دراسات في الشريعة والعقيدة
الإصلاح التشريعي في مصر
من التأصيل المتعثر إلى الجموح العلماني ثم عودة
التأصيل نماذج النجاح والإخفاق
عبد العزيز بن محمد القاسم [*]
azalgasem@hotmail.com
استقرت الشريعة الإسلامية مرجعاً للقضاء في مصر منذ الفتح الإسلامي،
وكان أول انحراف منظم قد جاء مع تحكيم المماليك لبعض قوانين التتار [1] ، ومن
التحولات المهمة في تاريخ التشريع في مصر تعيين الظاهر بيبرس لأربعة قضاة
يمثلون المذاهب الأربعة [2] ، وقد أسهم ذلك في تشتيت القضاء، واستمر ذلك إلى
سنة 1516م حين حكم العثمانيون مصر، فعينوا قاضياً عثمانياً يشرف على القضاة
الأربعة [3] ، ثم صدر في عهد سليمان القانوني تنظيم قضاء الولايات العثمانية تحت
قضاة العسكر الذين يعينون نوابهم في الولايات على مذاهب أهلها، ثم صار القضاة
يُنصَّبون بإرادة سلطانية بعد انتخابهم من شيخ الإسلام بما فيهم قاضي مصر الذي
ينصِّب قضاة مصر [4] .
وفي آخر ولاية محمد علي صدرت إرادة سلطانية بتخصيص الفتوى والقضاء
بمذهب أبي حنيفة [5] ، ولما احتل نابليون مصر سنة 1797م وخرج لغزو الشام
خرج قاضي القضاة في مصر وانضم إلى أمير الحج في مقاومته للاحتلال الفرنسي،
فأمر نابليون بقطع صلة القضاء المصري عن الخلافة العثمانية، وطلب من
أعضاء الديوان والعلماء اختيار عالم شرعي يتولى القضاء، فاختاروا الشيخ أحمد
العريشي سنة 1214هـ/1799م، وكان الديوان عبارة عن محكمة ويتكون من اثني
عشر تاجراً نصفهم من الأقباط والباقي من المسلمين، وقاضيه الكبير قبطي ينظر
الديوان في أمور التجارة والمواريث والدعاوى، لكن هذا الديوان أخفق في مهامه،
فأعيدت ولايته إلى القاضي الشرعي، وكان مما قرره نابليون أنه: «سوف تكلف
القوة العامة بتطبيق القانون؛ لكنها سوف تكون تابعة على نحو صارم لقرارات
القضاة الشرعيين» [6] .
وبعد هزيمة الفرنسيين على يد القوات العثمانية والبريطانية في معركة أبي
قير وانسحابهم تولى محمد علي بعد اضطرابات شعبية انتهت باختياره وتوليته،
فمضى يعزز حكمه، وقد نصَّ الفرمان العثماني الصادر سنة 1841م الذي جعل له
ولاية مصر ولورثته على وجوب تطبيق القوانين والإجراءات الإدارية العثمانية
بمصر، ثم عدل ليكون التطبيق بما يتناسب مع أوضاع مصر، وقد صدرت سلسلة
من التعديلات على نظام الملكية والضريبة الفلاحية منذ بداية فترة محمد علي بما
فيها ملحق جنائي لقانون الفلاحة الصادر سنة 1830م، ويتضمن بعض المخالفات
الشرعية فيما يتعلق بالسرقة، وفي سنة 1839م صدر قانون السياسة الملكية
المتعلق بعقوبات موظفي الدولة.
وكان أكثر قوانين محمد علي ابتعاداً عن الشريعة القانون الصادر سنة 1844م
المسمى: (جمعية حقانية) ، وفي سنة 1845م أنشئت بالقاهرة والإسكندرية
محاكم خاصة للفصل في القضايا التجارية بين المصريين والأجانب، وفي سنة
1856م طبق في تلك المحاكم قانون التجارة العثماني المقتبس من القانون الفرنسي،
وفي سنة 1861م وسع سعيد باشا القضاء المختلط، فأسَّس مجلساً مدنياً مختلطاً
يضم سبعة أعضاء يرأسهم مصري ومعهم أجنبي وأرمني ويهودي، ويحضر
مندوب من القنصلية الأجنبية عند رغبته، واستفحل أمر القضاء المختلط حتى
بلغت الدول التي تطبق قوانينها في القضاء المصري المختلط 17دولة، ولم يكن
عدد رعايا تلك الدول مجتمعة يتجاوز ثمانين ألفاً. وتشمل القوانين المطبقة في
القضاء المختلط أنواع القوانين المحلية للدول الأجنبية، ويتحصل من ذلك كمية
هائلة من القوانين واجبة التطبيق؛ فكانت الفوضى قد بلغت منتهاها بهذا التنظيم،
كما كان الأجانب في المجال الجنائي في حصانة تامة أمام المحاكم المختلطة [7] ،
وكانت الشرطة لا تملك حق تفتيش منازل الأجانب مما أعطاهم نفوذاً كبيراً في
المجتمع، وأراد والي مصر إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي المتوفى سنة
1312هـ/ 1895م بمشورة من وزير خارجيته نور باشا أن يصلح تلك الفوضى،
فأسس المحاكم المختلطة سنة 1875م بعد أخذ موافقة خمس عشرة دولة أجنبية
لتتولى سلطة المحاكم القنصلية، وكان غالب قضاة المحاكم المختلطة أجانب، ففتح
الباب لتغلغل النفوذ الأجنبي في سلطتي القضاء والتشريع، فكان مشروعه إصلاحاً
عكسياً تدهورت معه مؤسسات القضاء والتشريع المحلية وخضعت للتغريب
الشامل [8] ، فطبقت تلك المحاكم القانون المدني الذي وضعه المحامي الفرنسي
مونوري مستنسخاً باللغة الفرنسية من القانون المدني الفرنسي استنساخاً
مخلاً [9] .
