ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
محمود بن محمد المختار الشنقيطي [*]
مدخل:
لقد بات موضوع الحديث عن حقوق الإنسان حديث الساعة حتى غدا الاهتمام
به واضحاً من خلال عقد المؤتمرات والندوات، وإبرام المواثيق والاتفاقيات على
المستويَيْن: الإقليمي والدولي؛ وذلك من أجل معالجة جميع الجوانب والظروف
التي تسهم في تعزيز حقوق الإنسان، وتهيئ السُّبل الكفيلة لحمايتها.
وقد أصبح معروفاً أن تطبيق حقوق الإنسان يُعد معياراً لمعرفة مدى التزام
دولة ما بمبادئ العدل والإنصاف وحماية حقوق مواطنيها وحُرّياتهم، كما أنهُ يُعدّ
معياراً لمقياس مدى إدراك ووعي تلك الشعوب بالتمتع بها، بَلْهَ أهم عنصر في
الأنظمة الديمقراطية - كما يقولون - هو رعاية حقوق الإنسان.
وأيّاً كانت أسباب ودوافع الاهتمام بحقوق الإنسان وتناولها، وتباين تقسيماتها،
فيبقى للطرح الإسلامي رَوْنَقُه ووضوحه وعمقه وأصالته، لا لأنهُ ينطلق في
تحليله لحقوق الإنسان من الشريعة الإلهية الربانية فحَسْب؛ بل لأن التأريخ الذي لا
يحابي أحداً يشهد لواقعية الطرح الإسلامي ومصداقية تجرده في مناداته بحقوق
الإنسان.
ولا جَرَم أن المجتمع الإنساني اليوم حين نحَّى شريعة الله وهي الإسلام،
واستظلّ بظلّ النظم الوضعية؛ قد فقدَ السند والنظام الذي يحمي تلك الحقوق ويبقيها
دون تعرّضٍ للتآكل أو حتى التخلي عنها.
ولا أدلّ على ما نقول من أنّ حقوق الإنسان لم توضع قط موضع التنفيذ في
تاريخ الإنسانية إلا حين حَكمَ الإسلام من لَدُن أول حكومة إسلامية في عصر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، واستمرّت منفَّذةً مطبَّقةً مع استمرار هيمنة الحكم
الإسلامي.
حكمنا فكان العدلُ منّا سَجِيَّةً ... ولما حكمتم سال بالدم أَبْطُحُ
ومهما يكن من أمر، فإن حقوق الإنسان من أبرز الميادين التي احتدم فيها
الصراع الفكري بين أهل الإسلام والغرب، وما كان ينبغي لها أن تَصِلَ إلى ما
وصلَتْ إليه لولا جهلهم أو تجاهلهم بتراثنا الفقهيّ، أو عدم بلوغهم حقيقة الإسلام
تجاه حقوق الإنسان، أو حيلولة القوى المعادية للإسلام بين الرأي العام وبين الطرح
الإسلامي للموضوع [1] ، أو نكرانهم أنهم استفادوا شيئاً من الحضارة الإسلامية، أو
أنهم بنوا مدنيَّتهم على علوم اكتسبوها من أهل الإسلام ... إلخ.
وعجباً أن تكون المبادئ التي طالما صَدّرْناها للناس يُعاد تصديرها إلينا على
أنها كَشْفٌ إنساني ما عرفناه يوماً ولا عشناه دهراً.
ونحن نملك تراثاً عامر الخزائن بالمبادئ الرفيعة والمُثل العليا، ونخشى أن
يجيء يوم يصدّر الغرب إلينا فيه غسل الوجوه والأيدي والأقدام على أنه نظافة
إنسانية للأبدان، فإذا قُلْت: ذلك هو الوضوء الذي نعرفه، قال لك المتحذلقون
المفتونون: لماذا لا تعترف بتأخرك وتقدّمه؟ وفقرك وغناه؟
إن الخمول الشنيع الذي ران علينا في القرون الأخيرة جعل تراثنا العظيم نهباً
للآخرين، ثم تُمحى من فوقه كلُّ علامة، وتُوضع عليه علامات المُلاّك الجدد، ثم
يقال: إن العرب ما قدّموا للعالم خيراً قطّ، وإن الإسلام وأهله عالةٌ على الأولين
والآخرين، ألا [لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ] (الأعراف: 44-45) « [2] .
