المسلمون والعالم
خالد حسن [*]
تشير آخر التقارير الأمنية الأمريكية ودوائر الاستخبارات والرصد اليهودية
أن ثمة ترتيبات وتحضيرات على مستويات رفيعة في طور الإنجاز تمهيداً لإسناد
أدوار حيوية لدول المغرب العربي (الجزائر على وجه الخصوص) في سياق
التغييرات «الجيوسياسية» التي قد تشهدها منطقة الشمال الإفريقي.
صناعة الهلع:
كشف أحد هذه التقارير التي تعكس إلى حد ما وجهة نظر الخارجية الأمريكية
قلقَ إدارة البيت الأبيض إزاء المخاطر المحتملة من الأوضاع الداخلية لدول منطقة
المغرب العربي، ووفقاً لهذا التقرير فإن الحركات الإسلامية في هذا الإقليم تشكل
الطرف الأخطر على ما يسميه التقرير بمسيرة الاندماج السياسي بين البلدان
المغربية والغرب و «إسرائيل» ، وقد تعزز هذا الهاجس لدى الخارجية الأمريكية
بعد رفع الحظر عن الشيخ عبد السلام ياسين المرشد العام لجماعة العدل والإحسان
المغربية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى «الانفراج» الصوري في مجال
الحريات الذي ظل ورقة في يد النظام التونسي، يُلوِّح بها كَبالُون اختبار أو من
قَبيل التمويه الداخلي والاستهلاك الخارجي متى تعرض لضغوط خارجية أو وافق
مصالح سياسية واقتصادية داخلية، وإن كان الحديث عن انفراج جريء وعميق في
تونس في الوقت الحالي سابقاً لأوانه في ظل القبضة البوليسية للنظام الحالي.
في حين تكونت لدى مستشارين ودبلوماسيين أمريكان سابقين في الجزائر
ممن اطَّلعوا على الملف الإسلامي عن كثب قناعة راسخة بأن وصول الإسلاميين
إلى سدة الحكم أو على الأقل استرجاع التيار الإسلامي لقدراته وإمكاناته التعبوية،
وبسط نفوذه على الشارع السياسي في الفترة الراهنة ضرب من التخمين والوهم؛
خاصة بعدما أحكم النظام قبضته على كافة المؤسسات وساحات التأثير.
والمتابع لهذه التقارير يلحظ دون سابق عناء مدى التناقض أو بالأحرى
الازدواجية في التعامل مع البيئة المحلية لدول منطقة المغرب العربي بما يوافق
مفردات آلية التعامل الأمني الأمريكي مع الدول التي يراد لها أن تنجز دوراً أو
أدواراً إقليمية (وهذا من خلال لغة التقرير وسياقه) وفق حسابات تمليها الخريطة
«الجيوسياسية» الحالية، وبما يوافق الطبيعة المصلحية البراغماتية للاستراتيجية
الأمريكية والقائمة في بعض جوانبها على الإيهام بتنامي خطر محلي لا يهدد أمن
واستقرار حدود البلد الواحد بل المنطقة بأكملها. ولأن صنَّاع القرار في المنطقة
ذوو تشكيلة عسكرية مخابراتية؛ فإن دوائر الرصد الأمريكي الصهيوني ولاستيعابها
إلى حد ما لتركيبة الرؤوس والحواشي عمدت إلى شحنهم بسيل من المخاطر
والتهديدات، واختارت نبرة التصعيد الأمني، وطبعاً فإن «الأصولية الإسلامية»
تتصدر لائحة التهديد المحلي والإقليمي والدولي أو هكذا يصور الأمريكان الوضع
لطبقة صنَّاع القرار في المنطقة، ولهذا جاءت توصية شعبة «مكافحة الإرهاب»
في وزارة الخارجية الأمريكية في نهاية التقرير: «إن الإسلام السياسي في
المغرب العربي والصحوة الإسلامية ينبئان بوقوع تغيرات غير محسوبة في موازين
النظم الحاكمة للإقليم.. وإن رفع الحظر السياسي عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ
(الجزائرية) ، وحركة العدل والإحسان (المغربية) ، وحركة النهضة (التونسية)
سيفضي إلى أسلمة جمهور الناخبين بشكل خاطف وساحق في أي انتخابات قادمة» .
التطبيع ... مسارات وممرات:
هل دوائر صنع القرار الأمريكي بحاجة فعلاً إلى إغراء أنظمة الحكم في
المنطقة وإغوائها لتأمين علاقات «متميزة» مع الكيان الصهيوني، وتمرير
مشروع التطبيع دون تنغيص أو تفجير داخلي؟ أم أن الأمر قد يستتب من خلال
تطعيم مخاطر المصالحة الداخلية، وتسكين مخاوف التطبيع مع «إسرائيل» عبر
مقترحات أمريكية الصنع، وتجارب ردع صهيونية قابلة للتصدير والاستهلاك؟
يبدو أن السياسة الأمريكية تجاه مستقبل منطقة المغرب العربي ذات مسارات
وممرات متداخلة يساند بعضها بعضاً؛ فهي من جهة تتعاطى مع الفرضية
«الإسرائيلية» القائمة على أن مستقبل العلاقات بين «إسرائيل» ودول المغرب
العربي مهما بلغت من تطور ستكون عرضة للانهيار المفاجئ وذلك لقدرة التيارات
الإسلامية في هذه المنطقة على حشد جبهة اجتماعية مناوئة «للإسرائيليين» على
قاعدة خطاب إسلامي مناهض وصامد تتعاطى مع هذه الفرضية بنوع من «احتواء»
الساحة و «امتصاص» الغضب الجماهيري تجاه أي شكل من أشكال التطبيع؛
وذلك عبر تشغيل آلاف الشباب المغاربة في أسواق استثمارات إقليمية ودولية،
وهنا قد ترعى شركات الاستثمار الأمريكي مشاريع أو تمولها، كما لم تتوانَ دوائر
الرصد الأمريكي عن تشغيل خط التعاون مع حكومات المغرب العربي و «تسخينه»
ضد لائحة «المتهمين أو المشتبه فيهم» ، ويعرض التقرير الأمني الأمريكي في
هذا الصدد اقتراح هدم وتقويض ما أطلق عليه بـ «مجتمع الأحزاب الأصولية» ؛
مع التحذير من استعمال مزيد من القمع ضد الإسلاميين؛ لأن من شأن ذلك أن:
«يوسع من خريطة التعاطف الشعبي معهم» .
ومن جهة أخرى تتحرك الآلية الأمريكية في إطار سياسة تعدد المسارات
والممرات لتسهم بأساليبها الخاصة في عملية تدارك الوضع الداخلي للإسلاميين
للتخفيف من حدة التيار المناوئ والمناهض، أو على الأقل تحقيق نوع من التوازن
داخل صفوف الإسلاميين؛ وذلك باستمالة قيادات «معتدلة» وتحييد التيارات
الوطنية التي قد تغلِّب جانب التحالف مع الإسلاميين على علاقات ائتلافية مع
السلطة القائمة ودعم القوى والاتجاهات التحررية الموالية للغرب. وعلى مسار
آخر تجري مفاوضات غير معلنة مع حكومات تونس والجزائر والمغرب لإقامة
منظومة اقتصادية «ضخمة» في منطقتي شمال إفريقيا وما يسمى بالشرق الأوسط،
ولسنا في حاجة لتأكيد أن هذا التنوع والتعدد في المسارات والممرات يخدم في
نهاية المطاف مشروع تسوية الأرضية لبسط نفوذ الولايات المتحدة في منطقة
المغرب العربي.. ويتجاوز في أبعاده ومراميه حسابات جماعات المصالح
والمتنفذين في حكومات المنطقة.
وبما أن منطق المصالح المتبادلة يقتضي المقايضة؛ فإن واشنطن تسعى
لتوظيف تردِّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي لدول المنطقة (وخاصة الجزائر)
إلى أقصى حد بإقحام عرض «المساعدة الإسرائيلية» في المعادلة الراهنة، وقد
جرى فعلاً تبادل زيارات وفود من مختلف المستويات سرِّياً بين الجزائر والكيان
الصهيوني. هذا ويلاحظ أن تيار تسريع وتحريك ملف التطبيع مع «الكيان
الصهيوني» يتعزز ويتنامى يوماً بعد يوم على مستوى الحكومات المغاربية،
وسواء «نجحت» مفاوضات «السلام» أم تعثرت فإن مطالب هذا التيار لا تهتز
ولا تفقد منطق فرضها في نظرهم فإذا ما أبرم أي اتفاق في الشرق الأوسط؛ فليس
المغاربة أحرص من غيرهم على المفاصلة، بل المطلوب البدار من الآن تحسباً
لأي جنيٍ للمكاسب والاستحقاقات في غياب دول المنطقة، وفي حالة عدم نجاحها
فليس المغاربة ملزمين بمسار المشارقة، ولهذا يحرص تيار التطبيع على إحباط
احتمالات العدوى وفك الارتباط من الآن.
مخازن جديدة رهن الاقتصاد الأمريكي:
فكرة توسيع الرقعة «الجيوسياسية» لـ «اتحاد المغرب العربي» مثارة
ومطروحة منذ فترة؛ ففي تصريح لروبرت بللترو مساعد وزير الخارجية الأمريكي
السابق خلال محاورته لوزير الخارجية الجزائري الأسبق ما يرسخ هذا التوجه؛ إذ
جاء فيه: «.. إن انضمام مصر إلى الإقليم المغاربي سيشكل وحدة أمنية فعالة
لمكافحة الجماعات الإسلامية على أساس أن مصر ودول المنطقة تتقاسم خطر هذه
الجماعات» ، وقد نتفهم قصر بللترو للمسوغات في البعد الأمني، وهذا كما يبدو
جاء إشباعاً لنهم الدوائر النافذة في الحكم الجزائري، ثم إن السياسة الخارجية
الأمريكية براغماتية نفعية من طراز «رفيع» ، وذات بُعد «خدماتي» إسعافي
في المبتدأ، لتتحول إلى «مصاص» للطاقة والمقدرات في المنتهى، لكن يأبى
سياسيونا أن يتجاوزوا مرحلة الإشباع إلى عهد تتسع فيه الرؤية والأفق، أو هكذا
أريد لهم أن يفكروا، ولعله شرط مسبق في اختيارهم وترشيحهم، في حين أن
الخطة الأمريكية المعروضة والمطروحة للمداولة والنظر أبعد من الحيز الأمني
(الهاجس المصطنع الأوحد لأنظمة المنطقة) وتتعداه إلى تبعات ومآلات أخرى وفي
طليعتها: «الحدُّ من الدور المصري في الشرق الأوسط في ضوء ما تتوهمه أو
تعتقده واشنطن من خروقات هذا الدور لشروط التسوية مع الكيان الصهيوني» ،
وكذا ترتيب وضع سياسي جديد في الخرطوم، والعمل على استفراد «إسرائيل»
باستحقاقات القوى الإقليمية المهيمنة، ومن شأن إبعاد مصر عن الشرق تعزيز هذا
«التفرد» .
كما أن العامل الاقتصادي حاضر بقوة في خطة واشنطن لتهيئة الأرضية
لإقامة «اتحاد شمال إفريقي» وذلك بإيجاد مواقع ومواطن لرؤوس الأموال
الأمريكية عبر عدد من الاستثمارات، وعن طريق إغراق دول المنطقة بمديونية
خارجية مثقلة تفوق ما لديها من موارد، وشراء اقتصاديات المغرب العربي بثمن
بخس. وقد مهد لحركة تدفق «رؤوس الأموال الأمريكية» عبر هندسة «التطبيع
المغاربي الأمريكي» على شكل مشاريع استثمارية في المنطقة نشاطُ الثلاثي:
روبرت بللترو، ومارتن أنديك، وإدوارد ووتر من خلال زيارات متوالية
ولقاءات مطولة مع ممثلي الحكومات المغاربية.
الجزائر تلتحق بالركب:
التقديرات الأمريكية لعام 2025م تجعل الجزائر أحد أهم الموارد في ميدان
المحروقات بمخزون غازي استراتيجي يفوق 5000 مليار متر مكعب، ومخزون
نفطي يتراوح ما بين 12 و15 مليار برميل، وإذا أضفنا إلى هذه التقديرات
«المغرية» التكلفة الزهيدة للاستكشاف والاستغلال؛ حيث لا تتجاوز 60 سنتاً لكل
برميل نفط، مقابل ما بين دولارين إلى ثلاثة دولارات لنفط بحر القزوين، أمكننا
تفهم التوجهات الأمريكية «الجديدة» حيال الجزائر في سياق اللهث وراء تنويع
مصادر تموين الطاقة، وما واكبها من تعزيز للحضور الأمريكي «المتنامي» منذ
قرارات 1991م التي سمحت بإدخال صيغ «تقسيم الإنتاج» ، وتقدر نسبة تغلغل
واستحواذ الشركات الأمريكية إلى غاية نهاية 1999م بحوالي 30% من الإنتاج
النفطي الذي يستخرج من الجزائر.
وفي الوقت الذي تبنت فيه الشركات الأوروبية سياسة التردد والإحجام، كانت
الشركات الأمريكية مثل: أناداركو، أركو، فيليبس، وبدرجة أقل شل وموبيل
سباقة في إمضاء العقود واقتحام السوق الجزائرية، مما مكنها من تحقيق أرباح
معتبرة قدرت عام 1999م بحوالي500 مليون دولار (للشركات الأمريكية مجتمعة)
وما يقارب من 100 مليون دولار لأناداكو التي تعد من أنشط الشركات الأجنبية
بالجزائر، ويتوقع أن تصل قدرتها الإنتاجية إلى 300 ألف برميل يومياً، وهو رقم
مقدر بالنسبة لشركة «صغيرة» الحجم في الولايات المتحدة مقارنة بتكساكو
وموبيل وشل.
ومع ارتفاع القدرة الاستهلاكية بشكل ملحوظ وهو 20مليون برميل يومياً في
السنة الجارية إثر ارتفاع في نسبة نمو الاقتصاد الأمريكي، ازدادت احتياجات
أمريكا من النفط، وبذلك نما التوجه نحو توسيع نطاق استثماراتها خارج منطقتها
التقليدية (الخليج) والتحرك للوقاية من صدمات تقلبات أسعار النفط.
أوروبا ... الحاضر الغائب:
تبدو سياسة واشنطن موجهة أو على الأقل مستهدفة لتقويض أوروبا
ومشاريعها الاستثمارية والسياسية في المنطقة المغاربية، وهو ما حفز تحرك الآلية
الأوروبية مؤخراً لمحاولة ضم تونس والمغرب والجزائر إلى ما يعرف بـ
«ميثاق مسار برشلونة» لتحقيق نوع من التوازن إن لم يكن محاولة استدراكية
لاسترجاع «حقها» الحيوي ضمن مشروع «المتوسطية» أو حوض المتوسط،
وفي هذا الصدد صرح باتريك مسؤول منطقة المغرب العربي في اللجنة الأوروبية
بأن: «المفهوم السياسي لمسار برشلونة هو إنشاء منطقة الضفة الجنوبية للمتوسط» ، ومن شأن هذا الميثاق للأمن والاستقرار أن يعزز الحضور الأوروبي من خلال
منح أوروبا حق التدخل في قرارات السياسة الداخلية المغاربية وخاصة في قطاعات
الأمن والتعليم والثقافة ووسائل الاتصال تحت «غطاء نسيج متوسطي واحد» ،
ويضفي شرعية جيوسياسية على مشروع إلحاق الكيان الصهيوني بعلاقات وتطبيع
كامل مع المغاربة باعتبار أن «تل أبيب» جزء من الشريط الجنوبي لمياه
الحوض المتوسط، ومن ثم دمج المغرب العربي بما يعرف بالنظام الشرق
الأوسطي الذي يبقى خياراً استراتيجياً بالنسبة للغرب يراد صياغته والتمكين له.
وطبقاً لمصادر اقتصادية في المنطقة فإن أوروبا أصبحت تقايض حكومات
المغرب العربي بتلقي قروض ومساعدات مالية ووعود باستثمارات مقابل تكاليف
سياسية وأمنية ثقيلة.