وفي سنة 1880م تألفت لجنة لوضع لائحة لمحاكم وطنية نظامية على غرار
المحاكم المختلطة، ومن بين أعضاء اللجنة محام إيطالي وهو قاض في محكمة
الإسكندرية المختلطة، وقامت اللجنة بوضع لائحة لترتيب المحاكم الوطنية الجديدة
صدرت سنة 1881م، وقامت اللجنة نفسها بوضع قوانين هذه المحاكم، فصيغت
على مثال القوانين المختلطة، ووضع (موريوندو) التقنين المدني الوطني
المصري، فنقله نقلاً شبه حرفي من القانون المدني المختلط، فصدر في سنة
1883م باللغة الفرنسية، ثم ترجم إلى العربية، ثم تتابعت القوانين في الصدور،
ولم يكن باعث إصدارها على النماذج الغربية هو الحاجة التحديثية بقدر ما كان
ناشئاً عن ضغوط أوروبية؛ ففي التقنينات الجديدة من العيوب والخلل والارتجال ما
يُجزَم معه بعدم منافستها للمدوَّنات الفقهية المقننة وعلى رأسها (مرشد الحيران)
الذي طبعته الدولة سنة 1890م [10] ، وقد كان بديلاً لمجلة الأحكام العثمانية التي
رفض الخديوي إسماعيل تطبيقها لما يوحي به ذلك من هيمنة الدولة العثمانية
عليه [11] .
ولننظر نموذجاً يبين ضعف الاستنساخ؛ فهذا أكبر القوانين التي وضعت وهو
القانون المدني الصادر سنة 1883م الذي يعتبر عمود التشريعات لاحتوائه على
تنظيم الالتزامات والعقود، وكبرى النظريات، فقد تضمن من الخلل ما يخل
بجوهر وظيفته. يقول السنهوري رغم تأييده لتحديث التقنين: «وأول ما يعيب
هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسي العتيق، فجمع بين عيوب التقليد
وعيوب الأصل الذي قلده؛ فهناك مسائل ذات خطر كبير.. ولا نجد لها أثراً في
التقنين الفرنسي.. فمبدأ التعسف في استعمال الحق ونظرية الاستغلال.. وحوالة
الدَّيْن والإعسار المدني كل هذه المسائل الخطيرة لا نعثر على نص واحد فيها لا في
التقنين الأصيل ولا في التقنين المقلد، وحتى فيما احتواه هذان التقنينان من
النظريات والأحكام منها فقد ورد ناقصاً مبتوراً.. ففي تقنيننا القديم فضول
واقتضاب، وفيه غموض وتناقض، ثم هو يقع في كثير من الأخطاء
الفاحشة..» [12] .
وأثناء الاحتلال البريطاني حاول البريطانيون توطين المفاهيم القانونية
البريطانية في النظام التشريعي المصري؛ فعين البريطانيون مفتشاً عاماً للرقابة
يدعى: (ماكسويل) ، ومديراً عاماً للإصلاح يدعى: (كليفورد لويد) وحاولا:
«ما بوسعهما لمراعاة المفاهيم القانونية البريطانية الأساسية في القوانين الجديدة،
فقاومهما وزير الحقانية آنذاك نوبار باشا، ثم حققوا نجاحاً جزئيا عندما فرضوا
مستشاراً بريطانياً لوزير العدل المصري سنة 1888م،:» وكانت هذه طريقة
البريطانيين في التأثير التدريجي غير الراديكالي حتى لا يثيروا اعتراضات
قوية « [13] ، وحين حاول البريطانيون إحداث تغيير كبير فيما عرف بمشروع
قانون» إصلاح الأخطاء والشواذ «كما سمَّاها (وليم برونيات) مستشار وزير
العدل قاومه المحامون ورجال القضاء بقوة فسقط، ونقل لتطبيقه في
العراق وطبق فيه [14] ، وكان ذلك آخر مراحل التغريب التشريعي
تقدماً وجذرية.
ثم بدأت موجة العودة للشريعة الإسلامية تدريجياً، وكان أول خطواتها صدور
القانون المدني الجديد سنة 1948م الذي صحح جوانب من الانحرافات السابقة، ولا
زالت المسيرة في تقدم على مستوى التأصيل والدراسة وفي جوانب من التطبيق،
لكن طريق العودة طويل وخاصة في جوانبه السياسية كما سيأتي.
ويتبادر إلى الذهن تساؤلات كبيرة عن تفسير حدوث هذه التغيرات الشاملة في
مدة متقاربة، وما الباعث إليها؟ وأين المؤسسات العريقة في مصر؟ أين الأزهر
والقضاء الشرعي؟ وأين الزعماء الوطنيون؟ وهل حدثت مقاومة لهذا التغريب
الهش المقفر من وجوه عديدة؟ وأين البدائل الشرعية؟ أليست الأمة الإسلامية رائدة
الحضارة الفقهية؟ والسؤال الأخير: ما تفسير استقبال أوروبا والعالم لثورة تنظيم
القوانين، والتحول من النظام العرفي ونظام السوابق إلى نظام التقنين؟
سأبدأ بالسؤال الأخير فأمهد به لمناقشة هذه القضايا.
ثورة التقنين في العالم وعلاقتها بحملة نابليون على مصر:
إن دراسة الظروف التي اقتحمت فيها القوانين الوضعية مجتمعاتنا واستخلاص
القدر المشترك بينها وبين واقعنا اليوم يقدم الأساس المتين لفهم التحولات وأسبابها
وخطوات ملء المنخفضات ومواقع الطلب التطبيقي التي تتسلل إليها النظم الحديثة
دون تصحيح ومعالجة، وما أشبه الليلة بالبارحة! فالدراسة تظهر أن الأخطاء
تتكرر برسمها وروحها وتفاصيلها تقريباً، ولتكون تلك الأخطاء هي الذرائع لتنحية
شريعة ربِّ العالمين، وفقه خيار الأمة لتحل محلها النظم والمراجع والثقافات
الوضعية بكل آفاتها الفلسفية والعقائدية، ويظهر بيقين من عبر التاريخ التي يأتي
على نماذج منها هذا المقال أن المبادرة والتحفز العلمي والفكري والعمل الإيجابي
البنائي لكفيل بحول الله - تعالى - أن يحصر التحول في الوسائل واستخلاص
مزايا الجديد دون تفريط بمفاهيم الشرع ومقاصده ومصادره، وهذا ما يدعو إلى
بيان ظروف الاحتلال التشريعي كما يسميه السنهوري في كتابه: (نظرية العقد)
الصادر سنة 1935م وتدارسها وإظهار خطوات العمل مما يستطيعه المتخصصون
في الدراسات الفقهية والفكرية والمحتسبون وأهل التخصصات القانونية، وتمهيداً
لذلك فلننتقل إلى ظروف الثورة التقنينية في أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص.
