دراسات في الشريعة والعقيدة
(2 - 2)
محمد بن عبد الله الهبدان
في الحلقة الأولى عرَّف الكاتب الآثار لغة واصطلاحاً، ثم تحدث عن منهج
الرسول صلى الله عليه وسلم ومَنْ بعده وموقفهم من الاهتمام بالآثار، وبيَّن أن
الاهتمام بالآثار من عادة غير المسلمين، ثم عدَّد أسباب الافتتان بالآثار التي أدت
إلى انتشار الاهتمام بها في بلاد المسلمين، وفي هذه الحلقة يتابع الكاتب الجوانب
الأخرى من الرؤية الشرعية لتعظيم الآثار.
- البيان -
عواقب التعلق بالآثار:
كوننا مأمورين بالسير في الأرض، والنظر في خلق الله، والاعتبار بمصائر
الأمم السابقة، لا يعني تقديس آثار السابقين أو المحافظة عليها، ومما يوضح ذلك
أننا نُهينا عن البقاء بديار الأمم الغابرة التي هلكت، وأُمرنا إذا مررنا بآثارها أن
نكون مسرعين باكين؛ فكيف نعدها من التراث الثمين والأمجاد؟ !
ولو كان للناس في تتبع هذه الآثار من مساكن ونحوها مصلحة دينية أو
معاشية لأرشدنا الله إليها، ولما خفيت على الخلق كثير من تلك الآثار والمساكن
والقبور.
وقد أنكر الله - تعالى - على قوم عاد إطالة البناء وجودته، فقال سبحانه:
[أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ]
(الشعراء: 128-129) ، قال ابن كثير - رحمه الله -: [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ
آيَةً تَعْبَثُونَ] (الشعراء: 128) أي: مَعْلَماً بناء ًمشهوراً. [تَعْبَثُونَ]
(الشعراء: 128) أي: وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه؛ بل لمجرد
اللعب وإظهار القوة؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم - عليه السلام - ذلك؛ لأنه تضييع
للزمان؛ وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في
الآخرة [1] . فإذا كان هذا يقال في بناء المساكن؛ فكيف يكون الحال إذن في
الاهتمام بأماكن الآثار وتحسينها؟ ! ألا إن الأمر أشد والخطب أعظم.
المبحث الأول: الشرك:
من مفاسد إحياء الآثار أنه يؤدي إلى الشرك الذي هو أعظم الذنوب عند الله -
تعالى - والذي قال الله فيه: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَاءُ] (النساء: 116) .
أما كيف يؤدي إلى الشرك؟
فإن ذلك يحصل - بإحدى حالتين:
الأولى: التمسح بها والصلاة عندها، وطلب كشف الكربة والشفاعة منها:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: «إن العناية بالآثار على
الوجه الذي ذُكِرَ [2] يؤدي إلى الشرك بالله - جل وعلا -؛ لأن النفوس ضعيفة
ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها، والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس
لا يدركها، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة
يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها، وما فيها من أشجار أو أحجار، ويُصلُّون
عندها، ويدعون من نُسبت إليه ظناً منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه ولحصول
الشفاعة، وكشف الكربة. ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية
في نفوسهم ممن يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم حتى
يحصلوا بسبب ذلك على بعض الكسب المادي، وليس هناك غالباً من يخبر زوارها
بأن المقصود العبرة فقط بل الغالب العكس.
ويشاهد العاقل ذلك واضحاً في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة
وأصبحوا يعبدونها من دون الله، ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها
أولياء؛ فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم! ! كما أن
الشيطان لا يفتر في تحيُّن الأوقات المناسبة لإضلال الناس. قال الله - تعالى -
عن الشيطان إنه قال: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
المُخْلَصِينَ] (ص: 82-83) ، وقال أيضاً - سبحانه - عن عدو الله الشيطان:
[قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ] (الأعراف: 16) » [3] .
