مجله البيان (صفحة 3988)

ملفات

حقوق الإنسان بين الحق والباطل

أي حقوق.. وأي إنسان؟

عبد العزيز كامل

ما أسهل الشعارات عندما تنمق وتنطلق بها الحناجر وترفع بها اللافتات،

ولكن ما أصعب اكتشاف أو استشفاف الحقائق القابعة وراءها والنوايا المستترة خلفها

عندما يكون أربابها دون مستوى الشبهات.

(حقوق الإنسان) ... شعار جميل.. بسيط.. يغري بالأمل، ويبعث على

الاحترام. ولكن هذا الشعار: من يرفعه..؟ ! وفي أي اتجاه يدفعه؟ ! من يحدد

مقومات هذا الشعار، ويرسي منطلقاته أو يضع ضوابطه؟

أسئلة تترادف كلما شن دعاة (حقوق الإنسان) حملاتهم على بعض بلدان

المسلمين مستهدفين نظماً، وأحكاماً قبل الأنظمة والحكومات. فقطع يد السارق في

نظرهم «وحشية» ، وقتل القاتل المتعمد: «همجية» ، وعقوبة المرتد: «ردة

حضارية» ، ومنع الخمور وحظر السفور واتخاذ التدابير ضد الانحراف والشذوذ

والفجور.. كل ذلك «اعتداء سافر» على الحريات الشخصية! !

أما مساءلة (المبدعين) إذا تطاولوا على المقدسات الدينية، أو حتى على

الذات الإلهية، فتدخُّل مرفوض في حرية التعبير والتفكير!

وإذا ما تعدى الأمر إلى إلزام الأقليات الدينية بشيء من النظم المستهدفة

للصالح العام وجمهور الأغلبية، فحري أن ترفع الشكاوى بشأنه إلى المحافل

الدولية، وتدبج بشأنه القرارات وتبدأ التنديدات ثم التهديدات ثم العقوبات. وليت

مساعي دعاة حقوق الإنسان تقتصر على المطالبة بإنصاف المظلومين، ورفع

المعاناة عن المسحوقين، وإرساء قيم العدالة والنزاهة بين الحكام والمحكومين،

إذن لوقفنا جميعاً مع أصحاب تلك الحملات في حملاتهم، ولباركنا جهودهم وسرنا

وراءهم.

إننا نعلم والناس يعلمون أن من يرفعون شعارات (حقوق الإنسان) اليوم،

كانوا ولا يزالون أكثر بني الإنسان قهراً للإنسان من غير بني جنسهم طوال القرنين

المنصرمين، طف بناظريك على أرجاء الخارطة الإنسانية؛ ماذا ترى؟ ! ترى

عالمين: عالماً يضمن لشعوبه قمة العلو والنمو والرفاهية والترف، وعالماً يُضن

عليه بلقمة العيش الكريم، وأدنى مظاهر الحرية والاستقلالية والشرف.

عالم يكاد يملك مقدرات كل شيء ... وعالم لا يكاد يملك أي شيء! حتى

ثرواته لا يملكها.. وأوطانه لا يستطيع حمايتها، سماؤه مستباحة وأرضه غير

مستقرة، مستقبله قلق، وحاضره غير مأمون، يهيمن عالم «النخبة» الذي لا

يزيد

عن عُشْرِ سكان الأرض، على ما لا يقل عن ثلاثة أرباع ثروات الأرض!

شيء يبعث على السخرية، ويدعو للتهكم أن تنبري هذه الأقلية المتسلطة من خلال

منظماتها ومحافلها إلى التحدث عن (حقوق الإنسان) !

أي إنسان؟ !

أي إنسان يريدون إعطاءه حقه؟ أهو إنسان القارة الإفريقية التي سيق

الملايين من شعوبها في الشاحنات البحرية طوال عهود الاستعمار للسخرة والخدمة

تحت أقدام البيض؟ أم هو الإنسان الأصلي من سكان القارة الأمريكية الذي سحق

رعاة البقر القادمون من أدغال أوروبا وجوده ليلقنوا هذه الكائنات البشرية (الهنود

الحمر) الدرس الأول (والأخير) من دروس (حقوق الإنسان) ..؟ ! أم هو

إنسان آسيا الوسطى الذي حُشر الملايين من شعوبها إلى الشمال المتجمد تطبيقاً

لمبادئ (شيوع الظلم) التي تفتقت عنها عقليات غربية تارة باسم الماركسية وتارة

باسم الاشتراكية؟ أم تراهم يتحدثون عن إنسان القارة الأسترالية التي تعاملوا مع

سكانها على أنهم حفريات تاريخية، وبقايا مخلوقات آدمية تصلح فقط لأن تلتقط

بجانبها الصور التذكارية؟ !

