المسلمون والعالم
عبد العزيز كامل
كل حرب في التاريخ لها هدف ظاهر أو خفي، حقاً كان أو باطلاً، وبهذا
تجري سنة التدافع قدراً وشرعاً، حتى تضع الحرب أوزارها، قال تعالى:
[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) ، وثمة
فساد عريض في الأرض اليوم لا مناص من جريان سنن الله القدرية والشرعية
لاستنقاذ الإنسانية منه، بدفع أهل الإيمان على أهل الطغيان، وإلا فسدت الأرض
أكثر وأكثر.
ولا إفساد اليوم أعلى من إفساد كفار بني إسرائيل، من يهود ونصارى؛ ذلك
أن طوائف من النصارى قد لحقت حكماً باليهود في اعتقادهم وإفسادهم منذ زمان،
بل كادوا يسبقون اليهود في العلو في الأرض فساداً، أولئك هم طوائف الإنجيليين
الصهيونيين النصارى الذين صنعوا على أعينهم الصهيونية اليهودية في القرون
المتأخرة.
هناك عدد من الحقائق الماثلة اليوم تستحق النظر والتأمل فيما يحدث من
تواطؤ وتطابق بين الطائفتين المتزعمتين للفساد في الأرض عامة وفي بلاد
المسلمين خاصة، منها:
1 - نصارى الغرب وبخاصة البروتستانت هم أسبق من اليهود في اعتناق
المذهب الصهيوني في العصر الحديث، وهو المذهب الهادف إلى جعل (جبل
صهيون) [1] مرتكزاً لبعث الفكر الديني الكتابي المرتبط مكانياً بفلسطين وزمانياً
بالحقبة المشتركة بين ألفيتين.
2 - هؤلاء النصارى هم الذين أقنعوا اليهود وذكَّروهم ونظَّروا لهم لكي
يتجمعوا في فلسطين استقبالاً لأحداث آخر الزمان، وهم الذين خططوا ونفذوا
مشروع توطينهم فيها، وتكفلوا بحمايتهم ما بقيت دولتهم.
3 - هؤلاء النصارى منفردين أحياناً، ومشتركين أحياناً أخرى مع اليهود،
هم المسؤولون عن إبقاء الأمة الإسلامية في انشغال دائم بما يُدخلونه عليها من فتن
وحروب ونزاعات بسبب الحدود المصطنعة والعناصر والزعامات العميلة، وذلك
عبر سلسلة طويلة بدأت في العصر الحديث بإسقاط الكيان السياسي العالمي الأخير
للمسلمين (الخلافة العثمانية) ، والحيلولة دون إقامتهم كياناً عالمياً آخر،
باستخلافهم بعد الاستعمار لشرائح من المنافقين في أكثر ديار المسلمين، لضمان
عدم نهوض الأمة بالإسلام مرة أخرى.
والسؤال الآن: ما الذي دفع تلك الطوائف النصرانية للتواطؤ مع الطوائف
اليهودية في كل ذلك؟
إن الجواب عن هذا السؤال وأسئلة كثيرة مشابهة برز فيه اتجاهان مشهوران
لا يزالان يعتلجان في سماء الحقيقة، وسيظلان كذلك حتى تُرجِّح وقائع التاريخ
مصداقية أحدهما على الآخر.
أحد هذين الجوابين يتصدى «للإفتاء» به أنصار التفسير اللاديني للتاريخ
المعاصر؛ حيث يقولون إن القصة كلها مسألة مصالح استعمارية، سياسية أو
اقتصادية أو ثقافية، تنطلق من خلفيات مادية حياتية بحتة لا علاقة لها بالدين [2] .
إن هذا التفسير قد ساد وقاد مدة تفرُّد الطرح العلماني بالساحات الفكرية، حتى
ظل أنصاره يرددون مقولات التفسير المادي للتاريخ بشكل أو بآخر، مستنكفين عن
الاعتراف بأي دور لأي دين في تسيير وتفسير أحداث التاريخ المعاصر.
أما الاتجاه الآخر في الجواب على سؤال: لماذا فعل الغربيون النصارى ذلك
مع اليهود؟ فهو اتجاه مشترك بين بعض أصحاب الاهتمام الديني من اليهود ومن
النصارى ومن المسلمين أيضاً، وقد ظهر هذا الاتجاه وبرز مع بروز الصحوات
الدينية عند أتباع الديانات الثلاث.
فحوى هذا التفسير باختصار: أن العقائد الدينية التي أسهمت بدور رئيس في
توجيه مجمل أحداث التاريخ وصناعتها بقدر من الله في الماضي، لا تزال تصيغ
وتصبغ بدوافعها وتدافعها أحداث التاريخ المعاصر. وما حدث بشأن قضية النزاع
على الشرق الأوسط منذ ما يزيد على قرن ونصف، ما هو إلا فصل جديد معاصر
من فصول هذا الصراع بين العقائد.
إن هذا التفسير يعترف به كثير من الباحثين في الأصولية النصرانية الإنجيلية
في الغرب، وهذا التفسير أيضاً تقول به، بل تنادي به الآن عشرات من الجماعات
الأصولية اليهودية داخل (إسرائيل) وخارجها [3] .
وبما أن الباحثين في الغرب هم أصحاب الشأن في تفسير ما يقوم به قومهم،
فقد لفت هذا انتباه بعض الباحثين المسلمين، فطفقوا يخوضون في بحث أبعاد
القضية من جوانبها التاريخية والسياسية والثقافية، غير أن معظم هذه الأبحاث جاء
مفتقراً إلى مادة شرعية إسلامية تنضبط بها التحليلات والتفسيرات [4] .
