ملفات
العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق
(3 - 3)
موجز الأنباء العلمانية
قضية فلسطين بين الإسلام والممارسة السياسية العلمانية
(1 - 2)
خالد محمد حامد
لن نتحدث عن نشرة أنبائهم السياسية؛ فالبث السياسي العلماني بث واسع
الطيف متعدد الموجات، وأنّى للاقط واحد أو معالج أحادي أن يستقبل كل نضالهم
الثوري وكفاحهم التقدمي، ثم رؤيتهم الثاقبة وواقعيتهم الحكيمة وحنكتهم الراسخة،
في السياسة الداخلية والخارجية؟
ولكننا هنا نتعرض فقط بشيء من الإيجاز لجهودهم المعلنة والخافية في
القضية التي زعموا أنها قضيتهم المركزية، والتي بالانشغال بها تذرعوا بهدم معظم
مقومات الدولة والقضاء على بنية الإنسان العربي، ثم أسندوا إخفاقهم في جميع
القضايا (غير المركزية) إلى انشغالهم بقضية العرب المقدسة!
ولكن منذ متى كانت فلسطين مقدسة عند العرب؟
النبأ الأول: فلسطين بين العروبة والإسلام:
لم تكن فلسطين تحتل مكانة مرموقة في حس العربي الجاهلي قبل الإسلام،
وفي معظم الأحوال كان ينظر هذا العربي إلى الشام وضمنها فلسطين على أنها لا
تزيد عن كونها إحدى مناطق الاستقرار والنشاط الاقتصادي التي كان يرتبط بها في
رحلاته التجارية الموسمية.
ومع بعثة النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم نشأت مكانة مميزة في عقل
وقلب العربي المسلم للشام عموماً ولفلسطين خصوصاً ولمدينة القدس بوجه أخص؛
وذلك من خلال إشارات قولية وعملية عديدة، تبدأ منذ ولادته صلى الله عليه وسلم
عندما رأت أمه قصور الشام عند ولادته صلى الله عليه وسلم، ثم بعد بعثه صلى
الله عليه وسلم بالنبوة كانت حادثة الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج منه، وإمامة
النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في الصلاة فيه إحدى أكبر المعالم الواضحة في
أهمية هذه البلاد، ثم كان بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى إلى الصلاة التي هي
عماد دين المسلمين.
ثم تتوالى الإشارات التوجيهية لفضل هذه البقعة، وأهمية هذا الموطن:
فالمسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، والصلاة فيه
تعدل 250 صلاة في غيره من المساجد عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقد
بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح الشام وبيت المقدس أكثر من مرة، ودعا
صلى الله عليه وسلم للشام وأهلها ونصح بسكنها، وفي فضل الشام والمسجد
الأقصى، وما حوله وردت آيات قرآنية، وأحاديث نبوية عديدة [1] .
ثم كان التحرك العملي لـ (تحرير) هذا الموطن الغالي من ربقة الشرك
والكفر بإنفاذ البعوث والسرايا العسكرية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم،
حتى فتح بيت المقدس وفلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، واستدعى هذا الفتح دون غيره أن يذهب الخليفة بنفسه ليتسلم مفاتيح المدينة
المقدسة، ويستلم معها أمانة محافظة المسلمين عليها.
إذن: فقد عرف العرب أهمية هذا الوطن بالإسلام، وبالإسلام وحده وليس
بالعروبة كانت قضية فلسطين قضية (مقدسة) ، عرف هذا المعنى صلاح الدين
الأيوبي عندما حررها مرة أخرى من براثن الصليبيين، ولم يكن صلاح الدين
عربياً، بل كان كردياً، وعرف هذا المعنى العثمانيون الأتراك عندما حافظوا على
الأمانة واستماتوا في الدفاع عنها حتى دفع السلطان عبد الحميد الثاني عرشه ثمناً
لتمسكه بها وعدم التفريط فيها.
النبأ الثاني: فلسطين قبل النفق العلماني:
وإليك طرفاً من مقاومة هذا السلطان للضغوط والإغراءات التي مورست عليه
من أجل (بيع) فلسطين، ورفضه ذلك رفضاً قاطعاً رغم ضعف دولته والمؤامرات
والدسائس التي كانت تحاك ضده في داخل الدولة وخارجها؛ حيث اختار اليهود
فترة عصيبة من فترات اضمحلال الدولة العثمانية، حين لم يعد لهذه الدولة أي ثقل
سياسي معتبر أو قوة عسكرية مهابة.
فمنذ أن بدأ المشروع الصهيوني بالاستيطان في فلسطين يأخذ خطوات عملية:
سعى اليهود إلى إيجاد موطئ قدم لهم هناك بطريقين متوازيين: الأول: العمل
على تهجير اليهود من شتى أصقاع العالم إلى فلسطين مع ما استلزم ذلك فيما بعد
من محاولة تفريغ فلسطين من أهلها، الثاني: شراء الأراضي في فلسطين ليكون
لهم قواعد ثابتة يتحركون منها لإتمام مشروعهم، وقد كانت القدس دوماً أحد المراكز
المستهدفة بإلحاح في هذا السعي، فكانت الدولة العثمانية وخاصة في عهد السلطان
عبد الحميد متيقظة لهذه المساعي [2] .
يقسم الباحثون موجات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين فيما بين عامي 1882م
و1944م إلى خمس موجات، ويستفاد من إحصاء جرى للسكان عام 1839م أن
عددهم في فلسطين كان بين 6000 و 6500 نسمة، نصفهم في القدس، في حين
بلغ عدد العرب وقتها حوالي ثلاثة ملايين نسمة، أي أن نسبة اليهود إلى العرب
كانت تدور حول 2%، وارتفع عدد اليهود في السنة التي تليها ليصل إلى 10500
نسمة.
وإزاء النشاط الصهيوني أصدرت الدولة العثمانية منذ سنة 1855م قانوناً يمنع
الأجانب من الاحتفاظ بالأرضي في فلسطين أو شرائها، وطوال أربعين عاماً
(1840-1880م) وصل عدد المستوطنين اليهود بفلسطين إلى حوالي 25000
نسمة، يعيش أكثر من نصفهم في القدس، ثم بدأت أولى موجات الهجرة اليهودية
الواسعة من روسيا وبلدان أوروبا الشرقية، وقد تزامنت هذه الموجة التي بدأت عام
1882م مع تحرك دولي للضغط على السلطان عبد الحميد للسماح بهجرة اليهود إلى
فلسطين؛ فماذا كان موقفه؟ :
أخفقت مساعي السفير الأمريكي وزملائه تماماً في هذا الخصوص، ثم أبلغ
السلطان المبعوث اليهودي أوليفانت أن باستطاعة اليهود العيش بسلام في أي
بقعة من أراضي الدولة العثمانية إلا فلسطين، ثم أرسل في يونيو 1882 م
رسالة إلى متصرف القدس يطلب فيها منع اليهود الروس والبلغار والرومان من
الدخول إلى القدس، كما صدر قرار لمجلس الوكلاء العثماني يقضي بمنع اليهود
الروس بصفة خاصة من استيطان فلسطين.
وبعد ضغوط أوروبية صدرت في العام نفسه قوانين لا تسمح لليهود بدخول
فلسطين إلا في حالة الحج والزيارة المقدسة، ولمدة ثلاثة شهور، كما صدرت في
العام نفسه قوانين جديدة نصت على ضرورة حمل اليهود الأجانب جوازات سفر
توضح ديانتهم اليهودية كي تمنحهم سلطات الميناء تصريحاً لهذه الزيارة المحددة
المدة والهدف.
