ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(3 - 3)
(3 - 3)
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
في الحلقتين السابقتين طاف بنا الكاتب بين الانحرافات التي أصابت الأمة
الإسلامية، وتنقل بنا إلى أنحاء شتى من عالمنا الإسلامي ليرصد حركة التغريب،
واليوم نتابع معه بقية الحديث.
- البيان -
التوفيقية والإصلاح الديني:
لم تكن العلمانية بهذا السفور لتجد رواجاً في العالم الإسلامي آنذاك، كما أنها
في هذا القالب كانت مقتصرة على مخاطبة فئة قليلة في المجتمع وإن كانت ذات
تأثير هي فئة النخبة المثقفة إن جاز التعبير، لذا: كان لا بد من وجود أسلوب آخر
يضمن قبول العلمانية والتغريب لدى قطاعات كبيرة من المجتمع، ولذا أيضاً كان لا
بد من وجود وسائل تتسم بالشيوع والانتشار لضمان وصولها.
نهج غربي مقترح:
ولنترك جانباً في هذا المقام نظريتنا التآمرية، ولندع كبار مخططي (الغزو
العلماني التغريبي) في هذه المرحلة يحدثوننا عن النهج المقترح في ذلك، واصلين
السابق باللاحق في ذلك لتتضح الصورة جيداً:
يحدثنا أول مندوب سام بريطاني في مصر وأحد أبرز قادة الحملات التغريبية
على العالم الإسلامي في العصر الحديث (إفلن بارنج) المعروف بـ (اللورد
كرومر) عن أهداف الإنجليز (الحضارية!) فيقول: «المصريون يتمسكون
تمسكاً تاماً بالإسلام الذي هو أحد الكلمات المرادفة للوطنية في الشرق، والإنجليز
لا يهدفون إلى نشر المسيحية، ولكنهم يريدون نشر حضارة تقوم على أساس
مسيحي» [1] ، فإذا كان الأمر كذلك، فما مصير (الحضارة الإسلامية) ؟ يوضح
الإجابة لنا الدكتور محمد محمد حسين ملخصاً وجهة نظر المستشرق الإنجليزي
المتأمرك هاملتون جب، فيقول: «المقصود من الجهود المبذولة لحمل العالم
الإسلامي على الحضارة الغربية هو تفتيت وحدة الحضارة الإسلامية التي تقوم
عليها وحدة المسلمين؛ لأن كل قطر سيتجه إلى اقتباس ما يلائم ظروفه من هذه
الحضارة، وعند ذلك تتعدد أساليب الاقتباس بتعدد البيئات الإسلامية المختلفة،
فتفقد الحضارة الإسلامية طابعها الموحد، بل لا يعود هناك شيء اسمه (حضارة
إسلامية) » [2] ، وفي مقال: (مصر وغربي آسيا) ضمن كتاب: (وجهة
الإسلام) الذي أشرف عليه جب يلفت المستشرق الألماني كامبفماير النظر إلى
عوامل وحدة هذه الحضارة حتى يمكن التركيز عليها، ويلخصها الدكتور محمد محمد
حسين في ثلاث نقاط: «أولها هي: أهمية الكتلة العربية وخطورتها في نظره،
وثانيها هي: أن أهم العوامل التي تستمد منها هذه الكتلة وحدتها هي:
اشتراكها في اللغة العربية الفصحى، واشتراكها في العناية بالتراث الإسلامي
القديم وتاريخه وأدبه، وثالثها هي: ما يستتر وراء كلامه من أنه يتمنى أن يحدث
في مصر ما حدث في تركيا من قطع كل صلة بالماضي الإسلامي واستبدال الحروف
اللاتينية بالحروف العربية» [3] .
وهنا يتبين أن المعركة الفكرية ستدور حول عدة محاور: الهجوم على اللغة
العربية الفصحى لغة القرآن، ويتضمن ذلك: استهداف الحروف العربية التي تعد
أداة لوصل الماضي بالحاضر ولربط الشعوب الإسلامية بعضها ببعض، والهجوم
على التراث الإسلامي الذي صيغ بهذه اللغة واستنبط من أسس الإسلام وتصوراته
ومقوماته لإفساح المجال أمام الثقافة الجديدة بما تحمله من قيم وتصورات مختلفة،
أما المعركة السياسية: فتدور حول التفتيت الذي تحدث عنه جب، وبصفة خاصة
تفتيت الكتلة العربية المميزة بموقعها المعنوي والجغرافي والتاريخي.
ولكن على أرض الواقع، كيف ستنفذ المخططات التي وضعت لتحقيق هذه
الأهداف؟ وكيف سيقضى على العوائق التي تواجه هذا الغزو في ظل وجود خلاف
عميق بين الجديد والقديم والغازي والمغزو؟
نعود إلى اللورد كرومر، فقد «لاحظ كرومر وجود هذا الخلاف بين
المسلمين وبين المستعمر الغربي في العقائد وفي القيم، وفي التقاليد والعادات، وفي
اللغة، وفي الفن، وفي الموسيقى ...
لاحظ كرومر في هذا الفصل أن هذه الخلافات هي السبب في انعدام ثقة
المسلم بالمستعمر الأوروبي وسوء ظنه به، وهي السبب في وجود هُوَّة واسعة
تفصل بينهما، وتجعل مهمة المستعمر محفوفة بالمتاعب. ودعا من أجل ذلك إلى
العمل بمختلف الوسائل على بناء قنطرة فوق هذه الهوة.
وقد اتخذت هذه الوسائل طريقين: أحدهما هو تربية جيل من المصريين
العصريين الذين ينشَّؤون تنشئة خاصة تقربهم من الأوروبيين ومن الإنجليز على
وجه الخصوص في طرائق السلوك والتفكير. ومن أجل ذلك أنشأ كرومر (كلية
فكتوريا) ، التي قصد بها تربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط
إنجليزي، ليكونوا من بَعْدُ هُم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين،
وليكونوا في الوقت نفسه على مضي الوقت أدواته في التقريب بين المسلمين وبين
المستعمر الأوروبي، وفي نشر الحضارة الغربية [4] ...
أما الوسيلة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل
على تنفيذها، فهي أبطأ ثماراً من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثاراً ... وهي
تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره؛ بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة
الغربية، أو قريباً منها وغير متعارض معها على الأقل، بدل أن يبدو عدواً لها
معارضاً لقيمها وأساليبها ... » [5] ، «ومن ثم عمد رجال الاحتلال إلى العمل
على زيادة عدد المصريين الآخذين بنصيب من الحضارة الأوروبية» [6] .