الحالة الثانية: تقديس أمكنة الأنبياء والصالحين وآثارهم، وتعظيمها:
وقد كان أصل حصول الشرك وعبادة الأصنام في الأرض بسبب تعظيم
الموتى الصالحين.
روى ابن جرير الطبري - رحمه الله - عن بعض السلف في تفسيره لقوله
تعالى: [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً] (نوح: 23-24) أن هذه أسماء رجال صالحين من بني
آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم:
لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا جاء
آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقَوْن المطر،
فعبدوهم. وروى ابن جرير أن هذه الأصنام كانت تُعبد في زمان نوح - عليه
السلام -، ثم اتخذها العرب بعد ذلك [4] .
وأيضاً: فإن اللات التي هي من أكبر أوثان العرب في الجاهلية كان سبب
عبادتها تعظيم قبر رجل صالح والعكوف عليه.
وبهذا تبين أن سبب عبادة الأصنام هو المبالغة في تعظيم الصالحين. وقد رد
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - على مقال نشر بعنوان: (رميم
بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحريملاء) وذكر صاحب المقال أن الإدارة العامة
للآثار والمتاحف أولت اهتماماً بالغاً بمنزل مجدد الدعوة السلفية الشيخ محمد بن
عبد الوهاب - رحمه الله - في حي غيلان بحريملاء؛ حيث تمت صيانته وأعيد
ترميمه بمادة طينية تشبه مادة البناء الأصلية.. إلى أن قال: وتم تعيين حارس
خاص لهذا البيت.. إلخ. يقول الشيخ - رحمه الله -: «وقد اطلعت اللجنة
الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية على المقال المذكور،
ورأت أن هذا العمل لا يجوز، وأنه وسيلة للغلو في الشيخ محمد - رحمه الله -
وأشباهه من علماء الحق والتبرك بآثارهم والشرك بهم، ورأت أن الواجب هدمه،
وجعل مكانه توسعة للطريق سداً لذرائع الشرك والغلو، وحسماً لوسائل ذلك،
وطلبت من الجهة المختصة القيام بذلك فوراً، ولإعلان الحقيقة والتحذير من هذا
العمل المنكر جرى تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه» [5] .
المبحث الثاني: الابتداع:
الاهتمام بالآثار وإحياؤها ابتداع في الدين ليس عليه دليل من كتاب الله -
تعالى 0 ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله السلف الصالح - رحمهم
الله تعالى -، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. يقول الشيخ عبد العزيز ابن باز -
رحمه الله -: «ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» من أحدث
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد «أخرجه الشيخان، وفي لفظ لمسلم:» من عمل
عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد «، وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه -
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة:» أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر
الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة «، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذه
الآثار التي ذكرها الكاتب كغار حراء، وغار ثور، وبيت النبي صلى الله عليه
وسلم، ودار الأرقم بن أبي الأرقم، ومحل بيعة الرضوان وأشباهها إذا عُظِّمت
وعُبِّدت طرقها وعملت لها المصاعد واللوحات لا تزار كما تزار آثار الفراعنة،
وآثار عظماء الكفرة، وإنما تزار للتعبد والتقرب إلى الله بذلك، وبذلك نكون بهذه
الإجراءات قد أحدثنا في الدين ما ليس منه، وشرعنا للناس ما لم يأذن به الله؛
وهذا نفس المنكر الذي حذر الله - عز وجل - منه في قوله - سبحانه -: [أَمْ لَهُمْ
شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] (الشورى: 21) ، وحذر منه
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:» من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه
فهو رد «.. ولو كان تعظيم الآثار بالوسائل التي ذكرها الكاتب وأشباهها مما
يحبه الله ورسوله لأمر به صلى الله عليه وسلم أو فعله، أو فعله أصحابه الكرام -
رضي الله عنهم -؛ فلما لم يقع شيء من ذلك عُلم أنه ليس من الدين، بل هو من
المحدثات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، وحذر منها أصحابه - رضي
الله عنهم -، وقد ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
أنه أنكر تتبع آثار الأنبياء، وأمر بقطع الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه
وسلم تحتها في الحديبية لما قيل له إن بعض الناس يقصدها، حماية لجناب
التوحيد، وحسماً لوسائل الشرك والبدع والخرافات الجاهلية» [6] .
