مجله البيان (صفحة 3917)

دراسات في الشريعة والعقيدة

الحكم الظاهر على أهل الكبائر

ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي

لا شكَّ أن العبودية لله - تعالى - تتفاوت بين العباد «ذلك أن ألوهية الله

متفاوتةٌ في القلوب على درجات عظيمة تزيد وتنقص؛ ولذا كان تفاضلهم في

العبودية كبير لا ينضبط طرفاه» [1] ، كما قال الله - تعالى -: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ

الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ

بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32) ، فدل ذلك على أن العباد

المصطفين ليسوا درجةً واحدةً؛ بل ثلاثاً كما هو ظاهر الآية الكريمة:

- أدناها: الظالم لنفسه: وهو الذي يظلم نفسه بارتكاب المعاصي والآثام التي

هي دون الكفر [2] .

- أوسطها: المقتصد: وهو الذي يقيم الفروض، ويجتنب الكبائر وكثيراً من

الصغائر، وحظه من النوافل قليل؛ فهو غير مجتهد في عبادة ربه [3] ، بل عمله

في ذلك قصدٌ [4] .

- أعلاها: السابق بالخيرات: وهو المبرِّز [5] الذي تقدَّم المجتهدين في طاعة

ربه، وأداء ما لزمه من فرائضه [6] .

فهؤلاء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية هم الذين «تقربوا إلى الله بالنوافل بعد

الفرائض؛ ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات» [7] .

فالعباد إذن متقلبون في هذه الدرجات، متفاوتون في نصيبهم منها، وهذا لا

يعني أن أحدهم معصوم من الذنوب مطلقاً؛ فالمسلم ذو خطأ وهو غير معصوم،

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطَّاءٌ وخيرُ الخطائين

التوابون» [8] .

والحديث هنا سيكون عن صاحب الدرجة الأولى: وهو الظالم لنفسه لا غير،

وهو: صاحب الكبيرة من أهل التوحيد الذي لا يتورع عن فعل المعاصي

والمحرمات، وهذا له أيضاً ثلاث حالات: الأولى: أن يفعل الكبائر مستتراً بها،

والثانية: أن يجاهر بها، والثالثة: أن يزيد على المجاهرة الدعوة إليها، وهذه

أشرُّها حالاً؛ عياذاً بالله.

ومن خلال ما تقدَّم لا بد من ذكر أمرين مهمين وهما:

الأول: أن علماء المسلمين - رحمهم الله - قديماً وحديثاً قد تكلموا وكتبوا

كثيراً عن أحكام أهل الكتاب - اليهود والنصارى - وحذروا منهم، وكذا عن أهل

الأهواء من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة، لا سيما أهل المذاهب

المعاصرة كالماسونية، والعلمانية، والحداثية وغيرها. أما موقفهم وحديثهم عن

المجاهرين بالكبائر فلم يكن كبير همِّهم أو حديث وقتهم؛ بل تأتي أحكامهم تبعاً لأن

أهل الكبائر لم يكونوا يجرؤون على المجاهرة بمعاصيهم آنذاك فضلاً على أن يدعوا

إليها؛ وما ذاك إلا لقوة الإيمان وظهوره، ومتابعة السلطان وأهل الحسبة. أما اليوم

فانتكست المفاهيم، واضطربت الموازين؛ يوم أصبح أكثر المجاهرين بالكبائر هم

أهل الرأي وصناع القرار في كثير من بلاد المسلمين، ولذا اجتهدت ولله الحمد في

كتابة بعض الأحكام الشرعية نحوهم، وهي كثيرة تربو على ثلاثين حكماً.

الثاني: لا شك أن الكبائر كثيرةٌ جداً، وهي: كلُّ ذنبٍ ترتَّب عليه وعيدٌ في

الآخرة، أو حدٌّ في الدنيا، أو غضب [9] ، مثل الزنا، والخمر، والربا، وشهادة

الزور، والغيبة، والرشوة، والكذب، والغناء والمعازف ... إلخ، والأدلة على

تحريم ما ذكرناه كثيرة جداً، فمن أرادها فدونه كتاب «الزواجر عن اقتراف

الكبائر» لابن حجر الهيتمي.

وبعد هذه المقدمات العلمية، أقول: لا شك أنَّ لأهل الكبائر المجاهرين - إذا

ماتوا على فسقهم - أحكاماً شرعية كثيرةً، استخلصتها من كلام أهل العلم تبصرةً

للصَّالحين، وتحذيراً للعاصين؛ فهاك بعض أحكام من يتصف بهذه الصفات على

اختصار:

1 - أنه مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، عاصٍ بمعصيته، داخلٌ تحت مشيئة الله -

تعالى - إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، وأهل السنة لا يشهدون لأحدٍ بجنةٍ ولا

نارٍ إلا من شهد له الشرع بذلك.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: جواز الشهادة لمن اتفقت

الأمة على الثناء عليه، أو الإساءة به [10] .