ظروف هيمنة حركة التقنين في أوروبا: ...
أدوات الهيمنة وانتهاك الحقوق:
استحكمت حلقات الهيمنة والاستغلال والظلم والتعدي على الحقوق على
الشعوب الأوروبية من قبل ثلاث سلطات وهي: الكنيسة، والإقطاع، والنظم
الإمبراطورية. وقد كانت الكنيسة تحتكر المعرفة بما في ذلك المعرفة القانونية
وتقاتل دون شيوعها وانفلات زمام السيطرة عليها من يدها، فحرمت كل من يخالف
اتجاهاتها وقراراتها، وقامت في سبيل ذلك بحملات التفتيش الهائلة على مدى قرون
طويلة، وأصدرت قرارات بعقوبات عظيمة ضد من يتجرأ على مخالفتها؛ وذلك
لحماية امتيازاتها الدينية والمادية التي كانت تهيمن عليها؛ فقد بلغت سلطتها إلى
مستوى توجيه سياسة أوروبا بكاملها، وقد أصدرت قرارات الحرمات ضد سلاطين
كبار مثل هنري الرابع. أما نفوذها المادي فيوضحه مراجعة خريطة أملاك الكنيسة
في أوروبا؛ حيث بلغت في مناطق وأزمنة عديدة ما يتجاوز ثلث الملكية العقارية؛
ونعلم ما تعنيه الملكية العقارية في أوروبا حيث الخصوبة وضيق المساحة وكثافة
السكان؛ ففرنسا على سبيل المثال في أول القرن التاسع كان يقطنها ثلاثون مليون
نسمة، وندرك مقدار النفوذ الكنسي المترتب على ذلك إذا قارنا ذلك بمصر التي لا
يصل سكانها في ذلك العهد إلى ثلاثة ملايين نسمه، أما التنظيم الإقطاعي فقد كان
تنظيماً شرساً لاستغلال الشعوب الأوروبية بنظام السخرة أي العمل بمجرد الغذاء
والمأوى دون ملكية أو حقوق معتبرة؛ فالتقاضي في الإقطاعية يخضع لسلطة السيد
خضوعاً مطلقاً عبر آليات متعددة منها ملكية النبلاء ونظام رق الأرض ليجعل
الإنسان:» في منزلة الحيوانات «.
ولنعلم فداحة ظلم التنظيم الإقطاعي فسنعرض لبعض الأمثلة؛ إذ كان يخضع
للنظام الإقطاعي في روسيا مثلاً أربعة أخماس السكان، وفي بولونيا يخضع سبعة
ملايين ونصف المليون من السكان لعشرة آلاف نبيل [15] ، ومع ظهور المفاهيم
والنظم السياسية الجديدة التي حلت محل السلطة الإقطاعية بشكل متتابع في أوروبا
لم يفقد النبلاء والكنسيون نفوذهم وامتيازاتهم المقننة بقوانين عرفية وكنسية جائرة،
وقد تكاملت مفاهيم ونظم الإقطاع والنظم السياسية التالية مع النظم والطموحات
الإمبراطورية ليتكون من تلك التجمعات مراكز القوة في القارة تصطرع من أجل
الهيمنة والنفوذ لتلتهم مقومات القارة البشرية والمادية في فترات حروب طويلة
يتخللها فترات سلم قصيرة أضنت الشعوب الأوروبية وهيأتها للثورة والتحول،
وكان من أخطر وسائل الثورة والتحول الطباعة وما تقدمه من إمكانيات التواصل
الذي لم يعرف من قبل.
حركات مقاومة نظم الهيمنة القديمة وتشريعاتها:
لقد مهدت عمليات التنظير المتواصل للحقوق، وكشفت المظالم الكنسية
والإقطاعية ونشوء المدن التجارية السبيل لمقاومة الجور القانوني الهائل الذي يلف
القارة عبر النظم المختلفة، حتى تجسد ذلك مع الثورة الفرنسية التي حولت الأفكار
النظرية إلى تجسيد يطابق بعض الأفكار حيناً ويهدمها أحياناً أكثر، لكنها كانت
الحركة الأعمق أثراً في مسيرة التحول نحو تحرير الحقوق.
لنقرأ بعض ملامح ذلك الصراع الفكري؛ ففولتير مثلاً تولى الحملة على
الكنيسة مردداً العبارة التي عرف بها:» لنسحق الشائنة «، يعني بها الكنيسة،
وتلك كانت نزعته طيلة حياته، واعتقد الجمهور:» أن محاربة الإكليروس طبقة
رجال الكنيسة قد تكفي لتقويم الحكومات ولجعل المجتمعات كاملة وللإيصال إلى
السعادة «فانتشر الإلحاد في كل مكان، وقدم رجال الكنيسة تنازلاتهم في محاولة
لمقاومة الاجتثاث، ونادوا بالمتدين المستنير الذي يجمع العلم مع التدين المسيحي،
ولم يوقف هذا تلك الهجمات وانتصاراتها، ولم تكن هذه الحال قاصرة على الكنيسة
الكاثوليكية؛ بل أدركت الكنائس البروتستانتية المنفتحة فنزلت بها:» مصائب
مماثلة.. - قادت إلى - نزعة عامة إلى المذهب العقلي والدين الطبيعي
والأخلاق « [16] . وعلى الجانب الآخر خلخلت دعوات المساواة ثقافة الإقطاع؛
ففي سنة 1754م نشر جون جاك روسو كتابه الأشهر:» خطبة في منشأ وأسس
التفاوت بين البشر «، ثم تبعه العقد الاجتماعي ليؤسس العلاقة في الشراكة
الاجتماعية تأسيساً قانونياً [17] باحثاً عن العدل المفقود في النظم الأوروبية، فقال
بمبدأ العدل والفضيلة المطبوعة في أعماقنا، فيلتقط (عمانوئيل كانط) ذلك
وينطلق ليؤسس لقواعد الأخلاق بما فيها العدل في فلسفته النقدية، وليقدم تأصيلاً
فلسفياً بدرجة ما للمحافظة الاجتماعية خلافاً لاتجاه الفلسفة الفرنسية المتشدد.