المبحث الثالث: الوقوع في أنواع من الكذب [7] :
إن من مفاسد الاهتمام بالآثار لجوء أصحابه إلى الكذب، من أجل الاستدلال
على شرعية ما ذهبوا إليه، أو لغرض تعيين موضع أو تحديد مكان، ولهذا وقعوا
في عدة أنواع من الكذب، تلك الخصلة الذميمة الممقوتة، ويمكن بيان أنواع الكذب
التي وقعوا فيها بسبب الاهتمام بالآثار فيما يأتي:
الأول: الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم: لا شك أن أشد أنواع
الكذب هو الكذب على الله - تعالى - أو على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر - عليه الصلاة والسلام - من الكذب عليه بقوله: «من كذب عليّ
متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» [8] .
ويتنوع الكذب هنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد يكون في أقواله
للاستدلال على شرعية زيارة أماكن الآثار وهذا هو الكثير، وقد يكون الكذب في
آثاره صلى الله عليه وسلم.
ومن نماذج الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله ما يأتي:
1 - الأحاديث الموضوعة في فضل زيارة قبره صلى الله عليه وسلم.
2 - الأحاديث المكذوبة في فضل الصخرة بالقدس.
3 - أحاديث في فضل الجامع الأموي بدمشق ومضاعفة الصلاة فيه.
أما الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في آثاره فإن المقصود به ما قد
ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً - لا سيما في العصر الحاضر - من
آثاره الحسية كشعراته مثلاً، وكذا دعوى وجود موطئ قدم النبي صلى الله عليه
وسلم على بعض الأحجار.
الثاني: الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم، كالكذب على
الصحابة - رضي الله عنهم - أو التابعين رحمهم الله، وغيرهم من الصالحين.
وهذا الكذب عليهم قد يكون في الأقوال، مثل ما ينسب إليهم من الروايات
المكذوبة في ذكر فضائل بعض الأماكن، وقد يكون الكذب عليهم في الأفعال كادعاء
حصول الخير عند بعض القبور مثل ادعاء أن الشافعي كان يدعو عند قبر أبي
حنيفة إذا نزلت به شدة فيستجاب له.
الثالث: الكذب في تعيين موضع الأثر [9] :
ويكثر هذا النوع في تعيين مواضع قبور بعض الصالحين من الصحابة
وغيرهم وكذا المساجد والموالد.
فمن ذلك مثلاً: مسجد يسميه البعض مسجد الكوع؛ لأن الرسول صلى الله
عليه وسلم وضع عليه كوعه ملتمساً شيئاً من الراحة عندما اشتد عليه أذى
القوم! ! [10] .
ومسجد الراية يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركز رايته يوم الفتح عند
هذا الموقع! ! [11] .
وتحديد مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم [12] .
الرابع: ادعاء بركة بعض المواضع دون مستند شرعي:
ومن النماذج على ذلك: زعمهم أن دار خديجة - رضي الله عنها - بمكة أفضل
المواضع بعد المسجد الحرام، وأن الدعاء يستجاب فيها.
ومنها كثرة ادعاء استجابة الدعاء عند بعض المقابر أو الجبال أو المساجد
المحدثة المبنية على آثار الأنبياء والصالحين.