أي إنسان يتحدث عنه دعاة (حقوق الإنسان) ؟ أهو الإنسان في فلسطين

المستباحة، أم الإنسان في العراق المحاصر، أم الإنسان المعاقب في بلاد الأفغان،

أم هو الإنسان المهضوم في البلقان، أم المقهور في الشيشان؟ ! غالب الظن أنهم

يتحدثون عن (إنسان) المحميات الغربية التي يقوم على رعاية (حقوق الإنسان)

فيها وكلاء رسميون منذ القدم، يحكمون هذه المحميات باسم الأسياد ولصالح الأسياد

وبشريعة الأسياد!

أي حقوق؟ !

ليتهم يتحدثون عن حق الإنسان في أن يزدهر.. في أن يستقل.. في أن

ينتصر على تحديات عصره أو يتجاوز عقبات التخلف المضروب عليه، ولكن

منظمات (حقوق الإنسان) تعرف أن واقع التخلف الذي يلف أكثر شعوب العالم

النامي أو النائم أو المنوم، إنما هي في جزء كبير منها نتاج ابتزاز اقتصادي،

وحصار تكنولوجي وإفساد اجتماعي تطيل أمده جبرية سياسية وقدرية تشريعية

تفرض على الشعوب أن تدار شؤونها عن بُعد بواسطة الاستعمار الفكري، ولهذا

فإن غاية ما يطنطن به دعاة حقوق الإنسان وقصارى ما يدندنون حوله من حقوق

هذا الإنسان وبخاصة إذا كان من بلاد المسلمين هو حقه في أن يكفر.. حقه في أن

يفجر.. حقه في أن يكون شاذاً أو مثلياً.. أو ملحداً أو وجودياً أو عدمياً! ! حق

إناثه في أن يتساوين بالرجال في كل شيء! .. وحق رجاله في التنازل عن

الرجولة بل عن الذكورة في بعض الأحوال.. ولا بأس أن تزركش المطالبة بتلك

الحقوق، ببعض المطالب الجادة التي تقتصر في الغالب على من ينتقون وبالطريقة

التي يريدون، كأن يطالبوا بنزاهة المحاكمة.. وكفالة حق الدفاع.. أو تجنب

التعذيب، والسماح بزيارة المساجين.. أو نظافة الزنازين!

وحتى هذه المطالب «الجادة» يطاح بها شذر مذر.. وتتحول إلى فكاهة

وهذر

إذا كان المعنيون منها من دعاة لا إله إلا الله المطالبين بشرع الله، وإلا؛ فبماذا

نفسر تهييج العالم من أجل شخص [1] واحد مدان أمام القضاء في مصر مثلاً، في

حين يصمت هؤلاء ويصمون، ويخرسون ويبكمون، عندما يسمعون عن ألوف

مؤلفة من الإسلاميين في سجون العالم يعتقل أكثرهم دون تهمة أو جريرة، ودون

محاكمة أو مساءلة؟ ! إنه النفاق بالحقوق.. في زمن الجحود والعقوق!

في وقت متقارب، وفي غضون شهر واحد، اتُّهم رجلان من مصر: رجل

قيل في حقه أنه مزواج ذو مزاج مزعج لأنه - كما قالوا - اقترن بزوجات عديدات

يبقي منهن أربعة بعد أربعة، ولأن الرجل يصنف إسلامياً، ويبدو من مظهره أنه

من المتدينين، أباحت كثير من المنابر الإعلامية الساقطة عرضه، واستحلت أذاه

في سمعته وشخصيته وخصوصياته، وكأن هذا الإنسان ليس له أي حق من

(حقوق الإنسان) حيث سُلطت عليه ألسنة حداد، من منافقين يهمزون ويلمزون

شريعة الإسلام في شخصه لا لشيء إلا لأنه رجل أعمال ناجح، والنجاح محظور

على الإسلاميين، ولا بد أن يكونوا خائبين متخلفين! وكما هو المعتاد في مثل هذا

السيناريو المكرور والمعاد ... لم تتحرك شعرة داخلية أو خارجية من مشاعر

النجباء الندماء المتحدثين بلسان حق الإنسان في أن يصان في شرفه وعرضه.. ما

دام لم يرتكب جرماً في حكم الله وعرف الناس.