إنَّ في طليعة الحقوق التي يجب على الغرب أن يعترف بها حقاً أساسياً هو
الحقّ في الاختلاف معه، أعني حقّ الشعوب الأخرى، ولا سيما المستضعفة
سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً - أي: المتخلفة عن ركب آلته المتقدّمة - في
أنْ تكونَ لها عقيدتها ولغتها وثقافتها ومختلف مقوّمات هويتها الذاتية والكيانية، ثم
يأتي بعد ذلك حقها في التقدم الذي بلغه العصر في شتى المجالات، والذي يضع
الغرب نفسه الراعي والمتعهد وصاحب الامتياز لحقوق الإنسان! ! يضع عراقيلَ
حتى لا تدرك هذه الشعوب شأواً مناسباً منه، وَيذُودُونَها بسوْط العولمة أو الأَمْرَكةِ
حتى تبقى رهينة تبعيّةٍ مقيتةٍ يتحكمون في صيرورتها، ويجردونها من أدنى
الحقوق وأبسطها، معاشاً وتعليماً وعلاجاً وأمناً.
ولو أنّ المسلمين انطلقوا من ذاتهم ومن مفاهيم شريعتهم لحقوق الإنسان،
لسهُلَ عليهم هضم هذه الحقوق والتفاعل معها، والعمل بها واحترامها حتى في
صيغتها الغربية المشوّهة.
وإن من أوليات هذه الانطلاقة أن يقف المسلمون على ما يتميز به المنظور
الإسلامي [3] لحقوق الإنسان، وما يرتبط بها من مبادئ وقيم؛ ليدركوا الحاجة
الماسّة إلى إعادة النظر في المنظومة الحالية، وينبهوا غيرهم إلى ضرورة هذه
الإعادة، حتى تتناسق هذه الحقوق وتتكامل، وتستحقّ الوصف بالعالمية، مع أنَّ
من نافلة القول أن نقول: إنه ليس ثَمّة وسيلة للإقناع بالطرح الإسلامي لحقوق
الإنسان أفضل من تطبيقنا نحن المسلمين ما جاء به شرعنا الحنيف في هذا المجال،
وعند سعينا لتطبيق حقوق الإنسان تكون هذه الريادة خير ردّ على أيّ اتّهام بخرق
تلك الحقوق.
والحديث عن حقوق الإنسان في شريعة الإسلام متشعّب وأخّاذ؛ بيد أننا في
هذا المقام نوجز الحديث في عنصرين؛ هما: خصائص الإنسان في شريعة الإسلام،
وبعض ما انفردت به الشريعة من حقوق الإنسان.
أولاً: خصائص وسمات ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام:
1 - من أبرز ما يميز حقوق الإنسان في الإسلام هو أن مصدر هذه الحقوق
مبني على أن السيادة والحاكمية لله عز وجل. قال - تعالى -: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ
يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ] (الأنعام: 57) ، وقال - عز وجل -: [أَلاَ
لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ] (الأنعام: 62) . فينظر المشروع الإسلامي
للحقوق بحسب النظرة الإلهية لهذا المخلوق [4] ، ومدى ما يصلحه [5] ، كما قال -
تعالى -: [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً] (الإِنسان: 3) .
2 - الثبوت؛ فلا تتغير بتغيُّر الزمان وتبدل الظروف والأحوال. وتتّضح
هذه الميزة في تعريف العلماء للحق حين عرّفوه بقولهم:» هو الحقّ الثابت الذي لا
يجوز إنكاره « [6] .
3 - مراعاة انطلاق الحقوق من مقام الإحسان؛ فالحقوق في الإسلام تنبع من
المقام الذي يكون فيه العبد تحت مخافة الله - عز وجل -، وهو مقام الإحسان الذي
قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:» أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه
يراك « [7] .
4 - الانسجام والتكامل بين حقوق الإنسان وطبيعة هذا الدين، فالإسلام لم
يترك الحقوق مجردة، بل جعلها في جوّ وإطار الأحكام الشرعية، وفي منظور
المقاصد الشرعية، وقرنها بآدابها وأخلاقها، وجعل الإخلال بتلك الآداب إخلالاً
بهذه الحقوق، وربطها في النهاية بالدين، واعتبر مصدرها إلهياً، فكان بناء
الحقوق في الإسلام بناءً متكاملاً ينسجم مع الطبيعة الربانية لهذا الدين [8] .
5 - تنبثق حقوق الإنسان في الإسلام من أنّ سيادة المجتمع الإنساني فرع
عن سيادة أفراده، وليس العكس، كالحال في النظم الوضعية [9] ، قال - تعالى -:
[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً]
(المائدة: 32) .