المبحث الرابع: التشبه بالكفار:
ومن مفاسد الاهتمام بالآثار أن فيه مشابهة للمشركين الذين يهتمون بمثل هذه
الجوانب؛ كما تقدم أن عصبة الأمم قد نصت في صك انتداب بريطانيا على
فلسطين على الاهتمام بالحفريات، وذلك في المادة (?) التي تنص على: «أن
تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً
خاصاً بالآثار والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية..» . والنبي صلى الله عليه
وسلم يقول: «من تشبه بقوم فهو منهم» [13] . وقد تقدم أيضاً أن المسلمين عاشوا
دهوراً وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً، ولا يتحدثون عنها
حين يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة، لا يثير الحديث
عنهم شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم، وظل المسلمون على هذه الحال حتى
بدأ الغربيون بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها، فهي عادة غربية ونحن
مأمورون بمخالفة المشركين وعدم التشبه بهم. يقول الشيخ عبد العزيز بن باز -
رحمه الله -: «أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى [14] فإن الله - جل وعلا -
أمر بالحذر من طريقهم؛ لأنه طريق ضلال واتباع الهوى، ولا يجوز التشبه بهم
في أعمالهم المخالفة لشرعنا وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما
جاء به أنبياؤهم؛ فلهذا ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك
طريقهم» [15] .
المبحث الخامس: إضاعة السنن:
ومن مفاسد الاهتمام بالآثار إضاعة السنن؛ وهذا من خصائص البدع، ذلك
أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن [16] .
ولهذا جاء في الأثر: «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم
مثلها» [17] .
ولا شك أن السنن تموت إذا أُحييت البدع «لأن الباطل إذا عُمل به لزم ترك
العمل بالحق، كما في العكس؛ لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين» [18] .
ثم إن من لم يعطل الفرائض والسنن فستضعف عنايته بها على الأقل بسبب
تعلقه بالبدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند سياقه مفاسد البدع: «ومنها
أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد
الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن،
حتى كأنه يفعل هذه عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس
الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة
والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد، وإن لم
يفته هذا كله فلا بد أن يفوته كماله» [19] .
هذا ومن الأمثلة على ما يؤدي إليه الاهتمام بهذه الآثار من إضاعة الواجبات
والسنن ما يأتي:
1 - ما يفعل عند القبور من العكوف عندها والمجاورة، ونحو ذلك من
المظاهر المبتدعة يشغل عن كثير من الفرائض والواجبات والسنن المشروعة في
الدين. بل بلغ ببعض الغلاة إلى تفضيل زيارة المشاهد التي على القبور على حج
البيت الحرام، وإلى اعتقاد أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل
من حج البيت [20] .
2 - قصد المساجد المحدثة المبتدعة، وتتبع آثار الأنبياء والصالحين وبعض
الجبال والمواضع، في مكة والمدينة وبلاد الشام وغيرها، لأداء العبادات فيها
كالصلاة والدعاء.. وفي ذلك تعطيل لأداء العبادة المفروضة أو المسنونة في
المساجد الثلاثة الفاضلة، وسائر المساجد الأخرى التي شرعت العبادة فيها.
المبحث السادس: اقتراف المعاصي:
إن من مفاسد الاهتمام بالآثار الوقوع في المعاصي والمنكرات، ومن الأمثلة
على ذلك ما يلي:
1- صرف النفقات الباهظة المحرمة على بناء القباب والمزارات وكسوتها
بالأقمشة وتزيينها بالمصابيح، وتحبيس الأوقاف على ذلك، وبناء المصاعد على
الجبال، وإضاعة المال عن طريق النذور التي تقدم لصالح الأموات، ويأكلها
السدنة.
2 - اختلاط الرجال بالنساء، وما ينتح عن ذلك من الفتنة والواقع في الدول
الإسلامية خير شاهد على ذلك.
3 - ما يحصل عند بعض المزارات من تبرج وسفور فيحصل فيها من الفتن
ما الله به عليم.
وسائل مقاومة الافتتان بالآثار:
بعد عرض أسباب الافتتان بالآثار وسلبياته لا بد من بيان وسائل مقاومته
للقضاء عليه، والحد من انتشاره بين المسلمين، ويمكن حصر ذلك في عدة وسائل
مهمة، وبيانها فيما يأتي:
المبحث الأول: نشر العلم:
لا يشك أحد في فضل العلم، ورفعة منزلته، وفضل طلبه وفضيلة العلماء،
والمراد بالعلم هنا: العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر
دينه، في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله تعالى وصفاته، وما يجب له من القيام
بأمره وتنزيهه عن النقائص [21] .