ومن خلال مجمل أقوال الباحثين من أتباع الديانات الثلاث، ومن خلال
استعراض نتائج ما كتبوا في هذا الشأن تبينت حقيقة مُجْمَع عليها وهي: أنه كانت
هناك في الغرب فعاليات دينية مؤثرة استطاعت أن تقنع زعامات سياسية وفكرية،
بأن تتبنى فكرة (صناعة التاريخ المستقبل) في ضوء معطيات أهم كتاب للتاريخ
في التاريخ وهو التوراة من وجهة نظرهم وقد نجحت تلك الفعاليات في ذلك،
فنشأت نزعة دينية نصرانية يهودية تدعو لتوجيه ذلك التاريخ، بدعوى أنهم ينفذون
(خطة الإله) في السير بالتاريخ إلى منتهاه.
وتدور برامج هذه النزعة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر حول
عدد من الثوابت التي تنطلق من أن البشرية على مشارف نهاية التاريخ، وأن هناك
تسلسلاً زمنياً في الأحداث هو قدر محتوم، ولكن المشاركة في صنعه هو شرف
لكل من يشارك.
وهناك نقاط اتفاق ونقاط افتراق بين الفريقين اليهود والنصارى في تحديد
نوعية بعض الثوابت؛ فمن جهة طوائف النصارى برزت هذه الثوابت:
1 - لا بد من عودة المسيح عليه السلام ليحكم الأرض ألف عام.
2 - الألفية الثالثة النصرانية تصادف في شطر كبير منها الألفية السابعة
اليهودية التي سيختم بها التاريخ.
3 - عندما يعود المسيح، فسوف يؤمن به اليهود هذه المرة ويكونون من
خلاصة أنصاره، ومن سيكفر به فسيحرق بنيران الحرب العظيمة التي ستأكل كل
أعداء المسيح.
4 - لعودة المسيح المرتقبة ثلاثة شروط:
أ - لا بد أن تكون إسرائيل دولة.
ب - لا بد أن تكون القدس عاصمة لها.
ج - لا بد أن يعاد بناء قبلة أهل الكتاب التي هدمت بعد سبعين عاماً فقط من
ميلاد المسيح [5] .
أما من جهة الطوائف اليهودية التي اشتركت مع النصارى في تلك النزعة،
فإنها قد وافقتهم على مجمل تلك الثوابت باستثناء شيء جوهري وهو تعيين
الشخص المنتظر، فبينما أصر النصارى على أن المقصود في نصوص العهدين
القديم والجديد هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام واصل اليهود إصرارهم
القديم على أن المبتعث الجديد هو نبي أو ملك أو مخلِّص خاص بهم هم.
وتجاوز الطرفان الاختلاف بالاتفاق على العمل في الجوانب المتفق عليها،
مع تأجيل النقاش في الجانب المختلف فيه.
حروب كبرى لأهداف كبرى:
بالتأمل في مسار الأحداث الكبرى في منطقة (الشرق الأوسط) بعد أن
أصبحت محط أنظار المتحالفين المتخالفين من اليهود والنصارى، يستطيع المرء
أن يلمس أن هناك اتجاهاً محدداً يحكم هذا المسار، ليصل به عن طريق الدسائس
السياسية أو الحروب العسكرية إلى تحقيق تلك العلامات الثلاثة المذكورة والتي
أصبحت أهدافاً استراتيجية أبعد في مداها من كل الاستراتيجيات المرحلية الموقوتة،
وذلك وفق برنامج يظهر من تسلسل أحداثه أنه مقسم إلى مراحل زمانية ومكانية
منتظمة، وهو البرنامج الذي تستميت جهات مشبوهة في نزع صفة القصد أو
التآمر عنه حتى يبدو كأنه تسلسل طبيعي لمجريات التاريخ، لقد كان لليهود
وأوليائهم من النصارى دور خطير في إقحام كثير من بلدان المسلمين في منطقة
الشرق الأوسط وما حولها في عدد من الحروب الكبرى، لأجل (أن تصبح
إسرائيل دولة) ، وكانت بداية هذا التوريط ما كان في الحرب العالمية الأولى
(1914م) التي انتهت لتكون إحدى نتائجها البارزة بعد الحرب انتهاء تركيا،
وسقوط الخلافة الإسلامية فيها بعد ذلك بقليل، وليسقط بذلك الكيان الذي كان أكبر
عقبة على طريق توطين اليهود في فلسطين، ولتصدر بريطانيا بعد انتهاء الحرب
بقليل عام 1917م وعدها لليهود بوطن قومي لهم في فلسطين. ثم جاءت الحرب
العالمية الثانية لتكون من نتائجها: إعادة ترتيب المنطقة العربية لاستقبال واقع جديد،
وهو نشوء دولة يهودية بداخلها.
فما أن استقر شكل النظام العالمي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى
أوعز النصارى الإنجليز لليهود بأن يستعدوا لإعلان دولتهم في فلسطين، بعد أن
أمضت بريطانيا ثلاثة عقود في تأهيل اليهود لأن يكون لهم كيان مستقل في فلسطين،
وكان لا بد من أجل القفز إلى تلك المرحلة التأسيسية الخطيرة التي يتحقق بها
شرط: (أن تكون إسرائيل دولة) من تدبير وضع انقلابي جديد بالمنطقة يجعل من
ذلك الشرط أمراً واقعاً وتوجت الحرب جهود السياسة وأنضجتها نيرانها اللاهية.