6 - إضافة إلى السبق الزمني لحقوق الإنسان في الإسلام على غيره [10] ؛
فإنّ هذه الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان لم تتحقق بعد صراعات فكرية أو
ثورات ومطالبات كما هو الشأن في تاريخ حقوق الإنسان في النظم الديمقراطية
وأسباب نشأتها، كالحال في فرنسا وبريطانيا ... وإنما استقرّت مبادئها وأحكامها
وحياً من عند الله - عز وجل - دون سابق حديث عنها أو تطلّع إليها، أو كفاح في
سبيلها.
7 - أنها واقعية ومرتبطة بالحياة، وتلمس حاجة الإنسان؛ بخلاف الحقوق
في التشريعات الأجنبية فإنها منصبغة بالصبغة الفلسفية. جاء في ديباجة الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان ما نصّه:» لِمَا كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع
أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة، وهو أساس الحرّية، والعدل،
والسلام في العالم.
ولَمَّا كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت
الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامّة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد
بحرّية القول والعقيدة، ويتحرر من الفزع والفاقة.
ولَمَّا كان من الضروري أن يتولى القانون حمايةَ حقوق الإنسان؛ لكيلا
يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم.
ولَمَّا كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكّدت في الميثاق الجديد إيمانها بحقوق
الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقَدره، وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية،
وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن ترفع مستوى الحياة
في جوٌ من الحرّية أفسح.
ولَمَّا كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان
اطِّراد مراعاة حقوق الإنسان، والحريات الأساسية، واحترامها.
ولَمَّا كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا
العهد.
فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه
المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم، حتى يسعى كلّ
فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم إلى توطيد
احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية، واتخاذ إجراءات مطردة
قومية وعالمية؛ لضمان الاعتراف بها، ومراعاتها بصورة عالمية فعّالة بين الدول
الأعضاء ذاتها، وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها.
ثانياً: بعض ما انفردت به الشريعة الإسلامية من حقوق الإنسان:
وقد جاءت هذه الحقوق بمجموعها ضمن الكثير من الوثائق التي صدرت على
المستوى الإسلامي عن حقوق الإنسان [11] .
ومن أهم هذه الحقوق:
1 - حقّ الفضل والكرامة المكتسب من العمل والعقيدة، وجاء في العالمي
بشكل عام في عدة مواد.
2 - حرمة اللجوء إلى فناء النوع البشري.
3 - حقّ الحفاظ على الأفراد البريئين، كالشيخ، والمرأة، والطفل أثناء
النزاعات، ومداواة الجرحى، والحفاظ على الأسرى، وحرمة التمثيل بالقتلى،
وخلا العالمي من ذلك، ولكنه جاء في مواثيق واتفاقات دولية لاحقة، مثل: معاهدة
جنيف، والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية،
والحقوق المدنية والسياسية.
4 - حق الإنسانية في عدم إتلاف الزروع، وتخريب المباني المدنية أثناء
النزاعات.
5 - حقّ الأسرة في الحصول على الإنفاق من قِبل الرجُل.
6 - حق الجنين.
7 - حق الأبوين والأقارب على الأبناء، وحقوق ذوي القرابة.
8 - التوسع والتأكيد على حق الفرد في التربية الدينية، والدنيوية، وجاء في
العالمي بمستوى أقل من ذلك.
9 - حق التحرر من قيود الاستعمار، والاستقلال عنه، وجاء في العالمي
بشكل آخر.
10 - حق الكسب المشروع ومنع الربا.
11 - حق الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
12 - حق الفرد في حماية مقدساته من الإهانة، ومنع الإخلال بالقيم، وعدم
إثارة الكراهية.
حقوق الإنسان وسيلة سياسية في أيدي الغرب:
فغيرُ خافٍ عليك أن الطرح الإسلامي في قضية حقوق الإنسان يرتكز على
إثارة الشعور العاطفي بالإيمان بالله - عز وجل -، بخلاف التناولات الأخرى،
ويرتكز على مفهوم تسخير الله - عز وجل - كل ما في هذا الكون لمصلحة الإنسان
وفق انسجام متكامل في منظومة الحياة.