ومن لوازم تعلم العلم: تبليغ العلم، ونشره بين الناس، وتعليمهم إياه، كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [22] ،
وكما قال صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه في الحج: «ليبلغ الشاهد
الغائب» [23] .
فعلى العلماء بذل العلم ونشره بين الناس على أوسع نطاق، وعدم كتمان العلم
ولا سيما عند شيوع الجهل وظهور البدع، حتى يعرف الناس الحق من الباطل،
ويعبدوا ربهم على بصيرة وعلم.
وبما أن أهم ما يتضمنه العلم الشرعي بيان أصول الدين - المسمى أحياناً بعلم
العقيدة - فإن ذلك يعني بيان العقيدة الصحيحة، عقيدة السلف الصالح التي تقوم
على اتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بما كان
عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
ومن المعلوم أن الاهتمام بالآثار لون من ألوان البدع المحدثة كما سبق؛ ففي
نشر العلم الشرعي - المتضمن بيان عقيدة أهل السنة والجماعة وما يضادها -
وقاية من الوقوع في مثل هذا الاهتمام، كما أن في ذلك أيضاً مقاومة له بعد حصوله.
المبحث الثاني: الدعوة إلى المنهج الحق:
ومن الوسائل المهمة لمقاومة الاهتمام بالآثار وبعثها من جديد الدعوة إلى
المنهج الحق، وأعني بهذا دعوة من ابتلي بشيء من هذا الاهتمام حتى يرجع إلى
الحق وإلى منهج الشرع القويم.
وتحقيق ذلك داخل ضمن مبدأ عظيم من مبادئ الدين، ألا وهو مبدأ الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
فعلى هذا يجب على من عنده علم واستطاعة إنكار المنكرات التي أعظمها
البدع المحدثة في الدين، ومنها بدعة الاهتمام بالآثار.
ويمكن دعوة من يفعل ذلك إلى المنهج الحق باتباع الوسائل الآتية:
1 - تبصير الناس بالمنهج الحق الذي كان عليه سلف الأمة الأبرار، وتحذير
الناس من الابتداع والإحداث في الدين، وسد الذرائع المفضية إلى ذلك.
2 - على الدعاة إنكار جميع ما يقع من مطالبات لإحياء هذه الآثار والاهتمام
بها.
3 - على العلماء مناقشة الشبهات التي يتمسك بها مؤيدو إحياء هذه الآثار
والرد عليها، عن طريق المؤلفات، وشتى الوسائل المختلفة المناسبة.
4 - وضع مرشدين من طلبة العلم عند بعض المواضع التي يكثر طَرْقُها من
قبل عامة الناس للتوعية والإرشاد بشكل دائم.
5 - كتابة النشرات الإرشادية المناسبة على لوحات، ووضعها عند الأماكن
التي يُعتقد فيها كالمقابر والمشاهد، والجبال، والمساجد المحدثة.
6 - صدور فتاوى من كبار العلماء في هذا الموضوع، وينص بمنع أصحاب
الأقلام في الصحافة ونحوها من الكتابة والمطالبة فيه.
7 - توعية الأدلاَّء الجهال أو من يسمون (المزوِّرين) الذين يصطحبون
الحجاج أو الزوار إلى المزارات المشروعة، وعقد الدورات العلمية لهم لتوجيههم،
واشتراط أن يكونوا متعلمين، ومن المعروفين باتباع السنة.
ولقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن حكم عمل القُوّام عند
القبور أو غيرهم الذين يأمرون زوار القبور بالبدع ويرغبونهم فيها، ويأخذون على
ذلك جُعلاً، وعن موقف ولي الأمر من ذلك.
