المسلمون والعالم
حسن الرشيدي
«إذا كان العرب في وقت سابق قد وصلوا فوق النياق إلى المغرب العربي،
فأنا سأكون معهم رفيقاً وأعيدهم على متن البوينغ إلى بلادهم الأصلية في الجزيرة
العربية» .
هذه مقولة أحد زعماء الأمازيغ تكشف عما يعتري نفوس بعض أبناء الأمازيغ
من شعور وأحاسيس ليس في الجزائر فقط ولكن في بلاد ما يعرف بالمغرب العربي
(تونس الجزائر المغرب موريتانيا) ، ويبقى النموذج الجزائري له خصوصياته
وتميزه نتيجة لعوامل عديدة.
وتشهد منطقة القبائل في الجزائر الآن مظاهرات وإضرابات وأعمال عنف
يتسع نطاقها يوماً بعد آخر في وضع مستمر وصلت إلى حد حرق كل ما يرمز
للنظام الحاكم من مقرات البلديات ومكاتب الإدارات الحكومية، ومحاصرة مقرات
الدرك والشرطة، وكذا حرق العديد من مكاتب الحزبين الرئيسيين في المنطقة:
(جبهة القوى الاشتراكية) لحسين آيت أحمد، و (التجمع من أجل الثقافة
والديمقراطية) لسعيد سعدي، على حد سواء.
هذا العنف ليس وليد اللحظة الآنية ولكن منشأه تفاعلات طغت على الساحة
الجزائرية منذ فترة طويلة ساهمت فيها عوامل عديدة منها الخارجي والداخلي.
وأي تحليل أو محاولة للاقتراب من الواقع الجزائري لا بد له من الإحاطة
بثلاثة متغيرات متداخلة:
1 - طبيعة النظام في الجزائر وآلية عمله.
2 - الهيمنة الفرنسية على الجزائر مظاهرها وأشكالها.
3 - مظاهر التمرد الأمازيغي.
وقبل أن نتطرق إلى هذه المتغيرات لا بد لنا من معرفة سريعة بالأمازيغ:
الأمازيغ: المنشأ والتاريخ:
الأمازيغ هم الجماعة التي أقامت منذ أحقاب بعيدة في الشمال الإفريقي في
الأرض الممتدة من برقة شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً، وهذه المنطقة أطلق
عليها لفظة المغرب بمدلولها العام.
ويرفض العلمانيون من مثقفي الأمازيغ تسميتهم بالأمازيغ أو البرابرة لكون
الصفة استعملت من قِبل اليونان القدامى لوصف مَنْ لا يتكلم لغتهم على أنهم
متوحشون، ويقول هؤلاء: إن الكلمة المقابلة في اللغة العربية هي الأعجميّ، وهو
ما يطلقه العرب على مَنْ لا يتحدث لغة الضاد، واختلف المؤرخون العرب في
تفسيرها: فالسلاوي ينسب كلمة بربر إلى بر بن قيس، وابن خلدون يرجع الكلمة
إلى ما قاله إفريقي بن صيفي من ملوك التبابعة حين سمع كلامهم فقال: ما أكثر
بربرتكم. فسموا بالأمازيغ، والأمازيغة بلسان العرب: هي اختلاط الأصوات غير
المفهومة. وقال آخرون: كلمة بربر مأخوذة من لفظ برباردس، وتعني الرافضة
للحضارة الرومانية ويبدو أن اسمهم أقرب إلى اللقب منه إلى الاسم الأصيل
والصحيح.
أما الأمازيغ أنفسهم فإنهم يطلقون على أنفسهم اسم أمزيغن أو الأمازيغ أي
الأحرار البيض (ومفرده أمزيغ) ، وذلك تعبيراً عن تعلقهم بالحرية والأنفة التي
هي من مميزاتهم البارزة.
ويختلف المؤرخون في تبيان أصول الأمازيغ؛ فقد ذهب بعضهم إلى ربط
أصولهم إمَّا بسلالة حام وسلالة سام، وأشار آخرون إلى علاقتهم بجالوت ملك
الأمازيغ في فلسطين، كما أنَّ هناك من ينسبهم إلى الجبارين، وهناك مَنْ يرى أنهم
خليط من أقوام شرقيَّة مختلفة، وهناك مَنْ يربط بينهم وبين (أفريقش اليمنيّ) .
وهناك نظريات لها أسانيدها العلمية تؤكد أصولهم العربية: بعض هذه
النظريات يرجع بهم إلى بني حمير، وبعضهم الآخر إلى قبائل قيس عيلان،
ويتفق كثيرون على أن الأمازيغ نزحوا من فلسطين إلى المغرب، وينسب الباحثون
الغربيون الأمازيغ إلى بني حام.
أما ابن حزم فإنه قال: إنهم من بقايا ولد حام بن نوح عليه السلام، وادعت
طوائف منهم إلى اليمن؛ وابن خلدون يذكر أن فلسطين كانت موطنهم الأول،
وابن خردذابة يشير إلى أن مواطنهم الأولى فلسطين.
وينتشر الأمازيغ في خمس ولايات أساسية هي: بجاية تيزي أوزو البويرة
بومرداس الجزائر العاصمة. ويقدر عددهم في هذه الولايات بأكثر من 3 ملايين
مواطن بحسب تقديرات غير رسمية، ولهم نفوذ واسع في مختلف مؤسسات الدولة
بالنظر إلى كفاية هؤلاء وتفضيلهم تلقي تعليم عالٍ في المعاهد الفرنسية.
وتوجد بالجزائر عشر فئات بربرية، وعلى رأس هذه الفئات (الشاوية)
الذين يمثلون أكبر تجمع بربري، وهناك فئة القبائل. وأبناء هذه الفئات العشر عدا
القبائل يرون أن لغتهم هي العربية، وأن الأمازيغية لهجة شفوية يتحدث بها
الأميون منهم. ومن الغريب أن فروقاً كبيرة توجد بين لهجات هذه الفئات العشر؛
إذ يختلف بعضها عن بعض لدرجة يصعب التفاهم فيما بينها. ولا توجد لغة بربرية
أمٌّ منظمة تُعَلَّم. أما فئة القبائل فبسبب التأثير الاستعماري الفرنكفوني حديثاً يطالبون
باعتماد اللغة الأمازيغية لغة رسمية ووطنية في مستوى واحد مع العربية.
يمتاز غالبية الأمازيغ بطبعهم المتشدد، وقد دخلوا في دين الله أفواجاً مع الفتح
الإسلامي، وأبلوا بلاءً حسناً في نصرة الدين الإسلامي منذ الفتح.