لم تمض أيام حتى تجرأت صحيفة محلية مغمورة على التعرض لشخص رجل

دين نصراني، بشأن سلوكيات نسائية تورط فيها كان قد تم توثيقها بالتصوير

ابتزازاً لضحاياه، وكان فعل الصحيفة لا يقل شناعة وشيناً عن فعل ذلك الراهب

عندما نشرت التفاصيل المصورة لفضائحه، ولكن المستغرب أن الدنيا انقلبت على

الصحيفة بحجة أن صاحب الفضائح يرمز لدين، وهذا الدين لا تنبغي الإساءة إليه!

والسؤال هنا: لماذا كل دين لا تنبغي الإساءة إليه في أشخاص رموزه إلا

الإسلام؟ ! لقد وضح بعد تلك الحادثة أن (الإنسان) و (الحقوق) أنواع، أو

أصناف.. أو فئات عند النافخين في بوق الحقوق، ليس صنف منها مهدراً ومهراقاً

ولا متاعاً مباحاً إلا ما يتعلق بحقوق الإنسان ... المسلم!

إنسانهم وإنساننا:

غاية ما يريده الغربيون الرابضون خلف أسوار الدفاع عن حقوق الإنسان أن

يقولوا لنا: ليكن الإنسان عندكم كالإنسان عندنا.. لتكن الشرائع عندكم كالشرائع

عندنا ... لتكن الأخلاق عندكم كالأخلاق عندنا، لتكن مجتمعاتكم مثل مجتمعاتنا في

كل شيء، إلا ... في الأشياء المحترمة!

فما حال إنسانهم الغربي حتى نعتبره نموذجاً محتذىً لإنساننا الشرقي:

الإسلامي والعربي؟ ! سنضطر هنا أن ننقل على ألسنتهم ووفق إحصاءاتهم لمحات

من واقع حياة الإنسان هناك لنعرف كيف وقعوا في هذا الواقع، ولماذا يريدون منا

أن نقع في مثل واقعهم.

سنقتصر على واقع واحد هو قاع المجتمع الأمريكي وقاعدته العريضة، ليس

شماتة في هذا المجتمع المتطاوس على البشر، ولكن لاعتبارات عديدة أخرى منها:

أنه أكثر المجتمعات إدلالاً بحق الإنسان في أن يكون (إنساناً) ، ومنها: أنه

المجتمع الذي تقود دولته العالم اليوم وتريد أن تعمم عليه أنموذجها الثقافي

والحضاري والقيمي، ومنها: أنه المجتمع الذي تشرئب إلى التشبه به أعناق الذين

لا يفقهون، ومنها: أخيراً: أنه المجتمع الذي يعتبر منظمات حقوق الإنسان في

العالم ماركة مسجلة أمريكية!

لنطل على هذا المجتمع في وجهه الآخر لنرى حقيقة الحقوق فيه، أهي

إنسانية يحياها، أم حيوانية يأنسها؟

(تقدم) مستمر ... في معدلات الجريمة!

تضاعف عدد نزلاء السجون في الولايات المتحدة الأمريكية فيما بين

الثمانينيات والتسعينيات إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه من قبل؛ حيث بلغ عدد

المسجونين 000. 950 نزيل فيما بين عامي (1980، 1993م) وهذا يعني أن

نحو مليون من المواطنين الأمريكيين اتهموا بجرائم تخطت الحجز في مراكز

الشرطة إلى دخول السجون؛ فإذا علمنا أن نسبة ما لا يكشف عنه من الجرائم تكون

عادة أضعاف ما يكشف عنه تبين لنا أن العدد الحقيقي للمتهمين بالإجرام يمكن أن

يمثل شعباً من المجرمين يفوق عدد بعض الشعوب الصغيرة. والعدد المعلن عنه في

التقارير الرسمية قد تضاعف في السنوات الأخيرة؛ حيث ارتفعت معدلات الجريمة

إلى 600%، حتى إن 60% [2] من مجموع الشعب الأمريكي كانوا - كما تقول

الإحصاءات - ضحايا لجرائم كبيرة، و 58% منهم تعرضوا لهذه الجرائم مرتين

على الأقل! [3] .