لم تقف المعاقل القديمة أمام الفكر الإصلاحي المنادي بإزاحة الظلم الاجتماعي
بأنواعه المختلفة، واشترك في المعركة فلاسفة الأرستقراطية المحافظة وعلى
رأسهم في المجال التشريعي (مونتيسكو) صاحب المدونة الشهيرة (روح الشرائع)
فحاول أن يثبت أن الدساتير السياسية ترتبط بنواميس طبيعية توجدها كظروف
الإقليم والتربة وطبيعة الشعوب وأخلاقها متخذاً من ذلك الحجة لئلا يمس الدستور
الفرنسي وطبقة الأشراف الفرنسية بحجة حق الفتح، وينتهي إلى أن العدل والحق
قيمة يحددها الواقع ليضفي المشروعية بذلك على النظم القائمة وما فيها من ظلم
طبقي وتشريعي [18] .
الثورة الفرنسية.. نفوذ وثقافة تبحث عن رسالة:
في ظل هذه التحولات الكبيرة في عقل القارة وضميرها ونظمها اشتعلت
الثورة الفرنسية، وأجهزت على نظام الإقطاع، والكنيسة لتنطلق طاقة الثورة
وتندلع آثارها في أرجاء أوروبا، فزلزلت أنظمتها ومراكز قواها وأفكارها التقليدية،
وكان من أنفذ وسائل الثورة والتحول المضامين الثقافية والحقوقية.
في هذه الأثناء كان التنافس الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا في ذروته،
وكان أهم مراكز النفوذ البريطاني الداعمة لاقتصادها المستعمرات البريطانية في
الهند باعتبارها مصدر المواد الخام وسوقاً كبيرة للمنتجات البريطانية، وقد أدرك
الاستراتيجيون الفرنسيون أهمية مصر لخنق الاقتصاد البريطاني بتضييق الطريق
الرابط بين بريطانيا والهند [19] ، وكان للمذكرة التي قدمها رئيس الجالية الفرنسية
في مصر ويدعى: (مجالون) سنة 1798م لوزير الخارجية الفرنسي (تاليران)
أثر حاسم في تغيير استراتيجية فرنسا تجاه مصر، قدم على إثرها تاليران لحكومته
تقريره مبيناً فيه الظروف الاستراتيجية المواتية لاحتلال مصر ومن ذلك سوء إدارة
المماليك وعجزهم عن المقاومة، وفي سنة 1798م صدرت أوامر الحكومة
الفرنسية لنابليون بأن يجهز الحملة لاحتلال مصر. وبالفعل احتل نابليون مصر،
واستعدى ذلك بريطانيا فتحالفت مع العثمانيين وهزموا الأسطول الفرنسي في معركة
أبي قير، فانسحب نابليون وخلَّف وراءه القائد الفرنسي كليبر الذي قتل، ثم
انسحبت القوات الفرنسية تنفيذاً لاتفاقية دولية بين فرنسا من جهة والعثمانيين
والبريطانيين من جهة أخرى.
نابليون يصدر قانونه المدني بعد عودته من مصر:
في هذا المناخ الثقافي والسياسي التنافسي المتوتر بزغ فجر تحول تاريخي
عالمي عظيم في المجال التشريعي استهلته فرنسا بإصدارها القانون المدني الفرنسي،
وهو أول قانون مدني يصدر في أوروبا، وقد صدر بدعم كبير من نابليون حيث
عارض الجمهوريون المشروع، فرفض المجلس التشريعي الأبواب الأولى منه،
فسحب نابليون المشروع ثم كرَّ بحركة بوليسية تمكن بها من السيطرة على المجلس،
فوافق على القانون في مارس سنة 1804م وذلك بعد أقل من خمس سنوات من
عودة نابليون من مصر [20] ، ثم تبعه قانون المرافعات المدنية الفرنسي، والقانون
التجاري الفرنسي سنة 1807م، وقانون الإجراءات الجنائية الفرنسي سنة 1808م،
وقانون العقوبات الفرنسي سنة 1810م.
وقد أدت حركة التقنين الفرنسية هذه إلى جدل فكري أوروبي عريض شارك
فيها الفلاسفة ورجال القانون؛ ففي ألمانيا مثلاً كان أبرز معارضي التقنين (سافيني)
أحد أنصار المدرسة القانونية التاريخية التي تعتقد أن القانون ثمرة الحركة
الاجتماعية، وأن تقنينه يؤدي إلى الإخلال بوظيفته بحسب هذه المدرسة [21] . وفي
المقابل كان (تيبو) من أبرز مؤيدي التقنين، وأصدر رسالته في هذا المعنى سنة
1814م، وقد تراجع معارضو التقنين. وبمساعدة من الظروف الطبقية
والاجتماعية والفكرية والثورية التي تقدَّمَ إيجاز لملامحها اكتسحت حركة التقنين
أوروبا والعالم كله حتى قيل بأن:» أهم الخصائص المميزة لهذا العصر الحركة
العامة للتقنين في أوروبا وأمريكا وكذلك في بعض دول آسيا وأفريقيا « [22] وكان
هذا التحول أحد أوجه التأثير الحركي العالمي للثورة الفرنسية، ومن المفارقات
الظاهرة هنا العلاقة الخفية بين الثورة الفرنسية الغازية المنتصرة على مصر - قبل
تدخل العثمانيين والإنجليز - والتحولات التشريعية في فرنسا. وبعبارة أخرى:
هل كانت مصر والفقه الإسلامي في عزلة عن هذا التحول التشريعي في فرنسا
والعالم من ورائها؟
إن الإجابة على هذا التساؤل يفرض قدراً من الحذر لتحقيق الموضوعية في
هذه المسألة، فلا يجوز الإبحار في أوهام حالمة تربط كل حركة في أوروبا بتراث
المسلمين؛ لكن في الوقت نفسه لا يجوز الصمت أمام النقل غير المشكور من ثقافة
المسلمين الذي تمارسه أوروبا وقد اكتشف في مجالات عديدة تتبعها بعض مؤرخي
الفكر.