ولعبوا أدواراً هامة جداً في التاريخ العربي والإسلامي في شمال إفريقيا
وغربها وكذلك في الأندلس، ويعود أول اتصال لهم مع الإسلام إلى عام 642 هـ
عندما وفد على عمرو بن العاص بعد فتح مصر جماعة من أهالي (برقة) يطلبون
الاحتماء بالإسلام من ظلم البيزنطيين، وعندما نقل ابن العاص طلبهم إلى الخليفة
عمر بن الخطاب أذن له بالاستجابة إليهم، فشكل ابن العاص قوة عسكرية خاصة،
وأمَّر عليها ابن خالته (عقبة بن نافع) الذي تمكن من تحرير (برقة) ونشر
الإسلام بين قبائلها الأمازيغية.
توقف تقدُّم الإسلام غرباً حوالي عشرين عاماً بسبب الفتنة التي قامت بعد
اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وانشغال الخليفة علي بن أبى طالب
بالصراع مع الأمويين، وفي هذه الأثناء كان الضغط البيزنطي يشتد على قبائل
الأمازيغ، وكانت الثورات الأمازيغية تعمّ المناطق التي تعرف اليوم بالجزائر
والمغرب، ولم يستأنف الإسلام تمدده إلا في عام 666 هـ بعد أن استقبل الخليفة
الأموي معاوية وفداً بربرياً كان على رأسه (غناجة) أحد كبار قادة قبائلهم الذي
طلب إليه إنقاذ الأمازيغ من الجور البيزنطي.
كانت الاستجابة الاولى حملة عسكرية بقيادة ابن خديج، ولكن لم يكن لها
نتيجة تذكر، وفي عام 670 هـ جدد معاوية الاعتماد على عقبة بن نافع، وتمكنت
قوات عقبة من تحرير إفريقيا (تونس) من البيزنطيين إلا أنه أدرك أن استقرار
الإسلام في هذه المناطق مرتبط باستقرار العرب فيها وتطبيقاً لهذه النظرية أقام
مدينة القيروان، وبعد عقبة بن نافع عهد بأمر متابعة التقدم غرباً إلى قائد عسكري
آخر هو أبو المهاجر الذي اقتحم جبال الأوراس (في الجزائر) ، وانتصر على
زعيم القبائل الأمازيغية فيها (كسيلة) ، ولما اعتنق (كسيلة) الإسلام أبقاه
أبو المهاجر على عرش زعامته، ودخل الأمازيغ الإسلام زرافات ووحداناً.
ومرة ثالثة تؤول قيادة القوات الإسلامية في شمال إفريقيا إلى عقبة بن نافع
الذي يقود هذه القوات حتى طنجة وسبتة في شمال المغرب، ثم يتوجه جنوباً حتى
منطقة سوس والأطلس المتوسط (منطقة مراكش) ، ولما وصل إلى شواطئ
المحيط الأطلسي ردد عبارته الشهيرة: اللهم إني لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك
لتعلم أني أطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تُعبَدَ ولا يُشرَكَ بك،
اللهم لو كنتُ أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لخضته إليها في سبيلك.
ولكن (كسيلة) هذا لم يعجبه ما أسند إليه من إمارة وتحالف مع قبائل بربرية
وخرج يريد المسلمين، وتصدى له عقبة بن نافع، ووقعت معركة الزاب التي
استشهد فيها عقبة، وانتكست القوات الإسلامية حتى اضطرت إلى الجلاء عن
القيروان إلى برقة.
كان على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أن يعيد تصحيح المسيرة من
خلال حملة عسكرية عهد بقيادتها في عام 684 هـ إلى زهير بن قيس (وهو
القائد الذي كان عقبة بن نافع قد اختاره نائباً عنه في القيروان) ، وقد انضمت إلى
الحملة قبائل بربرية إسلامية عديدة مما مكنها من تحقيق أهدافها بسرعة.
وفي عام 693 هـ توجهت إلى المغرب قوة إسلامية جديدة على رأسها
حسان بن النعمان الذي حقق انتصاراً على قبيلة جراوة في جبال الأوراس التي
كانت تتزعمها كاهنة ساحرة.
وبعد حسان حل محله في عام 704 هـ موسى ابن نصير اللخمي الذي
اشتهر بالعمل على تثبيت الإيمان لدى القبائل الأمازيغية، وكان اعتماده الأساسي
على المسلمين الأمازيغ في فتوحاته الشهيرة؛ فقد شكل منهم قوة خاصة، عهد
بقيادتها إلى القائد المسلم الأمازيغي طارق بن زياد لعبور المضيق من طنجة إلى
أسبانيا، ومنذ عام 711 هـ والمضيق (زهاء ثلاثين كيلو متراً) يعرف باسم
مضيق جبل طارق؛ فقد تمكن طارق بن زياد بقوة من 12 ألف مسلم من الأمازيغ
وثلاثمائة فارس عربي من فتح معظم الأراضي الأسبانية الجنوبية التي أطلق عليها
اسم الأندلس.
ولا يزال طلاب العلم يدرسون حتى الآن كتاب (الآجرومية في مبادئ علم
العربية) لابن آجروم الأمازيغي، وسبقه بقرنين أي في القرن الثاني عشر
الميلادي على طريق علوم العربية زين الدين بن معطي (قبائلي) أول من نظم
قواعد النحو العربي في ألف بيت من الشعر.
ومن شخصياتهم الهامة في التاريخ ابن باديس الذي كان له دور هام في
مقاومة الفرنسيين.
ويشير التاريخ إلى أمر أساسي بدأ منذ دخول الإسلام شمال إفريقيا، وهو
مستمر حتى اليوم، وهو أن الأمازيغ يتمتعون بقدر عال من الأنفة والاعتزاز
بالنفس، وأنهم يتمسكون مع إسلامهم بشخصيتهم القبلية الخاصة.
طبيعة النظام الجزائري:
تعيش الجزائر منذ استقلالها حالة صراع ظل تحت السطح فترة الستينيات
والسبعينيات، وما لبث أن اشتد مع بداية الثمانينيات حتى انفجر في العشرية
الأخيرة التي يسميها أهل الجزائر عشرية حمراء وأحياناً سوداء.