ونظراً لتفشي الفساد في الجهاز الإداري التركي الذي كان يمثل ثغرة تنفذ منها
موجات الاستيطان اليهودية، ونظراً للجهود الصهيونية والدولية المستمرة والمركزة
للضغط في هذا الاتجاه آنذاك.. اتخذ السلطان عبد الحميد إجراءات حماية أكثر
تشدداً للمحافظة على تلك البلاد، فجعل القدس عام 1887م سَنْجَقاً [3] مستقلاً عن
ولاية دمشق، ومتصرفية لها اتصال مباشر بالباب العالي، وعززت الدولة قوة
الشرطة في ميناء يافا، واستبعدت العناصر الفاسدة من بينها، كما وسعت مساحة
الأراضي التي تسري عليها أوامر الحظر لتشمل أيضاً منطقة الجليل في شمال
فلسطين بالإضافة إلى منطقة القدس، ثم أصدرت الدولة العثمانية في العام نفسه
أوامر جديدة تقصر مدة المكوث لهذا الغرض إلى 31 يوماً بدل ثلاثة أشهر، وقد
حدَّت هذه الإجراءات بالفعل من هجرة اليهود، وأدت إلى فرض حظر شبه كامل
وفعال على هذه الهجرة، ثم قام سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا بالضغط على
الحكومة التركية، فتم لهم عام 1889م إلغاء القرارات الأخيرة والعودة إلى السماح
بأشهر ثلاثة.
وفي سنة 1892م صدر قانون يحرم بيع أراضي الحكومة في فلسطين إلى
جميع اليهود، بما فيهم رعايا الدولة العثمانية اليهود، ويمنع أيضاً رعايا الدولة من
بيع الأراضي لليهود، ولكن بريطانيا تدخلت أيضاً فاستطاعت التقليل من فاعلية
هذه القرارات بطرق مختلفة تحت مظلة اتفاقيات الامتيازات والمعاهدات الدولية،
أما عدد اليهود في هذه السنة فقد أصبح 40 ألفاً.
وحتى عام 1897م (عام انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول) لم تفلح الجهود
الصهيونية والضغوط الدولية في رفع عدد اليهود في فلسطين إلا إلى عدد يتراوح
بين 50000 و 60000 يهودي، ولم يكن هذا العدد كفيلاً بتغيير التركيبة السكانية
في فلسطين بما يحقق أهداف المشروع الصهيوني، كما أن مساحة الأراضي التي
استطاعوا الاستيلاء عليها كانت ضئيلة للغاية.
وإزاء ذلك، ولمعرفة اليهود بأن السلطان عبد الحميد هو أكبر عقبة في سبيل
هذا المشروع بدأ الصهاينة يتوجهون بجهودهم لمحاولة التأثير عليه، عسى أن يُليِّن
مواقفه، ومن ثم عاود هرتزل سعيه الذي كان بدأه عام 1896م، فقرر السفر مرة
أخرى إلى إستانبول للاجتماع بالسلطان عام 1901م فقابله ثلاث مرات، عرض
فيها مشروعاً صهيونياً بتوطين اليهود في فلسطين ومنحهم حكماً ذاتياً مقابل
مساعدات مالية للدولة العثمانية تقضي بسداد ديونها وإصلاح اقتصادها، وتمخضت
الاجتماعات عن رفض السلطان إعطاء فلسطين لليهود، إلا أنه وافق على هجرة
اليهود إلى آسيا الصغرى والعراق لقاء دفع الديون المترتبة على الدولة، وهو
عرض يدل على مدى حاجة الدولة العثمانية إلى الأموال لتحسين أوضاعها، ويدل
في الوقت نفسه على أن رفض السلطان توطين اليهود في فلسطين كان لمكانتها
الإسلامية والتاريخية والسياسية عنده.
وبعدما حاول هرتزل عن طريق وسيط (رشوة) السلطان، أراد السلطان
حسم الموقف بشكل نهائي وقطعي في موقف آخر يدل على ما ذكرناه من دوافع في
محافظته على فلسطين، فقال للصدر الأعظم [رئيس الوزراء] : «انصحوا الدكتور
هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، إني لا أستطيع أن أتخلى عن
شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية التي
جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة
الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي فإن عمل
المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى أرض فلسطين قد بترت من الدولة
الإسلامية، وهذا أمر لا يكون. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن
على قيد الحياة» ، وهذا الرد يدل أيضاً على الدوافع الإسلامية للسلطان عبد الحميد
والدولة العثمانية في الحفاظ على فلسطين.
وبعد كل تلك الجهود الصهيونية والضغوط الدولية لم يزد مجموع من هاجر
خلال سنوات الموجة الأولى الكبرى لهجرة اليهود (1882م 1903م) على عدد
يتراوح بين 20 30 ألف مهاجر لا أكثر، وذلك بعد جهود مضنية وضغوط
وإغراءات عرضنا بعضها، وعندئذ انقطع أمل اليهود في الالتفاف حول هذه
الصخرة، فعزموا على تنفيذ أمر قد قرروه وأسروه من قبل: تحطيم هذه الصخرة.
وبالفعل رَكِبَ اليهود جمعية الاتحاد والترقي العلمانية ذات العلاقات الماسونية
واليهودية، واستطاعت هذه الجمعية في النهاية خلع السطان عبد الحميد، والإمساك
بزمام الأمور في الدولة خاصة بعد إلغاء الخلافة على يد أتاتورك عام 1924م.
لقد ناهض السلطان ما بوسعه الاستيطان اليهودي في فلسطين وقاومه
باستمرار في حدود قدرات دولة آخذة في الاضمحلال تواجهها قوى أوروبية كبرى
توافقت مصالحها مع مصالح الصهيونية، وهو وإن لم يستطع إيقاف هذا الاستيطان
تماماً، إلا أنه لم يتنازل عن مبادئه قط، ولم يعط شرعية أو إذناً لهذا الاستيطان.
وبوصول جمعية الاتحاد والترقي المنبثقة عن (تركيا الفتاة) إلى سدة الحكم
إثر انقلاب عام 1908م، وخلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م خلعت
قضية فلسطين الرداء السياسي الإسلامي، وفقدت آخر سند إسلامي رسمي وقتها،
ودخلت بذلك هذه القضية النفق العلماني، لتكون في عهدة نظم ومنظمات جديدة لا
تصطبغ بالصبغة (القديمة) ، بل تدعي لنفسها (التقدمية) .
النبأ الثالث: فلسطين في عهدة العلمانية:
بخروج فلسطين من المظلة السياسية الإسلامية عادت مرة أخرى كما كانت
في سالف عهدها في الجاهلية: طريقاً إلى منافع مادية، أي إنها خرجت من إطار
المبادئ إلى إطار المصالح، وهذه الأخيرة يمكن التفاوض والمساومة عليها، ولا
مانع من إعادة تقييمها ومقايضتها إن لزم الأمر، بل لا مانع من التنازل عن بعضها
أو استبدال غيرها بها.