حرب الهدف الأول: (إعلان الدولة) :
أطلق اليهود على تلك الحرب: (حرب الاستقلال) فقد كان هذا الاستقلال
في شكل دولة معترف بها دولياً هدفاً قديماً، تبلور في شكل مبكر على يد (تيودور
هرتزل) زعيم الصهيونية اليهودية الحديثة في كتابه (الدولة اليهودية) ، وكانت
الطريقة التي تقرر بها إعلان الدولة مستفزة للدول العربية آنذاك، ودافعة لها لأن
تبادر إلى الدخول في حرب لمنع جعل هذه الدولة أمراً
واقعاً، ولكن هذه المبادرة كانت مجرد قرار تعجل به السياسيون دون سابق إعداد
ودون إقرار من العسكريين، فقد نشبت هذه الحرب رغم أنف القيادات العسكرية
التي طلبت التمهل في دخول الحرب حتى تستكمل الجيوش العربية الإعدادات
والتدريبات والتنسيق فيما بينها.
إنه وبرغم الارتجال المتعجل في قبول العرب دخول الحرب دون سابق إعداد
أو استعداد، فإن روحاًَ من الفداء دبت في صفوف الجيوش العربية، حتى كادت
تحقق انتصاراً عسكرياً على عصابات اليهود، وهنا برز تعجل السياسيين مرة
أخرى وعدم حنكتهم، فقد قبلوا بسرعة قرار الهدنة الذي فرضه مجلس الأمن
الدولي، ذلك القرار الذي جاء لإيقاف تقدم الجيوش العربية ريثما يعيد اليهود
استعدادهم ويلتقطوا أنفاسهم! وهذا ما كان؛ فقد تدفق السلاح على اليهود من كل
مكان حتى استطاعوا بعد انتهاء شهر الهدنة من قلب الموازين لصالحهم، وتعجب
الأعداء قبل الأصدقاء من الطريقة التي أضاع الساسة العرب بها فلسطين، حتى إن
مناحيم بيجن كتب بعد ذلك يقول: «إننا لا نعرف حتى الآن كيف ولماذا قبلت
الدول العربية الهدنة، بعد أن كان الموقف العسكري لصالحها تماماً» [6] .
على أية حال، لقد وقع المحذور، وقامت دولة اليهود، وهزمت جيوش سبع
دول عربية أمام عصابات شبه عسكرية، وافتُتح بذلك مسلسل الأداء السياسي
الهزيل أمام العدو الحقير الذليل الذي حشد رغم ذلته مائة وستة آلاف مقاتل
صهيوني في مقابل خمسة عشر ألف مقاتل عربي في الجيوش السبعة.
لقد سُجِّل وصف (النكبة) للحرب في الجانب العربي في مقابل وصف
(الاستقلال) للجانب اليهودي، ونستطيع أن نقول هنا: إن كل ما سبق الحرب
من أحداث وما رافقها من وقائع وما تبعها من آثار إنما كان وبرغم فداحته
وخطورته (مجرد تفاصيل) لا ينبغي أن تشغل النظر عن الملمح الرئيس والهدف
الأساس لليهود في تلك المواجهة الكبرى الأولى، وهو (أن تكون إسرائيل
دولة) ، أما الساسة العرب، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي اضطروا فيها أن
يواجهوا شعوبهم بحصول الهزيمة الجماعية ولسان حالهم يقول: «عفواً ... لم نكن
مستعدين» !
حرب الهدف الثاني ( «تحرير» العاصمة) :
استغل اليهود فرصة الهدوء الذي استمر عقداً بعد حرب السويس
1956م [7] ، لكي يستعدوا لحرب الهدف الثاني التي أسموها (حرب التحرير) أي
تحرير القدس! فقد أظهرت كل الشواهد أن الهدف الرئيس لهذه الحرب كان هو
(أن تصبح القدس عاصمة) وذلك بتخليصها أولاً من العرب. ولأجل الاستفادة من
التاريخ سأستعرض فيما يلي ومضات مهمة من مسار أحداث تلك الحرب ومقدماتها،
التي تشبه إلى حد كبير جداً أحداث الأيام الراهنة التي نعيشها:
* كانت الأحداث قبل حرب 1967م بعام تشير إلى تصعيد إسرائيلي مشبوه؛
فقد شنت دولة اليهود في يوليو 1966م أي قبل الحرب بعام هجوماً جوياً على
سوريا، تحت ذريعة محاولات سورية لتحويل مياه نهر الأردن، وفي نوفمبر من
نفس العام أي بعد أربعة أشهر شنت هجوماً برياً على الضفة الغربية الواقعة آنذاك
تحت سيطرة الأردن بدعوى الرد على أعمال فدائية، وبعدها بشهر هدد (ليفي
إشكول) رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت بإعلان الحرب على العرب،
وهدد بضرب سوريا وغزو دمشق، وإسقاط النظام فيها.
* وفي النصف الأول من عام 1967م، صعدت (إسرائيل) التوتر في
المنطقة ثم أتبعته بشن هجوم آخر على سوريا في السابع من إبريل 1967م
اشتركت فيه نحو 60 طائرة إسرائيلية [8] ، وبعدها هدد إسحاق رابين مرة أخرى
باحتلال دمشق، وخيمت أجواء الحرب الشاملة بعد أن منح الكنيست الإسرائيلي
الحكومة كل الصلاحيات للقيام بما تراه للتعامل مع الموقف [9] وبدأ الإعلان عن
تعبئة بالجيش.
* اضطرت مصر وهي تتزعم وقتها حركة القومية العربية أن تتخذ بعض
الإجراءات العسكرية لإظهار التضامن مع سوريا، وكان الرد الإسرائيلي على
التحركات المصرية المحدودة أن تسلَّم العسكريون زمام السلطة في (إسرائيل)
استعداداً للحرب التي قالوا إن مصر قد أعلنتها بالفعل، حتى إن موشي دايان الذي
عُين بعد ذلك وزيراً للدفاع قال: «إن مصر هي العدو الحقيقي وليست سوريا،
وسنركز عملياتنا على مصر» !
