مجله البيان (صفحة 4036)

قضايا ثقافية

نظرة في سنن الكون وقوانين التاريخ

عبد الباري أحمد العطار

إن المسلم الحق ليعلم أن التاريخ ليس مجرد ماض مسجل على أوراق قديمة

أو جديدة؛ وإنما ينبغي تجريد أحداثه من قيود الزمان والمكان ليتمكن من الإفادة منه

في التعامل مع الحاضر ويرى المستقبل أيضاً من خلاله؛ ولذلك يقول ابن خلدون

وهو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع وليس «أوجست كونت» أو «هربرت

سبنسر» أو من حذا حذوهما ك «أميل دور كايم» كما يزعم مغسولو الدماغ من

المنتسبين إلى الفكر الإسلامي، يقول رحمه الله وهو يقسم التاريخ إلى ظاهر وباطن:

«إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون

الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتُطرف بها الأندية إذا غصَّها

الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها

النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان فيهم الزوال،

وفي باطنه أي حقيقته نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات

الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في

علومها خليق» [1] .

فالوعي التاريخي من أهم الموارد الثقافية والمعرفية لثقافة الحاضر ورؤية

المستقبل، وإن القطيعة التاريخية تجعل التعامل مع الحياة نوعاً من الخبط الأعشى

«لذلك كان من معطيات منهج القرآن والحديث في هذا المجال، البحث في سند

الحدث التاريخي والتحقيق فيه لمعرفة صدقه ومن ثم التفسير والتقويم والتعليل

والمراجعة لدوافع الحدث ونتائجه وعواقبه» [2] .

ويقول الشيخ محمد الخضري (*) في سبب دراسة التاريخ: «فلا بد أن

نجعل أمام أعيننا أننا ندرس تاريخ أمم إن كانت أخطأت في بعض تصرفاتها فليس

علينا من تبعة ذلك الخطأ شيء، ليس لنا إلا أن نعرفه ونستفيد منه، وإن كانت

أصابت المحجة فإن ذلك أيضاً لا ينفعنا إذا لم يكن لنا مثل أعمالهم، لذلك يحتاج

دارسو التاريخ إلى سعة صدر تحتمل كل ما يرد على تاريخ قومه من نقد حتى لا

تبقى حقائق الأشياء محجوبة بسحب عاطفتي الحب والبغض» [3] .

وإذا نظرنا في كتاب الله باعتباره المصدر الأول للتشريع لنستدل منه على

أهمية دراسة التاريخ والاعتبار بحوادثه وتقلباته وجدنا قوله تعالى: [قَدْ خَلَتْ مِن

قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ]

(آل عمران: 137) ، ثم يقول تعالى موضحاً حتمية هذا الإرشاد والتوجيه

وضرورته: [هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ] (آل عمران: 138) ،

ويقول جل شأنه مبيناً ميزة من يستفيد من التاريخ في تقويم حياته: [لَقَدْ كَانَ فِي

قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ] (يوسف: 111) .

وكأنه لا يعتبر بالحدث التاريخي وينتفع بالوقائع الماضية إلا أصحاب العقول

النيِّرة، وبمفهوم المخالفة يصبح كل من لم ينتفع بما مضى وبأحوال من سلفوا ليس

له عقل يؤهله لقيادة غيره أو حتى نفسه في المحكات الاجتماعية بحنكة ودراية،

ويتكرر الإرشاد بقوله تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ]

(العنكبوت: 20) ، وأوجب سبحانه وتعالى تعلُّم سِيَر الصالحين بقوله آمراً نبيه

صلى الله عليه وسلم؛ والأمر للقدوة أمر لاتباعه وهو من الخاص الذي يُراد به

العموم [4] كقوله تعالى: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ]

(الزمر: 65) ، وما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشرك أبداً، وهو

المصطفى والمجتبى الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه خطاب من

الله للتحذير من الشرك، وغير الرسول صلى الله عليه وسلم أوْلى بهذا التحذير،

وقد أوجب علينا سبحانه اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الآيات؛

فتارة يخبرنا جل شأنه أن لنا في الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة لمن

كان يرجو الله واليوم الآخر، وتارة يأمرنا بأن نأخذ كل ما أتانا به صلى الله عليه

وسلم وننتهي عن كل ما نهانا عنه، وتارة بأمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن

يعلمنا أن اتباعه دليل على حبنا لله سبحانه وتعالى. يقول تعالى آمراً نبيه صلى الله

عليه وسلم بعد الكلام عمن سبقه من الأنبياء: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ]

(الأنعام: 90) .