هذا الصراع هو في الأصل أزمة نظام بدأ حكمه باغتصاب السلطة من
أصحاب الحق الشرعيين الذين بذلوا دماءهم في سبيل نيل هذا الاستقلال وثبتوا أمام
جيوش قوة عظمى في ذلك الوقت، وجيَّشوا الشعب الجزائري عربه وبربره تحت
راية العقيدة؛ ولكن الخبث الصليبي كما في كثير من الأقطار أبى أن ينسحب من
المعركة إلا بعد أن سلم السلطة إلى قلة علمانية ونخبة لا تمت للإسلام بصلة إلا في
الأسماء، هذه النخبة الحاكمة نحَّت الإسلام عن حياة الناس، واستبدلت به شرائع
ما أنزل الله بها من سلطان؛ وهكذا كان حال هذه النخب التي تسلمت الحكم في
عامة الأقطار الإسلامية ولكن نخبة الجزائر تميزت بخصائص عن بقية النخب
الأخرى من أهمها:
1 - الدموية والقسوة في تعاملاتهم مع الشعب:
فهذه الطبقة من الضباط دأبت على استخدام أبشع الطرق في تصفية خصومها
السياسيين، والذهاب إلى حد التضحية بالناس كلهم إن أمكن ذلك في سبيل تثبيت
دعائم حكمهم؛ فالمجازر التي وقعت في بني طلحة وغيرها والتي ثبت تورط
هؤلاء العسكر بها سواء على مستوى التخطيط والتنفيذ، هذه المذابح ارتكبت من
خلالها أبشع أنواع الجرائم التي لا يمكن أن يُعتبر فاعلوها من بني الإنسان؛ بل إن
الوحوش لتترفع عن إتيان مثل هذه الأعمال؛ فمن ذا الذي يجرؤ على القيام بقطع
الأعضاء الذكرية في الرجال بعد ذبحهم ووضعها في أفواه الجثث، وكذلك قطعوا
أثداء النساء ورموا الأطفال الرضع في الحوائط وهم أحياء حتى يغرق الرضيع في
بحر من الدماء، وكل ذلك شاهده الصحفيون واعترف به ضباط وجنود ممن
استيقظت ضمائرهم وهربوا إلى الخارج كشاهدين على هذه المذابح والمجازر،
وكل ذلك يحصل حقداً على بسطاء الناس الذين أعطوا أصواتهم للجبهة الإسلامية
للإنقاذ في انتخابات 1991م.
2 - احتراف التآمر والعمل المخابراتي الموجه لأبناء الجزائر:
قبل تسلمهم الحكم وفي منتصف الخمسينيات توجه قادة جبهة التحرير
الجزائرية والتي كانت تقود الشعب الجزائري حينئذ إلى استحداث جهاز للمخابرات،
وتولى تدريبه في بداياته المخابرات المصرية؛ حيث قام بشراء مجموعة فيلات
للسكن حوَّلها إلى مراكز للتعذيب وإدارة العمليات الاستخباراتية. ولم يسلم منه
جهاز المخابرات المصري القوي في عهد عبد الناصر، حيث سعى إلى اختراقه
والتجسس على فتحي الديب المكلف بالملف الجزائري في النظام المصري حينذاك.
وسرعان ما اكتشفت أجهزة الأمن المصرية ذلك وهو ما أثار غضباً شديداً لدى
قادتها؛ ذلك أنها ساعدت جبهة التحرير ولم تبخل عليها بأي شيء؛ فكيف يحاول
أحد قادتها اختراق أصدقائها؟ ! هذه الرواية أوردها فتحي الديب في كتابه:
(عبد الناصر وثورة الجزائر) .
وتطور هذا الجهاز بعد ذلك على يد المخابرات السوفييتية حتى برزت
مجموعة (السجاد الأحمر) أي هؤلاء الذين تدربوا على أعمال المخابرات في
موسكو.
وتنوعت أعماله من قتل المعارضين لقيادة جبهة التحرير قبل الاستقلال
وبعده، واختراق الجماعات الإسلامية والتأثير في توجهاتها وتغيير استراتيجيتها،
كما حدث مع الجماعة الإسلامية المسلحة، كما شارك بالتخطيط والتنفيذ فيما وقع
من مجازر ومذابح.
3 - تدني المستوى التعليمي والسياسي بالنسبة لقياداتها القديمة والتي تُمسك بزمام
الجيش حالياً:
جل القيادات الحالية التي تُحكم سيطرتها على جيش الجزائر حصلوا على
الابتدائية أو ما يعادلها، ثم خدموا بعد ذلك في الجيش الفرنسي، وعند الاستقلال
ولأسباب مجهولة تم دمجهم بالجيش الجزائري. والمستوى التعليمي المحدود كان له
تأثير بلا شك على مستوى ثقافتهم وتعاطيهم مع الشأن الجزائري؛ كما جعلهم أكثر
انقياداً وتأثراً بالتوجيه الخارجي الآتي من فرنسا. يقول عبد الحميد الإبراهيمي
رئيس وزراء الجزائر الأسبق: «في الواقع فإن العسكر والجنرالات منذ أن جاؤوا
بانقلابهم عام 1992م وهم على رأس المؤسسة العسكرية وقد كانوا في الجيش
الفرنسي سابقاً، دخلوه وهم صغار في سن 13، 14 سنة، ومستواهم الثقافي
ضعيف جداً، والعديد منهم لم يحصل حتى على الشهادة الابتدائية، وعندما انتموا
إلى الجيش الفرنسي الذي كان يحتل الجزائر حاربوا في صفوفه حتى اشتركوا في
ضرب ثوار الجزائر، والبعض حارب في الهند الصينية وفي فيتنام، وبعد اندلاع
الثورة أتوا بهم إلى الجزائر، وفيهم عدد كبير من الذين التحقوا بعد ذلك بالثورة،
ليس في الجبال، لكن بالحكومة المؤقتة بتونس ومنهم مثلاً (محمد العماري) هذا
الذي قاد أركان حرب منذ بداية 1993م إلى يومنا هذا التحق بالحكومة المؤقتة
بتونس في نهاية 1961م، وهم ما زالوا بمستواهم الضعيف يعني الثقافي والسياسي
لكنْ وراءهم خبراء فرنسيون وضباط فرنسيون كانوا يعملون في المخابرات تحت
الجنرال إسماعيل العماري نائب الجنرال توفيق رئيس المخابرات ... يعني أن
الفرنسيين هم الذين يشيرون عليه» .
4 - تعدد مراكز القوى والاستقطاب داخل هذه النخبة:
كان من الطبيعي لتهافت هؤلاء العسكر على الحكم أن يحدث بينهم نوع من
التشرذم وتنامي البؤر.
والمتتبع لأحوال النظام الجزائري يجد بداخله قطبين رئيسيين:
الأول: تيار المخابرات بزعامة محمد مدين الشهير بسي توفيق ونائبه
إسماعيل العماري.
الثاني: تيار أركان الجيش بزعامة رئيس الأركان محمد العماري.
وكل قطب من هذه الأقطاب له أدواته ووسائله في السيطرة وإدارة الصراع
سواء مع الناس أو مع القطب الآخر عندما يبرز بينهما خلافات على التكتيك
والأسلوب الأفضل في تقاسم السلطة وذبح الصحوة ومحاربة اختيار الشعب في
العودة إلى الله.