* استكمل الجيش الإسرائيلي استعدادته انتظاراً لذريعة مناسبة تصلح أن تقدم
للعالم لتسويغ بدئها بالحرب، وجاءت تلك الذريعة بتقدم الحكومة المصرية بطلب
إلى قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة المتمركزة في سيناء أن تنسحب انسحاباً
جزئياً، حتى لا تظن القيادة السورية أن مصر ستتعلل بوجود تلك القوات في عدم
دخول الحرب ضد (إسرائيل) ولكن إدارة قوات الطوارئ لم توافق على الانسحاب
الجزئي وقالت: إذا أردتم الانسحاب فليكن انسحاباً كلياً. وهنا أُسقط في يد القيادة
المصرية، وابتلعت الطُعم، ووافقت على الانسحاب الكلي الذي صورته (إسرائيل)
أمام العالم بأنه إزالة للحاجز المانع من الهجوم على إسرائيل.
* أتبعت مصر هذا الإجراء بإجراء آخر وهو: إغلاق خليج العقبة أمام
الملاحة الإسرائيلية؛ لأن القوات المصرية اضطرت أن تحل محل قوات الأمم
المتحدة في كل المواقع التي انسحبت منها، ومنها منطقة شرم الشيخ التي تتحكم في
خليج العقبة، ولم يكن مناسباً وقتها أن تمر سفن إسرائيلية في منطقة تسيطر عليها
القوات المصرية، وكان هذا الإجراء المصري ذريعة أخرى إضافية أثارت بها
(إسرائيل) العالم ضد القيادة المصرية مصورة إياها بأنها تهدد حرية الملاحة العالمية
في أهم المضايق الدولية، ثم جاءت الذريعة الثالثة عندما أعلنت مصر توقيع اتفاقية
دفاع مشترك مع الأردن في 30 مايو 1967م، وعندها شكل (ليفي إشكول)
حكومة حرب، وجعل موشي دايان وزيراً للدفاع من أجل خوض الحرب التي كانت
خطتها جاهزة منذ سنوات.
* كان (سيناريو) إغلاق خليج العقبة واحداً من ستة (سيناريوهات)
وضعتها إسرائيل لجر مصر إلى الحرب واستعمال ذلك ذريعة للتعجيل بتلك
الحرب، وكان للسوفييت دور رئيس في تفعيل هذا السيناريو، عندما سربت
المخابرات الروسية معلومات كاذبة بحشود إسرائيلية على الحدود السورية، مما
عجل بالتحرك المصري الذي استغلته (إسرائيل) ، وهو تحرك كان ارتجالياً من
قيادة سياسية كانت متورطة في ذلك الوقت لشحمة أذنها في حرب فرعية فارغة من
حروب القومية العربية، هي حرب اليمن.
* كانت ميزانية القوات المسلحة المصرية قد وصلت أدنى حدٍ لها عام
1966م، ولهذا أُعلن عام 1967م وهو عام الحرب عام تقشف في القوات
المسلحة، وطال التقشف كل مصروفات التحديث والصيانة والتدريب، حتى مخابئ
الطائرات الحربية التي كان مقرراً تحديثها لحماية الطيران المصري أُلغيت في
ظروف صادفت وقوع أزمة اقتصادية في مصر أدت إلى وقف استيراد المواد
الاستراتيجية اللازمة للاستعمال العسكري، ووصل التخفيض في مخصصات الدفاع
على الجبهة الشرقية المسؤولة عن حماية سيناء إلى 30%، وأصبحت بذلك بوابة
مصر الشرقية بلا حماية كما قال الفريق صلاح الحديدي في كتابه (شاهد على
حرب 1967م) .
* لهذه الأسباب وغيرها كثير كانت مهمة اليهود في إنجاز خطة (ضربة
صهيون) [10] سهلة للغاية، وبالرغم من ضخامة تلك المهمة وخطورتها التاريخية؛
فقد افتتحت الحرب بساعات قلائل حددت شكل نهايتها، ففي صبيحة الإثنين 5
يونيو 1967م أقلعت كل الطائرات الحربية الإسرائيلية عدا 12 طائرة بقيت لحماية
الأجواء الإسرائيلية وسارت تلك الطائرات على شكل أسراب مجموعها 150
طائرة، لتنفيذ المهمات المعدة لها منذ سنوات [11] ، واتجه فريق من الطيارين
اليهود بطائراتهم نحو 19 قاعدة جوية في أنحاء مصر شمالاً وجنوباً، وفريق نحو
القواعد الجوية في سوريا وآخر إلى الأردن، ثم لبنان ثم العراق، ولم تمض خمس
عشرة ساعة منذ بدء الهجوم حتى كان الجنرال (موردخاي هود) يعلن أمام ممثلي
الصحافة العالمية أن (مذبحة الطيران) قد تمت ضد كل قواعد الطيران العربية،
وقال: «دمرنا 416 طائرة للعدو: (309) طائرة قتال مصرية، و (60)
طائرة في سورية، و (39) في الأردن، و (?) في العراق، وطائرة واحدة
في لبنان، ولم تخسر (إسرائيل) سوى 19 طائرة [12] ، ومعظم هذه الطائرات قد
تم تدميرها على الأرض قبل أن تحلق في سماء المعركة!
* أجهضت الضربة الجوية المفاجئة الخطة البرية الدفاعية لمصر، وكان قد
أُطلق عليها (قاهر) وتسبب ذلك في انكشاف الجيش المصري برياً، وتزامنت
المعارك البرية مع بدء الضربات الجوية في صبيحة 5 يونيو، ورغم هول كارثة
الطيران وما صاحبها من إحباط في صفوف القوات البرية التي شرعت تقاتل بلا
غطاء جوي؛ فقد أبلى الجيش المصري بلاءً حسناً في البداية وأنزل بالإسرائيليين
خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، حتى إن الكتيبة الإسرائيلية (54 دبابة)
المكلفة باختراق المحور الشمالي في سيناء كادت تفنى تحت وقع النيران
المصرية، ويقول العسكريون إنه لولا الذهول الذي سيطر على القيادة العسكرية في
القاهرة من جراء الضربة الجوية، لكان بالإمكان إعداد خطة هجومية مضادة، كان
من شأنها لو أعدت أن تغير مجرى المعركة [13] ، لكن هذا لم يحدث [وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً] (الأحزاب: 38) .