ولئن كان هناك بعض العذر قديماً للإنسان عامة في الإلمام بأحداث التاريخ

ووقائعه؛ فقد انقشع ذلك العذر في وقتنا الراهن بعد أن أصبحت الكرة الأرضية

قرية كونية، وأصبحنا نعيش في ثورة معلوماتية تمكننا من استقراء كل ما يدور

حولنا سواء على المستوى المحلي أو الدولي العالمي.

أما ما يتعلق بماضي الأمم الغابرة فقد وصَلْنا أيضاً إلى أزهى عصور التدوين

الورقي والإلكتروني، وإن كنا نعتبر هذه الوسائل كلها إضافية لا أساسية؛ فإن

الوحي من قرآن وسنة يستوعب التاريخ الإنساني في خطوطه العريضة، ويرسم

حركته على الأرض ليس فقط في ماضيه بل في مستقبله أيضاً [5] ؛ وتلك خاصية

من خصائصه لا تشاركه فيها المعارف الإنسانية مجتمعة باعتباره أحكاماً إلهية يقينية

نهائية قاطعة تظهر في صيغة الخبر عما كان وما سوف يكون بشكل قطعي من

شاهد للأحداث وليس بغائب؛ كما قال تعالى: [فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ]

(الأعراف: 7) ، وقوله تعالى: [قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي

وَلاَ يَنسَى] (طه: 52) .

وفي هذه الخطوط العريضة التي جاء بها الوحي من «قرآن وسنة» تغطية

كاملة لحياة الإنسانية الممتدة في أعماق التاريخ، وفيه إضاءة لجوانب حضارية

اجتماعية وسياسية ومالية وقانونية وأخلاقية وأسرية ودينية ... إلخ. ففيه الكشف

عن نُظُم قانونية كانت سائدة عند الأمم السالفة كالقصاص في التشريع: [وَكَتَبْنَا

عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ

بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ] (المائدة: 45) ، وبعض الأخلاقيات السيئة

التي انتشرت في عهود مضت: [وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ

وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ]

(النمل: 54- 55) والوثنية وقتل الأنبياء وإباحة المحرمات عند بني إسرائيل لما

انتهكوا حرمة السبت وطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً، وعبدوا

العجل لما ذهب للقاء ربه، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف.

وفيه الكشف أيضاً عن ظاهرة التقليد واتباع الموروث وإن كان باطلاً،

والترف والظلم والاستبداد في الحكم، ووأد البنات، وظهور الطبقية في مجتمع ما

قبل الإسلام.

كما كشف أيضاً عن الجوانب المتعلقة بالحياة الدينية وأنواع العبادات

والمعتقدات كتحريم ظهور الأنعام وقتل الأولاد افتراءاً على الله، ووصف الصراع

الذي اشتد بين أنصار عقيدة التوحيد الإسلامية القائمة على التوجه بالعبادة لله وحده

وأصحاب العقائد الشركية كما في قصة موسى وفرعون وشعيب وقومه وخاتم

الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن التاريخ يعيد نفسه والحوادث تتكرر ولا

تتغير باستثناء اختلاف الأماكن والأشخاص.