2 - أنه لو مات على ذلك فخاتمته خاتمة سوء، عياذاً بالله، وهذا لا يعني

أنه كافر، ما لم يستحلها!

3 - أنه إذا لم يتبْ منها فيُبغَض على قدر ما معه من المعاصي؛ لأن قضية

الحب والبغض - الولاء والبراء - من أصول هذا الدين؛ ولذا وجب على المؤمن

أن يكون حبُّه وبغضُه لله - تعالى -، فيزداد حبُّه لأولياء الله، وبغضه لأعداء الله،

وربما يجتمع في العبد الواحد حبٌّ وبغضٌ؛ بحيث يُحَبُّ من وجهٍ ويُبغَضُ من

وجهٍ وذلك بحسب ما في الشخص من خصالِ الخير والشر!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا اجتمع في الرجل الواحد خيرٌ وشرٌّ

وفجور، وطاعة ومعصيةٌ، وسنةٌ وبدعةٌ: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه

من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في

الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا ... هذا هو

الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة» [11] .

والحكم للغالب؛ ولذا قد لا تظهر آثار الحب على الجوارح إن كانت خصالُ

الشرِّ في الشخص طاغيةً على خصال الخير إلا عند وجود المقتضي لذلك، أما

أصل المحبة والبغض فموجودان في القلب لا يلغي أحدهما الآخر؛ ما كان أصل

الإيمان موجوداً في الشخص [12] .

4 - أنَّ من جاهر بمعصيةٍ كبيرةٍ ولم يتبْ منها؛ فإنه إذا مرض لا يُعاد

هجراً له، وزجراً لغيره إذا كان ثمَّة مصلحةٌ راجحةٌ في ذلك.

وقد نصَّ بعض الأئمة على ذلك بقولهم: «يَحرمُ عيادة مجاهرٍ بمعصيةٍ إذا

مرض، بل يسنُّ هجرُه ليرتدع ويتوب» .

ونقل حنبلٌ: «إذا علم من رجلٍ أنه مُقيمٌ على معصيةٍ؛ لم يأثم إنْ هو جَفاهُ

حتى يَرجعَ، وإلا كيف يبينُ للرجلِ ما هو عليه إذا لم يرَ مُنْكِراً عليه! ولا جَفوةً

من صديقٍ» [13] .

وهو قول شيخنا العثيمين - رحمه الله: - «وأمَّا الفاجرُ من المسلمين بكبيرة

من الكبائر، أو بصغيرة من الصغائر وأصرَّ عليها: ففيه تفصيل أيضاً، فإذا كنَّا

نعوده من أجل أن نَعرضَ عليه التوبة، ونرجو منه التوبة فعيادتُه مشروعةٌ، إما

وجوباً، وإما استحباباً، وإلا فإن الأفضل ألا نعوده» [14] .

5 - أنه إذا مات لا يُصلِّي عليه وَلِيُّ الأمر، وإمامُ كلِّ بلدٍ، وأئمةُ الدِّين،

والوجهاءُ من عِليةِ القوم، وأيضاً لا يُدعى له؛ زجراً لغيره إذا كان ثمَّة مصلحةٌ

راجحةٌ في هذا الترك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «ولا يجوز لأحدٍ أن يترحَّمَ

على من مات كافراً أو من مات مُظهراً للفسقِ مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر.

ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مِثلِ فعله كان حسناً،

ومن صَلَّى على أحدهم يرجو رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحةٌ راجحةٌ؛

كان حسناً، ولو امتنع في الظَّاهرِ ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان

أوْلى من تفويت إحداهما» [15] .

قال المرداوي: «واختار المَجْدُ أنَّه لا يُصَلَّى على كلِّ من مات على معصيةٍ

ظاهرةٍ بلا توبة. قال في» الفروع «: وهو مُتَّجَهٌ» [16] .

وقال صاحب المطالب: «ولا يُسنُّ للإمام: الإمامِ الأعظم، ولا إمام كلِّ

قريةٍ وهو واليها في القضاء الصلاة على غَالٍّ نصاً ... لأنَّ النبي صلى الله عليه

وسلم امتنع من الصلاة على رجلٍ من المسلمين؛ فقال:» صَلُّوا على صاحبِكم «؛

فتغيرت وُجُوه القومِ، فقال:» إنَّ صاحبَكم غَلَّ في سبيلِ الله «ففتشنا متاعَه

فوجدنا فيه حِرزاً من حِرزِ اليهود ما يُساوي درهمين» [17] ، ولا على قاتلِ نفسه

عمداً؛ لما روى مسلمٌ عن جابرِ بن سمرة «أنَّ رجلاً قتلَ نفسَه بِمَشَاقِصَ؛ فلم

يُصَلِّ عليه» [18] ، وفي رواية للنسائي قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَّا أنا

فلا أصلي عليه» [19] ، فامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغالِّ،

وقاتل نفسِه، وهو الإمامُ، وأمر غيرَه بالصلاة عليهما، وأُلْحِقَ بهما ما سوى ذلك؛

لأنَّ ما ثبت في حَقِّه ثبتَ في حقِّ غيره، ما لم يَقُم على اختصاصه به دليلٌ « [20] .

وقال العثيمين - رحمه الله -:» ولو قال قائلٌ: أفلا ينبغي أن يُعدَّى هذا

الحكمُ إلى أميرِ كلِّ قريةٍ، أو قاضيها، أو مفتيها، أي: من يحصل بامتناعه النَّكال،

هل يتعدى الحكمُ إليهم؟ الجواب: نعم يتعدى الحكمُ إليهم؛ فكلُّ من في امتناعه

عن الصلاة نكالٌ فإنه يُسَنُّ له أن لا يُصلي على الغالِّ، ولا على قاتلِ نفسه «،

وهذا قول ابن تيمية وغيره من أهل العلم [21] .

وقد سُئل الشيخُ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: هل

تُكره الصلاةُ على غير الغالِّ، وقاتلِ نفسه؟ فأجاب:» الصلاةُ تُكره على غير

الغالِّ وقاتلِ نفسه، مثلِ المجاهرِ بالفسقِ والكبائرِ «، وقال أيضاً:» والمراد

بكراهةِ الصلاة على أهل الكبائر للإمام خاصةً، أو لأهل العلم والدِّين المقتدى

بهم « [22] .

وكذا يقول الشيخ الألباني - رحمه الله -:» الزاني ومدمن الخمر، ونحوهم

من الفساق؛ فإنه يُصلى عليهم؛ إلا أنه ينبغي لأهل العلم والدين أن يَدَعوا الصلاة

عليهم عقوبةً وتأديباً لأمثالهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم « [23] .

6 - أنه إذا مات على معصيته دون توبة فإنه يبعثُ يوم القيامة عليها.

فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:» يُبعثُ كلُّ عبدٍ على ما مَاتَ

عليه « [24] ، وفي رواية:» مَنْ مات على شيءٍ بَعثَه الله عليه « [25] ، فهكذا؛

الحاجُ يبعثُ ملبياً، والشهيد يبعثُ وجُرحُهُ يتفجَّرُ دماً، والسكرانُ يُبعثُ مخموراً،

والمغني يُبعثُ مغنِّياً!

7 - أنَّه إذا مات وهو مجاهرٌ بالمعصية، وظهر لغاسله شرٌ فله أن يُظْهرَه

ولا يَسْتُرَه ليرتدعَ غيرُه، ويعتبرَ مقلِّدُوه.

قال صاحب الكشاف وغيره:» وعلى غاسلٍ سَترُ شَرٍّ رآه؛ لأنَّ في إظهارِه

إذاعةً للفاحشة ... ثمَّ قال: «قال جمعٌ محققون: إلاَّ على مشهورٍ ببدعةٍ، أو فجورٍ

ونحوه ككذب، فَيُسنُّ إظهارُ شَرِّه، وسترُ خيرِه ليرتدعَ نظيرُه» [26] . وقال

المرداوي: «وقال جماعةٌ من الأصحاب: إن كان الميتُ معروفاً ببدعةٍ، أو قلةِ

دينٍ، أو فجورٍ ونحوه؛ فلا بأس بإظهارِ الشَّرِّ عنه، وسترِ الخيرِ عنه لتُجتنبَ

طريقتُه» [27] .

8 - وللمسلمين إساءةُ الظنِّ بمن مات مجاهراً بمعصيته. قال البهوتي وغيره

«ولا حرجَ بظنِّ السوءِ بمن ظاهرُه الشَّرُّ» [28] .

وقال العثيمين - رحمه الله -: «وأمَّا من عُرف بالفسوق والفجور، فلا

حرج أن نُسيءَ الظَّنَّ به؛ لأنه أهلٌ لذلك» [29] .

هذا ما تيسر إيراده، وبالله التوفيق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015