وماذا يتوخى رجال الاحتلال من ذلك؟ يقول كرومر: « ... وإذا استمر المضي
في هذا الطريق أصبح المصري الآخذ بحضارة أوروبا أقل مصريةً وأكثر ميلاً
لأوروبا؛ إذ يصبح المصريون بهذا الفيضان المتدفق من الحضارة الأوروبية أقل
إسلاماً، وهم في الوقت نفسه لم يحصلوا بعد على العمود الفقري في الحضارة
الأوروبية» [7] ، «أو كما يصفهم في عبارة قصيرة (بأنهم مسلمون وليست فيهم
خواص إسلامية، وأوروبيون وليست فيهم خواص أوروبية) » [8] وهو المسخ
العلماني التغريبي الذي نراه الآن.
فما الذي حصله هؤلاء إذن؟ يذكرZetland Marquis of. أن الهدف
النهائي لهذا المسعى هو: «القضاء على استخدام الأساليب الشرقية الموشاة بمدنية
أوروبية زائفة، وأن تستبدل بها مدنية غربية حقيقية تقوم على أساس من مبادئ
الأخلاق المسيحية» [9] ، ويجيبنا كرومر نفسه بما يهدف إليه، فيقول: «الشباب
المسلم الدائر في تيار الحضارة الأوروبية يفقد إسلامه أو على الأقل يفقد القدر
الأكبر من دينه ويحرم نفسه من أهم مبادئ عقيدته، وفي الوقت نفسه: نادراً ما
يتجه هذا الشخص إلى المسيحية ... فالحضارة الأوروبية تقضي على دين دون أن
تستبدل به غيره ... وهكذا فإنه بحرمان نفسه من عقيدته لن يجد رادعاً أخلاقياً،
وفي الوقت نفسه: يحاول تقليد الأوروبي، ولا يترك هذا المصري عقيدته خلف
ظهره فحسب، بل إنه يترفع عنها ويزدريها، وهكذا يندفع مغمض العينين بين
أحضان الحضارة الأوروبية غير مدرك لحقيقة هامة، هي أن ما يراه ليس سوى
المظهر الخارجي لتلك الحضارة، بينما تستقر المعنويات المسيحية تحت هذا
المظهر وتتحكم في تحركاته ... » [10] ! يا لك من لورد خبيث!
«ولكن هل يحيا المصريون هكذا دون عقيدة معينة؟ ... يوضح كرومر أنه
(بمرور الوقت سيخلق المسلمون ديناً لا يقوم على الإسلام الأول، إنه سيقوم على
مبادئ جديدة. وهكذا فإن المصري المتحضر بالحضارة الأوروبية هو الحجر الأول
وليس الأخير في المجتمع الإسلامي المتطور) ، وفي الوقت نفسه ينصح كرومر
رجال السياسة الأوروبية بالابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعد تحقيراً للعقيدة
الإسلامية (ولندع هؤلاء الذين يقودون دفة الدولة على حذر يدكُّون في مكر الصرح
الروحي للمجتمع الإسلامي؛ فإن ازدراء العقيدة الدينية للشعب بأسره أمر على
جانب كبير من الخطورة سياسياً واجتماعياً) » [11] ، وهذه السياسة تذكرنا بنظرة
نابليون بونابرت إلى مكانة الدين عند المصريين، وبسياسته القائمة على ترويض
الدين ومواجهته باستخدام لقاح من جنسه ضده.
تتفق هذه النظرة مع نظرة (الشيخ) محمد عبده التي عبر عنها بقوله: «أنفس المصريين أُشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعاً فيها؛ فكل من طلب
إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذراً غير صالح للتربة التي أودعه فيها،
فلا ينبت، ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك: ما شوهد من أثر
التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم» [12] ، وقد عبر عن هذه
النظرة مرة أخرى عقب عودته من منفاه في نصيحة أسداها ضمن مذكرته المقدمة
إلى اللورد كرومر؛ حيث نبه الإنجليز إلى أهمية الدين عند المصريين، فقال: إن
«أعظم فاعل في نفوسهم [المصريين] (وأغلبهم مسلمون) أن يقال: إن صاحب
هذه المنفعة ليس من دينكم، وأنكم مأمورون ببغضه ... » [13] .
وكما التقت النظرة في (المثير المانع) من التغيير، التقت أيضاً في منهجية
هذا التغيير؛ فقد كان من أقوال محمد عبده التي سطرها لتوضيح هذه المنهجية
معترضاً أيضاً على طريقة محمد علي في الإصلاح رغم تقبله لإنجازاتها: « ...
ولو أنه [أي صاحب الفكر الرفيع الذي يريد كمال أمة] أراد تحويل أفكار شخص
واحد وهو في سن الرجولة، هل يمكنه أن يبدلها بغيرها بمجرد إلقاء القول عليه؟
كلا، إن الذي تمكن في العقل أزماناً لا يفارقه إلا في أزمان، فلا بد لصاحب الفكر
أن يجتهد أولاً في إزالة الشبه التي تمسك بها ذلك الشخص في اعتقاداته، وذلك لا
يكون في آن واحد، ولا بعبارة واحدة ... فما ظنك بحال أمة من الأمم ...
وإنما الحكمة: أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم
يطلب بعض تحسينات فيها، لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو
أرقى بالتدريج، حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم
المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون ... » [14] .
ويبدو أن الإنجليز استفادوا بالفعل من هذه النصائح؛ يقول الدكتور سامي
عزيز: «واتبع الإنجليز الوسيلة التي كان ينادي بها محمد عبده بشأن محاولة
تغيير المجتمع ... » [15] ، فيمكن القول: إن نظرية (الإصلاح) القريب المتدرج
والمتصاعد التي آمن بها محمد عبده اتفقت مع أهداف الإنجليز وطباعهم، وإن كنا
نمسك عن الخوض في الحديث عن إشكالية الدوافع لكلا الفريقين.
ثم بالإلحاح، والإصرار و (التعليم) و (الفن) سينشأ الجيل الجديد، الذي
«يجب أن يجد من الإغراء أو الإرغام ما يجعله يمتص الروح الحقيقية للحضارة
الأوروبية» [16] .
«وهكذا، فإن الاحتلال لن يأتي بشعب جديد إلى مصر؛ ولكنه يعمل في
صبر على تغيير الأسس التي تقوم عليها مقومات الشعب، وفي الوقت نفسه وضع
كرومر نصب عينيه أن يكون دخول المدنية الأوروبية دون زعزعة كيان المجتمع
ثورياًّ» [17] .
لم يكن هذا النهج وجهة نظر آنية، بل كان مخططاً مدروساً أصبح فيما بعد
أساس التغيير العلماني التغريبي في معظم العالم الإسلامي، حتى إن مؤتمر الثقافة
الإسلامية والحياة المعاصرة المنعقد في برنستون عام 1953م (1372هـ) جاء
في كتاب أبحاثه: أن « ... هذه المشاكلة لا تقوم إلا بتقارب القيم الأخلاقية
والاجتماعية، وهذه القيم لا تتقارب ما دامت الشعوب الإسلامية تعيش على قيم
ثابتة تخالف قيم الغرب، وهي قيم الإسلام. فلا بد إذن من أحد حلين:
إما أن يمحى هذا الإسلام بتشكيك الناس فيه، وفي قيمه، وفي الأسس التي يستند
إليها، ويحاصر بحيث لا يتجاوز نفوذه المسجد، وبحيث يفقد سيطرته على مسلك
الأفراد وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وذلك عن طريق إقناع الناس بأن الدين شيء
ومشاكل الحياة شيء آخر.
وإما أن يخضع هذا الإسلام للتطوير بحيث يصبح أداة لتبرير القيم الغربية،
ولتقريب ما بين الشعوب الإسلامية وبين الغرب. وهذا الطريق الأخير يكشف عن
قوة هائلة لا يغني غَناءَها شيءٌ، إذا أمكن استخدامها كأداة لتحقيق الأهداف
الاستعمارية في إقامة علاقة ثابتة من الود والتفاهم. ذلك هو ما ينبه له جوستاف
فون جرونباوم أستاذ اللغة العربية في جامعة شيكاغو، حيث يقول: (إن الدين
الجديد ويقصد به التأويلات الإسلامية العصرية سيدخل أو يسمح بإدخال أسئلة جديدة
تتطلب أجوبة مناسبة، وسيقترح أجوبة جديدة لأسئلة قديمة، أو يخلع صفة
الشرعية على أجوبة كانت في النظام المعدول عنه تعتبر أسئلة هدامة أو غير
مقبولة) ص 192» [18] .
فالحل الأول هو العلمانية الصريحة، والتي كانت تركيا محلاً لتطبيقها، وقد
تشاركها في هذا الوصف إندونيسيا وتونس وإيران رضا بهلوي، إضافة إلى
تجربة أمان الله خان في أفغانستان، وهي التي أنشأ كرومر كلية فيكتوريا لتفريخ
قادتها، أما الحل الآخر: فهو التوفيقية وما يصاحبها من (إصلاح ديني) ، وهو ما
طبق في مصر على نطاق واسع وكثير من البلدان الإسلامية الأخرى.
لذا: ينبغي لكي نعي مسيرة العلمانية جيداً أن ندرس (التوفيقية)
و (الإصلاح الديني) .
التوفيقية:
كان التوفيق بين القيم الغربية والإسلام واقعاً في النشاط الفكري في هذه
المرحلة، وتعود جذور هذا المنحى إلى رفاعة الطهطاوي في مصر وخير الدين
التونسي في تونس، وأحمد خان في الهند، وقد ساهم الأفغاني أيضاً في هذا
المنحنى بنصيب.
وقد أشار الأفغاني إجمالاً إلى طرف من منهجية هذه الحركة التجديدية في
الدين بقوله: «إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية، فإن كان ظاهره
المخالفة وجب تأويله!» [19] ، وقد يكون بين الاعتماد على حقائق العلم
(التجريبي) والقول بـ (المادية) فارق دقيق يصعب المحافظة عليه والتنبه له،
ولكن التوفيقية في المرحلة التي نتحدث عنها أخذت بعداً أكبر وأثراً أعمق من ذي
قبل.
وفي المرحلة التي نحن بصددها رأينا أكثر من اسم لامع، ومن هذه الأسماء:
الشيخ اللبناني المولد الأزهري التعلم حسين الجسر (1845م 1909م/ 1261هـ
1327هـ) الذي «أسس (المدرسة الإسلامية الوطنية) في مسقط رأسه طرابلس،
وكان منهج هذه المدرسة يشتمل على تعليم اللغات العربية والفرنسية والتركية،
والعلوم الدينية، والمنطق، والرياضيات، والعلوم الطبيعية الأوروبية
الحديثة» [20] ، ومن جهود الشيخ في هذا المجال كتابه (الرسالة المحمدية في
حقيقة الديانة الإسلامية وحقيَّة الشريعة المحمدية) حيث نحا في بعض أبحاثه
هذا المنحى التوفيقي، ف «طريقة معالجته لشخصية محمد [صلى الله عليه
وسلم] وتعاليمه يمكن اعتبارها نهجاً جديداً وبالأخص إلحاحه على حق العقل في
تفسير القرآن والحديث؛ فهو يدعو إلى تفسيرها حرفياًّ ما لم يتعارض هذا
التفسير الحرفي صراحة مع أحد المبادئ العقلية، عندئذ يجب تفسيرها رمزياًّ؛ إذ لا
يجوز قبول أي تفسير يتناقض والدليل العقلي القاطع، عندئذ يجب تفسيرها
رمزياً» [21] .
وفي الشام أيضاً نشط عبد الرحمن الكواكبي في بداية حياته قبل أن يواصل
هذا النشاط في مصر، وقد كان «ينتمي إلى مدرسة الأفغاني ... التي كانت تفكر
في المسائل الطارئة بعقل عصري، فتتدارسها في ضوء العلم والعقل النظري، ثم
تنقلها إلى الدين وتربط بينهما برباط قوي متين ... لذلك فإن آراء الكواكبي في
الإصلاح الديني لا تخرج في جملتها عن آراء الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ
رشيد رضا ... » [22] ، ويشير بعض الكتاب إلى احتمال تأثر الكواكبي بكتاب
(مستقبل الإسلام) لبلنت، كما يشيرون إلى وجود دلائل قوية لاقتباسه إطار وبعض
أفكار كتابه عن الاستبداد من كتاب (رسالة في الاستبداد) للمفكر الإيطالي في
عصر الثورة الفرنسية فيكتور ألفياري [23] ، ومن ثم: فقد ربط الكواكبي متابعاً
ألفياري بين الاستبداد والدين، زاعماً أن الاستبداد في السياسة متولد من الاستبداد
في الدين أو مساير له، وإن نفى الكواكبي ذلك عن الإسلام الحقيقي [24] .
ولم يقف تأثر الكواكبي بالفكر الغربي عند حد الاقتباس، بل سعى إلى حركة
توفيقية إصلاحية شاملة في الإسلام؛ إذ «يبدو من كلام الكواكبي [في كتابه أم
القرى] على لسان المندوب الإنجليزي أنه يهدف إلى تكوين جماعة من المسلمين
تنزع في تفكيرها منزع البروتستانت في تفكيرهم» [25] ، ومن هنا لم يجئ طرحه
لمبدأ العلمانية في فصل الدين عن الدولة من زاوية إلحادية كما طرحه شبلي الشميل
مثلاً، بل جاء طرحاً مناسباً لـ (عالم ديني كبير) [26] ، فكانت من أقواله مخاطباً
العرب غير المسلمين: «.. دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا ... دعونا ندبر حياتنا
الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط! دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا
وهي: فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن..» [27] .
وفي تونس كانت مدرسة (الصادقية) التي كان خير الدين التونسي أسسها
عام 1875م (1292هـ) لتكون منافسة لجامع الزيتونة ولتعليم اللغات التركية
والفرنسية والإيطالية والعلوم الحديثة، فضلاً عن اللغة العربية، وعلوم الدين
الإسلامي.. كانت قد خرَّجت أجيالاً من الطلاب مزودين بتربية عصرية [28] ،
وإضافة إلى مجموعة جريدة (الحاضرة) التي تأسست في أغسطس 1881م
(1298هـ) واستمرت حتى عام 1906م (1324هـ) متخذة أفكار خير الدين
التونسي نبراساً لها، إضافة إلى ما تركته من أثر ثقافي وسياسي في البلاد..
أنشئت عام 1896م (1314هـ) بدعم أو حتى بمبادرة من السلطات الفرنسية [29]
« (الخلدونية) ، وهي رابطة توخت إطلاع الذين تربوا تربية تقليدية في المدارس
القرآنية وفي جامع الزيتونة على العلوم العصرية» [30] ، يعبر عن ذلك المنهج
أحد إصلاحييها هو سالم بوحاجب في كلمة افتتاحها معتبراً «أن العلم نفسه كان
سبب استخلاف الله لآدم وبنيه» [31] .
ولكن التوفيقية ارتبطت باسم آخر كان له أكبر الأثر في التنظير لها والمنافحة
عنها ثم نشرها في العالم الإسلامي، ألا وهو الشيخ محمد عبده؛ فلقد تزعم محمد
عبده اتجاه التوفيق بين الإسلام والغرب وما تبعه من الإصلاح الديني، وهو الاتجاه
الذي نادى أصحابه بأن الإسلام هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الإصلاح،
ولكنهم فسروا نصوصه تفسيراً جديدًا يقبل معه كثيراً من أساليب الحياة والتفكير
الوافدة من الغرب، وعملوا على تقريب الإسلام من الحضارة الغربية والتفكير
الغربي الحديث [32] .
اضطلعت المدرسة التوفيقية وعلى رأسها محمد عبده بمهمة ذات شقين: أولاً
إعادة تحديد ماهية الإسلام الحقيقي من وجهة نظرهم، ثانياً: النظر في مقتضيات
هذا الإسلام بالنسبة إلى المجتمع الحديث [33] ، ومن هذا المنطلق نظر محمد عبده
إلى التغييرات الاجتماعية التي أحدثها في عهده الخديوي إسماعيل متابعاً جده محمد
علي باشا، فلم يأسف لهذه التغييرات وما أحدثته في القوانين والتعليم، بل رأى أن
هذا التطور في خطوطه العريضة لا مرد له، وأنه في صالح مصر [34] ، ولكن في
الوقت نفسه كان يشغله خطر انقسام المجتمع إلى دائرتين منفصلتين بدون اتصال
حقيقي بينهما: دائرة تسودها شرائع الإسلام ومبادئه الخلقية، وهي دائرة آخذة في
الانحسار في ذلك الوقت، والدائرة الأخرى في اتساع مضطرد، وهي الدائرة التي
قامت على المبادئ المستمدة بالاستنباط العقلي من اعتبارات المصالح الدنيوية [35] ،
ومن ثم: عمل عبده وخاصة في آخر أيامه على رتق هذا الانقسام مع عدم إيقاف
مجرى هذا التطور الذي بدأه محمد علي، «بل الاعتراف بالحاجة إلى التغيير،
وربط هذا التغيير بمبادئ الإسلام، وذلك بإثبات أن هذا التغيير الحاصل ليس مما
يجيزه الإسلام فحسب، بل إنما هو من مستلزماته الضرورية إذا فهم على
حقيقته» [36] ، وينبغي علينا وضع خط أسفل (حقيقته) .
وعلى خطى الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني سار محمد عبده،
فكانت رؤوس الموضوعات هي نفسها: الوطنية الإقليمية، والعناية بالتاريخ القديم
السابق على الإسلام الدعوة إلى الحرية وإلى الحياة النيابية الدعوة إلى إعادة
النظر في وضع المرأة في المجتمع: في الحجاب، والحد من تعدد الزوجات،
والحد من حرية الطلاق [37] ... ولكن تلك المفاهيم أخذت بعداً أعمق على يد
محمد عبده ومدرسته من بعده؛ فما قدمه رفاعة في ميدان التجديد كان بمثابة
البراعم التي تفتحت على يد محمد عبده ومدرسته [38] ، وعلى الخطى نفسها سار
محمد عبده في المنهج الذي اختطه (الرواد) «في التوحيد بين بعض المفاهيم
التقليدية للفكر الإسلامي وبين الأفكار السائدة في أوروبا الحديثة، وعلى هذا
النهج انقلبت (المصلحة) تدريجياً إلى المنفعة، و (الشورى) إلى الديمقراطية
البرلمانية، و (الإجماع) إلى الرأي العام، وأصبح الإسلام نفسه مرادفاً للتمدن..
ولا شك أنه كان من السهل باتباع هذا النهج تحوير إن لم نقل إبطال المعنى الدقيق
للمفاهيم الإسلامية وتناسي ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان، لا، بل عن
النظرة الإنسانية اللادينية، وهذا ما تنبه له بقلق نقاده المحافظون..» [39] .
وهكذا ولد الإصلاح الديني من رحم (المدرسة التوفيقية) ؛ فعلى أسس
التوفيق بين الإسلام والغرب تحددت معالم (الإصلاح) ، وذلك بتضييق نطاق
الثابت (الجوهري) في الإسلام الذي لا يقبل التعديل (الاجتهاد) ، وهو
الاعتقادات والعبادات (رغم أنها لم تسلم أيضاً من اجتهاداتهم) ، وتوسيع نطاق
المتغير (العرضي) الذي سيتماس مع أوجه الحياة؛ لأنه يشمل (المعاملات) ، أو
بتعبير الدكتور عزيز العظمة: تضييق مجال الدين وتوسيع نطاق الدنيا [40] .
ولكن المدرسة الإصلاحية إذا تعاملت مع هذه الدائرة الأخيرة بالنظرة الفقهية
القديمة نفسها لا تكون قد حققت الغرض المرجو، لذا: كان لا بد من تحييد التراث
الفقهي، ولا يتم ذلك إلا بمحاربة التقليد، ثم الدعوة إلى الاجتهاد في هذه المسائل
من جديد.. «لقد كان [الأفغاني] يؤمن بالأصول ويترك لعقله الحرية في الفروع،
ويصل في ذلك إلى نتائج غريبة عن أذهان الجامدين المتزمتين، فيرمى بالإلحاد،
فكان ينفر من التقليد ويدعو إلى الاجتهاد» [41] ؛ فمن ثوابت دعوة الأفغاني «أن
باب الاجتهاد لم يغلق، وأنه لمن حق الناس (!) لا، بل من واجبهم أن يطبقوا
مبادئ (!) القرآن مجدداً على قضايا زمانهم، وإذا امتنعوا عن القيام بهذا وقعوا
في الجمود والتقليد اللذين لا يقلان عداوة عن الدهرية؛ فمحاكاة أقوال الآخرين
وأفعالهم تفسد الدين والعقل معاً» [42] .
وبـ (تحرير) العقيدة من قيد التقليد أهدت حركة الإصلاح طوق النجاة إلى
حركة التحرر العلمانية، أو كما يقول المستشرق جب: «.. كان [محمد عبده]
يرفض قبول مبدأ السلطة، أو التقليد بلا مناقشة كما يقال في الإسلام، وكان هذا
الرأي بمثابة خشبة إنقاذ للنزعة العلمانية الجديدة» [43] .
وبـ (تحرير) الفقه من القيد نفسه (التقليد) وصلت المدرسة الإصلاحية
إلى فتح باب الاجتهاد؛ «لكي يتسنى للعالِم أن يؤول التعاليم الإسلامية تأويلاً جديداً
يتلاءم مع روح العصر» [44] ، وعلى هذا نستطيع فهم الهدف من دعوة هذه
المدرسة إلى الرجوع إلى السلف الصالح في بعض جوانبها على أنه: «النفوذ إلى
ما وراء النظم الفقهية المتحجرة كما تبدو في المذاهب الأربعة وفتح باب الاجتهاد،
لكي يتمكن العالم من تأويل التعاليم الإسلامية تأويلاً جديداً حراً» [45] .
ثم تمخض عن فتح باب الاجتهاد على يد هذه المدرسة دعوة عريضة إلى
إعادة تفسير الشريعة كلها، فبعد أن كانت الدعوة إلى الاجتهاد التي أطلقها
(الإصلاحيون) الأوائل كالطهطاوي والتونسي مقتصدة غاية الاقتصاد تدعو إليه في
أضيق الحدود ... «أصبحت من بعد على يد محمد عبده ومدرسته ولا سيما رشيد
رضا دعوة عامة تهاجم التقليد، وتطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله
دون قيد، فانفتح الباب على مصراعيه للقادرين ولغير القادرين، ولأصحاب الورع
ولأصحاب الأهواء» [46] ، ولم تتضح ضوابط شرعية واضحة أو حدوداً قصوى
لهذه الدعوة عند المدرسة الإصلاحية، بل كان الهدف الثابت هو الوصول إلى
التوفيق الذي مر إيضاحه، «فما نفتقر إليه اليوم إنما هو إعادة تفسير الشريعة
لنتمكن من اقتباس ما كان صالحاً من الأخلاق الأوروبية، كإلغاء الرق مثلاً، ومنح
المساواة أمام القانون للمسيحيين القاطنين البلاد الإسلامية» [47] .
ولكن كيف سيكون الاجتهاد خادماً لذلك التوجه؟ سيكون ذلك من خلال قاعدة
يقوم عليها وأصول تنبثق منها، أما القاعدة فهي: «أن العقل يجب أن يحكَّم كما
يحكَّم الدين، فالدين عرف بالعقل، ولا بد من اجتهاد يعتمد على الدين والعقل معاً
حتى نستطيع أن نواجه المسائل الجديدة في المدنية الجديدة، ونقتبس منها ما
يفيدنا» [48] ، أما أهم الأصول التي تستخدم في هذا الاجتهاد فنستطيع القول إنها
تتمثل في:
1- التوافق مع العقل والعلوم الحديثة، وقد مر بنا سابقاً ما يغني عن تكرار
الحديث عن هذا الأصل.
2 - تضييق نطاق النصوص الشرعية بالتشكيك في حجية أحاديث الآحاد،
وتحييد النصوص القرآنية ظنية الدلالة، ثم تأويل ما تبقى من هذه النصوص إذا بدا
(للمجتهد من هذه المدرسة) أن ظاهره مخالف للعقل كما يتصوره، أو للعلوم
العقلية في تطورها الآني.
فإذا حوصرت الشريعة في هذا (الحيز الكمي) المحدود فإن ما يتبقى منها
على زعمهم هو مبادئ واعتبارات وفضائل عامة تشترك فيها مع الإسلام جميع
الأديان والمذاهب المنسوبة إلى السماء أو إلى الأرض، وبذا تتلاشى الفواصل بين
الإسلام وغيره، وتذوب معالمه في فضائل إنسانية عامة، يقول الدكتور العظمة:
«ولا يخبرنا الإصلاحيون: بأي اعتبار كانت هذه الأمور العامة شرعية إسلامية؟
وما الذي يميزها عن الأصول العامة لجل مجتمعات الدنيا، وأسسها الأخلاقية
والقانونية؟» [49] .
أما إذا تعارض ظاهر نص مع هذا المنحى فإن المدرسة الإصلاحية تلجأ إلى
التأويل (التفسير الرمزي) حتى تتفق مع المعطيات الجديدة.
فبالتأويل يصبح النص مرناً وفضفاضاً يمكن تشكيله حسب الحاجة، وتصبح
الوقائع المحددة التي وردت في النص مجرد تمثيل لأخذ العبرة والحكمة: «إن
النقطة المبدئية التي يؤكدها هذا الموقف [تفسير محمد عبده لعموم طوفان نوح عليه
السلام أو عدمه] هي إمكانية الانصراف إلى التأويل بل ضرورته إذا قطع بأن
الظاهر (غير مراد) : ينسب بذلك مراد العصر إلى عصر النص، أي: إن تأكيد
سلطة النص القطعية يجري بإضفاء معنى اليوم عليها مما لا يناسبها بالطبع،
فيصبح اليقين والنص صنوين ... » [50] .
وهكذا «أصبح النص القرآني وخصوصاً آياته الدالة على الأمور الكونية لا
يفهم إلا على أن بعض مفرداته قائمة على شيفرة، مفتاحها المعارف العلمية
الحديثة» [51] .
3 - أما في المسائل الفقهية: فقد عمدت المدرسة الإصلاحية إلى التوسع في
استخدام بعض الأصول والقواعد الفقهية التي تلبي حاجتها (التجديدية) ، كنظرية
العرف، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والمقاصد الشرعية، مع التلفيق بين
المذاهب الفقهية وإعادة إبراز الآراء الفقهية الشاذة إن لزم الأمر، للوصول للفتوى
التي تطمئن لها عقولهم.
يقول ألبرت حوراني: «فعلى المسلمين اليوم في نظر محمد عبده أن يقوموا
بما كان عليهم القيام به دوماً: إعادة تأويل شريعتهم وتكييفها وفقاً لمتطلبات الحياة
الحديثة، ولبلوغ هذه الغاية لا بد من الاهتداء بمبدأين سلم بهما الفقهاء وأعطاهما
محمد عبده بعداً جديداً: الأول: مبدأ المصلحة ... كان هذا المبدأ تقليديّاً بمثابة
قاعدة لتأويل النصوص.. فيختار [الفقيه] التأويل الذي يحقق هذه الغاية، أما محمد
عبده وأتباعه فقد جعلوا من المصلحة قاعدة لاستنباط شرائع خاصة من المبادئ
العامة للخلقية الاجتماعية؛ فالله لم ينزل في رأيهم سوى مبادئ عامة، تاركاً للعقل
أمر تطبيقها على قضايا المجتمع الخاصة، وبما أن هذه القضايا تتغير توجَّب تغيير
تطبيق المبادئ عليها.. أما المبدأ الثاني: فهو مبدأ التلفيق ... فدعا، لا إلى
الاستعانة بالمذاهب الأخرى في مسائل معينة فحسب، بل إلى مقارنة علمية بين
المذاهب الأربعة أيضاً ناهيك بأحكام الفقهاء المستقلين الذين لم يقبلوا أياً منها بغية
وضع (مذهب موحد) يؤلف بين العناصر الصالحة في كل منها، وقد تمكن
بوصفه مفتي مصر من وضع هذه الدعوة موضع التنفيذ» [52] ، وكانت المصلحة
هي الأصل عند تلميذه رشيد رضا الذي توسع كما ذكر من قبل في المرونة
(الاجتهادية) أكثر من شيخه، «فالعمل بموجب الحديث الصحيح عند السيد رشيد
رضا أمر واجب إن لم ينافِ المصلحة، وإذا نافى المصلحة فإنه سيعتبر حكماً أنه
معارض الأصول العامة المؤيدة بالكتاب والسنة، ولأن لابد له إذن إلا أن يكون من
أحاديث الآحاد التي لا تفيد إلا الظن دون اليقين أو الإلزام، فترفض بذلك الأحاديث
لاعتبارات نفعية دون الإلماع إلى نواقصها التاريخية [علم الجرح والتعديل] » [53] .
4 - ومن الملحوظات في أسلوب عرض أصحاب المدرسة الإصلاحية
لآرائهم: الجزم واليقين عندما تكون هذه الآراء متسقة مع منهجهم الجامع بين
الإسلام والمعطيات العقلية والعلمية الحديثة وعندما يكون إمرارها بين الناس محتملاً
أما عندما يختل نظم هذا المنهج أو يصعب إمرار الرأي الذي خرجت به فإن
التشكيك، أو التفويض و (اللاأدرية) ، أو العرض في صورة المحتملات أو
الحكاية.. هو الأسلوب المناسب.
وهكذا عمدت المدرسة الإصلاحية إلى إيجاد منظومة من الآراء الجديدة (الفكرية والفقهية) تشمل مجالات الحياة المختلفة، تتسق مع مفاهيمهم العقلية
ومعطيات الحياة الغربية، لتشغل الفراغ الكبير في الساحة الفكرية الموجود
آنذاك [54] ، محاولة رتق الشِّق البادي في توجهات المجتمع.
فاجتهادات المدرسة الإصلاحية لم تقف عند حد التوفيق بين الإسلام والأفكار
الغربية في المسائل الحياتية المرتبطة بالشريعة (أو الفقه) ، ولكنها تجاوزتها إلى
(التصورات) و (الغيبيات) ، لتربط بينها وبين (العقل) ، وهي في هذا المجال
قاربت أن تنزلق من (العقلانية) إلى (المادية) ، فحرصت ما أمكنها على أن
يكون كل تصور مفسراً بالعقل، وأن ترد معظم الغيبيات إلى أصل مادي أو
تجريبي، وإلا أوَّلوها تأويلاً أقرب إلى نفيها.
وقد كان هذا المنهج أقرب إلى مخطط الغرب الخبيث لإدخال العلمانية
والتغريب إلى العالم الإسلامي بدون إثارة، «.. فإن دخول عناصر جديدة على
الحياة الإسلامية كان يقتضي إبراز بعض تعليمات الدين، وتوجيه عناية أكبر
إليها، ووضعَها في المكان الأول، ووضعَ تعليمات أخرى في مرتبة غير أساسية.
وإذا حدث هذا، فمعناه أن الموازين الدينية والتعاليم الأخلاقية في الإسلام آخذة
في التحول، وأن هذا التحول يتجه نحو تقريبه من الموازين الغربية في الأخلاق
التي هي في الوقت نفسه متمثلة في التعاليم الأخلاقية للكنيسة المسيحية.
ويقرر جيب أن في كل البلاد الإسلامية ... حركات معينة تختلف قوة واتساعًا
ترمي إلى تأويل العقائد الإسلامية وتنقيحها، ثم يقول: وقد اتجهت مدرسة محمد
عبده بكل فروعها وشُعَبها نحو تحقيق هذا الهدف، بل لقد ظهر كثير من العلماء
المستقلين الذين نادوا بآراء أكثر تقدماً وجرأة، لا سيما في الهند. ولكن الواقع هو
أن معظم ما تم من تعديل وتحوير خفي لا يبدو للنظرة السطحية» [55] .
ويقول بولسون نيومان « ... فإذا أمكن للمبادئ الإسلامية أن تتطور مع
الزمن المتطور، بدلاً من الارتباط بعالم خيالي لا يسمح للتطور الزمني أن يتطرق
إليه ... عند ذلك: سوف تصبح يقظة الشرق حقيقة واقعة، وليست أضغاث أحلام،
وعند ذلك سوف يتحرر ملايين البشر من هذه العقائد الأثرية الشيباء ليأخذوا
مكانهم بين الحركات الحديثة» [56] .
لذا: فقد لاقت فكرة الإصلاح الديني أو الاجتماعي «هوى في نفس كرومر؛
لأنها الفكرة التي تشغل بال الرأي العام المصري عن المطالبة بالاستقلال أو الجلاء،
أو لأنها الفكرة التي لو نجحت في مهمتها (!) لأصبحت دليلاً على نجاح
الاحتلال البريطاني في مهمته، وهذه المهمة في ظاهرها هي الأخذ بيد المصريين
إلى الحضارة والسير بهم إلى حيث يلحقون بالأمم الأخرى» [57] .
من التوفيق إلى التقريب:
لم تقف جهود المدرسة الإصلاحية عند حدود توفيق الإسلام (عقيدة وشريعة)
مع الفكر الغربي وإذابة الفوارق والفواصل بينهما، بل سعى بعض رموز هذه
المدرسة إلى (التقريب) بين الإسلام والأديان الأخرى.
فمحمد عبده يقول: «إن القرآن وهو منبع الدين يقارب بين المسلمين وأهل
الكتاب حتى يظن المتأمل فيه منهم أنهم لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام
قليلة» [58] .
ولقد أخذ هذا الفهم النظري شكل السعي العملي؛ فها نحن نجده بعد إغلاق
صحيفة العروة الوثقى وعودته من باريس إلى بيروت يؤسس (جمعية التأليف
والتقريب بين الأديان السماوية) ، وشاركه فيها آخرون من المسلمين والنصارى
واليهود، من أبرزهم القس الإنجليزي إسحاق تايلور المعروف بالدعوة إلى ذلك،
وجي دبليو لينتز، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، وكان محمد
عبده صاحب الرأي الأول في إنشائها ونظامها، أما هدف الجمعية فكان: التقريب
بين الأديان السماوية الثلاثة، وإزالة الشقاق بين أهلها، وإحلال التعاون بدل الفرقة
والخصام [59] .
مكمن الخطر في المدرسة الإصلاحية:
إننا لا نستطيع الآن وقد ماتت أنفس لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وطمرت
أحداث لا نستطيع جلاءها أن نصدر حكمًا بالإدانة، أو البراءة على المدرسة
الإصلاحية، وليس هذا من أهدافنا أصلاً، فهدفنا رصد الخطوات والمؤثرات
والوقائع التي أدت إلى العلمنة والتغريب الذي تحياه معظم مجتمعاتنا المعاصرة
بدرجات متفاوتة.
قد يكون في أتباع هذه المدرسة مخلصون أرادوا في ظل هذه الظروف
الصعبة والمعقدة الدفاع عن الإسلام وإصلاح الواقع الاجتماعي والثقافي والوقوف
دون انهيار إيمان المسلمين أمام المد الإلحادي ... يحتمل! ، وقد يكون فيهم عملاء
مأجورون باعوا أنفسهم للغرب أو انبهروا به إلى حد الذوبان فيه وخدمته تلقائيّاً ...
ربما! ، وقد يكون فيهم من تمثل فيه هذا الوصف وذاك ... ليس بمستبعد!
ولكننا على العموم لا نستطيع أن ننظر بعين واحدة هي التي تنشط في دراسة
كهذه عند تقييم هذه المدرسة؛ فقد كان لها بالفعل آثار ملموسة في نبذ الخرافات
وكسر الجمود الفقهي وإعادة تشكيل الفكر الإسلامي، وفي الوقت نفسه: فإننا لا
نستطيع تجاهل الانحرافات العقدية والعلمية والعملية التي وقعت فيها هذه المدرسة،
وأيضاً لا نملك علميّاً وأدبيّاً حق التغاضي عن الدور الذي قامت به والأثر الملموس
الذي أحدثه روادها قصدوا، أو لم يقصدوا في تقريب العلمانية والتغريب إلى
المجتمعات الإسلامية.
لم يكن مستغرباً أن يتفق الإسلام مع العقل، ولم تكمن خطورة المدرسة
الإصلاحية في انفتاحها على الفكر الغربي ونهلها من نتاجه، إنما تمثل مكمن
الخطورة في المدرسة الإصلاحية في عدة أمور، منها:
أولاً: أن تفسير الدين ونصوصه بالعقل المحض الذي وصل إلى حد أن يكون
ذلك قاعدة الاستدلال الأساس، والذي انبنى عليه تأويل النصوص بحسب معطيات
العلم التجريبي الغربي المعاصر.. كان ذلك بمثابة محاولة لإخضاع علم الله وقدرته
المطلقين وغير المحدودين لإدراك العقل الإنساني وتصوراته ومعارفه وتجاربه التي
تتسم بالقصور والمحدودية والنسبية، ليس بالنسبة لعلم الله وقدرته فقط، بل بالنسبة
للعقل الإنساني نفسه الذي تختلف قدراته من شخص إلى آخر، وتختلف تجاربه
ومكتسباته العلمية من عصر إلى آخر، كما أنه ليس في الوجود البشري عقل مطلق
ومجرد نستطيع القياس عليه واتخاذه حَكَماً يرجع إليه البشر في تصوراتهم وأفكارهم
ومناهجهم وأخلاقهم.
فهم بهذا التوسع يعملون على تفسير المطلق وغير المحدود بالنسبي والمحدود،
وفي ذلك ما فيه من مخالفة العقل نفسه، إضافة إلى خطورته على توحيد الله
والإيمان به.
ثانياً: أن محاولة إخضاع الغيبيات والخوارق المذكورة في الكتاب والسنة
للتفسير المادي أو التجريبي ... فيه نوع من اختزال الإيمان بالغيب لحساب عالم
الشهادة؛ فإنه عندما يؤمن المسلم بتفسير غيبية أو خارقة بناءً على مشاهداته
المحسوسة أو المتصورة التي قد تتكرر أو تفتعل بإرادة المخلوقين أو سيطرتهم..
فإنه لا يؤمن حينئذ بغيب، بل يؤمن بمشاهد أو مشهود، وهكذا: كلما فسرنا غيبية
بهذا التفسير نقلناها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، وفي النهاية يتقلص الإيمان
بالغيب ويتمدد الإيمان بالشهادة، وهذه نقلة نحو المادية وابتعاد عن الدين الذي تقوم
قاعدته الكبرى على الإيمان بالغيب: [ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] (البقرة: 2-3) .
ثالثاً: إذا كان القرآن، وكذلك السنة، لم يأتيا إلا بمبادئ وحدود عامة في
التشريع بحسب اجتهادت المدرسة الإصلاحية، وإذا فسرت الغيبيات والمعجزات
التي ذكراها تفسيراً مادياً يمكن أن يحدث لأي أحد، وإذا كان ما ورد فيها من ذكر
للأحداث والأسماء التاريخية ليس لذكر حقائق تاريخية بل فقط للاعتبار والتذكر،
وإذا كان الأمر نفسه بالنسبة لـ (إشارات القرآن) في الفلك والاقتصاد.. وإذا
أهدرت أحاديث الآحاد ومعظم السنة أحاديث آحاد ثم أوِّل ما تبقى منها أو حيد عنها
بدعوى تحقيق المصلحة وموافقة المقاصد ... فضلاً عن إهدار التراث الفكري الذي
خرج من هذين المصدرين، وإذا كانت (الشريعة) يمكن التلاعب بها إلى الحد
الذي رأينا في فتاوى هذه المدرسة ... فماذا يتبقى من الإسلام إذن؟
إن المدرسة الإصلاحية باتباعها ذلك المنهج تكون قد قامت بعملية الإخلاء
اللازمة لاحتلال الفكر الغربي قواعد الفكر الإسلامي.
