مجله البيان (صفحة 3981)

الافتتاحية

التربية وأثرها على الدعوة

من الاهتمامات المعاصرة في التربية ما يسمى بـ (المنهج الخفي) ، ويُعنى

به: كل ما يمكن تلقيه في المدرسة من تعلم غير مقصود وغير موجود في المنهج

الرسمي.

ويمكن استنباط المنهج الخفي من القوانين واللوائح الداخلية والقواعد

والتنظيمات العامة الموجودة في المدرسة.

ومن العلاقات العامة الموجودة داخل المدرسة كعلاقة الناظر (مدير المدرسة)

بالمعلمين، وعلاقته بالطلاب، وعلاقة كل فئة بالأخرى.

ومن خلفيات هذه الفئات المختلفة: الطبقية، والاجتماعية، والاقتصادية،

والثقافية.

ومن طبيعة بنيان المدرسة والأثاث المستخدم للطلاب والعاملين، وطبيعة

المنافع والمرافق العامة.

ومن شكل المعرفة المدرسية وليس مضمونها [1] .

وثمة حاجة ملحة للاعتناء بهذا الجانب في تربيتنا الدعوية التي نمارسها

في حديثنا مع الناس، سواء في المناسبات العامة كخطب الجمعة والمحاضرات

والندوات، أو فيما هو دون ذلك كحديث المعلم مع تلامذته، والأب مع أبنائه، أو

في الصورة التي نرسمها لأنفسنا في أسلوب حياتنا وطريقة تعاملنا.

فحين نرسم برنامجاً لدعوتنا وتربيتنا، فنحن نأخذ في الاعتبار الصورة

الضيقة المحدودة للبرنامج؛ فما نسعى إلى تحقيقه لدى المدعوين والمتربين، أو

نريد علاجه من مشكلات ندرجه ضمن البنيان المعرفي ونقدمه في قالب متكرر:

المظاهر، الأسباب، العلاج.

وحين نريد مراجعة تربيتنا وتقويمها فنحن نراجعها على ضوء هذه الصورة

المحدودة الضيقة، وحين نكتشف مشكلاتنا نعالجها من خلال التناول المعرفي لها

غافلين عن خلفية وجودها.

ولنضرب على ذلك ثلاثة أمثلة تتعلق بمشكلات رئيسة نعاني منها:

المشكلة الأولى: ضعف المبادرة الذاتية:

كثيراً ما نشتكي من ضعف المبادرة الذاتية في صفوف شباب الصحوة، وأن

كثيراً منهم لا يعمل ولا ينطلق إلا من خلال توجيه محدد، وهذا يدعونا إلى كثرة

الحديث عن المبادرة الذاتية وضرورتها، وإلى كثرة النعي على من يفتقدونها.

ولو تأملنا بصورة أشمل فسنجد أن هذه المشكلة نتاج مناهجنا التربوية التي

ترى أن هذه المبادرة إنما تبنى من خلال التناول المعرفي المجرد والمباشر، وتغفل

عن عوامل مهمة لها أثرها في بناء المبادرة، ومنها:

* تعاملنا مع الاستشارة، والتأكيد دوماً عليها في كل صغيرة وكبيرة.

* طريقة تعاملنا مع الأفكار الجديدة، وانتقادنا اللاذع لكل جديد لا يروق لنا

ولا يتسق مع طريقة تفكيرنا.

* تضييق الدائرة التي يسوغ فيها الاختلاف في الرأي ووجهات النظر،

والسعي للوصول إلى صهر الأفراد في نسيج واحد.

* التركيز دوماً على التوجيه المباشر للعاملين، وعلى إعطاء تعليمات

واضحة ومحددة، ومحاسبتهم على ضوئها.

إن هذه الممارسات وغيرها ننتقدها على المستوى النظري، أما على المستوى

العملي فهي سائدة ومنتشرة.

المشكلة الثانية: السطحية وافتقاد العمق والنضج:

وهي مشكلة كثيراً ما ننتقدها ونشعر أن قطاعات عريضة من شباب الصحوة

تعاني منها، وأحسب أنَّا لسنا بحاجة للإقناع بوجود هذه المشكلة، إلا أن أسلوب

التعامل معها وتحليل أسبابها، ومن ثم اقتراح الحلول لتجاوزها كل ذلك دون

المستوى المطلوب.

إن أسلوب تعاملنا مع المشكلات وطريقة علاجها يسهم في تشكيل عقلية

المستمعين وطريقة تفكيرهم.

فالخطيب الغيور يحدث المصلين عن منكر من المنكرات، وظاهرة من

الظواهر، ويكون هذا الحديث مشحوناً بالعاطفة والتفاعل وارتفاع نبرة الصوت -

وربما تتطلب بعض المواقف مثل ذلك - لكن المصلين لا يخرجون من حديثه إلا

بالشعور بألم المصيبة، وفداحة الخطب، وعظم الخطر.

وحين يتجه الأمر نحو الحل فهي حلول تدور حول إطار محدد، وتعتمد

سياسة إطفاء الحرائق.

لكن لو أن الخطيب ناقش الظاهرة أولاً باعتدال؛ فتحدث عن خطورتها مع

بيان حجمها في المجتمع ومدى انتشارها، ثم انتقل إلى تحليل الظاهرة

والبحث عن أسبابها المباشرة وغير المباشرة، دون التركيز على صورة

الحدث بل على عناصره ومكوناته؛ لكان ذلك أجلى بياناً وأكثر تأثيراً.