وإلى مزيد من التفصيل بعد هذا الإجمال:

فوضى الدماء:

يظن البعض أن الإلحاح على إلغاء عقوبة الإعدام للقتلة وغيرهم في الولايات

المتحدة الأمريكية وغيرها من دول الغرب إنما يجيء بسبب الرقة، أو المشاعر

الإنسانية المرهفة التي تنظر إلى عقوبة الإعدام على أنها عمل شرير وغير

حضاري، ولكن الحقيقة تبدو أبعد من ذلك؛ إذ يمكننا أن نتصور السبب في فزع

الأمريكيين وغيرهم من تطبيق عقوبة الإعدام، إذا علمنا المعدل الضخم لقضايا

القتل في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، والتي يفترض أن تطبق على المدانين

فيها تلك العقوبة؛ فهو عدد يحتاج إلى مقتلة سنوية تراق فيها دماء الآلاف؛ لأن

جرائم القتل الموسمية في أمريكا تبلغ سنوياً 25,000 جريمة [4] أي أن هناك

خمسة وعشرين ألف قتيل كل عام، يُطلب للقتل بسببهم أمام العدالة خمسة وعشرون

ألف قاتل! هذا لو افترضنا أن القاتل شخص واحد في كل جريمة، فماذا لو تصورنا

أن كل قتيل يمكن أن يشترك في قتله الواحد والاثنان والثلاثة والعشرة؟ ! وماذا

لو تصورنا إضافة مستحقي القتل بجرائم أخرى غير القتل، كالتجسس

والاغتصاب والخيانة العظمى ونحوها؟

لو أنصف العقلاء من الأمريكيين والغربيين المتباكين على حقوق الإنسان

الضائعة بسبب تطبيق الأحكام في بعض البلدان الإسلامية، لو أنصفوا لقارنوا فقط

بين عدد قضايا القتل عندهم وعددها في البلدان الإسلامية التي تطبق حد الإسلام في

قتل القاتل [5] ، إن واحداً من كل ثلاثة أمريكيين اليوم يؤيدون تطبيق عقوبة

الإعدام في القاتل ويرفضون أن يعاقب بالسجن فقط، ونحن لا نطلب منهم أن يقتدوا

بحكم الإسلام الذي ينقدونه، ولكن نريد منهم فقط أن يكفوا عن الدعوة إلى

تحويل مجتمعات المسلمين إلى مجتمعات فوضى دموية مثل مجتمعاتهم التي لا يكتفي

الناس فيها بقتل بعضهم بعضاً بشراهة دموية؛ بل يعمد المئات منهم سنوياً إلى قتل

أنفسهم بالانتحار [6] .

استباحة الأعراض:

الإنسان إذا استهان بإهدار الدماء المحرمة فلن يتورع عن انتهاك الأعراض

المصونة، وإن شعباً يَلِغُ عشرات الآلاف منه في الدماء المستباحة كل عام، لا بد

أن الملايين منه سيرتعون في الشهوات المحرمة كل يوم. تقول التقارير الرسمية

من هناك: إن النسبة العامة لمعدلات الزنا في الشعب الأمريكي تبلغ 31%، ويذكر

الإحصاء الذي أورد هذه النسبة أنها ليست نسبة الذين يقترفون هذه الجريمة مرة أو

مرتين، وإنما هي نسبة (المنتظمين فيها) ، ويقول الإحصاء نفسه: إن هذه النسبة

هي فقط لجريمة الزنا وحدها بين العديد من الجرائم الجنسية الأخرى؛ حيث إن

جريمة الزنا لا تمثل إلا نسبة 28% من مجموع الجرائم الجنسية الأخرى، هذا من

حيث وقوع حوادث الزنا بالفعل، أما من حيث النظر إلى الفعل حتى ممن لا

يفعلونه، فإن 62% من الأمريكيين يعتبرون أن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج

أمر لا بأس به! !

إن الإحصاءات تقول: إن امرأة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها،

ورجلاً من كل ثلاثة أشخاص يخون زوجته، والاعتداءات على الأعراض لا

تقتصر على البالغين فقط، بل إن واحداً من كل سبعة من الأمريكيين - كما تقول

الإحصاءات - تعرض للابتزاز الجنسي عندما كان طفلاً، أما الكبار فالاعتداء على

أعراضهم يأتي مصحوباً بالاعتداء على أجسادهم وأرواحهم، فنسبة 42% من الذين

تعرضوا لاعتداءات جنسية قالوا إن الاعتداءات عليهم كانت شرسة وقاسية! وتذكر

الإحصاءات أن معدلات الاغتصاب في أمريكا تزيد عن مثيلاتها في اليابان

وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفاً [7] .

إن السبب في هذا التشرد الجنسي لا يقتصر على فساد البيئة المادية فقط، أو

الخواء الروحي فحسب، وإنما يرجع أيضاً إلى فساد المنظومة الأخلاقية التي تخيم

على رؤوس تلك الشعوب الضالة، والتي جعلت من اقتراف جريمة الزنا شيئاً

قريباً من احتساء فنجان القهوة أو تدخين السيجارة، حتى إن 53% من النساء

الأمريكيات قلن بأنهن لن يترددن في خيانة أزواجهن في مقابل خيانة الأزواج لهن!

و20% من الرجال الذين اقترفوا جرائم جنسية قالوا: إن ضحاياهم طلبن منهم

ذلك! [8] .

إن فقدان المنظومة الأخلاقية، مع انعدام الروادع التشريعية والاجتماعية جعل

من الشعوب الغربية اللامعة في مظهرها شعوباً غبراء في مخبرها، حتى إن فتاة

من كل خمس فتيات في الولايات المتحدة يفقدن بكارتهن قبل سن الثالثة عشرة! !

والنسبة تزيد كلما زادت الأعمار!

انفلات الحريات ونفوذ الشذوذ:

كأن الزنا في مجتمعات الغرب لم يعد سلوكاً شاذاً، ولهذا فإن وصف (الشذوذ)

يطلق عندهم فقط على ما تناهى في القبح من الفواحش غير الزنا!

إن للشذوذ الجنسي في حياة الغربيين تاريخاً طويلاً، ولكنه لدى الأمريكيين

عديم المثيل، خاصة في العهد الكلينتوني؛ ففي بداية تولي بيل كلينتون لمنصب

الرئاسة في عام 1993م، تظاهر أكثر من مليون شخص للمطالبة بـ (حقوق

الشواذ) ، وقد صيغت هذه (الحقوق) في ثلاثة مطالب قدمها ممثلو المتظاهرين

إلى المكتب الرئاسي في البيت الأبيض وتضمنت ما يلي:

1 - المطالبة بتعديل القوانين الأمريكية لضمان حقوق الشواذ في المساواة

بغيرهم وإلغاء الإجراءات (العنصرية) التي يمارسها رجال القانون الأمريكي

ضدهم.

2 - رفع الحظر المفروض على الشاذين جنسياً في الالتحاق بالجيش

الأمريكي.

3 - مناشدة الرئيس والكونجرس زيادة الميزانية المخصصة لمكافحة مرض

الإيدز الذي يفتك بالشواذ!

ويبدو أن الرئيس كلينتون قد تأثر وقتها ورق قلبه لتلك المطالب (البريئة)

لأحفاد قوم لوط، فكتب رسالة تُليت على مسامع المحتشدين في التظاهرة الشاذة أمام

البيت الأبيض جاء فيها: «إنني أؤيد الكفاح من أجل المساواة بين كل فئات الشعب

الأمريكي بمن فيهم الشواذ من الرجال والنساء، أنا اعتقد أن الذي يعمل بجد يستحق

أن يكون جزءاً من هذا المجتمع، لنعمل سوياً لنحول هذه الرؤية إلى

حقيقة» ! [9] .