علاقة قانون نابليون بالفقه الإسلامي:
لقد حققت أوروبا تقدماً في مجالات الفكر السياسي والقانوني، وتطور عبر
حقب من الزمن إثر علاقاتها مع العالم الإسلامي ونشاطات مفكريها، وهذه مسألة
تاريخية معروفة [23] ، غير أن ما يهمني هنا هو العلاقة المباشرة بين حملة نابليون
على مصر وصدور التقنين المدني الفرنسي المعروف بقانون نابليون.
تكشف حوادث تاريخ الحملة الفرنسية أن نابليون قد تعامل مع علماء الشريعة
في مصر، وتعرَّف على جوانب من أحكامها، وقد حاول أن يهيمن على توجهاتهم،
فواجهته عقبة الصمود الفقهي وجعلته يتراجع في حالات كثيرة أبرزت أمامه
مفهوم الشريعة وقدسية أحكامها ونفاذها، وكان نابليون يعلم بمشورة المستشرقين
عمق علاقة المسلمين بأحكام الشريعة، ويسمي الأزهر: (سوربون الشرق) ،
وعلماؤه هم:» الذين يصوغون الرأي العام، ومن ثم فإن عليه ربط السلطة
الفرنسية ربطاً وثيقاً برجال الدين هؤلاء « [24] وقرر أن تُحْكَم القاهرة عبر ديوان
مؤلف من تسعة أشخاص معظمهم من العلماء، ثم قرر في سنة 1799م أن الجرائم
التي تقع في مصر إنما يرجع اختصاص النظر فيها بشكل طبيعي إلى المحاكم
الإسلامية ما عدا ما يهدد الأمن العام وما يخص الفرنسيين [25] .
وقد درس علماء الحملة الفرنسيون الشريعة ضمن مكونات الثقافة المصرية
الإسلامية برعاية مباشرة من القائد الفرنسي كليبر الذي أمر بتكوين لجنة لدراسة
مصر الحديثة تتكون من مجموعة من العلماء المقربين من كليبر، وذلك قبل سنة
1799م، ليبدأ برنامج دراسة مصر في المجالات الحضارية والطبيعية المختلفة،
وكان في صدارتها التشريع، لاحظ هذا في نص تاريخي عن الحملة يقول:» إن
جميع جوانب مصر الإسلامية واردة في البرنامج: التشريع، الأعراف المدنية
والدينية، الإدارة، الشرطة، الحكم والتاريخ.. «، [26] . لم تكن الهمة العلمية
باهتة أو هامشية؛ لقد كانت واضحة المعالم جلية الأهداف، ولنترك الناشر الذي
كلفه الجنرال كليبر بالمهمة ويدعى (الألزاسي) يوضح ذلك؛ فقد كتب مخاطباً
حكومة بلاده عن علماء الحملة بقوله:» إن الذين يملكون هذه المجموعة مستعدون
لأن يجعلوا عملهم متاحاً للجميع تحت إشراف الحكومة.. هذا المشروع الذي سوف
ترحب به كل حكومات أوروبا.. إن الأبحاث المتعلقة بالحالة الراهنة والحديثة
لمصر إنما تقدم موضوعاً مهماً للفلسفة وللسياسة. فالقوانين والعادات والتاريخ
والحكم والصناعة والتجارة.. تستحق دراية أشمل بها لا يمكن انتظارها من الرحالة
الفرنسيين أو الأجانب الذين سبقونا، وقد جمعت الأشخاص الذين بدوا لي أكثر
ملاءمة للتنافس في هذا العمل، ومنحتهم كل السلطة والإمكانات التي يحتاجون
إليها « [27] .
لقد كان هؤلاء العلماء يدركون أنهم أمام ثروة عظيمة، فاستعصى عليهم
التعامل فيما بينهم استئثاراً من بعضهم بما أدرك من تلك الكنوز. يقول ناشر العمل
الموسوعي ذاك:» إن هؤلاء العلماء الذين انهالت عليهم الغنيمة التي كانوا معتزين
بها عن حق كانوا يحيون في حذر متواصل أحدهم من الآخر، وكانوا يرفضون
تبادل بحوثهم فيما بينهم.. والحال أن الجنرال كليبر قد جمعهم عدة مرات عنده دون
أن يتمكن من التوصل إلى شيء حاسم، وفي نهاية الأمر خطر له أن يقترح عليهم
أن أكون ناشراً لهذا العمل المهم، وقد وافقوا على ذلك، وأرسل الجنرال في
طلبي.. وقد وقَّع الجميع على هذا الاتفاق « [28] . وبذلك يعتبر بعض
المؤرخين الفرنسيين أن:» التركة الأساسية لحملة مصر هي تركة علمية
وإيديولوجية ونحن ندين لها بهذا الأثر المهم (وصف مصر) وهو عمل يثير
الإعجاب، ويكمن في أساس أية معرفة علمية عن مصر أكانت مصر القديمة أم
مصر الإسلامية « [29] .
ولم تكن البحوث المباشرة لعلماء الموسوعة في وصف مصر هي المصدر
الوحيد لتأثير الفقه الإسلامي على قانون نابليون، بل يمكن تتبع مصادر أخرى،
منها ما ذكره بعض المؤرخين عن اصطحاب نابليون لمجموعة من كتب الفقه
والأحكام حين انسحب قافلاً من مصر. ولاحظ هنا أنه انسحب في ظروف هزيمة
عسكرية وتدهور سياسي خطير للموقف الفرنسي في أوروبا بعد هزيمة الجيوش
الفرنسية أمام التحالف الأوروبي في جنوب القارة. يقول المؤرخ محمد فريد بك
المحامي:» وكذلك فعل نابليون الشهير حينما دخل مصر في أوائل القرن الثالث
عشر من الهجرة؛ فإنه أخذ كثيراً من كتب الفقه وأحكام الشريعة الغراء « [30] .
من خلال هذه الحقائق يمكن أن نستنتج بوضوح اكتشاف الفرنسيين للفقه
الإسلامي، ودوره الكبير في المجتمع المصري المسلم، وبهذا سيكون من الصعب
افتراض المصادفة المحضة حين يُصدِر نابليون القانون المدني بعد عودته من مصر
بأربع سنوات وبضعة أشهر، وتتحول هذه القرائن التاريخية إلى أدلة واضحة على
العلاقة بين قانون نابليون والفقه الإسلامي مع المقارنة الموضوعية وتتبع أحكام
الفقه الإسلامي المخالفة لأحكام القانون الروماني السارية قبل قانون نابليون. وقد
حاول الشيخ سيد عبد الله تتبع أحكام الفقه الإسلامي المدرجة ضمن هذا القانون في
كتابه: (المقارنات التشريعية) المطبوع قبيل صدور القانون المدني المصري سنة
1948م.
وما يهمنا في هذا السياق هو تفطُّن نابليون للوظيفة الاجتماعية التي يقوم بها
الفقه المدوَّن ذو المعالم الواضحة المستقل عن الطبقات والسلطات في المجتمع
المصري، وجوهر عملية التقنين لا تتجاوز هذا المفهوم؛ إذ هي في الواقع
الحضاري عبارة عن ضبط عادل للحقوق مفصل وواضح المعالم يعرفه الجميع
بيسر وسهولة، ويستعلي على التغيير بالهوى والممارسة الفردية أو الطبقية، وهذا
بالضبط ما كانت تتشوَّف إليه أوروبا في حالتها الحقوقية في تلك الحقبة، ويمكن أن
نلخص حالة فقدانه الشائعة في أوروبا بأنها حالة منخفَض حقوقي جذبت بقوة هائلة
هذا المفهوم من الفقه المصري الذي عرفه نابليون بحسه المرهف النفاذ المعروف
عنه.
إن ما نستنتجه من هذه الملاحظات هو الدور الكبير الذي صنعه الفقه
الإسلامي في التحول العالمي نحو التقنين، وبذلك يمكن أن نعتبر موجة التقنين من
ثمرات تفوق الفقه الإسلامي التي التقطتها الحركية المتدفقة للثورة الفرنسية وجعلتها
واحدة من أهم وسائلها في تغيير العالم وتحويله نحو ثقافتها، في الوقت الذي يغط
فيه أصحاب الثقافة الأصليين في سبات يفقدون به التأثير على حركة العالم ونظمه،
فضلاً عن امتلاك زمام المبادرة في نظمهم وتشريعاتهم، وما ذلك إلا من ثمرات
التردد والانكفاء والضعف الحضاري.
مواجهة الاحتلال التشريعي في مصر:
طرحنا فيما تقدم التساؤل عن أسباب تمكن حركة التقنين في مصر الموصوفة
في صدر هذا المقال؛ مع أن واقع الفقه في مصر كان من أهم وسائل تحريك
التقنين في فرنسا نفسها، وهل استسلمت مصر للتشريعات الفرنسية المصبوغة
بالثقافة الفرنسية والأوروبية الوضعية وتقبلتها؟
لقد كانت الآثار المباشرة للحملة الفرنسية محدودة [31] ، لكنها خلفت آثاراً غير
مباشرة لا زالت نتائجها تصبغ المجتمع والثقافة المصرية، وكان من أهم تلك
النتائج كسر العزلة الدولية والحضارية التي فرضتها الدولة العثمانية على المجتمع
المصري والعربي، فتحطمت تلك الحواجز فجأة، وتركت الأبواب مشرعة أمام
الاتصال المباشر بالعالم الخارجي وبخاصة أوروبا، فانطلق محمد علي بعد استتباب
الحكم له يتصل بإيطاليا، فأرسل لها بعثة سنة 1813م لدراسة العلوم العسكرية
وبناء السفن والهندسة وغيرها، ثم تحول إلى فرنسا، فأرسل لها أول بعثة علمية
كبيرة سنة 1826م.
ومن آثار الحملة الفرنسية اكتشاف مكانة الأزهر، ومقدرته القيادية في
المجتمع؛ فقد واجه الفرنسيون ثورتين شعبيتين قادهما الأزهر، كما قاد الأزاهرة
ثورة ضد الأمير المملوكي عثمان البرديسي فهرب من القاهرة، ثم قادوا مع الزعيم
الشعبي عمر مكرم ثورة ضد خورشيد باشا وولوا محمد علي باشا بشروط سُمِّيت:
(المشروطية) كانت في وقت مبكر بمثابة الدستور وذلك سنة 1220هـ /1805م،
ثم قرر الباب العالي عزل محمد علي، لكن العلماء قادوا حركة شعبية ثبتته من
جديد [32] ، وكان سليمان الحلبي قاتل القائد الفرنسي كليبر تلميذاً أزهرياً أعدم ومعه
ثلة من شيوخ الأزهر، فوجه محمد علي جهوده لتكبيل الأزهر، فحاصر موارده
الوقفية، وأعمل الدسائس بين شيوخه مما أسهم في تحطيم دوره السياسي الذي كان
يقوم به في أزمان المحن:» فمن سنة 1809م 1815م بدأ محمد علي بتصفية
الأوقاف، وألحق جرايات المساجد والعلماء بالدولة؛ وكان ذلك جزءاً من بدء
معركته ضد العلماء، وهو ما سيترك آثاره السلبية لاحقاً على مجمل مشروع محمد
علي، ويكون سبباً رئيساً من بين أسباب عدم قدرته على مواجهة الدول الكبرى،
وقد فقد تأييد العلماء « [33] ،» لقد دفع محمد علي ثمن هذا الخطأ غالياً عندما
أحاطت به جيوش الغرب، وأنزلت به عسكرياً الضربة القاضية؛ فالاعتماد على
الجيش والدولة بعيداً عن مشاركة فعلية للشعب وقياداته لا تنفع عند مواجهة جيوش
متفوقة.. أما عندما يدخل في الحساب مقاومة المجتمع والشعب وتكون المعركة
دفاعية فإن مواجهة مثل تلك الجيوش تصبح ممكنة بل قابلة للانتصار، كما حدث
في مثال تجربة محمد علي عام 1807م « [34] .
