الباب المفتوح
بناؤنا الذاتي
رؤى وتصورات
عبد الله العزام المطيري
تشهد الأمة الإسلامية اليوم تراجعاً ملموساً على مستويات كثيرة، كما أنها
تشهد على صعيد آخر احتدام الضرام، وصليل السيوف، وهي لا زالت في انتظارٍ
قديم إلى من يشق الصفوف، ويكتسح الساحة ليكون في مقدمة القادة ضارباً على
صدره بيده قائلاً: «ها أنذا» .
ذلك الشخص الذي دأب المربون في جهد جهيد إلى بنائه، والبحث عن
مقوماته ليس شخصاً يعيش في كوكب آخر، ولا شخصية أسطورية خلقت على
غير خلقنا وذواتنا، كلاَّ! بل هو شخص منا وينتسب إلينا، لكنَّ فرق ما بينه وبين
من سبق أن أولئك ارتقوا وذا لا زال يقبع بين السهوب.
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
لذا كان من اللازم علينا أن نتجة إلى حرث الذوات، والزرع فيها. قال أحد
الحكماء: «إن من تفرَّس في نفسه فعرفها، صحت له الفراسة في غيره وأحكمها»
فثمة ذوات تمتلك معدات كثيرة ولكنها تنتظر من يوصل لها الإمداد، أشخاص
كثيرون بمقدراتهم أن يبصموا في تاريخهم بصمات كثيرة، لكن مشكلتهم تكمن في
ذواتهم، فهيا أيها الإخوة إلى تحرير الذات من رِقِّ الشيطان وأعوانه، في انطلاقة
إلى عالم الروح لنخرجها مما هي فيه، وننقلها إلى الاطمئنان بعد أن كانت لنا لائمة؛
واسمع إلى الفضيل بن عياض رحمه الله وهو يخبرك عن ضعف ذاتك؛ إذ قال:
«ما حُلِّيت الجنة لأحد ما حُلِّيت لهذه الأمة، ثم لا ترى لها عاشقاً» . فهناك رؤى
وتصورات في هذا الجانب، نسأل الله أن ينفع بها قائلها وقارئها:
أولاً: إننا نؤمن بأن كل شيء بيد الله سبحانه، وأنه هو المصرف والمدبر.
والمُشاهَد في ساحات الكثير ضعف صلتهم بربهم وسؤاله الهدى والرشد والتسديد.
إنه بمقدار ما تعظم صلتنا بخالقنا نصبح أقوياء؛ ولهذا حثّ الله نبيه أن يكون على
اتصال به حينما يهجع الهاجعون، ويسكن الساكنون؛ لأن له في النهار سبحاً [إِنَّ
لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَّبُّ المَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً] (المزمل: 7-9) واليوم نرى إكثار الدعاة
من أعمالهم، ولكننا نجد هذا المعنى أبعد ما يكون عن أذهانهم، فلا عجب أن تُظلِمَ
عليهم الأمور، وأن تتشابك عليهم المسائل ليكثر التخبط والتراجع، وما ذلك دأب
المؤمنين؛ بل اللوذ بربك هو تمام المفترق.
قال الشاعر أحمد المختار واصفاً للنفس للمؤمنة:
ساكنة في صمتها أبين ممن ينطق ...
وإن ونت وقفتها أعجلها المنطلق ...
لكم رأت خيالها ماج به المنبثق ...
كأنه النجم يَرُفُّ والمياه الأفق ...
فحوَّمت ترنو، تودُّ لو به تَعْتَلِق ...
وأوشكت لو لم تفق يقضي عليها الغرق ...
لكنها مؤمنة هيهات لا تستحق ...
بين الضلال والهدى يبدو لها المفترق ...
وهكذا، ما لم تكن أنت كذلك، فقل لي: من أين ستعرف المفترق؟
ثانياً: النفس بطبعها ميالة إلى العطاء والتصدُّر، وأنت إذ ذاك ينبغي لك أن
تكبح الجماح، وأن تدرك أن صاحب البضاعة القليلة لا بد لبضاعته يوماً من
انقضاء، وحينما يأخذ لبَّكَ جمالُ الاستئناس بما تحدث وتعطي، فتذكَّرْ أن في القوم
لك سابقاً وإنما هي ضحكات لسانك، فلا تغتر وأنت الفطن، ولا تُعمينَّك العتمة أن
تتدبر، كما أعمت من سبقك. لا أيها الإخوة لا نريد شجرة واحدةً فقط، إنما نريد
جناتٍ وبساتين، فاحذر أن تنزلق في الاستعجال بالعطاء وأنت بعدُ لم تشتد، ولقد
نبهك حبيب فقال:
اضرب وجوه الخيل واكبح زحفها ... ليضيء فجر الأمنيات ظلامها
ثالثاً: في حال ثوران الفتن، أنت مطالب أن تبني قلعة الإيمان مع إخوانك،
وليس هذا هو كل شيء، إخوانك عزماتٌ عند الشدائد هذا صحيح، ولكن ما
لم تكن لك روافدك الذاتية فلا يؤمن عليك الغرق. ألا ترون من يعلل دائماً:
«بضعف برامجنا، إخواننا مقصرون في حقنا، الفائدة قليلة.. أخوتنا مبنية
على الارتياحة» وهذا حقٌّ لا نماري فيه، ولكن هذا الكلام يحدو بنا إلى أن
نقول:
أ - أين موقعك أنت في محاولة تغيير ذاتك، وتغيير الآخرين؟ ولو كنت في
الساقية فإن دورك عظيم، فلو لم تسقهم لمات القادة عطشاً، ولو علل كل واحد بهذا
واكتفى لانصرف القوم ولم يبق لنا أحد.