وغير خافٍ عليكَ النزاع الذي باتَ مكشوفاً في انتقادات الغرب لقضية حقوق
الإنسان في الإسلام. وإن الأخبار السياسية اليومية مليئة بالأحداث التي تدل على
أن التأريخ لم يشهد للغرب يوماً من الأيام بتطبيق حقوق الإنسان بعيداً عن المصالح
والاعتبارات والقيود التي تحكم الجانب التطبيقي، وما ترويج الدوائر الغربية لكتاب
سلمان رشدي، وما الخمس عشرة رهينة الذين احتُجزوا في لبنان، وكيف قامت
دنيا الغرب ولم تقعد؛ لأنهم من الجنس الأبيض، بينما أكثر من عشرة آلاف رهينة
من الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يقابلون بوجوم وسكوت مطبق، بل
بتبريكات من راعي السلام أمريكا.. وقديماً قالوا: «رَمَتْني بدائها وانْسَلّت» .
فما كل ذلك عنك - أخي القارئ - ببعيد، ولا نستغرب تصرفات الغرب
حين ينطلق في مجال حقوق الإنسان من نظرته الانتقائية التمييزية [12] .
حقوق الإنسان والرق في الإسلام:
ونسلّط الضوء - ولو بشيء من الإيجاز - على قضية من قضايا حقوق
الإنسان طالما شكّك الأعداء وطعنوا في الإسلام بسبب ضيق فهمهم لموقف الإسلام
منها، وهي قضية الرقّ في الإسلام.
وخلاصة القول: أن نقلب السحر على الساحر؛ فقضية تشريع الرقّ في
الإسلام من أوضح ما يدلُّ على سمو هذا الدين وكماله، وأنه أبعد من المثالب
والمعايب مما وصفه بها أعداؤه.
فمن أنوار التنزيل كانت الحقوق الواضحة البيّنة التي بينها رب العالمين الذي
[يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ] (الأنعام: 57) في شريعة الرق [13] في
الإسلام؛ بيان وإنصاف للإنسان حينما يقال للسيد: أعطِ حقّ المملوك الذي جعله
الله أمانة في عنقك، وأنت مسؤولٌ عنه أمام الله - عز وجل -، ويقال للمملوك:
أدِّ حقَّ سيدك.
في شريعة الرق في الإسلام نظرةٌ كاملة شاملة، ومناداة بالحقوق دون أن
يتقمّصها المنادي لأغراضه الشخصية، نظرة لإيجاد انسجام وترابط وتراحم بين
السيد والمملوك، تتجلى فيها عظمة الإسلام في أبهى صورها وأجمل حللها دون
كذب وافتراء، ودون مبالغة وخداع وتمويه على الناس.
ولنقف - أخي القارئ - على شيء مما دَوَّنَهُ فقهاء الإسلام في أحكام الرقيق:
أولاً: يحرم في الإسلام استرقاق الناس وقد وَلَدَتْهم أمهاتهم أحراراً بناءً على
أجناسهم أو ألوانهم أو مللهم وأديانهم، حتى قال عليه الصلاة والسلام - كما في
صحيح الإمام البخاري - رحمه الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:
«ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وذكر منهم: ورجُلٌ باعَ حرّاً فأكل ثمنه» .
ثانياً: جعل الإسلام سبب الرقّ هو الكفر، فمَن كفر فإنه ينزل عن مستوى
الكرامة والآدمية - ولو كان أجمل الناس صورة أو أعز الناس مكانة وحسباً ونسباً
وجاهاً - إلى مستوى البهيمية أو أضل. قال - تعالى -: [أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أضَلُّ] (الأعراف: 179) ، فالكفر والشرك من أعظم الظلم، قال تعالى:
[إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] (لقمان: 13) . والكافر ظالم، قال - تعالى -:
[وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (البقرة: 254) .
ثالثاً: ليس كل كافر يُسترَقُّ، وإنما الكافر المحارب الذي يقف في وجه
الدعوة إلى الله - عز وجل - يحاربها ويمنع غيره من أن يصل إليه من أنوارها،
ويصبح عقبةً أمام تبليغها، أمّا إذا لم يحارب فإنه يُقَرُّ على ملته ويُعْطِي الجزية،
وتتعدّاه الدعوة إلى غيره.
وإذا حارب ووقف في وجه الإسلام فليس لكل أحد أن يسترق ويأخذ من أسر
ويقول: هذا مملوك لي، إنما ضبطها وحدّدها الحكيم الخبير - سبحانه وتعالى -
حين ربطها بنظر الإمام ووليّ الأمر، قال - تعالى -: [فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً
حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا] (محمد: 4) .