وحينما نتكلم عن الاستفادة من التاريخ والاعتبار به في الحاضر والمستقبل

فإننا ندعو بالقصد التابع إلى ضرورة وجود عقليات سليمة ووجوب تصحيح

العقليات السقيمة؛ فإن العقل السليم هو الذي يقود صاحبه إلى الإيمان بوحدانية

الخالق المدبر، وصدق التوجه إليه بكل صور العبادة من شعائر ونسك وحكم وولاء،

كما أن العقل المجرد عن هذه الخاصية خاصية السلامة يظل عقلاً معتلاً مهما كان

دقيقاً في الكشف عن أسرار الكون ونظامه، وسبب ذلك الاعتلال أنه أعرض عن

الدلائل المبثوثة في الكون بوصفها شواهد على الربوبية والألوهية ومن موجبات

تأملها الإيمان بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والإيمان

بمُنزل ذلك الحق والنور؛ كما قال تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ] (فصلت: 53) .

فلم يفهم العقل المعتل عن الله أدلته وآياته «والقرآن يصور العلاقة بين العلم

والإيمان بأنها علاقة توافق واتحاد، ويصور العلاقة بين الإيمان والجهل بأنها علاقة

اختلاف وتضاد، فحسَّن العلم ورغَّب فيه، وقبَّح الجهل وحذَّر منه، ووصف العلم

بمستلزماته من النور والضياء، وبعث الحياة كما وصف الجهل بمستلزماته من

الظلمة والشر والهلاك. قال تعالى: [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا

لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا]

(الأنعام: 122) [6] .

ولكننا للأسف نلحظ في غالب التوجهات الفكرية القائمة اليوم والمتمسحة

بالإسلام نلحظ الاهتمام بالتاريخ لاستخراج الجزئيات المنحرفة والإشكاليات الغامضة

كتضخيم التراث الفلسفي أو الصوفي المنحرف بالإضافة إلى التيارات الباطنية،

وتمجيد الحركات السرية العميلة أو الضالة التي نشأت واستهدفت تقويض المجتمع

الإسلامي؛ وكل ذلك على حساب التاريخ الفكري للتراث المنبثق عن الفهم

الإسلامي الواضح المستنير، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تعطيل الإفادة من هذا

التاريخ وحجب للتراث الصحيح النافع عن القيام بدوره الريادي وبروز عناصر

القوة منه؛ فإن الكثير من علمائنا أصحاب هذا التراث نبغوا في بيئة ثقافية ولدت

معها شروط نهضتها الحضارية.

أما الدوران في فلك جزء من الترفيه العقلي الخالي من مقومات التفكير العملي

القادر على العطاء والاستمرارية كفلسفات الكلاميين أو تشدقات المتصوفة وترهاتهم

أو انحرافات الباطنية بحجة الحفاظ على التراث وإحياء الموروث القديم فهو انتقاء

مخل ودور سلبي خالٍ تماماً من الإيجابية العلمية والنفع الذي كتب له الدوام [فَأَمَّا

الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ] (الرعد: 17) .

ومنذ الاحتكاك الثقافي الكثيف بين العالم الإسلامي وأوروبا و» أنصار

التجديد «دعاة العلمانية يحاولون الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، أو بين

العلوم التجريبية وما جاء به الوحي. وفي جل الجوانب الثقافية قالوا بوجوب

الاحتلال الكامل للعلوم داخل ما جاء به الوحي. على أنه تراث يجب تنقيته [7] ؛

فقد أرادوا انتزاع الحكم والسياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع مرة واحدة من

مملكة الوحي لكي تستأثر بها علوم الإنسان وخبراته الحياتية وشهواته الدنيئة،

والدليل عندهم على هذا كله هو التاريخ حتى وإن جاء متواتراً في مصادره

الصحيحة؛ فما ينبغي أن نصدِّق أن النار لم تحرق إبراهيم عليه السلام لأن تخلُّف

خاصية الإحراق عنها يخالف مقررات العلم التجريبي، ثم كيف يواجه موسى عليه

السلام عنجهية فرعون واستكباره بعصاه، وفرعون صاحب الجيوش الجرارة التي

لا تهزم؟ وكيف يُحيي عيسى عليه السلام ويصنع من الطين كهيئة الطير فيكون

طيراً بعد أن ينفخ فيه، وكيف يبرئ الأكمه والأبرص؟ بل كيف نصدِّق أن محمداً

عليه السلام قد أُسري به روحاً وجسداً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في