يبدو أن تلك المجتمعات التي لم تهذبها الشرائع الدينية لم تردعها أيضاً للآن

على الأقل السنن الإلهية القاضية بعقاب المجرمين الفجار بالأمراض التي لم تكن في

أسلافهم؛ فمرض الإيدز الذي يضرب منذ عقدين من الزمان تلك المجتمعات، لم

يفلح في ردهم عن مسالكهم الشاذة المنحرفة، وكالعادة تأتي الولايات المتحدة في

طليعة الأمم «المتقدمة» في هذا المضمار؛ فهي تحتل المركز الأول بين الدول

الصناعية في عدد الإصابة بمرض الإيدز، وضحايا هذا المرض الناتج عن

الممارسات الجنسية غير المشروعة وغير الطبيعية قد بلغ في العالم في عقد واحد

فقط (من عام 1981 1991م) مليوناً وثلاثمائة ألف شخص، منهم مائة وثلاثون

ألف أمريكي، وكان متوقعاً أن يصل الضحايا مع نهاية العام 2000م إلى 40 مليوناً

من المصابين بفيروس الإيدز في أنحاء العالم.

إمبراطوريات للسرقات والمخدرات:

هناك قابلية عند الغالبية من الأمريكيين للاعتداء على أموال الغير، وفي

استطلاع أجري على شرائح عشوائية من الأمريكيين تبين أن 75% منهم يعتقدون

أنهم لن يترددوا في السرقة إذا أتيحت أمامهم فرص مأمونة، ومكاسب مضمونة.

أما المخدرات، فهناك إجماع على أن الشعب الأمريكي هو أكثر شعوب العالم

إدماناً للمخدرات، والإحصاءات تقول في ذلك إن 35% يتعاطون مخدر

الماريجوانا، و15% يتعاطون الكوكايين، و 24% يتعاطون أنواعاً أخرى من

المخدرات. وتقول الإحصاءلت أيضاً: إن 75% من الجرائم التي تحدث في

المجتمع الأمريكي تعود إلى سبب رئيس وهو انتشار تعاطي المخدرات [10] .

إن ما سبق ذكره من إحصاءات وأرقام لا يمثل كل الحقيقة؛ لأن الحقيقة دائماً

في عالم الجريمة نصف غائبة، ولهذا يقول (جيمس باترسون) و (بيتر كيم)

وهما مؤلفا الكتاب الذي استقيت منه معظم هذه الإحصاءات: «تثير الإحصاءات

الرسمية للجريمة في أمريكا نوعاً من الشك لدينا، لأن الأرقام التي توصلت إليها

دراستنا في هذا الصدد، تزيد بنسبة 600% عن إحصاءات الجريمة المسجلة

رسمياً لدى الجهات المختصة» [11] .

وكان هذان المؤلفان قد سُبقا بمؤلفيْن آخريْن هما: (فرانك براونج)

و (جون جيراس) اللذان وضعا دراسة بعنوان: (الجريمة على الطريقة

الأمريكية) شرحا فيها في اثنتي عشرة وخمسمائة (512) صفحة أنواعاً

وأشكالاً وطرقاً لارتكاب الجرائم المختلفة: فردية وجماعية، ارتجالية ومنظمة،

سياسية وجنائية، ما كان منها بسبب المال، وما كان بدافع الجنس، وما ينتج عن

الفقر، وما ينجم عن الترف، وما تسببه الاختلافات المذهبية، وما تدفع إليه

الفروق العنصرية، وما يقترفه الشباب، وما يختص به النساء وما يقوم به

الأطفال وما لا يتقنه إلا الرجال، إلى آخر ما في قاع المجتمع الأمريكي وقمته من

صراع وضياع وجرائم متنوعة.