ويأتي بعد ذلك دور رئيس الجمهورية وهو دور واجهة أكثر من أن يكون
طرفاً فعالاً، والمتأمل لفترات الرئاسة للرؤساء السابقين من أيام بن بلة وحتى
بوتفليقة يجد أن هؤلاء الرؤساء كانوا ألعوبة في يد قادة الجيش والمخابرات باستثناء
حكم هواري بومدين، حيث كان ممسكاً بزمام الجيش بنفسه في السابق فسهل عليه
الإمساك بخيوط السلطة في يديه.
لذلك يجب علينا فهم ما تتحدث عنه وسائل الإعلام عن وجود خلاف بين
الرئيس والجيش؛ فالتعبير الدقيق: خلاف بين أحد أقطاب الصراع الذي جاء
ببوتفليقة وبين القطب الآخر اللذين سبق الحديث عنهما.
هذه الخصائص الأربع هي أبرز خصائص الحكم في الجزائر بالإضافة إلى
الخصائص الأخرى الموجودة في أكثر النخب التي تتحكم في بلاد المسلمين مثل
الفساد الإداري والمالي والسيطرة على الاقتصاد والمحسوبية والرشوة والانحطاط
الأخلاقي وغيرها من المفاسد.
لذا كان من السهل تقبل نظرية المؤامرة بالنسبة لأحداث الأمازيغ الأخيرة
نتيجة للعوامل السابقة؛ فقبل اندلاع انتفاضة الأمازيغ برزت إلى السطح
التصريحات والتصريحات المضادة بين مراكز القوى في الجزائر، وهو الأمر الذي
فهم منه كما يقول سياسي جزائري أنّه يشكّل ذروة الاحتقان بين مراكز القوة.
وقد علمتنا الفتنة الجزائريّة أن يكون للاحتقان بين مراكز القوة كباش محرقة
وفداء من قبيل مجزرة هنا ومذبحة هناك وقتل بالجملة هنالك. ومبادرة الرئيس
الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى تشكيل لجنة للتحقيق في الحادث معناه أنّ مشهد
الدم في منطقة القبائل وراءه أيدٍ قد يكون لها امتداد إلى بعض مراكز القوة.
وعندما تحركّت المدرعات العسكرية لردع انتفاضة الأمازيغ كان الرئيس
الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في زيارة إلى نيجيريا الأمر الذي جعله يقطع زيارته
ليلاً ولا يتابع أعمال المؤتمر العالمي حول الإيدز في نيجيريا. وهذا
ما جعل مقربين من الرئيس الجزائري بوتفليقة يعتبرون أنّ ما جرى ويجري هو
أمر دبّر بليل، وأنّ هناك أطرافاً أشعلت النار في منطقة القبائل.
ويظهر أن أحد القطبين في الجيش الجزائري غير راض عن تحركات
بوتفليقة والقطب الآخر متمسك به، وهذا ما يفسر إقدام بوتفليقة على تقديم استقالته
لقيادة الجيش فور وقوع هذه الأحداث.
وتتفق تحليلات قوى سياسية محلية حول ما تسميه «تحريك القبائل»
لتصفية حسابات بين أطراف السلطة المتصارعة إلى حد يمكن توقع أي شيء في
المستقبل القريب. وتعتقد هذه القوى أن سيناريو تفجير الأحداث أعد بإتقان، واهتم
حتى بأدق الجزئيات لضمان اندلاعها؛ فهناك جملة من التساؤلات حول مصادفات
غريبة حدثت من جهات مسؤولة تؤدي حتماً إلى ما آلت إليه الأوضاع في المنطقة.
فمجرد اعتقال شاب أعزل بلا سبب وقتله برشاش كلاشينكوف من قبل رجل من
الدرك داخل الثكنة، أمرٌ كافٍ لأن يثير غضب الناس في أي مكان من الجزائر؛
فما بالك إن كان هذا الشاب من القبائل وقد قتل في قريته من دركي غريب عن
المنطقة ولا ينتمي للسان القبائلي؟ ! لكن أثر حادثة الاغتيال ظل محدوداً في قرية
الضحية وضواحيها، وظلت المطالب هي إعادة الاعتبار للشاب بعد أن اتهمه بيان
الدرك بكونه كان بصدد القيام بسرقة، ولم يثر الحادث ضجة ذات بال. لذلك
«عمدت الأوساط التي أرادت تفجير الوضع إلى افتعال أحداث أخرى باعتقال
تلاميذ من ثانوية أميزور بولاية قبائلية أخرى، ويعتقد بأن أوساطاً في الحكم
تدرك أن الوضع المتأزم في البلاد نتيجة اتساع رقعة الفقر والخطاب الرسمي
الذي يستفز العامة، وكذا النهج السياسي للرئيس بوتفليقة المعتمد على العودة إلى
خدمات» الحرس القديم «الذي سبب المآسي للجزائر في الثمانينيات سيؤدي حتماً
إلى انفجار عام بالبلاد لا تستطيع التحكم فيه شبيه بذلك الذي حدث في أكتوبر من
عام 1988م، وغيَّر مجرى سياسة البلاد، وأدى إلى زعزعة حكم بن جديد. لهذا
عمدت إلى افتعال أسباب انفجار في منطقة معروفة بكونها أكثر مناطق الجزائر
حساسية وقابلية للتحريك. وبهذا فقد سبقت السلطة الأحداث وإن خلفت قتلى
وجرحى وإتلاف الممتلكات فإنها في نظر هذه السلطة أخف الأضرار.
وتساءل الكثيرون عن الأسباب التي دفعت السلطة أو جناحاً منها هذه المرة
لتحريك الوضع في القبائل انطلاقاً من قتل دركي» عربي «شاباً قبائلياً واعتقال
دركيين» عربيين «شباباً من القبائل وضربهم!
الدور الفرنسي:
عندما تعرضت الجزائر للاستعمار الفرنسي في 5 يوليو تموز 1830م كان
أول من رفع لواء المقاومة ضد المستعمر الفرنسي هم الأمازيغ أو الأمازيغ
المسلمون ومن الثورات التي تصدّت للاستعمار الفرنسي ثورة المقراني والمقران
لفظة بربرية تعني الكبير وكان شعار ثورة المقراني الدفاع عن إسلامية الجزائر،
ولم يقاوم المقراني من أجل استرجاع الهوية الأمازيغية للجزائر، وقد أدركت فرنسا
خطورة هذه العقيدة فراحت تنبش في الذاكرة الجزائرية إلى أن اهتدى استراتيجيوها
إلى مبدأ التشكيك في الهوية الجزائرية، وبدأت حملة التشكيك من خلال تكوين
نخبة جزائرية مثقفة مشبعة بالفكر الفرانكفوني، وقد لعبت هذه النخبة المعروفة
جيداً لدى الشعب الجزائري أكبر الأدوار في تمزيق صفوف الحركة الوطنية؛ حيث
تمّ البدء في تصنيف الجزائري بأنه عربي، وبربري، وشاوي، وما إلى ذلك.