جزء من الليل ولم تكن الطائرة قد اخترعت بعد، وكانت وسائل المواصلات

الوحيدة حينئذٍ هي الفرس أو الناقة؟

إن هذه الحقائق التاريخية كلها من وجهة نظر هؤلاء الذين يدَّعون الإصلاح

الفكري والثقافي كما يزعمون خرافات غير علمية ويجب علينا اقتلاعها من تربتنا

الثقافية من أجل استنبات زرع جديد بريء منها ومتسق مع النتائج المعملية

التجريبية [8] ، وصدق الله سبحانه وتعالى حينما قال: [يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ

كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ] (البقرة: 26) .

نسي هؤلاء أن الذي أعطى النار خاصية الإحراق قادر على انتزاعها منها في

قصة إبراهيم، وتناسوا أن الله أيد أنبياءه بالمعجزات لإقامة الحجة على أقوامهم كما

جاء في قصة موسى عليه السلام وعصاه، ونسوا أن الإحياء والإماته وإبراء الأكمه

والأبرص من خصائص الرب سبحانه وتعالى وأنه قادر على منحها لمن يشاء من

عباده و [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ] (المائدة: 54) ، وهي أفعال لا يستقل

العبد بها، بل بمشيئة الله تجري على يديه كما كرر عيسى عليه السلام جملة

» بإذن الله «بعد كل فعل وهو مشابه لقول الخضر عليه السلام: [وَمَا فَعَلْتُهُ

عَنْ أَمْرِي] (الكهف: 82) .

» فالكون بتاريخه المديد خاضع لسنن الله؛ لكن الخالق جلَّت قدرته يخرق

هذه السنَّة عبر لحظات مدهشة قصيرة، لكي يضع في أيدي أنبيائه دليلاً محسوساً

على صدق بعثتهم، وليس في هذا ما يقدح في إيمان المسلمين باطراد القوانين

الطبيعية والاجتماعية، وليس فيه ما يمنع العلماء المسلمين من الكشف عند هذه

القوانين وتطبيقاتها، وهذه الصورة العلمية للكون رسمها القرآن في آيات محكمات

فنصَّ على السنة ونصَّ على المعجزة ولا معنى للسنة دون المعجزة « [9] [فَإِنَّهَا لاَ

تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج: 46) .

كما أخبر سبحانه والمعجزة تمثل الاستثناء من القانون الطبيعي كولادة عيسى

عليه السلام من أمٍّ بلا أب، أما بيع الدين بالدنيا وتشكيك المسلمين في معتقداتهم من

خلال استنتاجات تاريخية واهية وساقطة، وإخضاع السنن الخارقة لمعطيات العلوم

الحديثة؛ فهي عمالة مكشوفة يعرفها ويدركها كل من آمن بما جاء من عند الله إيماناً

صادقاً مستلزماً لليقين، أما السنن العادية التي تمثل جل ما جاء به الوحي فلا

تناقض أبداً بينها وبين سائر معطيات العلوم التجريبية والنظرية الصحيحة،

ويستطيع المسلم أن يحصِّن نفسه من هذا الغزو المتعمَّد والعمالة الفكرية المكشوفة

باستيعاب التاريخ ومعرفة أصول السنن وقواعدها؛ لأن الثقافة التاريخية تبرز

أهميتها فيما يلي:

1 - الاعتبار الذاتي للمكلف.

2 - إقامة المعيار الفقهي الحاكم.

2 - معرفة سنة الله في الخلق.

4 - فهم قوانين بناء المجتمعات وما تتميز به كل أمة عن غيرها.

5 - التمكن من ردِّ هذه الاعتداءات الغاشمة على تاريخ المسلمين وهو من

أعظم صور الجهاد في سبيل الله.

6 - الأمان من الوقوع في الزلات أو اتباع العثرات والاجتهاد الخاطئ.

7 - تصويب الخطوات المستقبلية نظراً وتطبيقاً.