* لقد صدرت الأوامر إلى الجيش المصري في سيناء أن ينسحب دون غطائه
الجوي، وظلت الطائرات الإسرائيلية تلاحقه في عراء الصحراء ليلاً ونهاراً أثناء
انسحابه، حتى تم تدمير الجزء الأكبر منه دون أن يفرض مجلس الأمن هدنة كتلك
التي فرضها في حرب عام 1948م إنقاذاً لليهود، وحدثت مذبحة برية بموازاة
المذبحة الجوية، حتى ظن سكان مدينة السويس عندما شاهدوا سحب الدخان الكثيف
تنبعث من الدبابات المصرية المحترقة أن (إسرائيل) ضربت سيناء بقنبلة نووية!
* كان الاستيلاء على سيناء شرطاً مهماً لتأمين عملية الاستيلاء على القدس
ضد أي تحرش مصري ينطلق من غرب الكيان الصهيوني، مثلما كان الاستيلاء
على الجولان والضفة والقطاع إشغالاً لبقية الجيوش العربية حتى لا تفكر في إحباط
المخطط المرسوم سلفاً بإنجاز الغرض الصهيوني اليهودي النصراني الهادف إلى
(أن تصبح القدس عاصمة) ، الذي كان أبرز معْلَم وأظهر حقيقة فيما حدث في
حرب 1967م، أما ما سبق تلك الحرب وما رافقها وما أعقبها فإنه أيضاً ورغم
فداحته وخطورته كان (مجرد تفاصيل) . إذا قورن بذلك المعْلَم الكبير، وكانت
هذه هي المرة الثانية التي اضطر الساسة العرب فيها أن يواجهوا شعوبهم بحصول
الهزيمة الجماعية مرة أخرى قائلين:» عفواً ... لم نكن مستعدين «!
هل آن أوان الهدف الثالث؟
يوجد ما يشبه الإجماع الآن على أن ما يدور في فلسطين منذ أكثر من تسعة
أشهر هو شكل من أشكال الحرب الحقيقية، ويوجد ما يكاد يشبه ذلك الإجماع على
توقع أن تلك الحرب القائمة هي مجرد مقدمة لحرب أخرى قادمة، لن تكون
مقتصرة على الفلسطينيين، بل ستعم أماكن أخرى في المنطقة.
وتأمل معي هذه التصريحات التي قيل أكثرها في زمن متقارب:
* ياسر عرفات: إسرائيل تعد لحرب شاملة، وما مضى جزء منها.
* صائب عريقات (كبير المفاوضين الفلسطينيين) :» إننا في زمن حرب
ولا نملك رد الأذى عن أنفسنا «.
* أحمد قريع (رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني) :» نتوقع تصعيداً
عسكرياً واسع النطاق وليس محصوراً في مناطق السلطة الفلسطينية «.
* موسى عرفات (رئيس جهاز الاستخبارات الفلسطينية) :» نسبة اندلاع
حرب قادمة تصل إلى 60%، والحرب الحالية تهدف لإيجاد قيادة فلسطينية
بديلة «.
* طاهر المصري (رئيس الوزراء الأردني السابق) :» إسرائيل تريد
توجيه ضربة عسكرية إلى بعض الجيوش العربية كسورية ولبنان، لتستريح لفترة
طويلة «.
* الرئيس السوري بشار الأسد: إذا ضربت إسرائيل مرة أخرى فسوف نرد.
* د. جورج جبور (مستشار الرئيس السوري السابق) :» الوضع متأزم
وظروف اشتعال الحرب تزداد لحظة بعد لحظة «.
* بسام العسلي (محلل عسكري) :» قد تكون مزارع شبعا قاعدة للانطلاق
إلى الخط الفاصل بين سوريا والأردن «.
* رفيق الحريري (رئيس وزراء لبنان) :» الإسرائيليون يخوفوننا
بالحرب، ولكن المجتمع الدولي معنا «.
* سليم الحص (رئيس وزراء لبنان السابق) :
» احتمالات الحرب قائمة وليس من مصلحة بلد عربي الدخول في مواجهة شاملة
مع إسرائيل «.
* خليل الهراوي (وزير الدفاع اللبناني) :» احتمال نشوب الحرب وارد
جداً في ظل حكومة شارون «.
* الرئيس المصري حسني مبارك:» با قول لشارون: بلاش جر شكل ...
الوضع في المنطقة يتدهور ويزداد تعقيداً وأخشى أن يصل إلى نقطة اللاعودة «.
* عمرو موسى (الأمين العام للجامعة العربية) :» طائرات إف 16 لا
تستعمل إلا في حرب «.
* الفريق سعد الدين الشاذلي (رئيس هيئة الأركان المصرية السابق) :
» إذا استنفدت إسرائيل كل الوسائل الأخرى يمكن أن تشن الحرب، والدعم الأمريكي
لن ينقطع عنها حتى إذا هاجمت السد العالي أو أعادت احتلال سيناء «.
* د. أحمد عبد الحليم (الخبير الاستراتيجي) :» إسرائيل لا تستطيع
التعامل الآن مع واقع أقل من الحرب الشاملة، ولكن أستبعد خرقها لمعاهدة السلام
مع مصر « [14] .