لم يخف اليهود غبطتهم لانقلاب الاتحاديين على السلطان عبد الحميد
(مضطهد إسرائيل) على حد تعبير بعض الصحف اليهودية التركية، وقد جنوا
سريعاً ثمرات خروج فلسطين من المظلة الإسلامية ودخولها نفق العلمانية، فكان
من الثمرات البادية للجميع: ارتفاع وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وارتفاع
نسبة الأراضي التي استولوا عليها، فعقب الانقلاب المشار إليه نقل الاتحاديون
الموظفين الأتراك المعارضين للهجرة اليهودية من فلسطين إلى أماكن أخرى،
ونظرت جمعية الاتحاد والترقي بعطف أكثر إلى الصهيونيين كمصدر للحصول
على العون المالي للخزانة التركية المفلسة، وعليه وعلى الرغم من الاعتراضات
العربية الشديدة: خففت القيود المفروضة على الهجرة وشراء الأراضي في وجه
اليهود في العام 1913م، فأصدر الاتحاديون بعد نجاح انقلابهم تشريعاً يقضي ببيع
جميع الأراضي السلطانية في الدولة بما فيها فلسطين بالمزاد العلني، ولولا يقظة
عرب فلسطين، واندلاع الحرب العالمية الأولى، لضاعت فلسطين كلها منذ ذلك
التاريخ [4] .
وهكذا ارتفعت نسبة اليهود إلى العرب في فلسطين إلى 9.7 % في سنة
1914م، لتستمر في الارتفاع في ظل النظم والمنظمات العلمانية لتصل مقارنة
بعرب فلسطين إلى 35.1 % قبيل سنة 1948م، وفي حين أن مجموع ما كان
يحوزه اليهود من أراضي فلسطين قبل سنة 1914م لا يتجاوز 1.5 %، ارتفعت
هذه النسبة لتصبح 7% قبيل سنة 1948م، وبينما كان مجموع عدد المستوطنات
على عهد السلطان عبد الحميد عام 1907م لا يتجاوز 27 مستوطنة في فلسطين
كلها، ارتفع هذا العدد ليبلغ 47 مستوطنة عام 1914م، ثم 71 مستوطنة عام
1922م، وفي عام 1944م قفز العدد إلى 259 مستوطنة، ليصل إلى 277
مستوطنة قبيل إعلان دولة إسرائيل عام 1948م [5] .
ولا شك أن هناك عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية محلية ودولية متعددة
ساهمت في ارتفاع وتيرة الهجرة والاستيطان اليهوديين في فلسطين، ولكننا في
الوقت نفسه لا نستطيع إغفال (أخطاء) النظم والمنظمات العلمانية العربية التي
ساهمت في هذه النتيجة، وعندما نقول (أخطاء) فإننا نصف محصلة الأفعال، أما
أسباب هذه المحصلة فإنها تبدأ من الجهل والسذاجة وعدم الوعي، ولا تستثنى منها
الخيانة والتآمر والعمالة.
ومن هذه الأخطاء: ما ظهر مبكراً من ضعف الوعي السياسي لأهمية قضية
فلسطين لدى النخبة العربية على المستوى الرسمي رغم ظهور كل هذه المؤشرات
على الخطر الصهيوني، ومن أمثلة ذلك الضعف: أنه «عندما عقد المؤتمر
العربي الأول في باريس عام 1913م، وردت إلى المؤتمرين عشرات رسائل
التأييد للمؤتمر والتنديد بالخطر الصهيوني، وقد دعا مرسلوها إلى اتخاذ موقف
حازم من الهجرة اليهودية، ومن مجموع 387 رسالة وردت إلى المؤتمر كان
من بينها 139 رسالة وردت من فلسطين، ومع ذلك: تجاهل المؤتمر الخطر
الصهيوني؛ مما أثار حفيظة عرب فلسطين..» [6] .
ومن أمثلة ذلك أيضاً: ما ادعته بريطانيا عقب إعلان بلفور سنة 1917م من
أن مراسلات حسين / مكماهون سنة 1915م 1916م قبل الثورة العربية ضد الدولة
العثمانية.. تضمنت موافقة الشريف حسين بن علي الضمنية على استثناء فلسطين
من المنطقة المتفق على إقامة دولة عربية عليها [7] .
لم يكن هذا هو الخطأ الوحيد لتلك النخب، ولكن قبل أن نضع أيدينا على بقية
الأخطاء التي استمرت حتى اليوم يحسن بنا أن نعرض لمعالم السياسة الصهيونية
في الصراع على فلسطين:
يمكن القول: إن أهم معالم السياسة الصهيونية في الصراع على فلسطين
تتلخص في الآتي:
1 - إخراج الإسلام من دائرة الصراع.
2 - إيجاد قواعد أرضية للانطلاق منها في إيجاد واقع الكيان على أرض
الواقع، ثم الانطلاق من هذه القواعد نحو التوسع والتغلغل.
3 - هجرة أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين (ملء المجال الحيوي) .
4 - تهجير عرب فلسطين خارجها (تفريغ المجال الحيوي) ، عن طريق:
أ - طردهم من أراضيهم بالقوة المسلحة.
ب - إرهابهم بالمذابح والحرب النفسية والدعائية.
ج - تضييق منافذ العمل في وجوه العرب داخل فلسطين، مع تهيئة مواطن
بديلة لاستقبالهم، والعمل على فتح مجالات العمل والاستقرار أمامهم في هذه
المواطن.
5- تفتيت التكتل المعادي (الإسلامي/ العربي) بتعدد محاور تجمعه، وإثارة
نزاعات داخلية بينه، وإقامة دويلات طائفية مسالمة حول الكيان الصهيوني.
وفي المدى البعيد:
6 - العمل على ربط المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة بالمصالح
الصهيونية.
7 - إقامة دولة عصرية يمكنها الاعتماد على نفسها فيما بعد.
8 - الاستقرار والأمن، بالانتقال إلى السلام والشراكة مع الدول المحيطة عن
طريق المعاهدات والأحلاف خاصة مع دول الجوار.
9 - غزو دول المنطقة بالتغلغل السلمي، وقيادتها نحو منظومة إقليمية
جديدة [8] .
النبأ الرابع: آثار دخول فلسطين النفق العلماني:
نعود إلى السؤال: ما الذي طرأ على قضية فلسطين بدخول العلمانية إلى حلبة
الصراع بديلاً عن الإسلام في الفكر والممارسة الواقعية؟ .
إن المتأمل في المخطط الصهيوني السابق ذكره يدرك أن العلمانية كانت مفتاح
تحقيق هذا المخطط، وإذا كان سقوط الدولة العثمانية باعتبارها دولة خلافة إسلامية
أدى بشكل شبه تلقائي إلى تحقيق النقطة الأولى والخامسة من المخطط..
فإن التجربة العلمانية السياسية التي عملوا على إغراق بلادنا فيها عملت على
ترسيخ هذه المكاسب الصهيونية مع تحقيق النقاط الأخرى من المخطط الصهيوني،
ليس فقط في الواقع السياسي، ولكن أيضاً في أفكار الشعوب وسلوكياتهم، وذلك من
خلال:
أولاً: الافتقار إلى البعد الرسالي للقضية بتنحية الإسلام من الصراع:
فالصراع في قضية فلسطين صراع حضاري تصادمي في أساسه، والإسلام في هذا
الإطار هو القادر على المواجهة وهو المستهدف فيها.. هذا ما يدركه الصهاينة
ويتجاهله العلمانيون، في الوقت الذي يضعون أنفسهم في الخندق المعادي للرؤية
الإسلامية.
ف (إسرائيل) لم تكن فقط مجموعة من البشر سكنت مساحة من الأرض،
ولكنها قامت في الأساس على رؤية (حضارية) ، فحاييم وايزمان أول رئيس
للدولة الصهيونية يعلن في المؤتمر الصهيوني السابع قبل أكثر من أربعين سنة من
إعلان دولتهم أن « ... اجتذاب أنظار العالم إلى قضيتنا يستمد مفعوله وتأثيره من
الهجرة والاستعمار والثقافة ... » [9] ، أما إعلان الدولة العبرية فقد تصدَّر بما يلي:
«أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي، هنا تكونت شخصيته الروحية
والدينية والسياسية، وهنا أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيماً حضارية ذات مغزى
قومي وإنساني جامع، وفيها أعطى للعالم كتاب الكتب الخالد» ! ويقول أول رئيس
وزراء في الدولة الصهيونية ديفيد بن جوريون: «علينا أن نشكل شخصية دولة
إسرائيل وإعدادها للاضطلاع برسالتها التاريخية المثلثة: جمع الجوالي، بناء
الإنسان، حياة الحرية والمساواة والعدالة» [10] .
ولذلك عرف الصهاينة أن عدوهم الحقيقي الذي يتصادم مع (رسالتهم
التاريخية) هذه في المنطقة هو الإسلام، والإسلام الحقيقي وحده، يقول بن
جوريون: «نحن لا نخشى الثوريات ولا الديمقراطيات ولا الاشتراكيات في هذه
المنطقة! ، نحن نخشى الإسلام فقط، هذا العملاق الذي طال نومه، ثم بدأ يتململ
من جديد» [11] ، فالعلمانية بأطيافها المتعددة لا تخيف قادة الصهاينة، ولكنه
الإسلام فقط، لذا: عملوا جاهدين على محاربته وإخراجه من دائرة الصراع، وهو
ما قامت به العلمانية.
فإذا كان هذا هو موقف العدو (الرسالي) تجاه نفسه وتجاه خصمه
(الحضاري) ، فما هو موقف العلمانيين من أبناء جلدتنا؟ ! :
من المعروف أن العلمانية اتجاه فكري حياتي نشأ في الغرب، ثم انتقل بألوانه
المتغايرة وتطبيقاته المتعددة إلى بلادنا عن طريق نخب متغربة صريحة أو مستترة،
لذا: فإن هذه النخب عندما تخلت عن المذهبية الإسلامية لم تجد نفسها في وضع
تناقضي مع (الحضارة الغربية) التي تعد (إسرائيل) ممثلتها في الشرق، وعليه:
يصعب على هذه النخب الدخول في صراع تصادمي حقيقي (أساسه المبادئ
وليس المصالح) مع هذه الدولة، وتبقى بعد ذلك مسألة (أرض) فلسطين وبعض
الخلافات والنزاعات الثانوية الأخرى التي يمكن النظر فيها والتفاوض عليها برعاية
آباء هذه الحضارة التي تظلهم وتظل (خصومهم) الصهاينة، لذلك: فمن الممكن
عند العلمانيين الوقوف على أرضية مشتركة بينهم وبين دولة (إسرائيل) التي
ولدت بشرعية دولية يحترمها جميع العلمانيين، ومن الممكن أيضاً: إيجاد أنصاف
(أو أخماس) حلول والالتقاء في منتصف الطريق مع هذه الدولة.
والسبب الرئيسي في ذلك: أن العلمانية السياسية قامت في بلادنا على نفي
مفهوم الولاء والبراء الإسلامي واستبعاد توجيهات الشريعة الإسلامية من دائرة
صنع القرار، واستبدلت بهما إطار القومية العربية أو الوطنية الإقليمية، مع
الدخول في لعبة الشرعية الدولية ومنظومتها، وليس بجديد أن نقول إن القومية
العربية والقومية التركية والقومية اليهودية (الصهيونية) خرجت جميعها (فكرياً
وعملياً) من معين واحد، أساسه فكرة الدولة القومية التي نشأت في الغرب.
فحلول العلمانية السياسية محل الإسلام في الصراع على قضية فلسطين كان
أكبر عامل خدم الصهيونية، عندما لم تجد أمامها طرفاً آخر مبايناً ومواجهاً لها.
ثانياً: الافتقار إلى العداوة المبدئية وإرادة القتال:
ولكن ما هو البعد العملي الذي ترتب على دخول العلمانية السياسية ممثلة في
القومية العربية أو الوطنية الإقليمية حلبة الصراع في فلسطين بديلاً عن الإسلام؟
طرأ بانتقال قضية فلسطين إلى الريادة العلمانية: إزالة الحاجز العقدي المتمثل
في الولاء والبراء، ذلك الحاجز الذي كان قائماً بين المسلمين والصهاينة عندما كان
الإسلام هو موجه المشاعر، وعليه: لم يصبح اليهود الصهاينة أعداء من منطلق
عقدي ديني، ولم يصبحوا مغتصبين لبقعة تمثل جزءاً مهماً ومميزاً في البناء
المعنوي للمسلمين، بل أصبحوا خصوماً (أو أعداءً) مغتصبين مثلهم مثل أي دولة
إقليمية حتى ولو إسلامية أو عربية يمكن أن يكونوا اليوم معهم في حالة عداء (على
المرعى والماء) كما يمكن أن تزول غداً هذه العداوة.
وهذا البعد المستجد يتضح جليّاً في تلون العلمانيين وتبدل مواقفهم وسقوط
ثوابتهم، بل لقد صرح بعضهم بسقوط هذه العداوة بلا مواربة، فلقد صرح أحد
القادة العرب المشاركين في القضية بسقوط هذا الحاجز أثناء محادثات بينه وبين
اليهود في شهر 1/1949م استهلها قائلاً: «يقال إننا أعداء، يشهد الله أننا لسنا
أعداء!» [12] .
وكلما ازدادت العلمانية بعداً عن الإسلام وتطرفت مشرقة أو مغربة كلما
ازدادت فرصة تفاهمها والتقائها وتعايشها مع (إسرائيل) المجتمع والدولة؛ فلقد
كانت تركيا (الأتاتوركية) وإيران (الشاهانية) أكبر مثال على ذلك، فهما أول
دولتين في العالم الإسلامي تعترفان بدولة (إسرائيل) ، كان ذلك في 17/3/1950م،
ومعلوم مدى التطرف العلماني (ذي التوجه الغربي الليبرالي) الذي كانت تعيشه
هاتان الدولتان، وغير خافٍ تعاون شاه إيران السابق مع (إسرائيل) ومدها
بالبترول أثناء حرب 1973م، وغير خافٍ أيضاً التعاون المستمر حتى الآن
عسكرياً واقتصادياًّ وسياسياًّ بين تركيا وإسرائيل.
وعلى جانب آخر: وقفت قوى العلمانية المرتبطة بشرق أوروبا (أيام
الشيوعية والاشتراكية) موقفاً مخزياً من قضية فلسطين في وقت مبكر، «فقد
انتقدوا (التدخل) العربي في حرب عام 1948م، وطالبوا بسحب الجيوش العربية
(الغازية) ، واعتبروا الحرب مؤامرة استعمارية رجعية تهدف إلى منع قيام دولة
يهودية، وطالبوا بإتاحة الفرصة للشعب اليهودي ليقيم دولته القومية في فلسطين،
ولم يقتصروا على هذا، بل سيروا التظاهرات في العواصم العربية مطالبين بإقامة
دولة يهودية!» [13] .
وبواكير دعاوي الصلح مع الدولة الصهيونية ظهرت وما زالت على أيدي
(الرفاق) الشيوعيين واليساريين الذين تجمعهم مع (رفاقهم) الشيوعيين اليهود وحدة
الفكر والانتساب إلى الأممية الشيوعية «حيث بدأ مسلسل مساعي الحوار (العربي
الإسرائيلي) منذ عام 1965م حينما وجه المحامي المصري اليساري يوسف حلمي
بالاشتراك مع الزعيم الشيوعي اليهودي المصري هنري كوريال رسالتين لكل من
جمال عبد الناصر وبن جوريون يدعونهما فيهما باسم (الحركة الديمقراطية)
و (حركة السلام المصرية) لعقد مؤتمر للسلام بمشاركة الدول العربية و (إسرائيل)
ودول عدم الانحياز والدول الكبرى، ولكن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م
أجهض تلك المحاولة ...
وبعد عدوان 1967م التقى النقيب السابق بالجيش المصري (أحمد حمروش)
رفيق كوريال في الحزب الشيوعي المصري وعضو (الحركة الديمقراطية)
و (حركة الضباط الأحرار) مع كوريال وأريك رولو في باريس، حيث رتبوا اللقاء
بين جمال عبد الناصر وناحوم جولدمان رئيس (المؤتمر اليهودي العالمي) [14] ،
وقد أجهضت المحاولة بوفاة عبد الناصر عام 1970م» [15] .
ولا يستغرب أي عارف بحقيقة الشيوعية هذه المواقف من معتنقيها؛ فالأممية
الشيوعية تتناقض مع غيرها من الأمميات وعلى رأسها الأممية الإسلامية، بينما
تتساوى عندها القوميات المختلفة عربية، أو يهودية (الصهيونية) ، ويمكن أن
تتعايش معها بحظوظ مختلفة بحسب اقتراب هذه القوميات من مبادئها وتحقيقها
لمصالحها، كما أن الشيوعيين العرب يعدون إخوانهم الشيوعيين اليهود في
(إسرائيل) (رفاقهم) في الشيوعية.
ولم يقف التلاقي والتعايش مع الصهاينة عند حد اليساريين العرب، بل تعداه
أيضاً إلى اليساريين الفلسطينيين أنفسهم، فنايف حواتمة أمين عام الجبهة
الديمقراطية لتحرير فلسطين يطالب في حديث صحفي بتأسيس برنامج جديد
لتصحيح الحالة الفلسطينية «باستراتيجية نضالية (!) بكل ما هو ممكن،
واستراتيجية تفاوضية في إطار قرارات الشرعية الدولية» [16] ، وهي القرارات
التي سنعرض لها لاحقاً إن شاء الله تعالى، وهذا الموقف نفسه تقريباً هو موقف
جورج حبش والجبهة الشعبية.
وغير خاف مدى ضلوع اليساريين والشيوعيين السابقين في جهود التطبيع
والدعوة إلى التعايش مع الدولة الصهيونية، ومن ذلك: إعلان تحالف كوبنهاجن
عام 1997م وتأسيس (جمعية القاهرة للسلام) في العام الذي يليه، بدعم أوروبي
وأمريكي.
وهذه الجهود والمساعي إلى التعايش والسلام من قبل هؤلاء تجاه الدولة
الصهيونية نراها منطقية في ضوء ما ذكرناه سابقاً عن منطلق العلمانيين وتوجهاتهم؛
فبعد سقوط العداء المبدئي بين العلمانيين والكيان الصهيوني نتيجة تنحية الإسلام
عن ساحة الصراع: افتقد العلمانيون إرادة المواجهة والقتال تبعاً لذلك، وتوجهوا
إلى شرعيتهم الدولية يسألونها (حقوقهم المشروعة) ويرضون بالفتات الذي يلقى
إليهم في ظل الاستعداد للتعايش مع كيان لا يرونه مناقضاً لهم حتى ولو اختلفوا معه،
أو رأوه ظالماً وغاشماً.
وافتقدت الأنظمة العلمانية إرادة القتال حتى في أوج مدها الثوري المزعوم،
فـ « ... منذ أن جاؤوا وهم يعدون العدة لحرب فلسطين! ويعلنون أنهم سيختارون
مكان وزمان المعركة، ولن يسمحوا لإسرائيل بأن تجرهم إلى معركة لا يحددون هم
مكانها وزمانها وسلاحها.. وكل الأمم التي فنيت، بل كل الكائنات التي اندثرت،
كانت تحلم بمعركة تدور وفقاً لشروطها، تحدد هي مكانها وزمانها وأسلحتها،
وراعها وهي تباد تحت ضربات خصمها أنه لم يلتزم بأمانيِّها وضربها قبل أن
تنتهي من تحديد الزمان واختيار المكان وإتمام شحذ السلاح! وأنه نجح دائماً في
جرها إلى المعركة الخاسرة.
إن إرادة القتال هي التي يجب أن تتوفر أولاً، ويأتي بعد ذلك تخير أفضل
الظروف للقتال..» .
«وفي كل مرة كان انفعالهم [بعد ضربات إسرائيل] ينعكس في شكل دهشة
ومرارة العاتبين.. وليس أدق في الدلالة عن حالتهم هذه من التعبير المفضل عندهم
وهو (العدوان الغادر) ! ..
ونقبوا في جميع القواميس، إن وجدتم أحداً قبلهم وصف ضربات عدوه
المصيري بأنها (غدر) ! .. الغدر يأتي من الأصدقاء، أو ممن لا نحمل لهم أية
نوايا عدوانية، ولا نتوقع منهم عدواناً..» [17] .
وليس أدل على عدم إرادتهم القتال من عدم استعدادهم الجدي له على مدى
أكثر من تسعين عاماً، [وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً] (التوبة: 46) .
ثالثاً: هدر الطاقات والحيلولة دون مواجهة العدو:
1 - وفي المقابل: وقف كثير من النخب السياسية العلمانية حائلاً دون منازلة
القوى الشعبية مع الصهاينة عسكرياً وسلمياً، بل إن هذه النخب اصطدمت دوماً
بالحركة الإسلامية التي كانت رأس الحربة في هذه المنازلة بدل التعاون المفترض
معها، وما ذلك إلا لأنها وجدت في هذه الحركة خطراً عليها، فناصبتها العداء؛
لتضع العلمانية بذلك نفسها في خندق واحد مع الصهيونية في مواجهة التيار المعبر
عن رسالة هذه الأمة وأصالتها.
وهكذا بات الإسلام الحقيقي (الذي يسمونه أصولياً) عدواً مشتركاً للعلمانية
والصهيونية، فأصبح تحالفهما للقضاء على هذا الخطر الذي يهدد بقاءهما هدفاً
مشتركاً تلتقي عليه جهودهما، ومن ثم: كانت النظم العلمانية حاجزاً تلقائياً بين
المقاومة الإسلامية (العسكرية والسلمية) والعدو الصهيوني، بل أصبح ضرب
الحركات الإسلامية وتصفيتها مؤشراً على مكاسب صهيونية قادمة مرتبطة بتنازلات
أو إخفاقات علمانية تستلزم (تأمين الجبهة الداخلية) بإخلائها من المعارضين
النشطين المتوقعين لهذه المكاسب وتلك التنازلات، أي: إخلائها من الحركات
الإسلامية ورموزها الفعالة، بل أصبح الضغط أو تخفيفه على هذه الحركات (ورقة)
تفاوضية ابتزازية تلوح بها هذه النظم العلمانية في وجه الغرب أو في المفاوضات
مع الدولة الصهيونية كلما أحست بالإفلاس السياسي.
ومسيرة الأحداث تؤكد ذلك التعاون بين العلمانية والصهيونية، أو على الأقل:
تؤكد أن العلمانية كانت حاجزاً تلقائياً بين المقاومة الإسلامية والعدو:
- فأولى التحركات العسكرية الشعبية الواسعة، وهي ثورة 1936م (1935م
1939م) والتي استمرت توابعها بعد ذلك، كان يحمل لواءها مجاهدون من جمعية
الشبان المسلمين، وكان يقودها الشيخ عز الدين القسام، ثم نشط بعد ذلك جيش
الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني، وتمكن المتطوعون في هذه الثورة
المسلحة من تحقيق انتصارات متلاحقة خلال عامي 1938و 1939م، ولكن
بجانب تحرك القوى البريطانية والعصابات الصهيونية كان خذلان الأنظمة العربية
العلمانية لهذه الانتفاضة، فشحُّوا بالدعم المادي لقادة الثورة وهم في أمس الحاجة
إليه ليستمروا في جهادهم، بل سارعت هذه الأنظمة بإيعاز من بريطانيا إلى احتواء
هذه الظاهرة تحت شعار الوساطة وحقن الدماء «معتمدين على حسن نوايا صديقتنا
الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل» ، ولا شك أن هذه الثورة كانت
خروجاً عن حسابات وسياسات الاستعمار والأنظمة العربية العلمانية «خصوصاً أن
الثورة أبرزت قيادات ثورية لا تعرف المهادنة أو أنصاف الحلول!» [18] .
- وقبل حرب 1948م وأثناءها تحرك الإخوان المسلمون على الصعيدين
الشعبي والعسكري، فاستطاعوا تحريك الرأي العام المصري تجاه القضية
الفلسطينية من الزاوية الإسلامية، وقد برز دور الإخوان المسلمون أثناء ثورة
فلسطين الكبرى عام 1936م، عندما سارعوا إلى تنظيم المظاهرات، وألفوا اللجان
لتلقي التبرعات وإرسالها إلى اللجنة العربية العليا، وقاموا بإرسال برقيات احتجاج
إلى المندوب السامي بفلسطين ووزارة الخارجية البريطانية وعصبة الأمم، وأخرج
الإخوان في مصر أكثر من نصف مليون متظاهر إلى شوارع القاهرة في اليوم
الثاني لصدور قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947م، وأعلنوا رفضهم للقرار،
مؤكدين عروبة فلسطين وإسلاميتها، مما مثل التجسيد المادي لحضور القضية
الفلسطينية في الشارع المصري.
وقد سطر متطوعو الإخوان في حرب 1948م ملاحم تغنى بها الفلسطينيون
وأكسبت الجماعة الاحترام والتأييد، خصوصاً في ظل الموقف الداعم لقرار التقسيم
من قِبَل الحزب الشيوعي الفلسطيني! النقيض الأيديولوجي لجماعة الإخوان
المسلمين ومنافسهم الشعبي آنذاك وفي ظل الضعف والعجز العربي الرسمي. [19]
فماذا كان الموقف العلماني الرسمي إزاء ذلك؟ :
عرقلت الحكومة برئاسة النقراشي باشا جهاد الإخوان المسلمون بطرق عديدة؛
لأن «الحكومة تنظر بعين الريبة إلى حركات الإخوان وتخشى أن يؤلفوا جيشاً
في فلسطين يكون بعد ذلك خطراً كبيراً على سلامة الدولة» [20] ، وفي الوقت الذي
كانت المعارك مستعرة بين هؤلاء المتطوعين وعصابات الصهيونية نصبت
الحكومة ما عرف باسم (قضايا الإرهاب) و (قضايا الأوكار) ، وتم حل الإخوان
المسلمين رسمياً، وسيق زعماؤهم إلى المنافي والمعتقلات، واغتيل مؤسسها
ومرشدها العام الشيخ حسن البنا، في وقت كان يعد العدة فيه لإعلان الجهاد العام
والتعبئة الشعبية لتكوين قوات كبيرة يدخل بها فلسطين، وهكذا تم منع الإخوان من
مواصلة جهادهم ضد اليهود [21] .
ولا يخفى الرابط بين هذه الإجراءات ودور هذه الحركة في قضية فلسطين:
ففي إشارة ذات مغزى يعلق محررا مذكرات ديفيد بن جوريون على ما ذكره في يوم
6 /12 / 1948م بأن حكومة النقراشي راغبة في الخروج من الحرب، ولكن
النقراشي باشا يخشى (الوضع الداخلي) إذا بدأ محادثات سلام! .. يعلقا بقولهما:
«ازداد غليان (الإخوان المسلمين) في مصر، وفي كانون الأول / ديسمبر فرض
حظر على التنظيم، واعتقل قادته (في حين كان أعضاؤه يقاتلون في أرض
إسرائيل) » [22] .
- والآن من المعروف أنه بعد انتكاس حركات تحرير فلسطين (الفندقية) لم
يبق في ساحة الصراع الحقيقي، والعملي مع العدو الصهيوني سوى الحركات
الإسلامية، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتان، وهذا يعرفه
الجميع.
هذا في الوقت الذي تحولت فيه منظمات التحرير الفندقية إلى (جنين) نظام
علماني يرتبط صراحة مع دولة العدو ومع أمريكا بتعهدات واتفاقات سياسية وأمنية
واستخباراتية للتعاون في مواجهة (الإرهاب) الذي هو حركات مقاومة العدو
الصهيوني، ووفقاً لهذه التعهدات والاتفاقيات تقوم أجهزة الأمن (الفلسطينية)
بحملات اعتقال ودهم لعناصر هذه الحركات، كما يتم تبادل المعلومات مع أجهزة
الأمن (الإسرائيلية) حول هذه الحركات، ويتم تأميم مساجدها ومؤسساتها وطرق
اتصالها بالجماهير، بل يتبجح مسؤولو السلطة بهذا التعاون، باعتباره وفاءً
بالتزامات لاتفاقيات دولية! ، وهكذا كان «التعاون اللصيق بين أجهزة
الاستخبارات والأمن في إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، والأردن، ووكالة
الاستخبارات الأمريكية، هو الذي أجهض جزءاً كبيراً من عمل حماس العسكري،
وكذلك الجهاد الإسلامي؛ فقواعد المعلومات الأمنية بين هذه الأطراف أصبحت
مشتركة (!) وواحدة، ولم يعد أحدها يبخل على الآخر بما لديه، وتبادل
المعلومات والمراقبة اللصيقة يتمان بتنسيق وتناغم» [23] .
- ولم يقتصر الأمر على جهود النظم العلمانية لمحاصرة المقاومة العسكرية
للعدو الصهيوني والوقوف حائلاً دونها، بل تعدتها إلى العمل على محاصرة
المقاومة الشعبية غير العسكرية وإجهاضها، ففور اندلاع انتفاضة الأقصى الأخيرة
تسارعت جهود النظم العلمانية لعقد المؤتمرات باشتراك إسرائيل وأمريكا من أجل
احتواء (العنف) وإيقافه والعودة إلى مسار المفاوضات، وتعالت صيحات بعض
المثقفين والسياسيين العلمانيين (الحكماء) من فوق مقاعدهم الوثيرة بأن تحرير
فلسطين لن يتم بإلقاء الحجارة ونزف الدم الفلسطيني.