رابعاً: رغب الإسلام في عتق الموالي وفتح لهم أبواب الحرية، فمن ذلك
رتّب كفارة العتق وأوجبها في بعض الصغائر والكبائر، كالقتل والظهار وغيرهما.
ومن ذلك: جواز المكاتبة أن يطلب الرقيق حريته بدفع شيء يكاتب عليه
سيّده، وجعل للمكاتبين نصيباً في الزكاة الواجبة، قال - تعالى -: [وَفِي الرِّقَابِ]
(التوبة: 60) . وأوجدَ الإسلام نظاماً آخر للعتق، عُرف في الفقه الإسلامي
بالتدبير [14] ، وحرّم على السيد استرقاق أمّ الولد أو بيعها ... إلخ.
ورتّب على العتق عظيم الأجر، حتى قال - عليه الصلاة والسلام - لسيد
الجارية حين قال لها: «أين الله؟» ، قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» ،
قالت: أنت رسول الله. قال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» [15] .
ولم يجعل الإسلام مجرّد دخول الموالي في الدين سبباً للعتق؛ حسماً للكذب
وادّعاء اعتناق الإسلام.
خامساً: أوجب على السيد في حقّ مولاه نفقته وكسوته وحمله إذا احتاج
الركوب، وليست النفقة على العمل، وحرّم على السيد أن يكلّفه بعمل يشقّ عليه
ولا يتحمله. قال صلى الله عليه وسلم: «للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلف من
العمل إلا ما يطيق» [16] ، وكذلك حرّم عليه أن يستخدمه في عمل يؤدي بعد ذلك
إلى الإصابة بالأمراض، ويعجز عنه بعد مرور الأيام. وجعل من حقوق المولى
على السيد أن يعطيه ساعات يرتاح فيها من العمل ويصلي فيها. قال الحجاوي -
رحمه الله - في زاد المستقنع: «ويريحه وقت القيلولة والنوم والصلاة» .
وأطفال الموالي لا يُطالَبون بالكسب، بل يُتركون حتى يكبروا.
وجعل الإسلام للمولى الحقّ في أن يتملك ما ملَّكه له سيده في الميراث، قال -
تعالى -: [قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ]
(الأحزاب: 50) . ومقابل الخدمة التي أوجبها للسيد على المولى خفف الشرع عليه
في الواجبات الشرعية، فلا تجب عليه الجمعة ولا الحجّ وغيرهما.
سادساً: جعل سياجاً منيعاً للحقوق المعنوية للرقيق، فحرّم إهانتهم واحتقارهم
وضربهم.
أوردَ الإمام النووي - رحمه الله - في رياض الصالحين تحت باب: النهي
عن تعذيب العبد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي أو زائد على قدر الأدب،
أوردَ حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - الذي أخرجه الإمام مسلم رحمه
الله - في صحيحه، قال: كنتُ أضرب غلاماً لي بالسَّوْطِ، فسمعتُ صوتاً من
خلفي: «اعلم أبا مسعود» ، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني، إذا هو
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود! أعلم أبا
مسعود!» ، قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: «اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر
عليك منك على هذا الغلام» ، فقلت: يا رسول الله، لا أضرب مملوكاً بعده، وقلت:
هو حُرٌّ لوجه الله تعالى، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما لو لم تفعل
لَلَفَحَتْكَ النار أو لَمَسَّتْكَ النار» [17] .
ومن تأكيد الشرع على حقوقهم أن كان آخر ما أوصى به نبي الله صلى الله
عليه وسلم وهو واقف على أعتاب الدنيا يودّع أمّته في مرض موته أن كان يقول:
«الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» [18] .
ولعل هذه الإشارة مما سطّره فقهاء الإسلام في حقوق الرقيق، لعلّ فيها أبلغ
الردّ على شُبهات أعداء هذا الدين، وتثبيتاً لقلوب بعض المؤمنين الذين كادوا أن
ينهزموا أمام هجمات الأعداء، فيتنصلوا من شريعة الرق، وأنها نُسِخت أو شُرعت
للضرورة فقط.... إلخ، غيرةَّ منهم على الإسلام.
كلاَّ! بل ينبغي أن ترفع بها رأساً؛ لأنها من أحكام الله الباقية الخالدة الذي
يحكم ولا مُعقّب لحُكمه سبحانه وتعالى ونحن نؤمن بهذا التشريع الذي يبقى ما بقي
الزمان وتعاقبَ الليل والنهار، رضيهُ من رضيه، وسخطه من سخطه؛ فمَن
رضي فله الرِّضى، ومَن سخط فله السخط، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .