مجله البيان (صفحة 3870)

ملفات

العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق

(3 - 3)

الحصاد العلماني في مجال التربية والتعليم

محمد أحمد منصور

إذا كنا بصدد الحديث عن الحصاد العلماني في مجال التعليم فلا يمكن عزل

التعليم اليوم عن بقية أبعاد المخطط العلماني من إعلام، واقتصاد وسياسة، وغير

ذلك.

وإذا كان هذا الحصاد لا يمكن التعبير عنه بدقة من خلال الأسلوب الكمي؛

فإن الأسلوب التوصيفي والتحليلي يمكن أن يتيح لنا نظرة تتسم بالدقة إلى حد بعيد.

وإذا كان واجب ولي الأمر في الإسلام هو حفظ الدين وسياسة الدنيا به؛ فإن

ذلك يقتضي منه تعليم هذا النشء أمور دينهم لتنبثق منهجية تفكيرهم وسلوكهم منه؛

ومن ثَمَّ يتأسس خط الحضارة على هذه المنهجية.

وهذا الواجب لا تسقط تبعته حتى يقيم الكفاءات ويفرغ الطاقات التي تبني

شخصية المسلم من خلال التربية سعياً في إبراز شخصية الأمة من خلال التعليم

بمناحيه المختلفة بكماله وخصوصيته الجامعة المانعة التي تميز بها الإسلام عن

غيره.

من خلال هذا المنظور يمكن أن ندلف إلى قضية التعليم وعلمنته لنرصد

أخطاءه وخطاياه.

المسار.. والمصير:

بدأت قضية العلمانية تطل برأسها وتتسرب رويداً رويداً منذ عادت البعوث

العلمية من فرنسا لإقامة دولة محمد علي العصرية، وقد كانت فرنسا على ما فيها

من ازدهار للفكر العلماني شأنها شأن أوروبا تتحين مثل هذه الفرصة لتغرس غرسها

وتمضي مع الوقت لتحصد النتائج. بلع رفاعة الطهطاوي الطعم وعاد منهزماً نفسياً

ولم يفرق بين النبيذ والإبريز، وقد كان في وسع محمد علي إقامة مثل تلك النهضة

من داخل الأزهر؛ لكنه أراد ولاءً خالصاً له خالياً من أي منازعة فكان ما كان،

وأنشئت المدارس الفنية والابتدائية لتعليم الصنائع وأجريت عليها النفقات، لكن

محمد علي لم يصمد للتجربة التي لم تنجح، وأُغلق كثير من تلك المدارس في عهده،

وجاء عباس الأول فأغلق الباقي، وسار محمد سعيد باشا في نفس الخطى، مما

أوجد فراغاً استغلته المدارس التنصيرية الفرنسية، والبريطانية، والأمريكية

المجانية، والحرة، والدولية، فضلاً عن المدارس اليونانية، والإيطالية،

واليهودية، والأرمنية التي اندفعت لملئه منذ أوائل عهد إسماعيل، وقد كان

التعليم في هذه المدارس يتم وفق نظام البلد الأم وبلغتها، وكان التعليم منصبّاً على

توجيه ولاء الطلاب ناحية الثقافة التي يحملها المعلمون في هذه المدارس.

كما تم إنشاء العديد من المدارس الابتدائية، والثانوية على يد النصارى

المصريين، وكانت تقتصر على تعليم التلاميذ المصريين الصغار!

وكانت المدارس الأجنبية تتلقى العون المالي من الحكومة على عهد الخديوي

إسماعيل الذي كان يهدف إلى خلق نظام تعليمي أجنبي ليستكمل (تغريب) مصر [1]

والذي كان عصره أكثر تأثيراً على الحياة الثقافية، وعلى الشخصية المصرية

حتى الآن، وفي عصره بدا المجتمع المصري مجتمعاً مزدوج الثقافة؛ فكان هناك

من تعلموا في الكتاتيب وتخرجوا من الأزهر، وآخرون تخرجوا من التعليم العام [2]

والأجنبي، ويقف على قمتهم من تعلموا في أوروبا، وكان القطاع الثاني يتسع على

حساب القطاع الأول. يقول لورد سالسبري: «إن هذه المدارس هي أول خطوة

لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها، فإنها تخرج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في

عقائدها وتفكيرها وتقاليدها فتحدث فيها صدعاً وشقاقاً تنقسم به على نفسها فيقتلها

هون الانقسام بأيديها» [3] .