وعندما تعاطفت جماهير العالم الإسلامي مع إخوانهم في فلسطين خرج من
يلقي عليهم المواعظ السياسية التي تدعوهم إلى الواقعية الحكيمة؛ لأن مظاهر هذا
التعاطف لا تفيد شيئاً في تحرير فلسطين، بل إن الدعوات إلى مقاطعة البضائع
والشركات الأمريكية والإسرائيلية التي نشطت مؤخراً ولقيت تجاوباً شعبياً واسعاً لم
تسلم من انتقادات حكومات ورموز علمانية، فتعالت مرة أخرى صيحات الحكماء
العلمانيين بعدم جدوى هذه المقاطعة وعدم القدرة عليها، ولا شك أن هذه المواقف
متوقعه ممن ربطوا بلادهم سياسياً واقتصادياً بالغرب، بحيث أصبح قطع حبل
العلاقات بالغرب قطعاً لشريان حياتهم هم.
رابعاً: التمزق والتشرذم في مواجهة عدو متكتل:
لم يقتصر التأثير السياسي للعلمانية في قضية فلسطين على إخراج الإسلام من
دائرة الصراع وما تبع ذلك من افتقار إلى البعد الرسالي في الصراع، وإلغاء
العداوة (من أجل المبدأ) ، والافتقار إلى إرادة القتال، وهدر الطاقات الإسلامية
والشعبية في هذا الصراع.. ولكن هذا التأثير حقق أيضاً هدفاً آخر من المخطط
الصهيوني، وهو تفتيت التكتل الإسلامي، وإدخال الأمة في دائرة تمزقات متشعبة،
وإدخال الأفراد في متاهة اغتراب قيمي عندما ضاعت بوصلة هويته على يد
العلمانية.
فاختلاف مذاهب العلمانية وتطبيقاتها، وتباين كل قطر في توجهاته ومصالحه
(التي لم تعد موحدة) .. مزق جهود هذه الأقطار في مجالات عديدة فكرية
وجغرافية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، فبين الليبرالية ودرجاتها،
والاشتراكية ونظرياتها، والقومية وتطبيقاتها، وبين الارتباط بالغرب أو بالشرق أو
محاولة التوسط والتوفيق بينهما ضاعت جهود الأمة، أو تحولت إلى تصريحات
جوفاء ومشاهد مسرحية دعائية يقوم بها الزعماء العلمانيون؛ لإلهاء الشعوب وحفظ
ماء الوجه أمامها.
فالعلمانية عندما اعتمدت القومية العربية إطاراً للصراع تكون قضية فلسطين
قد خسرت تلقائياً إمكانات وجهود الأقطار الإسلامية غير العربية من المشاركة في
هذا الصراع، وليس أدل على ذلك من اعتراف إيران وتركيا مبكراً كما ذكرنا سابقاً
بالدولة الصهيونية ومد يد التعاون معها.
زد على ذلك: أن العلمانية لم تكتف بتحييد الشعوب الإسلامية غير العربية
في الصراع، بل عملت أيضاً على تحييد الشعوب العربية نفسها، عندما كرست
التوجه القائل بأن قضية فلسطين قضية فلسطينية تخص شعب فلسطين وحده،
ولا يبقى للشعوب العربية الأخرى إلا أن (تتعاطف) مع هذا الشعب في محنته
ومأساته.
وقد كان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وانحرافها العلماني إحدى الخطوات
في (فلسطنة) الصراع، وجدير بالذكر في هذا المجال (التمزق والفلسطنة) أن
(زعيم القومية العربية) جمال عبد الناصر، وقبيل بدء مغامراته الاستنزافية
والتمزيقية في اليمن، كان قد أعلن في فبراير عام 1958م قيام دولة وحدة عربية
بين مصر وسورية، ف «استبشر بها الفلسطينيون خيراً، وبنوا الآمال الكبار
عليها متوقعين من دولة الوحدة اتخاذ خطوات إيجابية لعودة الفلسطينيين إلى بلادهم
وتحرير أرضهم المحتلة، إلا أن خيبة أملهم كانت كبيرة عندما رفض عبد الناصر
طلباً تقدم به الحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا بقبول فلسطين في
الاتحاد السوري المصري. ويبدو أن عبد الناصر كان متخوفاً من أن يؤدي قبوله
بهذه الوحدة إلى تحمله مسؤولية تحرير فلسطين وممارسة الضغوط عليه لإعطاء
المسألة الفلسطينية دوراً أكبر، بينما لم يكن عبد الناصر يعطي الأولوية للقضية
الفلسطينية. ويقول باتريك سل: إن دولة الوحدة لم يكن القضاء على إسرائيل هدفاً
من أهدافها» [24] .
وذلك يؤكد أن القومية العربية العلمانية في ممارستها العملية كانت أداة لتمزيق
القوى المواجهة للعدو الصهيوني، ولم تكن أداة للتوحد العربي كما يزعمون أو
يُنَظِّرون.
وإذا أخذنا لدراسة هذا الأثر العلماني مجالاً يتأثر بغيره من المجالات ويؤثر
في غيره أيضاً، وهو المجال العسكري، نموذجاً لهذا التمزق، نجد أن من أهم
أسباب الهزيمة في فلسطين باعتراف جميع الأطراف هو ذلك التمزق الذي اعتراه.
فإضافة إلى أخطاء النظم العلمانية العسكرية الأخرى، كالتهوين من قوة العدو
والاستخفاف بها، والأسلحة الفاسدة، وضعف التدريب والتسليح، والافتقار إلى
التخطيط الجيد ... كان لتشرذم القوات العربية تحت قيادات مختلفة متخالفة أثر
كبير في الهزيمة العسكرية، ففي حرب 1948 م يعرض ديفيد بن جوريون
وجهة نظره في أسباب هزيمة العرب التي ساهمت في انتصار اليهود عسكرياً عليهم
بأنها:
1- خطتهم الاستراتيجية كانت سيئة، ولا سيما خطة المصريين.
2- لم تكن لديهم قيادة موحدة [أثر العامل السياسي] .
3 - تسليحهم لم يكن كافياً لم يكن هناك قوة جوية، ومصر كانت ضعيفة في
البحر.
4- الطاقة البشرية المجندة لم تكن كافية أيضاً. استطعنا تعبئة قوة أكبر من
قوتهم.
5 - معنوياتهم منخفضة [لافتقاد الهدف وضياع الهوية والتخبط العسكري] .
6 - قدرة تعلم منخفضة.
7 - لم تكن عندهم صناعة عسكرية [أثر العامل الاقتصادي والعلمي] [25] .
وهذا ما يقر به علمانيو العرب أنفسهم، ولكن بالطبع بعد انتهاء المعارك.
بل وصل هذا التشرذم والتمزق إلى حد بعيد قد لا يتصوره أي (متعاطف)
مع القضية الفلسطينية: فيذكر بن جوريون في يومية 16/1/1949م أن موشيه
دايان عاد بعد حديث مع أحد القادة العرب ليخبره أن «العجوز يشكو من الإنجليز
الذين هو عبدهم (!) ، يطلب عدم ترك المصريين، لا سمح الله! ، في غزة،
من المفضل أن نسلمها إلى الشيطان، أن نأخذها نحن، شرط ألا يأخذها المصريون
(!) » [26] ، أما النظرة الاستراتيجية عند هذا (العجوز) فيوضحها هو نفسه
لليهود قائلاً: «إذا غادرت الدول العربية البلد فإننا سنقيم معاً» ، وفي صراحة لا
لبس فيها يوضح أنه «لا يريد محادثات مشتركة مع الدول العربية، وهذه عليها
المغادرة» ، بل إنه لا يعترف بحق أي دولة في أن تكون موجودة في البلد
[فلسطين] باستثناء اثنتين: إسرائيل ودولته « [27] .
ولا شك أن هذا التمزق والتشرذم العسكري والسياسي كان عاملاً مهماً في
الهزيمة العسكرية وما صاحبها ولحقها من تراجع سياسي، تمثل في اكتساب
الصهاينة أرضاً جديدة وقبول العرب الهدنة التي مكنت العدو من إعادة تنظيم
صفوفه وتعويض وتجديد تسليحه، والتفرغ لبناء دولته في ظل اعتراف عربي
ضمني بحدودها، بينما تحطمت القوة العربية وتدنت الروح المعنوية في صفوف
جنودها، أما عرب فلسطين: فكان لهم الشتات! .
كان هذا أيام النكبة العلمانية، ولا يختلف الأمر كثيراً في نكستهم الثورية
التقدمية الوحدوية ... سنة 1967م:
فقد وقعت هذه النكسة (هكذا يطلق إعلامهم على هذه الهزيمة وكأنهم كانوا
منتصرين قبلها) وقعت بعد استنزاف طويل وصراع بين عدة أطراف عربية،
ورطها فيها زعيم القومية العربية آنذاك جمال عبد الناصر، كان منها: حرب اليمن
والوحدة الفاشلة بين مصر وسورية.
ويؤكد مراسل حربي لجريدة الأوبزرفر على حقيقة تسبب التفرق والتشرذم في
هذه الهزيمة، فيقول:» إن الإسرائيليين اعتمدوا في ذلك على أن القوات العربية
ليست تحت قيادة موحدة، وإن الأحداث أكدت صحة هذا الاعتقاد «.
وقال:» ... وعلى الجبهة الشمالية سورية، تحققت نبوءة المخططين
الإسرائيليين، وكانت عمليات القوات السورية محدودة جداً، فلم يقم السوريون
بأية عمليات جدية لمساعدة المصريين في الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه،
وانحصرت مساعيهم في هجومات محلية على مستعمرتي حدود إسرائيليتين « [28] .
وتعجب بعد ذلك لجريدة (الثورة) تخرج بعد اكتمال الهزيمة لتلقننا درسًا
وحدوياً قائلة» ... كان يمكن أن تكون نتائج المعركة أعظم بكثير لو توافر تنسيق
أوسع للاستراتيجية العربية، ورافق ذلك توزيع أدق للقوات « [29] .
ولا شك أن العلمانية بتمزيقها للأمة وإدخالها في صراعات تستهلك قدراتها
وتلهي شعوبها قد أسدت إلى الدولة الصهيونية خدمة كبرى وحققت لها هدفاً بعيداً،
» وأي شيء هو أسعد لإسرائيل من أن تلقى دولاً مفككة، ممزقة، هزيلة، يمعن
بعضه في تحطيم وتجريح البعض الآخر، ويضمر له من العداوة والضراوة والكره
عشرة أمثال ما يضمر لإسرائيل؟ ! « [30] .
وقد كان هذا الهدف لدولة العدو يخطط له من قديم بأسلوب ثانٍ تحقق في
الواقع أيضاً، هو: إقامة دويلات طائفية حول الدولة الصهيونية، ولا يمنع إذا
استدعى الأمر محاولة تقسيم بعض الدول الكبرى على هذا الأساس [31] ؛ لتكوّن
هذه الدويلات حزاماً أمنياً يمثل خط دفاع متقدم عن اليهود، وهو أحد عناصر ما
يعرف بتأمين المجال الحيوي [32] ، وهنا يبرز المثال الواضح لذلك التخطيط، وهو
دويلة الرائد سعد حداد التي انفصل بها في جنوب لبنان عام 1979م، ثم غزو لبنان
الكامل ومحاولة فرض اتفاقية (سلام) مع قادة القوات اللبنانية الكتائبية المارون
عام 1982م.
ولكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا المخطط مخطط قديم، دأب قادة العدو على
تحين الفرصة المناسبة لتنفيذه، فيذكر بن جوريون في يومياته (19- 20/12/
1948م) اقتراحات بعض القادة بهذا الخصوص في إحدى جلسات الحكومة، من
ذلك اقتراح مردخاي بنطوف:» يجب تحطيم الحلقة الأضعف، كان هذا في لبنان
الماضي، كان يمكن الذهاب إلى بيروت وتأليف حكومة مارونية (بقيادة المسيحيين
الموارنة) وإبرام سلام معها «، و» يقترح جوش [بلمون] ، بموافقة يغئيل
[يادين] جيشاً عربياً غير نظامي (غير إسلامي) كي يشكل حزاماً « [33] .
وهي الفكرة التي نوقشت مرة أخرى سنة 1954م وقت أن كان موشي شاريت
رئيساً للوزراء، وقد وافق شاريت على مبدئها وإن اختلف مع بن جوريون في
ظروف وتوقيت تنفيذها، ويذكر شاريت أن الفكرة نفسها نوقشت أيضاً في 16/5/
1955م أثناء اجتماع مشترك لكبار موظفي وزارتي الدفاع والخارجية، فبعد أن
أثارها بن جوريون عبّر دايان فوراً عن مساندته بحماس:» حسب رأيه (دايان)
الشيء الوحيد الضروري هو العثور على ضابط، ولو برتبة رائد (!) فقط،
وعلينا إما أن نكسب قلبه أو نشتريه بالمال، ليوافق على إعلان نفسه مخلِّصاً
للسكان الموارنة، وعندئذ يدخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان، ويحتل المنطقة
الضرورية، ويخلق نظام حكم مسيحي يكون حليفاً لإسرائيل ...
وافق رئيس الأركان أن نستأجر ضابطاً (لبنانياً) يوافق أن يقوم بدور دمية
بحيث يتمكن الجيش الإسرائيلي من الظهور وكأنه يتجاوب مع طلب (لتحرير لبنان
من المعارضين المسلمين) « [34] ، وهو ما تم بالفعل بعد حوالي خمسة وعشرين
عاماً.
ولسنا هنا في معرض مقارنة وضوح الهدف في ذهن قادة العدو، وتخطيطهم
بعيد المدى لتحقيقه، وإصرارهم على التنفيذ، ونجاحهم فيه، مقابل ارتجالية القادة
العلمانيين وإخفاقهم المستمر، ولكنا نشير إلى أنه كان من حجج دعاة القومية العربية
العلمانية التي يروجونها دائماً: أن الالتفاف حول الإسلام كآصرة تجمُّع وولاء
سيقصي تلقائياً العرب النصارى ويخسرهم ويفتح المجال لثغرات في جسد الأمة،
بخلاف قوميتهم العربية العلمانية التي ستضم هؤلاء النصارى إلى النسيج السياسي
العربي، وهذه الحجة رغم تهافتها، ورغم أن القومية العربية لم تحل نظرياً ولا
عملياً مشكلة أخرى، هي وجود قوميات عرقية أخرى في الجسد العربي يمكن
اللعب عليها كالأكراد والبربر والزنوج؛ رغم كل ذلك فقد سقطت هذه الحجة في
أول اختبار عملي لها، ذلك إن التكتل النصراني اللبناني تحالف مع أعداء الأمة
(العربية!) في أول فرصة أتيحت له، ومزق بطائفيته النسيج القومي العربي
المزعوم.
وهكذا أصبحت القومية العربية العلمانية مجرد محطة في طريق تجزئة الأمة
يتم تجاوزها بعد استنفاذ أغراضها واستثمارها من قبل العدو.