لاحظ معي أن هذه التصريحات؛ تؤكد في مجملها أن هناك حرباً قائمة وحرباً
قادمة، وبعضها يتوقع أماكن اتساع الحرب. ولكن ألا تلاحظ أن أياً منها لم يتحدث
أو يتساءل عن الهدف من الحرب القائمة أو القادمة، أو المغزى من الحرص
اليهودي والسكوت الأمريكي على افتعال وإشعال واستمرار تلك القائمة لتوصل
للأخرى القادمة؟ !
إن بعض هذه التصريحات تتحدث عن ضرب سوريا أو لبنان، أو هما معاً،
ولكن أليس من المهم أن نتساءل: لماذا ضرب سوريا أو لبنان الآن؟ !
بعضها يتحدث عن التحرش بمصر، أفليس من المناسب أن نتساءل: ولماذا
التصعيد ضد مصر الآن؟ ! تصريحات أخرى تتكلم عن نية شارون في تنفيذ حلمه
القديم عن (الوطن البديل) للفلسطينيين في الأردن، وثانية تتناول في تحليلها عزم
الإسرائيليين على إعادة احتلال المناطق الفلسطينية بعد تفتيت السلطة الفلسطينية،
أو غزو لبنان والمقاومة الشيعية في الجنوب، كل هذه تساؤلات وطروحات معقولة
ولكن: أين التساؤل عن السبب الأساسي القابع وراء كل هذه الاحتمالات والنيات
على الصعيد الإسرائيلي؟ فإذا كانت الحرب يُخطط لها أن تقع، فلماذا تقع؟
إن اليهود لم يكونوا في يوم أكثر أماناً وسلاماً منهم في الأيام والسنوات التي
سبقت قيام الانتفاضة، وقد كان الجميع على وشك التوقيع لها بأن تدخل في عداد
الدول الصديقة أو حتى الشقيقة [15] ، والدول العربية كلها تستبعد خيار الحرب
وتتشبث كالغريق بخشبة (خيار السلام) فلماذا قلب اليهود للعرب ظهر المجن
الآن، ولماذا اختاروا على حين غرة طريق الحرب على طريق السلام بعد أن
صبروا عليه إلى قرب نهايته خلال عقد كامل؟ ! إنه سؤال طلسم كبير، ويحتاج
إلى إعادة التأمل في المراحل الكبرى من مسلسل الصراع الإسرائيلي منذ بدأ وحتى
الآن، وسوف أمر عليه في اختصار سريع:
الهدف الغامض.. محاولة للفهم:
1 - بعد ما أسماه اليهود بحرب (الاستقلال) ثم (حرب التحرير) صُدم
اليهود بما حدث في حرب أكتوبر 1973م، حيث شعروا بخطر حقيقي على توقف
ما أسموه:» تحقيق رؤى أنبياء إسرائيل «.
2 - زال هذا الخطر بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد 1977م، وإعادة سيناء إلى
مصر (منزوعة السلاح) في مقابل خروج مصر بشكل نهائي من حلبة الصراع
العربي الإسرائيلي.
3 - بقيام حرب لبنان 1982م التي غزا شارون فيها بيروت، والتزام مصر
بعدم التدخل، تأكد لـ (إسرائيل) جدية الالتزام في مصر بعدم خوض حرب
أخرى ولو اجتيحت عاصمة عربية وتأكد لـ (إسرائيل) أيضاً أن جبهة الصمود
والتصدي هي أسد من ورق!
4 - برز العراق أو هكذا صُوِّر على أنه قوة إقليمية طامحة إلى حيازة أسلحة
التدمير الشامل، فاختبرت (إسرائيل) استعداده للنزال معها فضربت المفاعل
النووي العراقي، ولم يرد العراق!
5 - ازدادت قوة العراق بعد خروجه منتصراً على إيران في حرب الخليج
الأولى، وأظهر الإعلام الدولي العراق على أنه رابع قوة عسكرية في العالم،
فأظهر الإسرائيليون خوفهم أمام العالم، وبخاصة بعد أن هدد صدام بحرق (نصف)
إسرائيل!
6 - تم التخلص من (ثلاثة أرباع) القوة العراقية قبل أن تلحق أي أذى
بنصف أو ربع أو عشر (إسرائيل) ، وانتهى آخر أمل عربي وفلسطيني بإمكانية
قيام قوة عربية رادعة لإسرائيل لسنوات طويلة مقبلة.
7 - تمهد الطريق بذلك لأن تتجرأ أمريكا وتطلب من جميع العرب أن
يسلِّموا بروح رياضية بسلام» الشجعان «مع (إسرائيل) ، وبدأ ذلك في زفة
(مدريد) الجماعية في حفل عرس أشبه بالجنازة؛ حيث تشعبت من الزفة أو من
الجنازة مسارات منفردة، كان منها المسار الفلسطيني الذي انتهى موكبه إلى
(أوسلو) ، والأردني الذي وصل إلى (وادي عربة) ، وضمنت إسرائيل بذلك
شريكين جديدين، وتطلعت إلى الشريك الرابع بعد مصر وفلسطين والأردن وهو
سوريا.
8 - تشبثت السوريون بمسار واحد مع لبنان، وكاد السابقون أن يتبعهم
اللاحقون عندما قبلت سوريا بلقاء مباشر مع إسرائيل في جنيف [16] برعاية
أمريكية، ولكن هذا اللقاء أو الالتقاء بالذات أَخفَق أو أُخفِق؛ مع أن القيادة السورية
وقتها كانت ذاهبة بروح (إيجابية جداً) !
9 - أُظهرت سوريا وحدها منذ ذلك الحين على أنها الدولة العربية الوحيدة
المستعصية على الاستسلام لإسرائيل، وظهر أن مؤتمر جنيف 1999م كان يهدف
إلى تعجيز السوريين بعرض ما لا يستطيعون قبوله إلا إذا قبلوا اتهام الشعب
السوري لقيادته بالخيانة [17] .
10 - ظهر أن تعجيز سوريا عن قبول السلام الإسرائيلي كان مقصوداً
ومدخراً لوقت لاحق؛ حيث أقبلت إسرائيل على الانسحاب من لبنان لتكشف الغطاء
عن سوريا، وتبطل حجتها في البقاء في لبنان.
11 - حرصت إسرائيل في الوقت نفسه على أن تُبقي على احتلال مزارع
شبعا اللبنانية، لتظل تلك المزارع مصدراً لتكديس الذرائع ضد سوريا ولبنان، عن
طريق اتهامهما بدعم حزب الشيعة اللبناني في الجنوب، وصُوِّر هذا الحزب ولا
يزال يُصور في تضخيم مقصود يشارك فيه الجميع على أنه أخطر ظاهرة واجهت
إسرائيل في تاريخها كله! !
12 - عندما جاء عام 2000م، وجاء معه موعد (الحل النهائي) للقضايا
الأساسية في القضية الفلسطينية، لاحت الفرصة لاختيار ثمرة التدجين الأمريكي
للسلطة الفلسطينية مدة عقد كامل، فحشر كلينتون المفاوضين الفلسطينيين مع
الإسرائيليين في منتجع كامب ديفيد، وقرر حبسهم فيه مدة أسبوعين، على أن لا
يخرجوا إلا باتفاق! اتفاق على ماذا؟ ! على ما يلي:
أ - أن تتنازل السلطة الفلسطينية باسم العرب جميعاً عن المطالبة بالقدس
عاصمة للدولة الفلسطينية، وأن تقبل بقرية (أبو ديس) عاصمة لها، بعد أن يُخلع
عليها اسم (القدس) !
ب - أن تتنازل السلطة الفلسطينية عن المطالبة بحق العودة لأربعة ملايين
لاجئ فلسطيني، وأن تقبل بتعويضهم في وقت لاحق (بأموال من؟) مع قبول
عينات منهم لكي يعودوا ضمن إطار إنساني رمزي تحت مسمى (لَمّ الشمل) !
ج - أن تتعهد السلطة أصالة عن نفسها، ونيابة عن العالمين العربي
والإسلامي بالتنازل عن ملكية ما أسماه اليهود (جبل الهيكل) ، وهو المكان
الذي توجد فيه الساحة المقام عليها المسجد الأقصى ومسجد الصخرة.
13 - انتهى مؤتمر كامب ديفيد الثاني بنجاح مخفق، أو إخفاق ناجح؛ فقد
احتار المحللون في وصف المؤتمر: هل أخفق أم نجح؟ ! وجاء جواب كلينتون
حاسماً؛ إذ صرح بعد ذلك أن مؤتمر كامب ديفيد: نجح في حل ما لا يقل عن 90
% من المسائل العالقة في مفاوضات الحل النهائي! فماذا يعني هذا؟ يعني أنه قد
تم قبول السلطة لأكثر المطالب الإسرائيلية، في مقابل قبول الإسرائيليين لمطالب
فلسطينية، وهذا ما درج باراك على تسميته بـ (تنازلات مغرية جداً) .
14 - لم يكن من هذه التنازلات (المغرية جداً) تنازل عن القدس عاصمة
موحدة أبدية لإسرائيل، ولا كان منها قبول بعودة اللاجئين، ولا منها التنازل عن
شبر من ملكية ساحة المسجد الأقصى، هذا على الجانب الإسرائيلي، أما على
الجانب الفلسطيني، فبشهادة كلينتون، تم الاتفاق على كل شيء باستثناء شيء قليل
جداً (10%) ولكنه خطير جداً بنسبة (100%) !
15 - أظهرت التسريبات والتصريحات والتحليلات بعد كامب ديفيد أن ذلك
الشيء القليل والخطير الذي لم يتم الاتفاق عليه، هو تنازل الفلسطينيين أو
الإسرائيليين عن ملكية ساحة المسجد الأقصى أو (جبل الهيكل) كما يسميه
اليهود، وأظهرت التسريبات أن ياسر عرفات أُلجئ إلى أضيق الزوايا كي يوقع
على هذا التنازل، حتى إن (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية السابقة، أمرت
بمنعه من الخروج وأمرت بإغلاق الأبواب، عندما أراد عرفات أن يخرج احتجاجاً
على هذا الإذلال!
16 - أدرك عرفات وقتها كما صرح بعد ذلك أن أمر التوقيع المطلوب منه
على التنازل عن المسجد الأقصى كان يساوي تماماً طلب التوقيع على إعدامه!
حتى إنه قال بعد كامب ديفيد:» قلت لكلينتون: لو وقعت فلسوف يقتلني أخي
موسى قبل أن يقتلني الشعب الفلسطيني «!
17 - أخفقت كامب ديفيد الثانية إذن، بسبب إصرار الجانبين الإسرائيلي
والفلسطيني على عدم التنازل عن ملكية ساحة الأقصى، ومنذ تلك اللحظة بدأ
الإسرائيليون كما أظهرت الأحداث في الترتيب لتنفيذ المخطط البديل (للحل
النهائي) ، وهو مخطط يستهدف فيما يبدو حل جميع القضايا العالقة معاً.
18 - فجَّر باراك وشارون معاً الأحداث داخل فلسطين، بتدبير قصة زيارة
شارون للمسجد الأقصى، ثم تنحي باراك مخلياً الساحة السياسية لشارون، ولسان
حاله يقول:» تفضل: فالمرحلة الآن لا يصلح لها غيرك «! وتسلم شارون
مفاتيح الشر من سلفه، وشرع بتدشين الحرب القائمة اليوم وعينه على الحرب
القادمة غداً.
19 - من أجل الحرب القادمة بدأ شارون يُدخِل المنطقة كلها في أجواء
حرب شاملة، وهدد بلسانه أو بلسان مقربيه كل الدول المحيطة، هدد مصر بنسف
السد العالي، وهدد الأردن بمشروع الوطن البديل، وهدد سوريا بضربها في
لبنان، وهدد لبنان بتأديبها بسبب حزب الشيعة، وهدد السلطة بتفتيتها إلى
كانتونات، وهدد العراق بعدم السكوت هذه المرة إذا تدخل في أي مواجهة قادمة،
ومع كل هذا فاللغة السائدة الآن أنه لا يوجد أي طرف عربي مستعد لحرب ضد
(إسرائيل) .
ولاحظ الجميع أن ولايات بوش المتحدة علينا، لم تنبس ببنت شفة ولو بلطف
رداً على ذلك الصلف الإسرائيلي، مما يدل على شيء من اثنين: إما أن أمريكا
عاجزة عن كف أذى الربيبة الحبيبة (إسرائيل) أو أنها راضية كل الرضى عن
(معاكساتها الشقية) التي ربما تدمر كل شيء في
المنطقة، بما فيها مصالح أمريكا ذاتها!
وأخيراً: اختلف المحللون، وما زالوا يختلفون: بمن سيبدأ شارون إذا بدأت
الحرب، ومتى سيبدأ؟ وهل سيضرب سوريا على أرضها، أم يكتفي بلبنان؟
وهل يدبر شيئاً ضد العراق الذي يقول إنه حشد ستة ملايين مقاتل لتحرير
فلسطين؟ ! هل سيتحرش بمصر أو (يجر شكلها) ؟ ! هل يعيد احتلال سيناء؟ !
أم هل يصل به الجنون إلى ضرب السد العالي؟ ! كل ذلك لا يستبعد على مستودع
الشر (شارون) .
لكني أصر على القول أيضاً بأن هذه كلها ولو حصل بعضها هي (مجرد
تفاصيل) أمام المعلم الكبير الغامض للآن وراء الحرب القادمة.
وإنني أرى أن كل هذه الاحتمالات، سواء وقع بعضها أو وقعت كلها، لن
تكون أكثر من قنبلة دخان تغطي على الهدف الأساس (الهدف الثالث) ، ذلك
الهدف الذي قد يخالف شارون توقعات الجميع لأجله أيضاً ويعود إلى طاولة
المفاوضات ولكن في حالة واحدة فقط وهي الحال التي يتأكد فيها من وجود من يقبل
التوقيع على التنازل المطلوب.. وبغير ذلك فالحرب ولا شيء غير الحرب؛ هي
طريق شارون أو من يأتي بعد شارون لاستكمال معالم الدولة اليهودية الدينية التي
ستظل جسداً بلا رأس ما لم يُعِد اليهود بناء قبلتهم التي كانوا عليها، والتي ما جاؤوا
إلى فلسطين ولا أقاموا الدولة ولا استولوا على العاصمة إلا من أجل الوصول إليها.
ولا أظن شخصياً، أن شارون أو من سيخلفه في الزعامة، سيفوت فرصة
استثمار الحماس النصراني الدولي الجارف الذي سيحصل، عندما ينظر هؤلاء
بعين العاطفة الدينية الحارة إلى (إسرائيل) أسطورتهم التي صنعوها وهي تخوض
في العام الأول من ألفية المسيح معركة الهدف الثالث أو (معركة الهيكل الثالث)
هيكل المسيح أو منبر المسيح كما يؤمنون وكما يتوقعون.
وبتعبير آخر: أرى صراحة أن هذه الحرب الشاملة لو قامت فستكون حرب
المسجد الأقصى كما أن الانتفاضة القائمة هي انتفاضة الأقصى. وهي الحرب التي
يحلم بها اليهود منذ أيام تأسيس دولتهم؛ حيث قال داود بن جوريون مرة في إحدى
خطبه في أوائل الخمسينيات:» إن شعبي الذي يعيش الآن على أعتاب عهد
الهيكل الثالث لا يستطيع التحلي بالصبر على النحو الذي كان يتحلى به أجداده «!
ويبدو أن صبر اليهود المعاصرين قد أوشك على النفاد، ويحتاج هذا الصبر
الفاجر إلى مصابرة مؤمنة تنسيه أحلامه، وتزجره عن فجوره.
هنا تساؤل أو تساؤلات: ما حال أمتنا وهي بصدد استقبال تلك المتغيرات
الجسيمة: هل يشعر أحد بأن شيئاً قد تغير من أحوالها؟ هل تم شيء من تجهيزها
أو تحفيزها؟ هل تم حشد قواها أو النهوض بمستواها؟ وما حال قادتها وساستها:
هل استعدوا هذه المرة أم سيضطرون كما هو الشأن في كل مرة أن يقولوا: (عفواً..
لم نكن مستعدين) ؟ !
سؤال آخر أهم من كل ما سبق: أين مكان الإسلاميين من كل هذا، وهم
يمثلون في صحوتهم الراهنة روح الأمة المستهدفة وقلبها وعقلها؟ ! أين دورهم؟
وما إمكاناتهم؟ وهل أعذروا إلى الله في التصدي لأعداء الله؟ وهل أدوا ما عليهم
أو شيئاً مما عليهم انتصاراً لحرمات الله؟ !
إنه سؤال المرحلة الذي يجب أن يسأله كل مسلم موحد لنفسه، وهو سؤال
ينبغي أن يُفتح حوله النقاش، وآمل أن يكون ذلك على صفحات عدد قادم بإذن الله.