وكانت مدارس الإرساليات بما تقوم به ترسم الطريق والمناهج؛ حتى إذا جاء

المستعمر فرض هذه المناهج على المدارس الوطنية مع تغيير طفيف [4] .

وحينما جاء الاحتلال البريطاني نجح في تحويل سياسة المستعمر التعليمية في

مصر والهند من: (سياسة تجهيل الشعوب) إلى: (سياسة تضليل الشعوب) من

خلال التعليم المحدود تحت شعار: (عقل بريطاني، ويد مصرية) وذلك ليستفيد

من تلك الشعوب في خدمة سياساته بدلاً من معارضتها وثورتها.

ومن هنا كان مجيء (دنلوب) ليرسم خطته لا كما فعل نابليون؛ بل سلك

طريقاً أطول فأراد أن يكتسب أولاً قلوب الأطفال، وانتظر ثلاثين عاماً يضع في

رؤوس التلاميذ ما يريده، ويمنع عنها ما لا يريده إلى أن تخرَّج في وزارة المعارف

الجيل الأول والجيل الثاني، فلما صارت مقاعد الوزارات وكراسي النيابة والحكم

ممتلئة بالذين رباهم انقلب إلى وطنه واطمأن قلبه إلى أنه صار لأوروبا في كل بيت

مصري من يكمل برنامجه [5] .

وحتى ينجح الدور كان على المستعمر أن يربط مصلحته بمصلحة الطبقة

الغنية المتنفذة، ففرض المصروفات المرتفعة على التعليم الأولي الابتدائي، والتي

يعجز أبناء الفقراء عن تسديدها، وأضيف إلى هذا خطوة أخرى هي إنشاء مدرسة

لتخريج المدرسين على النمط الغربي.

ومن ثم جاء فؤاد جلال، وعبد العزيز القوصي، وإسماعيل القباني، وطه

حسين؛ للسير في نفس المسار.

وذهب دنلوب فعلاً وبقيت روحه تسري وسياساته تحكم نظم التعليم لا في

مصر وحدها [6] بل في أغلب أقطار العالم الإسلامي [7] .

وظل الحال على نحو من ذلك حتى قامت ثورة يوليو 1952م، وجاء جمال

عبد الناصر بمشروعه الذي رفع شعار: (التعليم كالهواء، والماء ينبغي إتاحته

للجميع) .

ولكن الحقيقة أن عبد الناصر أراد أن ينشئ أجيالاً ذات ولاء لثورته عن

طريق التعليم الإلزامي، وفي خط مواز كان لا بد من التخفيف من ثقل الأزهر،

فكان ما عرف بمشروع التطوير في عام 1961م، ولأول مرة في تاريخه أضيفت

للجامع الأزهر تاء التأنيث [8] ، وفرض الميثاق، ورفع الولاء للقومية العربية

والاشتراكية. أما السياسة البريطانية فقد سارت في نفس الخط.

وحين جاء السادات وانقلب على حكم عبد الناصر أراد البحث عن الذات من جديد،

فبدت المناهج مترددة بين الإسلام وبين العروبة حيناً، ثم لم تلبث أن نحت منحى

جديداً رُسم لها إبان الانفتاح وعقد الاستسلام مع إسرائيل؛ حيث ظهرت سياسة

تعليمية جديدة تتواءم مع استراتيجية السلام الأمريكية التي لم تقنع بمجرد تهميش

الإسلام أو تفريغه من محتواه أو حتى اختزاله في بعض الشعائر والآداب، وإنما

الاستبعاد التام لكل ما هو إسلامي من أجل إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وبعد أن

استوعب مخططو السياسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة درس الخمسينيات

والستينيات بحيث استدعى استكمال تصميم ونجاح التغيير الذي حدث على مستوى

القمة الحاكمة بعد الصلح إجراء تغيير مشابه في البيئة الثقافية والتعليمية التحتية بما

يضمن عدم الصدام وبين تصرفات القمة وطموحات الفئات الاجتماعية الأدنى

المحرومة فعلياً من المشاركة في صنع القرار أو التحكم في هذا الصدام من حيث

النوع والمدى، وهو ما توفره سياسات التعليم الأساسي والنمط التعليمي التلقيني

الراهن ثم بتعزيزه يومياً من خلال المؤسسات الإعلامية الجماهيرية.

والفكرة الكامنة وراء ذلك هو أنه كلما تضاءلت مساحة الإدراك المعرفي لدى

الأطفال والنشء والشباب في مراحل التعليم المختلفة بقضايا أمتهم والتحديات

الخارجية التي تواجهها، وتعرضت ذاكرتهم للطمس، وأهيل التراب على القيادات

التاريخية للأمة التي لعبت دوراً مهماً في استنهاض روح التحدي والكبرياء كلما

سهل على الجماعة الحاكمة المرتبطة بدورها بمصالح أمريكا وتوجهاتها اتخاذ

قراراتهم بما يتفق مع تكوينهم الفكري وخريطتهم العقلية وانصياعاً لمصالحهم

الاقتصادية، وانسجاماً مع انتماءاتهم الاجتماعية حتى لو تعارضت هذه القرارات

على المدى البعيد والمتوسط مع مصالح شعوبهم وأوطانهم، وما يجري هنا يجري

هناك في تونس والجزائر والمغرب وغيرها.

ومن هنا تمت أكبر عملية اختراق أمريكي لمجتمع من المجتمعات من خلال

التنشئة الفكرية والعسكرية للقيادات في البرامج التدريبية، وربط مصالح رجال

الأعمال بالمصالح الأمريكية من خلال مراكز البحث المنتشرة سواء منها الأمريكية

الصريحة أو الوطنية التي تعمل بنظام المقاولات؛ مما أحدث خللاً في النظام

الإعلامي والتعليمي والقانوني، وانعكس هذا بدوره على التركيبة النفسية والفكرية

لقطاعات واسعة من السكان وبخاصة الشباب والأطفال بفعل الأثر السلبي المضاعف

لوسائل الإعلام في عصر السلام [9] .

لقد ظل التحدي الخارجي يستنفر الطاقات حيناً في ظل غياب السياسات

الناجحة، أما في ظل استراتيجية السلام فهل يمكن لنا أن نتخيل ما يحدث في ظل

عوامل النحت والتعرية والتذويب والتفكيك العقدي والأخلاقي والسلوكي والعلمي في

سائر البلاد الإسلامية؟ يقول الجنرال ألبرت ميرجلان خبير الاستراتيجية الدولية:

«هناك حالياً اتجاه يسرف في الحكم على الدول وفقاً لعدد دباباتها وطائراتها المقاتلة!

والواقع أن كَمَّ وكيف التعليم هو الذي سيكون العامل الأكثر حسماً في المستقبل

القريب.... فليست المعركة العسكرية هي التي ستحدد مصير الأمم الصغيرة

والمتوسطة في العالم، بل إن الذي سيفعل ذلك هو النمو الفكري والفني الدائم

للأفراد» [10] فحرب العقول والهوية والذاكرة الجماعية للشعوب هي الآن جوهر

مفاهيم الاستعمار الحديث.

وقد نجحت الولايات المتحدة في تخريب مناهج التعليم كاملة وكذلك سياساته

عبر العديد من مؤسساتها التي منها هيئة المعونة الأمريكية، ومجلس الرئاسة

المصري الأمريكي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنح بعض

المؤسسات الأمريكية، بالإضافة إلى الخبراء الأمريكيين في مركز تطوير المناهج

والمواد التعليمية. وهنا لا يمكن تصور مجرد تعليم وطني فضلاً عن قومي أو

إسلامي، وإنما تعليم أقرب ما يكون إلى وجهة النظر الصهيونية، وإن القارئ لا

يمكن أن يدرك أبعاد المؤامرة في مجال التعليم إلا إذا أحاط بالسمات الغالبة على

المنهج، والتي بها يمكن فهم مداخله، ومخارجه، وأهدافه، ومقاصده.

سمات المنهج التعليمي:

أولاً: التبعية:

وإن كانت التبعية واضحة وضوح الشمس ولا تخلو تصريحات المسؤولين من

اعتراف بها، وأمامنا شهادتان من شخصيتين لهما ثقلهما في المجال الفكري والثقافي

والتعليمي، ولهما مصداقيتهما عند كثير من العلمانيين:

الأول: هو ساطع الحصري الذي يقول: «إن البلاد العربية تسير في شؤون

التعليم على طرق تخالف المبدأ؛ فبعضها يتجه نحو النظم الفرنسية وحدها،

وبعضها يسير نحو النظم الإنجليزية، وبعضها يستلهم النظم الأمريكية، ويقوم

جدال وكفاح بين مؤيدي هذه الأنظمة بصورة علنية أو خفية. وعلى العرب أن

يعدلوا عن الاستمرار في هذه الخطط» [11] .

والثاني: هو: د. محمد حسين هيكل؛ حيث يقول: «إن وزارة المعارف

تخضع اليوم وأمس وستخضع غداً وبعد غد إلى أن يتاح لنا النصر السياسي (!)

الذي نعمل له إلى السياسة التي كانت تخضع لها أيام كان مستر دنلوب مستشاراً مع

فوارق في عدد المدارس وعدد الأساتذة وعدد التلاميذ أكثر منها في أساليب التعليم

وفي الغاية منه، إن سياسة التعليم في وزارة المعارف ستظل اليوم وغداً كما كانت

بالأمس وقبل الأمس خاضعة للسياسة الغربية والحضارة الغربية في روحها.

فالحضارة الغربية بالمعنى الذي يفهمه مفكرو الغرب ومؤسسو هذه الحضارة

الحقيقيون حضارة علمية بالمعنى المفهوم من العلم في العصر الحاضر؛ فالمعنى

الذي يفهمه ساسة الغرب الذين ينشرون لواء هذه الحضارة في ربوع العالم حضارة

استعمارية عدوة للعلم على خط مستقيم وهي كذلك حيثما ذهبت؛ حاربَت العلم

وحاولت حصره في طبقة وفي حدود ضيقة لتتخذ من هذه الطبقة بطانة لها لتروج

الاستعمار، أي لاستغلال البلاد التي تنزل فيها استغلالاً مادياً يذهب كل خيرها

للغرب صاحب هذه الحضارة الاستعمارية.

ولذلك وضعت هذه الحضارة يدها على وزارات المعارف حيثما ذهبت،

وعملت دائبة على إفساد هذه المقومات النفسية والخلقية والقومية مكتفية بطائفة من

المعلومات العملية التي تحتاج إليها إدارة الحكم [12] .

وواضح أن كلا الرجلين ذا نزعة قومية لا تخلو من ثقافة غربية؛ إلا أن

قولهما يعبر عن واقع لمسوه عن قرب واطلاع على مسالكه وأغواره وما ستروه

أكثر مما كشفوه.

ويشهد رجل من تلك البطانة التي اتخذها الغرب طه حسين الذي استمات من

أجل ما أراده الغرب:» والتعليم عندنا على النحو الأوروبي الخالص ما في ذلك

شك ولا نزاع.. فقد وضعنا في رؤوس أبنائنا عقولاً أوروبية في جوهرها وطبيعتها،

وفي مذاهب تفكيرها وأنحاء حكمها على الأشياء « [13] .

وهو يعلنها بلا مواربة أن الهدف من اتباع السياسات الغربية ليس مجرد تبعية

النظام وتشابه السياسات وإنما هو أكثر من ذلك: تغريب الأبناء وأَوْرَبة عقولهم.

وإذا كانت السمة الأولى لهذا التعليم المعلمن هي التبعية [14] فإن ما يمكن أن

ينطبق عليه من عيوب وما يستخرج منه من قبائح إنما هو ناشئ من هذه العلة والله

تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا

مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن

كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ

قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ

بِذَاتِ الصُّدُورِ] (آل عمران: 118-119) .

ثانياً: غياب الخطط الذاتية:

إن العلمانية في بلادنا قد عقمت أن تكون لها أيديولوجية مستقلة ترسم أهدافها

وفق الظروف العربية، ومن ثم رأوا أن تغريب المجتمع أولاً يساعدها في تطبيق

الحلول الغربية ذاتها، ويعني ذلك أن الشعوب لا تدري من أين أتت، ولا إلى أين

تسير!

وإذا كان التعليم العلماني يقصر مفهوم التربية والتعليم على المرحلة السنِّية

بين (5-23) عاماً، وهي بلا شك أخطر المراحل السنِّية التي يشكل المنتمون

إليها في المجتمع الكتلة الحيوية الحرجة، هذه الكتلة تتحرك تعليمياً وسط أضلاع

مثلث يتمثل في:

- فلسفة النظام والتعليم التربوي (دالَّة الهدف) .

- سياسة تعليمية تجسد هذه الفلسفة (دالة السياسات) .

- وسائل تنفيذ هذه السياسات مالياً، وإدارياً (دالَّة الإجراءات) [15] .

والواقعة المادية التي تشهد بغياب جل ذلك بالإضافة إلى شهادات أخرى وما

يشهد به الواقع تتمثل في الدراسات التي أعدت لمؤتمر عمان في الفترة 12- 15

مايو 1990م، والمناقشات التي جرت في اجتماعاته والتي تشهد بأن أنظمة التعليم

في البلاد العربية تعاني من عدم بلورة أهداف التعليم وسياساته، ومن جمود مناهجه،

وأن هذه الأنظمة أصبحت تسهم في ضمور الطاقات المجتمعية، بحيث أضحى

التعليم عبئاً على التنمية، وغدا مشدوداً إما إلى الافتتان بالماضي وتقليد نماذجه

وحلوله، وإما محاكيًا لنماذج الحضارة الغربية التي قد لا تتلاءم في توجهاتها،

ومدى فاعليتها مع التطوير الحقيقي لأوضاع المجتمع العربي؛ وتلك هي الأوصاف

التي وسم بها التعليم في (استراتيجية تطوير التعليم في مصر) التي صدرت في

عام 1987م؛ ففي هذه الاستراتيجية تقرأ عن:

- غياب الاستراتيجية التي تبلور سياسة التعليم، وغياب الطابع القومي في

التعليم، وعدم إسهام من يعنيهم الأمر في تطويره! ص 22- 23.

- عجز التعليم عن مواجهة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والعملية

والتقنية، وغض الطرف عن ذاتية المجتمع المصري وهويته الثقافية ص 24.

- ضعف الثقة في التعليم، وعدم مساندته معنوياً، وعدم التنسيق بين التعليم

النظامي، وتناقض ما تبثه وسائل الإعلام مع ما تقدمه المدارس ص 25- 26.

- إن مناهج التعليم صلبة لا تلبي مطالب المتعلم أو البيئة، ويغلب عليها

الطابع النظري، وتهمل ميول الأفراد ومواهبهم، وإن الامتحانات تدرب على

التذكر ولا تستثمر إمكانات العقل الإنساني ص 27- 29 [16] .

إن غياب مثل هذه الفلسفة الاجتماعية العامة للمجتمع يعتبر نقطة الضعف

الأساسية في جهود تطوير التعليم؛ لأنه بغيابها تدفع أن تحل الرؤية» الخاصة «

والاجتهاد» الفردي «لكل من فلسفة التعليم وسياساته في كل فترة، مما يعرض

هذه الرؤية الخاصة إلى التبدل كلما اتفقت فترة لتحل أخرى [17] .

هذه الأزمة منشؤها غياب العقيدة والانتماء لها عن عقل وحس صانع القرار،

والإنسان بلا عقيدة إنسان بلا هدف إلا إذا اعتبر أن نزواته وحاجاته الشخصية

أهدافاً.

وحين تغيب العقيدة في ظل ظروف محايدة فإنه لا بد من أمرين:

الأول: أن يتحكم الثابت في المتغير في إطار اتخاذ الواقع مدخلاً لعملية

التنظير وهو ما حدث ويحدث بالفعل. وهو في هذا متغير بطبعه مما يجعل منه

نموذجاً متبدلاً لا نستطيع أن نميز فيه بين متطلبات الواقع الحقيقية وضروراته وبين

تلك المتوهمة، بل إنه ابتداءاً لا يمكن التمييز بينهما وبين الأهواء المتعارضة

والمصالح الأنانية المتناقضة لجماعة كانت أو لفرد أو لفئات مختلفة؛ وهذا التبدل

ينعكس على نسق أساسي من المفاهيم يعززه النسق المعرفي والأيديولوجي الوضعي

بحيث تعد مفاهيم يمكن تغييرها وتبديلها بلا ضابط ولا رابط.