فالمظاهر المتعلقة بالشباب مثلاً تتطلب تحليل دور المدرسة التربوي، ودور

الأسرة، ودور وسائل الإعلام ... إلخ. وكيف أسهمت في تخريج هذه الفئة من

الشباب. وهكذا سائر عناصر المشكلة وأركانها.

ثم اتجه بعد ذلك إلى الحديث حول علاج الظاهرة، وجمع في ذلك بين

التعامل الآني مع المشكلة إن كانت تتطلب ذلك، والتعامل المستقبلي، وربط هذه

المشكلة باتجاهات التغير في المجتمع.

ثم تناول دور المستمعين من خلال كافة مواقعهم، وكيف يسهمون في التفاعل

العملي مع هذه المشكلات والظواهر.

وهكذا حين يتحدث المعلم مع طلابه عن حدث من أحداث السيرة؛ فلا يسوغ

أن يقتصر الحديث على سرد الأخبار والمرويات، والإشارة إلى بعض الدروس

والعبر المكررة، فلو قام بتحليل الموقف تحليلاً أعمق، وتناول مواقف شخصيات

الحدث، وطلب من تلامذته أن يقارنوا بين هذا الحدث وواقعهم: فما أوجه التشابه،

وكيف نستفيد منها؟ وما أوجه الاختلاف وهل يمكن أن نوظفها بطريقة غير

مباشرة في حياتنا الشخصية؟

وهكذا الأب حين يناقش أطفاله ... وهكذا سائر المربين.

المشكلة الثالثة: التطرف في الآراء والمبالغة في الحماس لها:

وهي مشكلة تعاني منها مجتمعاتنا وورثناها نحن ضمن أمراض هذه

المجتمعات؛ ففي كثير من المواقف تتسم آراؤنا بالمبالغة والتطرف، ونفتقر إلى

الاعتدال في النظر إلى الأمور.

ولو تأملنا في واقعنا التربوي فسوف نرى ما يمكن أن يفسر لنا جزءاً من هذه

المشكلة، ومن ذلك أنه يسود لدينا الرأي الواحد في ميادين شتى، ولو كان الرأي

الواحد نتاجاً طبيعياً لكان مطلباً، لكنه في الأغلب نتيجة ممارسات غير سليمة،

ونتيجة سعي للقطع بما هو مظنون، والجزم بما هو محتمل. واختلاف الآراء فيما

يسع فيه الاختلاف يؤدي إلى النقاش والحوار الذي يعود على الاعتدال في الآراء

وعدم التطرف فيها.

إن إجابة المعلم عن سؤال تلميذه إجابة قاطعة، وحديثه عن مشكلته بأنه ليس

لها إلا حل واحد، وتعليقه على موقف أو ظاهرة ... إلخ؛ كل ذلك يؤثر في طريقة

تفكير هذا التلميذ، ويصبغها بصبغة التطرف في الآراء والقطع فيها.

وطريقة الداعية في نقاشه لآراء المخالفين والتعامل معها، وفي حديثه عن

الظواهر الاجتماعية وتحليلها ربما أثرت تراكمياً في طريقة تفكير المستمعين له.

إن هذه المشكلات نموذج مما نشعر بوجوده ونتحدث عنه، مع إيماننا بأن

انتشارها وامتدادها يتفاوت من شريحة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر؛ مع إيماننا

بأن اتجاه كثير منها يمضي نحو الانحسار والتلاشي؛ بغض النظر عن سرعة

الاتجاه وبطئه.

والمقصود هنا ليس تحليل هذه المشكلات، إنما بيان مدى صلتها بموضوع

حديثنا، وكيف أن المنهج الخفي [2] له أثره التربوي الذي قد لا نتفطن له.

إننا بحاجة إلى أمور منها:

* أن نعيد النظر في مفهومنا عن المنهج التربوي، ومدى اتساعه أو ضيقه.

* أن نغير نظرتنا التقليدية للتربية، وأنها تتم من خلال العطاء والتوجيه

المعرفي المجرد.

* أن نزيد ثقافتنا التربوية، ونستفيد من نتاج الدراسات الإنسانية والتربوية

المعاصرة.

* تقويم تربيتنا بين آونة وأخرى؛ فالعمل البشري لا غنى له عن التقويم

والمراجعة، والدعاة إلى الله - تعالى - أوْلى بإتقان أعمالهم من أهل الدنيا الذين

يضعون برامج دورية للتقويم والمراجعة.

وحتى يؤتي التقويم ثماره، فينبغي أن يكون شاملاً، وأن نكون جريئين في

مراجعة مناهجنا وبرامجنا، فإلفُنا لكثير منها قد يدعونا لإدراج متغيرات في إطار

الثوابت.

والتقويم الشامل يحتاج إلى أن يركز على المخرجات والنتائج؛ فحين يكون

تقويمنا مقتصراً على الوسائل والبرامج فلن يكشف لنا كثيراً من مواطن الخلل.

ولئن كانت المراجعة والتقويم مطلباً في كل وقت وحين؛ فهي في هذه المرحلة،

ومع المتغيرات المتلاحقة أكثر إلحاحاً ومطلباً.

وحين نتعامل مع المرحلة الجديدة بأساليبنا ووسائلنا ومناهجنا السابقة فقد

يتجاوزنا القطار ونظل في مواقعنا المحدودة نخادع أنفسنا بحيل نفسية تسوِّغ عجزنا

وقصورنا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015