وكان مما أجاب عن ذلك قوله - رحمه الله - بعدما أبان حرمة هذا العمل:
«ومن أمر الناس بشيء من ذلك، أو رغبهم فيه، أو أعانهم عليه، من القُوّام أو
غير القُوَّام، فإنه يجب نهيه عن ذلك، ومنعه منه، ويثاب ولي الأمر على منع
هؤلاء، وإن لم ينته عن ذلك فإنه يُعزر تعزيراً يردعه، وأقل ذلك أن يعزل عن
القيامة، ولا يترك من يأمر الناس بما ليس من دين المسلمين» .
وأفاد - رحمه الله - أن «الكسب الذي يكسب بمثل ذلك خبيث، من جنس
كسب الذين يكذبون على الله ورسوله ويأخذون على ذلك جُعلاً، ومن جنس كسب
سدنة الأصنام الذين يأمرون بالشرك ويأخذون على ذلك جُعلا» [24] .
المبحث الثالث: إزالة وسائل الغلو ومظاهر الاهتمام:
من الوسائل الفعلية النافعة في مقاومة الاهتمام بالآثار: إزالة وسائل الغلو في
الأنبياء والصالحين وغيرهم؛ والأصل في إزالة المنكر قوله صلى الله عليه وسلم:
«من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..» [25] . وتغيير المنكر وإزالته باليد ونحوها
أعلى مراتب التغيير، ولا يجوز العدول عن هذه المرتبة إلى ما دونها إلا عند عدم
الاستطاعة.
وتأمل في قصة وفد ثقيف عندما أسلموا ووفدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فإنهم فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية - وهي
اللات - لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فما
برحوا يسألونه سَنَة سَنَة، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى
عليهم أن يدعها شيئاً مسمَّى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يَسْلَموا بتركها
من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروِّعوا قومهم بهدمها، فبعث المغيرة
بن شعبة وأبا سفيان بن حرب لهدمها [26] .. فتأمل - يا رعاك الله - المصالح التي
ذكروها.. فهم حدثاء عهد بإسلام فيحتاجون إلى التأليف.. وخافوا من سفهاء
قومهم.. وأرادوا تأليف قومهم وعدم ترويعهم حتى يدخلوا الإسلام.. ومع ذلك كله
فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن المصلحة في دك حصون الشرك وقلع
قواعده وهدم صروحه، ولم يلتفت إلى تلك المصالح الموهومة مطلقاً.
قال ابن القيم - رحمه الله - في فوائد قصة ثقيف هذه: «ومنها: أنه لا
يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً
فإنها من شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع
القدرة البتة» [27] ويقول أيضاً: «ومنها: هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً
للطواغيت وهدمها أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات
والمواخير، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويُشرك
بأربابها مع الله لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها، ولا يصح وقفها ولا
الوقف عليها» [28] .
وهناك نماذج عديدة لإزالة المنكر الظاهر على مر العصور من قبل الأنبياء
عليهم السلام وغيرهم، كخلفاء المسلمين.
فقد كسر إبراهيم - عليه السلام - أصنام قومه، يقول الله تعالى: [وَتَاللَّهِ
لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] (الأنبياء: 57) ، [فَرَاغَ إِلَى
آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ]
(الصافات: 91-93) ، وأحرق موسى - عليه السلام - العجل الذي عُبد من
دون الله. يقول الله - تعالى -: [وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ
ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً] (طه: 97) ، وكسر النبي صلى الله عليه وسلم
الأصنام لما فتح مكة [29] ، وهدم عليه الصلاة والسلام مسجد الضرار بالمدينة،
وحرق بعض الخلفاء أمكنة الخمر، وأتلفوا المغشوش مما يباع في أسواق
المسلمين، وقطع عُمَرُ - رضي الله عنه - الشجرة التي بويع النبي صلى الله
عليه وسلم تحتها.
إلى غير ذلك من الأمثلة الأخرى، وما أجمل ما قاله محمد إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب ... فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها ... كنزاً وصاغ منها الحلي والدينارا
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.