والثاني: هو عبث الأفراد وتدخلهم في عملية التأسيس بما يحقق مصالحهم

الآنية والأنانية؛ فهو إذن تأسيس لا يتمتع بالثبات، كما لا يتمتع بالاستقلال. هذا

في وضع الحياد، فإذا أضاف الواقع بعداً ثالثاً هو المسارات التي رسمتها القوى

الغربية وقوى الجذب إليها والتي يصعب على الدول فضلاً عن المؤسسات والأفراد

الخروج عنها إلا أن تحركها العقيدة وترسم لها خطها الحياتي، والواقع أن معظم

الدول العربية والمسلمة بدرجة أو بأخرى تنطلق من هذا التأسيس الوضعي في

حركتها وممارستها، والنتيجة هي التردي، والإخفاق الذي لحق بكل الدعاوى

والمثاليات الوضعية التي رفعتها منذ أن حصلت على استقلالها السياسي وحتى

اليوم [18] ، وهو واضح كل الوضوح في سياسات وزراء التعليم المتعاقبين؛ إذ كل

واحد يأتي ليطبق ما يراه وفقاً لانتماءاته الفكرية وقناعاته الفلسفية وخبرته العملية

وربما صداقاته وعلاقاته [19] !

وهذا ينتج عنه سمة أخرى هي:

ثالثاً: التسويغ الأيديولوجي:

وهو من أخطر الأمور التي يمكن أن تراها في نظام في العالم؛ لأنه يقتل

الوعي؛ فإذا كانت العقيدة هي التي تؤسس للعلم والتربية في بناء المجتمع فيأتي

العلم منسجماً مع ذلك كله؛ فإن العلم وفق النظرة البراجماتية هو الذي يصنع

المجتمع.

ومناهج التعليم في بلادنا العربية تعتمد مبدأ تبرير الأيديولوجية المسيطرة

وعرضها على المتعلمين، وكأنها أيديولوجية عامة تمثل مصالح كل القوى

الاجتماعية، مما يزيف وعي المتعلمين بالواقع، خاصة حين يُكتفى بالدور التبريري

للأيديولوجيات الرسمية فيقوم التعليم بوظيفة إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية

نظراً لطبيعة الأيديولوجية.

ومن هنا يصدق القول بأن التعليم منذ عهد محمد علي وحتى اليوم إنما يقوم بخدمة

الأهداف السياسية للنخب الحاكمة بعيداً عن الأهداف الحقيقية للمجتمع فضلاً عن

المعاني الشرعية؛ وهي بهذا تقدم وعياً زائفاً بالحقائق التي يجب أن يعيها المسلم

عن واقعه ماذا يريد منه، وماذا عليه أن يصنع فيه؟ وهذا بدوره يسلم للذي بعده.

رابعاً: اتباع سياسة التلفيق:

وهي سياسة اتبعها المستعمر لإفراز نوعية من البشر لا يمكن أن تفهم ما يقع

إلا بعقل المعلم، وكما سبق أن أشرنا سياسة» عقل إنجليزي ويد مصرية «.

وفرق بين التلقين والاعتماد على ذاكرة اللفظ كأسلوب للتعليم وسيطرة التعليم اللفظي

وعدم ربط التعليم بالعمل وبالواقع وبين بناء الإسلام للمنهج التجريبي بأدواته

وأساليبه والذي يبني الذاتية العلمية المؤهلة المنضبطة القادرة على النمو والارتقاء.

ولا شك أن هذه السياسة سياسة سلطوية لها بصمتها الواضحة اليوم على

شخصية الأجيال العربية والمسلمة.

وهذه السياسة تعكس أحد أمور أو أكثر مما يلي:

أولها: عجز القائمين على أمر التربية عن التطوير الذي يواكب ما ينادون به

من شعارات الحداثة والتنمية والتطوير.

ثانيها: أن هناك انفصاماً بين المناهج وروح المجتمع، وربما شخصيات

واضعيها أيضاً، ومن ثم كان أسلوب» ابلع ما يأتي «هو الأسلوب المناسب في

هذه الحال.

ثالثها: وهو الأعجب: أن من مصلحة القائمين على التعليم أن يبقى الوعي

عند أدنى درجاته.

رابعها: أن هذه السياسات مرسومة، ودور القائمين هو: مجرد التنفيذ

لسياسات ومناهج هم غير مقتنعين بها وهم غير متفاعلين معها، ومن ثم فلا يصلح

غير التلقين.

وأياً كانت الحقيقة؛ فإنها إدانة قوية للتعليم الحداثي الذي جر على أمتنا

الويلات.

خامساً: المفاهيم المختلة لأركان العملية التعليمية، وأهم

ركنين هما:

(الإنسان والعلم) :

فالنظرة المادية للإنسان والتي تنحدر أكثر وأكثر حين يكون هذا الإنسان هو

العربي أو المسلم. والتي تقيس الإنسان بشهواته ونزواته هذه النظرة هي التي تحكم

عملية التعليم اليوم في بعض البلدان ويراد لها نفس الأمر في بلدان أخرى.

والعلم الذي يستبعد ما وراء الحس ويحاول أن يفلسف الأمور الغيبية

والشرعية فلسفة حسية مادية تفقدها روحها.

فهو ضمناً يستبعد علوم الشرع من مسمى العلم؛ بينما يضم فيه الفلسفات

الوضعية والنظريات الباطلة مما يتوهم أصحابها ومعتنقوها أنها مسلَّمات وهي ليست

بعلم أصلاً؛ هذا العلم هو الذي تتبناه السياسات التعليمية العلمانية في غالب البلاد

الإسلامية، وهو مع هذا محدود بمرحلة سِنِّية معينة.

وكلا النظرتين مخالفة لنظرة المسلم؛ فالإنسان هو ركن الحضارة، والعلم هو

عمادها وهو غير مناقض للإيمان الصحيح؛ لأن كلاً منهما يدل على الآخر ويحث

عليه، والعلم شِقُّ الإيمان الذي يكمله شِقٌّ آخر هو العمل.

سادساً: أزمة الهوية:

» وهي أظهر في مناهج الدول التي طُبِّعت تعليمياً، فعلى سبيل المثال قامت

إحدى الباحثات بتحليل محتوى وثيقة الاستراتيجية السابق ذكرها بالنسبة للهوية

والانتماء فوجدت أن الهوية المصرية قد احتلت فيها الأولى تليها الهوية العالمية، ثم

الهوية العربية، واحتلت الهوية الإسلامية المرتبة الأخيرة، وتشير إلى أن أكثر

التكرارات في الهوية الإسلامية جاءت مقرونة مثل: ثقافتنا المصرية العربية

الإسلامية، وأن التناول كان للقيم الإسلامية العامة وليس للإسلام بوصفه ديناً

وشريعة.

وفي وثيقة «مبارك والتعليم» هبط الانتماء الإسلامي للصفر، وانخفض

الانتماء العربي انخفاضاً ملحوظاً لصالح تأكيد الانتماء المصري.

واستخلصت الباحثة من تحليلها أن طبيعة «الشخصية» التي يراد من التعليم

الإسهام في صياغتها كانت واضحة في «استراتيجية تطوير التعليم» ولم تكن

واضحة في كتاب «مبارك والتعليم» حيث زاد التركيز على الانتماء المصري،

وتراجعت كل من الهوية العربية، والهوية الإسلامية بصورة تثير القلق! [20] .

وتشير إحدى الدراسات أن مناهج التاريخ في المرحلة الابتدائية تؤكد على

فرعونية مصر بنسبة 54%، وعلى الانتماء القومي المصري بنسبة 30%؛ بينما

لا يشغل الانتماء العربي سوى 16% من المحتوى، وأن الكتب المصرية تؤكد على

فكرة الوطنية المصرية بوصفها شيئاً مستقلاً عن القومية العربية والقومية الإسلامية.

وفي دراسة أخرى لمناهج المرحلة الثانوية يبلغ التركيز على الهوية القطرية

45% بينما تحظى الهوية العربية بالمرتبة الثانية (27.8 %) . أما الهوية

الإسلامية فتتراجع إلى المرتبة الخامسة (4.8 %) وتلاحظ إحدى الدراسات حول

عروبة التعليم المصري [وفقاً لمنظور الباحث] من عام 1952م إلى1981م مدى

تذبذب مكونات الهوية بالعامل السياسي الرسمي [21] . وهكذا تحولت الهوية الأصلية

للشعب إلى سلسة من عمليات التغييب والتشويه والتزييف: حيناً بإعادة صياغة

العقول عبر التعليم والإعلام، وحيناً بأدوات القهر والعنف حتى تلازمت العلمانية

والدكتاتورية في مجتمعاتنا.