كما حطم محمد علي الروابط المهنية لأرباب الحرف، والتجار، وتعامل معهم
كما تعامل مع المجندين لخدمة الجيش؛ فتحطمت الصنائع والحرف، واضمحلت
طبقة التجار، وخسر بذلك طبقة وسطى كان يمكن أن تقود إلى مجتمع صناعي
مستقر، واشتغل بتسخير المجتمع المصري وموارده لتحقيق طموحاته العسكرية،
فاستنزفها في مغامرات لم يكتب لها النجاح، وقد أدى ذلك فيما بعد إلى تحول
المجتمع المصري إلى حطام لا يملك الحد الأدنى من وسائل التماسك والثبات للدفاع
عن مقوماته الاقتصادية والثقافية، فأضعف ذلك الحكومات المصرية المتوالية في
وجه الدول الكبرى، ومهد السبل لاستفحال الفساد دون قدرة على المحاسبة والإنكار،
فغرقت الدولة في الديون حيث تجاوزت ديون مصر في عهد الخديوي إسماعيل
126مليون جنيه بريطاني، وعجزت عن القيام بالتزاماتها؛ مما أدى إلى التدخل
الأجنبي بشكل خطير؛ حيث اشترت الحكومة البريطانية أسهم الحكومة المصرية
في قناة السويس سنة 1875م، ورهنت أراضي مصرية لأسرة روتشيلد مقابل
ديون الحكومة، وكانت الخطوة الثانية للتمكين الأجنبي بسبب الإسراف وسوء
التدبير المالي هي تأسيس (صندوق الدَيْن) ليرأسه أربعة أجانب يتولى استلام
المبالغ المخصصة للديون من المصالح المحلية، واستفحل التدخل بإصدار الخديوي
إسماعيل لمرسوم يفرض الرقابة الأجنبية على واردات ومصروفات مصر، ثم
فرضت بريطانيا وفرنسا على الخديوي التنازل عن الحكم المطلق وثروات أسرته،
وشكلت الحكومة بوزيرين أجنبيين أحدهما فرنسي والآخر بريطاني، ثم أخفقت هذه
الحكومة لفسادها المالي، فشكلت الوزارة الأوروبية الثانية، ثم خلع الباب العالي
الخديوي إسماعيل بتدخل من بريطانيا وفرنسا وعيَّن محمد توفيق خلفاً لوالده،
فانساق للتوجيه الغربي مما شحن مصر وهيأها للثورة العرابية الشهيرة التي انتهت
بالاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882م، وكانت سياسة بريطانيا هي التمكن من
(النفوذ الفعلي في مصر) [35] ، وقد نتج عن ذلك انتقال:» السلطة الفعلية في
مصر بطريقة مستترة إلى ممثل إنجلترا في مصر، أو القنصل البريطاني وأعوانه
من المستشارين الذين عينوا في الوزارات المختلفة « [36] ، ثم عينت الحكومة
البريطانية رجل الاستعمار البارع اللورد كرومر سنة 1883م، وهكذا ترسخ نفوذ
المستعمر، وبدأ تطور الفكر الوطني وكانت قضيته الكبرى تحقيق الاستقلال من
الهيمنة العسكرية، ووجد هذا التيار في الخديوي عباس الثاني الذي خلف والده
رمزاً وطنياً تواقاً إلى التحرر من نفوذ الإدارة الاستعمارية، فالتف حوله الوطنيون
وعلى رأسهم مصطفى كامل الزعيم الشاب الذي درس في المدارس الأميرية وتابع
تعليمه في فرنسا؛ لكنه كان ممن ورث الفكر السياسي لدى جمال الدين الأفغاني:
» فكان قوي العقيدة الدينية ورأى أن الدين والوطنية توأمان متلازمان، وأن الرجل
الذي يتمكن الدين من فؤاده يحب وطنه حباً صادقاً « [37] وكان يؤمن بالجامعة
الإسلامية، وأسس الحزب الوطني في مواجهة حزب الأمة الذي يمثل كبار الملاك.
أما حزب الأمة فقد أسسه أعضاء شركة صحيفة (الجريدة) ، وهم من أتباع
محمد عبده بعد تحوله عن طريق شيخه جمال الدين وانتهاجه لمسلك التغيير
ومواجهة الاحتلال عبر التربية والتعليم بعد عودته من منفاه إثر الثورة
العرابية [38] ، وكان من أبرز أتباعه الوطنيين سعد زغلول، وهم باتجاههم
التربوي الذي صُبغ بفكر محمد عبده يخالفون مسلك مصطفى كامل الذي رفع شعار
الجلاء الكامل، وقد انضم إلى حزب الأمة فيما بعد كبار اللبراليين المصريين
المؤمنين بالتغيير الاجتماعي المتابع للغرب من أمثال طه حسين، ومحمد
حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق [39] .
وبعد سنوات من المقاومة والمواقف خضع الخديوي عباس الثاني لسلطة
الاحتلال منذ سنة 1899م، وكانت قضية ذلك الجيل هي الاستقلال وتأسيس المدنية
لمقاومة الهيمنة الأجنبية، كما أن ذلك الجيل من الوطنيين قد:» تأثر..
بالاتجاهات الغربية واختلف عن أولئك الذين تتلمذوا في الأزهر وتأثروا بالبيئة
الدينية، وحدث تصادم بين الفكر التقليدي والفكر المتأثر بالغرب، وانعكس ذلك في
برامج الأحزاب السياسية التي ظهرت في مصر فيما بين عامي 1907 - 1914م.
استمر الحزبان في عملهما، واستحوذا على عقول المصريين تحت ضغط
هيمنة المستعمر [40] ، وراجت عاطفة الحزب الوطني لتبنيه للجامعة الإسلامية،
فاستقطب المؤمنين بالعمل بوضوح لتحقيق الجلاء، ولم يهتم الحزب بالجوانب
الاقتصادية والاجتماعية فضلاً عن التشريعية لتركيزه على التحرير، وكان يدعو
إلى التحديث: «غير أن هذا لا يعني أن على مصر أن تقلد أوروبا تقليداً أعمى؛
إذ يجب أن تبقى وفية لمبادئ الإسلام المفسرة تفسيراً صحيحا» [41] ، وأما حزب
الوفد - الذي أسسه تلاميذ محمد عبده - فقد أخذ اتجاهاً علمانياً مخالفاً لتوجه محمد
عبده فكانت فيه: «فئة ممن احتفظوا بالولاء الفكري لمعلمهم، غير أنهم أخذوا
يعدُّون العدة لمجتمع علماني يبقى الإسلام فيه محترماً، لكنه لا يكون الموجِّه للقانون
والسياسة» [42] ؛ فقد عمَّقت صحيفة الجريدة لسان حزب الأمة التي يرأسها لطفي
السيد ذو التوجه اللبرالي المتأثر بالنصارى اللبنانيين وعلى رأسهم بطرس البستاني،
وشبلي شميل، وأنطون فرج التوجه نحو الثقافة الغربية خاصة في مجال
الدستور والعلوم السياسية والديمقراطية؛ فالانطباع: «القوي الذي تتركه فينا
قراءة تلك المقالات هو الاندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام في تفكير
رجل تتلمذ على محمد عبده.. لم يكن الإسلام هو المبدأ المسيطر على تفكيره؛ فهو
يهتم كالأفغاني بالدفاع عنه لكنه لا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى
مركزها كأساس خلقي للمجتمع» [43] كما يقول حوراني.