جاء في مقدمة الكتاب: «كانت الأحداث الخارقة التي تقع في

الولايات المتحدة الأمريكية، والقلق الذي خلَّفته قد تركت أثراً كبيراً لدى

المؤلفَيْن؛ فالمخدرات انتقلت من الحواري، لتغزو الضواحي، والجرائم

والاعتداءات أخذت تحتل أخبار الصحافة باستمرار، والغش الذي يقوم عليه

أرباب العمل ظهر في الصحف بعناوين عريضة ... كنا كلما حاولنا رد هذه

الظواهر إلى جدل ثقافي وسياسي كلما شعرنا بأننا مرغمون على سبر جذور

الإجرام الأمريكي، وبالتأكيد، لم تكن المسألة بالنسبة لنا إطلاقاً أن نكب على

تصنيف الجرائم التي ترتكب في أمريكا تصنيفاً موسوعياً؛ لأن عدة مجلدات لن

تكون كافية. لقد سعينا إلى اكتشاف كيف، ولماذا، وبأية آلية تعد بعض الأفعال

الإجرامية؟ من الذي يضع لها تعريفات؟ ولأية أسباب تتغير هذه التعريفات؟

وأخيراً كيف أنتجت أمريكا هذا التخلف الحضاري الذي لا مثيل له في

العالم؟» [12] .

ثم ينتهي الكاتبان بعد دراسة إحصائية واسعة في سبعة وعشرين فصلاً إلى أن

الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية وصلت إلى حد أصبحت فيه سلطة تنافس

السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والنيابية وسلطة الصحافة! حيث قالا:

«ينبغي بالتأكيد، سبر عدد من أقوى مؤسسات أمريكا العامة والخاصة؛ فإن واقع

الشروع وحده في تحقيق كهذا سيؤول إلى معرفة حقيقة حضور الجريمة داخل

المؤسسات الأمريكية، ومن ثم سيقود إلى وجود (السلطة السادسة) التي نعبر عنها

بأعلى صوت فنقول: (السلطة الإجرامية) » ! ! [13] .

إن ما ذكرناه عن شيوع الجريمة في أمريكا زعيمة الانحلال في الغرب لا

يعني براءة روسيا زعيمة الإلحاد في الشرق؛ فالروس في الإجرام كالأمريكان، بل

هم أضل سبيلاً. ويكفينا أن نعلم أن التقارير الواردة من هناك تفيد أن معدل جرائم

القتل وحدها قد زادت إلى ما نسبته 50%، أما الجرائم الأخرى فهناك حسب

الإحصاءات تنافُسٌ فيها بين ثلاثة آلاف عصابة منظمة [14] .

وبين فساد الشرق الإلحادي والغرب الانحلالي، يعيش العالم حقبة من الضياع

تتضاعف آثاره بفعل ما طرأ من مستجدات تفرضها مضاعفات عصر

(العولمة) !

عولمة الجرائم:

العولمة آخذة في جعل الجريمة ذات صفة عالمية؛ فالمجرمون من أكبر

المستفيدين من تخفيف قيود الانتقال عبر الحدود، ومن التقدم في وسائل النقل

والاتصالات، ويتضح ذلك في رواج تجارة المخدرات وعمليات غسيل الأموال

القذرة، وهما مظهران من أوسع مظاهر انتشار النشاطات الإجرامية؛ فطوال عقد

التسعينيات كان يتم غسيل ما يقرب من مائة مليار دولار من تجارة المخدرات بشكل

سنوي في ذلك العقد في أمريكا وأوروبا وحدهما.

وقد عقد مؤتمر في عام 1994م برعاية الأمم المتحدة لوزراء مسؤولين عن

الأمن في كثير من دول العالم، أكد فيه المؤتمِرون أن الجريمة الدولية قد زادت في

السنوات القليلة الأولى من عقد التسعينيات بعد الإعلان عن إجراءات عديدة تتعلق

بالعولمة؛ بحيث فتحت الأبواب أمام سيل من الفرص المتاحة لتدويل الجريمة،

وعولمتها. أما ثورة الاتصالات الإلكترونية فقد أحدثت طفرة في عالم

الجريمة [15] لا يعلم مدى ما ستصل إليه إلا الله - تعالى -.

ملاحظة مهمة وأخيرة: وهي أن ذلك الواقع (النموذجي) لحياة الإنسان في

البلدان التي لا تدين لله بالطاعة إنما هي نتاج النظم التشريعية الخرقاء التي يصر

المبدِّلون على أن يحاكموا إليها شريعة الرحمن، وأن يعدلوا ويغيروا فيها لتستقيم

مع العوج المعهود في شرائع الإنسان ... وصدق الحليم العظيم إذ يقول: [يُرِيدُ

اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ

يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ

اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً] (النساء: 26-28) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015