رابعاً: كان من أثر روح الهزيمة النفسية التي سادت المدرسة الإصلاحية
والتداعيات التي تمخضت عنها، والتفاعلات المستمرة مع أصحاب اتجاه العلمانية
الصريحة ... أن الإصلاحية لم تستطع الصمود أمام الهجوم العلماني والإلحادي
المادي؛ فلقد «كانت قوة التحدي الأوروبي الحضاري والسياسي أعظم من أن
تصمد لها توفيقية محمد عبده ومعادلته التي حاولت بعد أزمان من التنافر والعداء
الجمع بين الإسلام والغرب في صيغة تصالحية واحدة ... » [60] ، فكانت النتيجة
تقهقر هذه المدرسة وتراجعها عن مواقعها شيئاً فشيئاً أمام اتجاه العلمانية الصريحة،
متوسعة في منهجها التوفيقي الاعتذاري، وتطبيقاته على أوجه الحياة.
خامسًا: نتج عن هذا التقهقر وذلك الإخلاء للمواقع أنَّ العلمانيين وجدوا في
أدبيات المدرسة التوفيقية الإصلاحية أدوات ومسوغات يغزون بها المجتمعات
الإسلامية على نطاق واسع، كما أن شهيتهم ازدادت شراهة لعرض أفكارهم، وفي
الوقت نفسه: أصبح منهج المدرسة الإصلاحية وسيطاً مناسباً لحمل هذه الأفكار
الغربية، أو كما يقول ألبرت حوراني عن رائد هذه المدرسة (محمد عبده) : «لقد
نوى إقامة جدار ضد العلمانية، فإذا به في الحقيقة يبني جسراً تعبر العلمانية عليه،
لتحتل المواقع واحداً بعد الآخر، وليس من المصادفة كما سنرى أن يستخدم
معتقداته فريق من أتباعه في سبيل إقامة العلمانية الكاملة» [61] ، ويقول شيخ
الإسلام بالدولة العثمانية مصطفى صبري: «فلعله وصديقه أو شيخه جمال الدين
أرادا أن يلعبا في الإسلام دور لوثر وكلفين زعيمي البروتستانت في المسيحية، فلم
يتسن لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين، وإنما اقتصر تأثير سعيهما على
مساعدة الإلحاد المقنَّع بالنهوض والتجديد ... » [62] .
سادساً: ومثلما ساهمت المدرسة الإصلاحية على إسقاط الحاجز الفكري بين
الإسلام والغرب بتقريب الفكر الغربي إلى المجتمعات الإسلامية ساعدت على إسقاط
الحاجز النفسي لدى النخبة المثقفة لقبول العلمانية والتغريب، فـ «عند أولئك الذين
تعلموا في المدارس الحديثة كانت جاذبية وجهة نظر الإمام محمد عبده للإسلام
تكمن في أنها حررتهم لقبول أفكار الغرب الحديثة بلا أدنى إحساس بالتخلي عن
ماضيهم ... » [63] .
سابعاً: تطورت معادلة التوفيقية الإصلاحية على يد تلاميذ محمد عبده من
القول: «إن المدنية الحقيقية تتوافق مع الإسلام» إلى القول: «إن الإسلام
الحقيقي يتوافق مع ما تأتي به المدنية» [64] ، أو بمعنى آخر: من شرح الحضارة
(العمران) والأفكار الغربية بما يوافق الإسلام (الحقيقي) ، إلى تطويع الإسلام
وإعادة تفسيره لحمله على موافقة الحضارة (العمران) والعقل الغربي، والحقيقة
أن هذا التطور في تلك المعادلة كان قد بدأ على يد محمد عبده نفسه، ولكن تلامذته
خاضوا فيه بصورة أوضح.
كما انهارت الموازنة بين قيم الإسلام وتصوراته وبين أفكار الغرب وعلومه،
وهي الموازنة التي كان يحرص عليها إجمالاً محمد عبده، وافترقت خطى مدرسته
من بعده، فمال رشيد رضا بفكره إلى سلفية أكثر، بينما اتجه سعد زغلول وأحمد
لطفي السيد وقاسم أمين وعلي عبد الرازق ... وغيرهم، إلى شبه قبول مطلق
للفكر الغربي، مطالبين بعلمانية متشبهة بالغرب وبفصل الدين عن الدولة [65] .
وعليه: نستطيع القول: إن المدرسة الإصلاحية بعد توظيف الغرب لها خدمة
لأهدافه عادت من حيث بدأت: إسلاماً يواجه الفكر الغربي، وتغريباً وعلمانية
يحاصران الإسلام ويعملان على إقصائه من واقع الحياة.
ثامناً: رسخت المدرسة الإصلاحية استمرار النهج التلفيقي المخادع الذي بدأه
الطهطاوي والتونسي، القائم على تلبيس الحق بالباطل وتخليط الصواب بالخطأ،
والذي كان مقتضاه تقديم التغريب والعلمانية على طبق من الدين، وهذا الأسلوب
في تقديم العلمانية والتغريب باسم الإسلام في هذه المرحلة المبكرة هو ما تمناه
المستشرق القسيس المنصر (زويمر) عندما قال هو وزملاؤه: «تبشير المسلمين
يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرة يجب أن
يقطعها أحد أعضائها» [66] ، وقريب منه ما ذكره (الشيخ) محمد عبده في رسالة
مريبة منه بخط يده إلى أستاذه جمال الدين الأفغاني عام 1300 هـ (1883م) بعد
مناظرة الأخير الشهيرة مع رينان: «نحن الآن على سنتك القويمة: لا تقطع رأس
الدين إلا بسيف الدين، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً ركعاً سجداً..» [67] ،
وهذا ما عبر عنه أحد المفكرين المعاصرين بأن العلمانية دخلت إلى العالم الإسلامي
لابسة عمامة، وهو الأسلوب نفسه الذي يحاول اتباعه الآن (الإصلاحيون) في
إيران وبعض (التنويريين) في بقاع أخرى من العالم الإسلامي، وعكسه ما يحاوله
بعض الإسلاميين في تركيا (إعادة الإسلام لابساً قبعة) .
ويمكن القول إذا لم نتحلَّ بدرجة كبيرة من إحسان الظن بهم: إن
(الإصلاحيين) في ذلك الوقت لم يكن في وسعهم إلا اتباع ذلك الأسلوب المخادع
حتى لا يصطدموا مع عامة الأمة وعلمائها (المتعصبين) .