وبعد الحرب العالمية الأولى أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وهي مرتبة
بين الضم والاحتلال. وبعد انقضاء الحرب العالمية الأولى انعقد مؤتمر الصلح في
باريس، واستيقظت الحركة الوطنية، وتوجه زعماء وطنيون على رأسهم سعد
زغلول إلى دار الحماية يطالبون باستقلال مصر والسماح بسفرهم لبريطانيا لعرض
القضية الوطنية على مؤتمر الصلح؛ فألقت السلطات القبض على الوفد، ونفتهم في
اليوم التالي إلى مالطا، فانفجرت الثورة الشعبية، فواجهها الاحتلال بالعنف؛ مما
فجَّر الجمهور بفئاته المختلفة وفي الأقاليم كافة، وحدث تحول جديد حيث تحركت
المرأة المصرية: «فنزلت لأول مرة في حياتها إلى ميدان النضال السياسي مسجلة
الخطوة الأولى في أخطر تطور اجتماعي في تاريخ البلاد؛ ففي يوم 6مارس - من
سنة 1919م - قامت السيدات والآنسات بمظاهرة كبرى مكونة من عدد يربو على
الثلاثمائة من كرام العائلات.. ولقد وجدت المرأة المصرية في الثورة الناشبة
فرصة العمر لتؤكد وجودها في المجتمع المصري» [44] ، وكان هذا التحول من
أبرز المتغيرات الاجتماعية التي استجابت لدعاوى التحرير الليبرالي للمرأة، وكان
ارتباط تلك الحركة بمطالب الاستقلال قد منحها زخماً سياسياً ووطنياً كبيراً، وكان
ذلك يدعم المفاهيم التي تحميها القوانين المستغربة، فأوجدت الصلة الجماهيرية
الحية مع القيم المودعة في تلك القوانين.
ولنلاحظ هنا أثر الظروف الثورية المتوقدة التي حدث فيها هذا التحول
وصلتها بالاستقلال، وخاصة أن قاسم أمين قد انطلق في كتابه من أن انحطاط الأمة
الإسلامية سببه زوال القوة المعنوية بسبب الجهل، والجهل يبدأ من العائلة؛
فالعلاقة بين الرجل والمرأة وبين الأم والولد هي أساس المجتمع، وقوة العائلة هي
القوة التي تنتشر في المجتمع؛ فجوهر القضية الاجتماعية هي قضية المرأة، وتبدأ
قضية المرأة، بتعليمها وإزالة حجابها لتتمكن من دورها في المجتمع، هكذا توهم،
ومضى بالأمة خطوة على طريق التآلف مع الأخلاق القادمة لتتفاعل هذه الخطوة
فيما بعد مع مؤثرات أخرى تمهد لتحلل الأخلاق، خاصة عند تفاعلها مع الزخم
الوجودي الذي شاع بعد الحربين العالميتين.
أدرك سعد بملاحظته لحركة الثورة أن وراءه قوة شعبية تحميه في مواقفه؛
فدفعه ذلك إلى مزيد من التشدد؛ فقد سرت في نفسه آثار الحركة الاجتماعية التي
أجبرت بريطانيا على إطلاق سراحه، ومن هنا ندرك بعداً وطنياً مهماً يتمثل في
زخم الشرعية التي انتزعها حزب الأمة الليبرالي بوصفه محركاً وطنياً ينافح عن
الاستقلال ويصوغ الثقافة والمواقف.
كما ظهرت في هذه الفترة آثار الجور الذي مارسه المستعمر، فأدى إلى تطور
الرؤية الشعبية لمجموعات من الحقوق المنتهكة، وتحققت بذلك المقدرة على تكوين
مواقف فئوية تطالب بالحقوق المنتهكة المتراكمة عبر حقب من الزمن، ولنضرب
مثالاً لذلك بحقوق العمال؛ فقد تعرضت هذه الطائفة إلى تجاوزات مستمرة على
حقوقهم وصلت إلى مستوى السخرة في بعض الأحيان، وقد أدى الاتصال بالثقافة
الجديدة إلى الوعي بالحقوق والمفاهيم التي تحميها؛ فظهرت الدعوات للمطالبة
بتعويضات العمل ونهاية الخدمة والأجور العادلة والعمل النقابي وغيرها، وقد كان
لاستغلال الاستعمار الوحشي لمجموعات العمال والفلاحين أثر بالغ في تطوير
الوعي بالحقوق العمالية؛ وذلك إبان الحرب العالمية؛ حيث نقلوا بالعربات
العسكرية إلى جبهات القتال للقيام بالأعمال المدنية في الجبهات وطرق الإمداد
كالطرق ونقل المؤن والذخائر والحفر والردم؛ فقد ساقت السلطة المحتلة من
الفلاحين مائة وخمسة وثلاثين ألف رجل للجبهة السورية لوحدها، فنشطت الحركة
العمالية بعد الحرب حتى أسفرت جهودهم عن ميلاد وثيقة تاريخية نشروها بعنوان:
(مشروع قانون حماية العمال) سنة 1919م قبيل الثورة الشعبية، وهكذا ولدت
آلية جديدة من رحم الثقافة القانونية لحماية حقوق العمال التي غاب عنها الفقيه
الشرعي بحركته الحية المعهودة في عصور ازدهار الفقه والاجتهاد؛ فحلَّ البديل
الأجنبي وسدَّ الفراغ الإصلاحي [45] .