ب - إخوانك لا تنظر إليهم دائماً نظرة الكُمَّلِ؛ فمن أكبر أخطائنا أننا نذكر
عِدَة إخواننا، ولا نذكر حاجتنا إلى ربنا. أيها الأخ: اجعل إخوانك روافد لك؛
فليسوا هم أصل المستقى، وإنما إرشاد ربك وهدايته لك وتوفيقه ورحمته هو
المستقى؛ فكم ممن عاش بين الألمعيين ولكنه لم يظفر منهم بشيء، وكم ممن عاش
بين قوم أشبه بالعاديين ولكنه بزَّ فأحرق عيون غيره بجمال ذاتيته، وقوة أفعاله.
رابعاً: بقدر ما تقدم يبين لك الخطأ، وإذا بإمكانك أن تتخلص مما يثقل عليك
الصعود لتبقى نقياً، وفي نظري أنه لا يعضد تقدمك ويقويه مثل شيئين:
أ - القراءة: فالعيش مع السابقين يطيل عمرك بالبقاء معهم وتجرب أقواماً لم
ترهم، لكن من خبرهم عندك غنية، وتجمع بين شيئين: معرفة الصواب لتبني
فوقه، ومعرفة الخطأ لترميه وراءك ثم تتقدم.
ب - الخلوات: نقل من أخبار الأفذاذ أن لهم خلوات مع ذواتهم يراجعون فيها
ويمحصون، ويحمون فيها البَيْضَة من بطش السهام وتراكم الأيام. من المهم لك إذا
أردت التقدم أن تخلو بنفسك في غرفتك، في سيارتك، في مزرعتك، في أي مكان
شئت، المهم أن تكفينا همَّ الفواجع بك.
خامساً: احذر عدوك أن يلتف من ورائك، بينما أنت تجاهد منشغلاً بتدبير
أمورك، وتحصين المواقع. احذر من فِكْرك أن يلتف عليك من الوراء فيذكرك
(بالمستقبل) ونعني به حمل همِّ المال والمركب والوظيفة والزوجة، والعلاقات
الاجتماعية، ورعاية الأولاد.
شغلت هذه البلية تفكير بعضٍ من بني قومنا، فهزت عروشهم بعد أن عجزت
الصعاب والشدائد أن تحرك لها ساكناً. ليس عيباً أيها الإخوة أن يفكر الإنسان فيما
أمامه بل هو مطلب أي مطلب، لكن أن يغلب على فكرنا، فنضطرب، ونقلب
الأوراق رأساً على عقب فليس من طبع المهتدين، وإنما أنت ابن يومك وللغد ما له،
وكيف تخاف وأنت داعية مخلص نحسبك أبداً؟ أيها الأخ أحسن الظن بربك
واطمئن إليه واعمل وتقدم وأنت واثق برحمة أرحم الراحمين أن يحقق لك ما تصبو
إليه. وتأمل، ولكل منا أمله «ولكنه لو نظر ببصيرته لعرف أن أمله الوضاء إنما
يلفه محيط أسود حالك، يتيه فيما دونه من الظلمات ما لم يتتبع في مشيته مخرجاً
تدل عليه التقوى؛ فهو ترقب جميلٌ لكنه يتنغص، وظلٌّ ظليل لكنه يتقلص،
ومطامع وراء الأودية والمفاوز، وليس هو لما قُدِّرَ له بمجاوز» [1] .
سادساً: إنما يشتد عودك حينما تكون لك التجارب؛ فالأخذ والرد في قضية
الأفكار، وإعمال التجارب في صالح فكر وتصور سليم قضيةٌ جوهرية في بناء
الذاتية وتحسين المستوى، وكلما تقدم بك العمر فإن ركام المعلومات الذي عندك
يتمحص إلى آراء تقرب إلى السداد والتوفيق من آراء غيرك، أذهاننا ليست هي
مجرد (ارشيفات) تحفظ ما يوضع فيها، بل هي ذات اقتدار كبير على أن تستفيد
من الماضي الاستفادة الكاملة لتنير به طريقها الذي تسير فيه، فخذ من حياتك معملاً
تُخْرِج لنا به أنواعاً من روائع التجارب.
وبعد: أيها الأخ المسدد..
وما أنت بالمستسيغ القعود ... ولو كبلوك بهذي الحفر
فلا يهولنّك كثرة الحفر في الطريق؛ فإن معك نوراً من ربك وسنة من نبيك
صلى الله عليه وسلم، ولا تضجر حينما تتنفس خيلك الصعداء؛ فإنما هي استراحة
يعقبها تجدد، وأنت وحدك قادر على أن تخرج لنا سيفك من غمده، وأن تضرب
بسهمك لنراك يوماً من طلائع الفاتحين والمجددين، [وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ]
(إبراهيم: 20) .
ولكن: [إنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
جعلنا الله أعواناً على الحق، وأنصاراً له، ومذكرين به إذا غفل الغافلون،
كما قال عمر رضي الله عنه: «إن لله عباداً يحيون الحق بذكره» . جعلنا الله
منهم.