وكانت النخبة المذكورة ترى في إرهاصات الثورة الجزائرية على فرنسا
انحرافاً خطيراً باعتبار أن الثورة في مضمونها دعوة للانفصال عن الوطن الأم
فرنسا، ومع اندلاع الثورة الجزائرية فكرت السلطات الفرنسية في مختلف الطرق
التي تؤدي إلى تمزيق الثورة الجزائرية التي تبناها الجزائريون بمختلف مشاربهم
وانتماءاتهم العرقية، فوصلت فرنسا إلى أمرين لتمزيق الثورة الجزائرية من الداخل:
1- الورقة الأمازيغية.
2 - الورقة الجهوية.
فعلى الصعيد الجهوي نجحت فرنسا في إثارة النعرات الجهوية، فبات يسود
آنذاك بين الجزائريين بأن هذا من الغرب، وذاك من الشرق، هذا وهراني
وقسنطيني وقبائلي وهلمّ جراً.
وما زالت الجهوية تلعب دوراً كبيراً في التعيينات الوزارية والرسمية، بل إن
التوازن الجهوي يعدّ أساس الحكم في الجزائر.
وعلى صعيد الورقة الأمازيغية فقد نجحت فرنسا في إثارتها عبر آلياتها
ووسائلها؛ وذلك باتباع وسائل أهمها:
* مضاعفة النشاط التبشيري بين الأمازيغ، وتقديم الخدمات الصحية
والتعليمية وإقامة الكنائس في مناطق تواجدهم الكثيف مقابل منع العلماء المسلمين
من الوصول إليهم لتدريس القرآن الكريم واللغة العربية. ويذكر المراقبون أن هناك
ما يقرب من عشرين منظمة تنصيرية في منطقة القبائل تقريباً، وزعماء الحركة
الأمازيغية لا ينكرون أن الذي أوجد التيار الأمازيغي هم المنصرون المسيحيون
الفرنسيون؛ فقد صرح معطوب الوناس (اغتيل منذ نحو ثلاث سنوات) ، وهو
مطرب من أقطاب حركة الثقافة الأمازيغية بأن الذي علمني هويتي الأمازيغية هو
الأب (شارل ديكيرس) الذي اغتيل من طرف الإسلاميين مع رفاقه الثلاثة في
تيزي أوزو، مع العلم أن الراهب المذكور بلجيكي الجنسية متمرس في العمل ببلاد
القبائل؛ فهو يحسن التحدث بالقبائلية، وسبق أن ضبطه مفتش شرطة قبائل بمدينة
تيزي أوزو في سنة 1976م وهو يجمع في بيته مراهقين ومراهقات ويمرنهم على
ممارسة الجنس تحت عنوان التربية الجنسية، وقد قامت السلطات بطرده مع عدد
من رفاقه في عهد هواري بومدين، ومن الغريب أنه كان مستشاراً في التأهيل
المهني بوزارة العمل الجزائري التي كان يسيطر عليها الشيوعيون، وكان مزدوج
الجنسية إذ يتمتع بالجنسيتين الجزائرية والبلجيكية، ثم جاء الشاذلي بن جديد وفي
إحدى زياراته إلى بلجيكا توسط ملكها لديه للراهب المذكور، فسمح له بالعودة إلى
الجزائر؛ حيث بقي فيها إلى أن اغتيل، وهذا الوناس هو الذي وقف خطيباً أمام
الجماهير في مسيرة نظمت بمناسبة ذكرى ما يسمى بـ (الربيع الأمازيغي) وإلى
جانبه زوجة السيد سعيد سعدي رئيس حزب (التجمع من أجل الثقافة
والديموقراطية) حيث قال بالحرف الواحد:» لو بقيت اللغة الفرنسية رسمية
بالجزائر بعد الاستقلال مثلما كانت قبله، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه «.
* تزييف التاريخ لتعميق الهوة بين العرب والأمازيغ.
* محاولة إضفاء الصبغة العلمية الأكاديمية على دعاوى عنصرية من قبيل
(لاتينية) الأمازيغ، وتمايزهم تماماً: عرقياً، حضارياً، لغوياً، وتاريخياً عن
العرب؛ وصولاً إلى تبني اجتهادات فرنسية/ أمريكية لكتابة مفردات اللغة
الأمازيغية (الشفهية) بحروف لاتينية، في سياق محاولة ربط الأمازيغ بالثقافة
اللاتينية المسيحية.
* توفير حاجة الدعوة الأمازيغية من المؤسسات الثقافية لتكون ممارسة هذه
المؤسسات خارج الدولة الجزائرية، وبذلك يصعب التحكم في مخرجاتها ومنطلقاتها؛
فقد أسست فرنسا في عاصمتها باريس الأكاديمية الأمازيغية التي تولت وضع
معجم للغة الأمازيغية، وتشجيع نتاج الأدباء الأمازيغيين بهذه اللغة، ورعاية الثقافة
الأمازيغية بكل مفرداتها: الأغنية والموسيقى (موسيقى الراي) ، العادات،
والتقاليد، وفنون الأدب الأخرى.
* دعم العناصر المتفرنسة في سعيها لإقامة العقبات أمام مسيرة التعريب بعد
استقلال الجزائر عام 1962م، سواء بدفعهم طابوراً خامساً داخل مراكز صناعة
القرار، أو المؤسسات التعليمية، والتركيز على دعم سياسة الإحياء الأمازيغي التي
تنظر إلى اللغة العربية باعتبارها لغة أجنبية.
* التبني الدعائي لأحداث العنف التي اندلعت في مناطق الأمازيغ منذ بداية
الثمانينيات، ومحاولة الضغط على الجزائر الدولة، باتجاه الاعتراف بحق الأمازيغ
في التمايز الثقافي واللغوي من جهة، ودعم العناصر المعارضة ذات الأصل
الأمازيغي المقيمة في فرنسا من جهة أخرى خاصة عبر توفير المنابر الإعلامية
ووسائل الاتصال بالداخل.
* دعم يهود فرنسا والمنظمات اليهودية فيها كما ذكر البروفيسور رفائيل
يسرائيل في ورقة أمام ندوة لمركز بارايلان بالتعاون مع الخارجية الإسرائيلية
لمطالب الأمازيغ، وتقديم العون المادي والمعنوي لمنظماتهم النشطة في فرنسا،
ويشير (يسرائيل) إلى أن أكثر من نصف مليون بربري يعيشون في فرنسا، مما
ساعد على ظهور، وتشكيل جماعات وهيئات تتولى رعاية قضاياهم، وتؤيدهم في
ذلك المنظمات والمؤسسات اليهودية الأكثر التصاقاً واهتماماً بقضيتهم، ورعاية
مصالحهم وتبني طموحاتهم.
* الإعلان على لسان وزير خارجية فرنسا فيدرين خلال الأزمة الأخيرة أن
بلاده لا تستطيع البقاء صامته أمام القمع العنيف إزاء الاضطرابات في مناطق
القبائل، خصوصاً أن الجالية الجزائرية في فرنسا تضم عدداً كبيراً من أبناء هذه
المناطق ثم تأييد رئيس الوزراء جوسبان موقف وزير خارجيته.
* دعوة آيت أحمد الزعيم الأمازيغي المقيم في سويسرا عبر الإذاعة الفرنسية،
إلى تدويل المسألة الجزائرية، وتوجيهه نداء إلى كوفي عنان الأمين العام للأمم
المتحدة، والمفوضية العليا لمنظمة حقوق الإنسان، والرئيس الأمريكي بوش،
ورئيس الاتحاد الأوروبي، وممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى للسياسة الخارجية،
والأمين العام لحلف الناتو ورئيس الدولية الاشتراكية، باتخاذ مبادرات فردية أو
جماعية لتوجيه تحذير علني للسلطات الجزائرية (لمنع وقوع ما لا يعوض) !
وإعلانه في حديث آخر عبر الأثير (أن شبان القبائل مهمشون بعد مصادرة
ماضيهم وذاكرتهم وحاضرهم) .
وفي الآونة الأخيرة بدا النظام الجزائري أكثر ميلاً للارتماء في أحضان القوة
العظمى الوحيدة في العالم الولايات المتحدة التي يمكن أن يرتكز عليها في صراعه
وتثبيت نفوذه في الجزائر، وقام الأسطول الأمريكي السادس في البحر المتوسط
بعمل مناورات وتدريبات مشتركة مع الجيش الجزائري، وفي هذا السياق أيضا
تأتي الاتصالات السرية بين النظام وإسرئيل التي توجت بالمصافحة بين بوتفليقة
وباراك في المغرب أثناء جنازة الحسن الثاني، وهنا شعرت فرنسا بأن جهودها منذ
ما يقرب من قرنين سوف تذهب سدى؛ فهي التي صنعت على عينها طبقة
الفرانكوفونية وطبقة الأمازيغية وطبقة الضباط التي سلمت لهم الحكم قبل أن ترحل؛
وهاهم الضباط يتمردون، فشجعت، وتحركت لإسقاط الفصيل المتمرد على
هيمنتها ونفوذها وكانت أحداث القبائل فصلاً جديداً من فصول التدخل الفرنسي سبقه
الضجة المفتعلة التي أثيرت حول كتاب الحرب القذرة:
فلماذا في هذا التوقيت تم نشر الكتاب؟
وما سر اهتمام مثقفي فرنسا المفاجئ بمذابح الجزائر وتحميلهم للجيش
الجزائري مسؤولية هذه المجازر.... ..؟
لماذا هذه الأيام بالتحديد.... .؟
هذا الملف فتح منذ عام 1997م في لندن ومدريد على أيدي ضباط كثيرين
لاذوا بالفرار وقالوا الحقيقة، والغريب أن مثقفي فرنسا هؤلاء تراصوا وانفعلوا
واندفعوا يدافعون عن الجيش الجزائري، وشكلوا الوفود لتقصي الحقائق، وخرجوا
بنتيجة أن الإسلاميين وحدهم هم المسؤولون؛ فما الذي تغير؟
إن الإجابة على ذلك تكمن في رغبة فرنسا لجم هؤلاء الضباط المتمردين على
هيمنتها وإعادتهم إلى الحظيرة الفرنسية، وفي هذا السياق يأتي كما أسلفنا دعم
الأمازيغ وتشجيعهم وانتهاز فرصة الاضطرابات لدفع الأمور إلى الأسوأ.
الحركة الأمازيغية في الجزائر:
يتحرك العلمانيون الأمازيغ في الجزائر عبر عدة واجهات منها: السياسية
ممثلة أساساً في الأحزاب الأمازيغية، مثل جبهة القوى الاشتراكية، والتجمع من
أجل الثقافة والديمقراطية، ومنها الاجتماعية: مثل الحركة الثقافية الأمازيغية،
ومنها التيار المسلح للفصيل الأمازيغي: مثل الحركة المسلحة الأمازيغية التي أعلن
عن تأسيسها يوم 2 يوليو 1998م عشية تطبيق اللغة العربية، والتي تهدف حسب
بيانها إلى قتل كل من يطبق اللغة العربية، وكذا كل من يحارب المد الأمازيغي.
كما أن التيار الأمازيغي يتحرك بالمقابل في واجهة حكومية هي المحافظة
السامية للبربرية، والتي نُصّبت كهيئة استشارية للرئيس زروال عقب اتفاق مبدئي
مع ممثلي الرئيس في 22 إبريل 1995م بعد إضراب المحافظة في المدارس
بمنطقة القبائل والذي دام أكثر من 6 أشهر والتي خولت لها مهمة الإسراع بترقية
الأمازيغية.
هذه الهيئة الرسمية أبدت هي الأخرى على لسان ناطقها الرسمي جمال فرج
الله استياءها، ودعت الجمعيات الأمازيغية النشطة والمقدر عددها بـ 6000
جمعية، والتي تعنى كلها بتطوير المسألة الأمازيغية وترقيتها والدفاع عنها من
مجموع 12 ألف جمعية معتمدة في الجزائر إلى التجند لدراسة أشكال جديدة من
النضال لفرض الأمازيغية، التي تنشط منذ بروز» الظهير الأمازيغي «أو ما
سمي بالبيان الأمازيغي للسلطات الفرنسية في 1914م تحت رعاية السلطات
الفرنسية، وقد كللت هذه الرعاية بعقد أول مؤتمر للمكتب العالمي الأمازيغي في
المركز العالمي» بيير مونيسي «بقرية» سان روم دولان «جنوب فرنسا في
الفترة بين 1 و3 سبتمبر 1995م، بحضور 40 جمعية بربرية من (ليبيا،
المغرب، الجزائر، إسبانيا، ودول إفريقية وأوربية) ، وخلال المؤتمر وُزّع على
الحضور لأول مرة النشيد الوطني الأمازيغي، ويحمل اسم:» تورارت ن تيللي «،
وكان مكتوباً بالحرف الآرامي، واللاتيني، وردده الجميع أثناء حفل عشاء، ومن
توصيات المؤتمر:
1 - تدويل الواقع الأمازيغي عبر الهيئات الدولية للأمم المتحدة.
2 - الدفاع عن الثقافة الأمازيغية وصيانتها وتنميتها.
3 - اكتساب الوسائل المادية والمالية والتنظيمية من أجل تحقيق هذه
الأهداف.
4 - إعادة النظر في تاريخ شمال إفريقيا بما يخدم أهداف وطن الأمازيغ
المنشود.
هذه التحركات المشبوهة للجانب الأمازيغي بأجنحته المغاربية، والذي يتحرك
بتطرف كبير في العواصم الأوربية، يزيد الشك في حقيقة النوايا الأمازيغية.
لقد بدأ النضال من أجل الأمازيغية في العشرينيات من القرن الماضي أثناء
تأسيس حركة نجم شمال إفريقيا وتطور مع ظهور وتعدد الحركات السياسية
الجزائرية المطالبة بطرد الاستعمار الفرنسي، وكانت ثورة نوفمبر (1954
1962م) منعرجاً حاسماً في الحركات الجزائرية من العمل السياسي إلى الكفاح
المسلح ضد الاستعمار الفرنسي.
وبعد نجاح الثورة الجزائرية واستقلال البلاد في عام 1962م، واختيار نظام
سياسي يقوم على الحزب الواحد الذي يتمثل في جبهة التحرير الوطني الذي ذابت
داخله كل التيارات السياسية التي كانت موجودة قبل الانتقال من مرحلة النضال
السياسي إلى مرحلة الكفاح المسلح.
واعتبر النظام السياسي آنذاك المسألة الأمازيغية ليست من الأولويات؛ لأن
أهم مطالب الأمازيغ كانت متحققة وهي إبعاد اللغة العربية عن الجزائر، وتم منع
وحظر كل التيارات السياسية التي ترفض العمل من داخل أطر الحزب الواحد من
الاسلاميين (جمعية العلماء المسلمين) ، إلى (حزب الطليعة الاشتراكية) ، إلى
الأمازيغيين (الحركة الأمازيغية) ، لكن هذه الأخيرة وجدت مساندة من طرف
فرنسا، التي قامت عام 1963م بإنشاء ما يعرف بالأكاديميّة الأمازيغيّة وأشرف
عليها الكاتب القبائلي الفرانكفوني مولود معمّري، وقامت هذه الأكاديمية لتكون
المنطلق فيما بعد لتأسيس الحركة الثقافية الأمازيغية (الأمسيبي) .
وفي إبريل عام 1980م منعت سلطات ولاية تيزي وزو المنظِّر الأمازيغي
مولود معمري من إلقاء محاضرة بأحد المراكز الثقافية، فرد التيار الأمازيغي
بالدعوة لإضراب عام في 20 أبريل 1980م، وتفجر الوضع الذي أدى إلى تدخل
عنيف لقوات الأمن، واعتقلت عدداً من الوجوه التي لم تكن معروفة آنذاك، وحكم
عليها بالسجن لمدد مختلفة، هي اليوم من رموز التيار الأمازيغي بشقه الثقافي
والسياسي، ومنها سعيد سعدي، فرحات مهني، جمال زناتي، صالح بوكريف،
وغيرهم ... وأصبح 20 إبريل ذكرى يتم الاحتفال بها سنوياً تحت تسمية:
(الربيع الأمازيغي) .
عرف النضال من أجل ترسيم الأمازيغية تطوراً كبيراً مع دخول الجزائر عهد
التعددية السياسية والانفتاح الديمقراطي بعد أحداث أكتوبر عام 1988م مقارنة
بسنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بحيث أصبحت الحركة الأمازيغية
تتمتع بآفاق ومجالات أوسع للمطالبة بترسيم الأمازيغية في الدستور, بعدما كانت
المرحلة الأولى من النضال الأمازيغي تتسم بالسرية؛ لأن الحديث عن المطالب
الأمازيغية في بادئ الأمر كان يعرض صاحبه للسجن والعقوبات المختلفة؛ ولكن
مرحلة الانتقال من العمل السري إلى العلن حملت معها سلبيات على التيار
الأمازيغي، فانقسمت الحركة الثقافية الأمازيغية التي كانت المرجعية الوحيدة
للمطلب الأمازيغي، مع ميلاد حزبي: (جبهة القوى الاشتراكية) لحسين آيت
أحمد، و (التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) لسعيد سعدي إلى قسمين: اللجان
الوطنية للأمسيبي القريبة من حزب آيت أحمد ويتزعمها جمال زناتي، والتنسيقية
الوطنية للأمسيبي ويتزعمها فرحات مهني، ووصلت الخلافات وحدة الصراعات
ببن الطرفين إلى درجة دفعت التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية إلى التحالف مع
النظام العدو اللدود بالأمس ضد جبهة القوى الاشتراكية التي خرج حزب سعيد
سعدي من صلبها، وأصبحت مواقف الحزبين على النقيض تجاه مختلف القضايا
المطروحة في الساحة السياسية، وازدادت الهوة اتساعاً بينهما منذ بداية أحداث
العنف في الجزائر عام 1992م.
وفي عام 1995م أنشئت المحافظة السامية للأمازيغية بمرسوم رئاسي من
طرف الرئيس السابق الأمين زروال، على إثر الإضراب المفتوح الذي شنته
الحركة الأمازيغية في منطقة القبائل، والمقاطعة الشاملة للعام الدراسي وهو أول
اعتراف من جانب السلطة بالقضية الأمازيغية وتغيير استراتيجية التعامل مع
الحركة الأمازيغية من المواجهة إلى الاحتواء، ومنذ تنصيب المحافظة السامية
قامت بإدخال الأمازيغية في النظام التعليمي الأساسي والثانوي عبر 16 ولاية، إلى
جانب فتح فرع لشهادة الليسانس في الأمازيغية، وتأطير أكثر من 200 أستاذ
جامعي، وتخصيص نشرات إخبارية بالأمازيغية، في التلفزيون الجزائري،
وأصبحت قضية الأمازيغية تناقش داخل البرلمان؛ فقد أودع نواب حزب التجمع
من أجل الثقافة والديمقراطية سؤالاً للحكومة حول العراقيل التي تعترض عملية
تدريس الأمازيغية وتطويرها.
وتسعى الآن الحركة الأمازيغية إلى ترسيم اللغة الأمازيغية من خلال النص
على أنها لغة رسمية في الدستور الجزائري.
ومع انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للجزائر لم تسجل الحركة الأمازيغية
أي موقف بشأن تعاملها مع الحكم الجديد، وفي ظروف مشبوهة شددت الحركة
لهجتها، وشاركت في ملتقيات دولية ونظم بعضها بالجزائر ومن أبرزها الملتقى
الذي عقد بالجزائر في 22 إبريل 2000م ونتج عنه توحيد الحركات الأمازيغية في
تونس والمغرب وجزر الكناري ومالي والنيجر والجزائر، وشاركت بعدها هذه
الحركات في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي خصصت لعشرية حقوق الشعوب.
ولكن بمجرد تشكيل بوتفليقة لحكومته الائتلافية وضمه للتجمع من أجل الثقافة
والديمقراطية إليها خفت صوتها من جديد.
وفي إبريل الماضي بدأت مظاهرات منطقة القبائل من جديد منادية بالمطلب
الأمازيغي، وعندما لم يفلحوا في جر الفئات الأمازيغية الأخرى رفعوا شعارات
البطالة والمعاناة الاجتماعية، وطالبوا الشباب في الولايات الأخرى بالخروج
للشوارع، واضطر سعيد سعدي مكرهاً للانسحاب من الحكومة بعد الأحداث الدامية
التي شهدتها منطقة القبائل منذ 22 من الشهر الماضي للحفاظ على ما تبقى من
مصداقية له في المنطقة التي يستمد منها أساساً شرعية وجوده.
ويبدو أن أكبر حزبين في هذه المنطقة: (التجمع من أجل الثقافة
والديمقراطية) و (جبهة القوى الاشتراكية) بزعامة المعارض حسين آيت أحمد
يؤثران بشكل ما على الأحداث. لكن جبهة القوى الاشتراكية استطاعت أن تحافظ
على كثير من جسور الثقة مع السكان وجمعيات الأحياء والقرى، على عكس
(التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) الذي فقد أنصاره، وتحوّل المحايدون إلى
خصومه منذ انضمامه إلى الحكومة السنة الماضية ومنذ انتشار أنباء عن تواطئه مع
فصيل من قادة الجيش في سياستهم الهادفة إلى الحد من نفوذ الأمازيغ في الدولة.
لقد شجع هذان الحزبان مناضليه في العشرية الماضية على محو الحرف
العربي من الشوارع والطرق، وعناوين المحلات التجارية، ولم يترك سوى
الحرف الفرنسي، وصار هؤلاء يمنعون استعمال اللغة العربية في التظاهرات
الثقافية، ويجبرون المتحدثين على استعمال الفرنسية، فكم من محاضر مغاربي أو
جزائري زار ولايتهم طلب منه أن يتحدث بالفرنسية أو يسكت.
وليست المرة الأولى التي تنطلق فيها مظاهرات تخريبية في منطقة القبائل؛
ففي كل مرة تخرج هذه المظاهرات تخرب المرافق الحكومية والدولة تعيد بناءها
دون معاقبة المخربين؛ وآخرها الحوادث التي جرت كانت بمناسبة اغتيال المغني
معطوب الوناس سنة 1998م؛ لأن هذا الشباب ربته الأحزاب الأمازيغية العلمانية
على كره الإسلام؛ وهذه الأحزاب تعمل منذ عشرين سنة بتوجيه فرنسي على
القضاء على أخلاق الإسلام وخلق شباب لا انتماء لهم قيمياً؛ لأنها ترى أنه ما دام
الإسلام وأخلاقه قائماً فيصعب عليها تمرير خطابها المعادي للعروبة والإسلام.
وزاد من هذا المد اللاأخلاقي عودة المغتربين القبائليين من فرنسا بعد أن تقاعدوا؛
فقد عادوا بسلوك المجتمع الفرنسي وبالأموال؛ فبنوا دارات فخمة حلت محل
بساتين التين والزيتون المشهورة بها هذه المنطقة، وبين كل عشرين دارة تقام حانة
تتحول إلى موقع انحلال ... وهذا هو الذي يفسر لماذا يقوم شباب القبائل الحزبي
في كل مرة بمظاهرات تخريبية؛ لأنه تحول إلى شباب غير منتم دينياً وقيمياً،
يتصرف بحقد على كل ما هو إسلامي.. ومن مظاهر الحوادث المحزنة أن كل
سيارة تحمل رقم ولاية أخرى غير ولايتهم تكسر، بل وصل الحقد القبائلي أن
يُضرَب كل شخص يُكتشَفُ أنه عربي جزائري. وقد شاهد سكان حي الحراش
بالعاصمة شاحنات متوجهة لمسيرة حزب حسين آيت أحمد يوم 3/5/2001م،
تحمل شباباً يرسم إشارة الصليب على صدورهم وجبهاتهم، وظاهرة الصلبان
منتشرة بمنطقة القبائل بتشجيع من الأحزاب ومن الجمعيات الأمازيغية.
وعامل الفقر والبطالة التي تتحدث عنه وسائل الإعلام باعتباره العامل
المحرك للأحداث غير حقيقي.
فتعتبر منطقة القبائل أكثر منطقة جزائرية مستفيدة من الثروة الوطنية: فولاية
تيزي وزو أفضل ولاية بنت فيها الدولة منشآت معمارية، وتمثل البطالة بولايتي
بجاية وتيزي وزو أقل نسبة مقارنة بالولايات الأخرى. كما يمثل القبائل النسبة
الغالبة في الوظائف العليا سواء بالمؤسسات الحكومية أو في شركات القطاع العام.
وحتى في إطار اقتصاد السوق تنشأ ببلاد القبائل مصانع خاصة في صناعة الألبان
والأجبان والمياه المعدنية وغيرها من المواد ذات الاستهلاك الواسع وتوزع في سائر
القطر.
إن الجزائريين العاديين باتوا يشكون من تمييز أهل منطقة القبائل حتى إنهم
يرددون المثل الجزائري: (يأكل الغلة ويسب الملة) ، وأغلبية القبائل ضد هذا
لكنها واقعة تحت إرهاب هذه الأحزاب والجمعيات المشبوهة.
إن تمرد فئة من الأمازيغ لم يكن ليحدث في الماضي زمن تطبيق كتاب الله
وسنة رسوله؛ ففي هذا الزمن كان الناس ملتفين حول هوية العقيدة: الفطرة التي
خلقهم الله عليها، وتلاشت العصبية القبلية المنتنة، وعندما حُجِبَت شمس الشريعة
والآصرة التي كان يتجمع المسلمون عليها سهل عليهم تقبل نعرات وعصبيات
والعودة إلى جاهلية جديدة.
وهكذا تتقاطع مؤامرة أقطاب الحكم في الجزائر مع مصالح فرنسا مع جهود
طائفة متغربة لتصنع أحداثاً وتقلب موائد؛ ليعلم الله وحده إلى أين تتجه الجزائر؟