سابعاً: فساد المناهج والمقررات:

أول ما يطالعنا في ذلك هو مادة (الدين) التي تعد ثانوية كما يريد العلمانيون

أن يُفهِموا النشء أن الدين شأن ثانوي في الحياة؛ وهي مع هذا مادة جامدة لا ترى

الدين إلا أماني لا تحفظ ماءً ولا تنبت كلأً، وهي في فلسفتها خاضعة للمفهوم

العلماني للدين الذي يفصله عن العلم، والمجتمع، والحياة؛ وهذه المادة يُخطَّط

لاستبدالها بمادة الأخلاق وهي لا شك خاضعة لكل النظريات اليهودية من روسو إلى

دارون إلى دوركايم وفرويد وسارتر، بل وأينشتين أيضاً.

- أما التاريخ فتم حذف كل ما يشير إلى الجهاد أو إلى عداء اليهود من

أحاديث أو آيات أو وقائع وكذلك الحروب الصليبية، وتم تقليص مساحات السيرة

النبوية والتاريخ الإسلامي لصالح التاريخ الفرعوني والأوروبي الحديث؛ والظاهر

أن المراد في كل مرة هو الإسلام.

- وبلغت العلمنة حدها حين استخرجت من كتب القراءة والنصوص كل ما

يرمز إلى سمت الإسلام وسلوكه.

- ومن ذلك التشويه المتعمد للشخصية الإسلامية سواء على المستوى

التاريخي أو على مستوى المقارنة من خلال الرسم والتصوير الإيضاحي أو حتى

على مستوى العمران، وقد بذلت عناية فائقة في هذا المجال.

- أما كتب المنطق والفلسفة فقد ذكرت أقوال الفرق كلها دون أدنى توجيه أو

تعليق.

- وفي كتب اللغة العربية شوهت اللغة بمحاولة تسطيحها وإقحام التجارب

الحداثية فيها دون معنى، وحذف النصوص ذات القيم الجمالية، والدلالية العالية.

- أما في الكتب الأجنبية فحدِّث ولا حرج عن الصور العارية والمشاهد

الجنسية الفاضحة، والحوارات الساخنة، كما أنها لم تَخْلُ من إقحام لفقرات

تنصيرية.

- وحين يُستبعَد من القيام بعملية التدريس كل من له سمت إسلامي أو ولاء

ظاهر للإسلام من أجل أن يقطع طريق العودة إلى الإسلام من كل سبيل وفق سياسة

تجفيف الينابيع.

- والمراد من وراء ذلك كله كما يقول الدكتور إبراهيم البحراوي رئيس وحدة

الأبحاث الإسرائيلية بجامعة عين شمس بالقاهرة: هو تجريد المجتمع المصري من

إرادة الصراع، وإيقافه بعيداً عن حالة اليقظة والاستعداد ليكون في وضع

الفريسة [22] .

- كانت هذه بعض السمات الظاهرة والغالبة على التعليم العلماني عموماً وفي

الدول التي قطعت شوطاً كبيراً في العلمنة على وجه الخصوص، وما لم نذكره من

سمات لا يقل أهمية وخطراً عما ذكرناه، ولكن ضيق المقام حال دون الاستطراد في

هذا الباب، لكن بقي أن نشير إلى أن مدرسة المشاغبين التي عرضت في منتصف

السبعينيات لم تكن يومها سوى تبشير بسياسات تعليمية علمانية، وهي مع هذا

عادت لتطل علينا مرة أخرى مستفيدة مما استجد من تقنيات ومبتكرات فكرية ومادية؛

لكنها هذه المرة أطلت علينا من المدرسة والجامعة إلى جانب المسرح والتلفاز،

وأبطالها وهم غير أبطال صاروا أكثر عدداً وأكثر تصريحاً وأعلى صوتاً، وفي كل

مكان لن تعدم مشهداً أو مشاهد من تلك المسرحية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015