ولا بد أن يكون الإيمان بالله وقدرته على كل شيء كما نطق بذلك القرآن

مقروناً بدراسة التاريخ الإنساني بشكل عام والإسلامي بالأخص لكي يتمكن المسلم

من استيعاب الحقب التاريخية وما تميز به المسلمون عن غيرهم على مدى الدهور

مما هو خاضع لمشيئة الله وإرادته، حتى وإن كان صعب التصور كتحطيم

المسلمين الأوائل لنظرية Mصلى الله عليه وسلمN TO Mصلى الله عليه وسلمN الحربية التي لا مجال لإعمالها الآن

في ظل التسليح النووي والكيماوي والبيولوجي، على الرغم من أنها كانت هي

الحاكمة والمسيطرة في إدارة الحروب؛ حتى إن العالم تعجَّب من نسف المسلمين

لتلك القاعدة في الغزوات والسرايا بالإيمان، فرأوا القلة القليلة تهزم الكثرة الكاثرة

كما قرر القرآن وثبت في كتب السيرة؛ وتلك مسألة حينما يكون المسلمون طرفاً

فيها؛ فهي غير خاضعة لحسابات البشر؛ فالإيمان بنصر الله لعباده موجود في

ضوء قوله تعالى: [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ *

وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات: 171-173) وبمقتضى الثقة في العلماء

الأثبات والأئمة الثقات الذين جمعوا السنة أوردوا هذه الأخبار بعد تحقيق وتمحيص

وعمل دؤوب واصلوا فيه الليل بالنهار واحمرت عيونهم، وهزلت أجسادهم حباً في

السعي والسهر لجمع العلم والتشديد في صحة الرواية حتى قال أحدهم [10] :

سَهَري لتنقيح العلوم ألذُّ لي ... من وَصْل غانيةٍ وطِيبِ عناقِ

وتمايلي طرباً لحل عويصة ... في الدرس أشهى من مدامة ساقي

وألذُّ من نقر الفتاة لدُفِّها ... نقري لألقي الرمل عن أوراقِ

وأَبِيتَ سهران الدُّجى وتبيته ... نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي [11]

وخلاصة القول:

أننا هنا لا نتكلم عن التفسير المادي للتاريخ أو كما يسميه بعضهم: (المادية

التاريخية) وتعني عندهم وجود نمط من الانتظام في التطور التاريخي أو

الاجتماعي، ويفسرون تطور المجتمع البشري على أنه تركيب يتكون من عمليات

ديالكتيكية يكون الحافز الأصلي فيها هو التفاعل بين الإنسان والبيئة المادية في

عملية الإنتاج الاجتماعية [12] . ولم نتكلم أيضاً في التفسير المثالي للتاريخ، وهو ما

يقابل الأول كما يقول» ماكس فيبر «أحد رواد مدرسة» ماركس «و» هيجل «

ويعني عندهم أن لكل عصر تاريخي روحه التي تنحصر في مجموعة من

الاتجاهات السيكيولوجية (النفسية) البشرية التي تضفي على ذلك العصر طابعه

الخاص، فجعلوا الاتجاهات النفسية في التعريف الثاني بديلة للقوى الإنتاجية في

التعريف الأول، ولم نقصد أيضاً مناقشة هذه التفسيرات أو الرد عليها وإنما ما

أردناه لفت النظر إلى سنن الكون ونواميسه العامة والقوانين التاريخية الحاكمة على

حركات الأمم وسكناتها في محاولة لتنمية الإيجابيات، وقمع السلبيات للحصول على

رشد التعبد الذي يقودنا في النهاية إلى التمكين في الدنيا ورضوان الله في الآخرة،

وحتى يتجرد التوحيد من كل شائبة، وتتوحد الوجهة، ويتحقق قوله تعالى:

[لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى

لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً] (النور: 55) ؛ وبذلك تعود لنا هيبتنا،

ونسترد كرامتنا، ويؤول إلينا مجدنا وحضارتنا المفقودة في عزٍّ بلا وَهَن، والله

الغني ونحن الفقراء؛ فإن تولينا استبدل قوماً غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا [13] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015