا إله! وهذه الخدعة أو التمويه تستخدم ليس فقط لتسويغ النزعة
الإنسانية في الفكر الغربي (حسب تعريفها هنا فيما سبق) وإنما كذلك لتسويغ
نزعات أخرى كالعقلانية (حسب المفهوم المادي التشكيكي) والدنيوية ومما يتفرع
عنهما، وذلك الخداع والتمويه يأتي من الخلط بين مفهوم الإنسانية بوصفها دعوة
للخير ومحبة البشر وبذل العون والغوث ... إلخ (وهو ليس وارداً هنا) وبين
المعنى الحقيقي للنزعة الإنسانية في الفكر الغربي، من الإعلاء المطلق لمفاهيم
وتوجهات الدنيوية والعقلانية المادية المتشككة، والإنسان المنفصل عن الوحي
الإلهي وعن أي دين أو توجيه سماوي.