المسلمون والعالم
د. عمر النمري [*]
لقد توطد النسب الإسلامي لتونس وارتسمت هويتها الإسلامية منذ أربعة عشر
قرناً عندما طرقها الفتح الإسلامي الأول سنة 30 للهجرة، ولن ترضى تونس ولا
شعب تونس بغير الإسلام ديناً والعربية لغة مهما اجتهد اليساريون في طمس هويتها
وإلحاقها بركب الغرب المسيحي أو البحث والتنقيب عن أصولها الوثنية والمسيحية
في العصور الغابرة، ولكم عانى الشعب التونسي منذ نشأة الدولة التونسية الحديثة
من ويلات جرَّاء هذه الروح الشعوبية الجديدة التي حملها بورقيبة والجيل الذي
تربى على يديه خلال عدة عقود حتى جاز لنا أن نكتب فيما يطلق عليه: «صراع
الهوية في تونس» .
نشأة الدولة التونسية الحديثة:
«لَوْ ولد بورقيبة في فرنسا لكان حاكماً لإحدى المحافظات الجنوبية» [1] .
من يا ترى صاحب هذه المقولة؟ إنها شهادة حية من رجل فرنسا الأول في عهده؛
إنه الرئيس الفرنسي ديجول، شهادة حية على مدى رضى فرنسا عن بورقيبة،
وهي تعبير صارخ على مدى النجاح الذي حققته فرنسا في إعداد رجل تونس الأول،
وعلى مدى استعدادها لتمكينه من حكم بلده مقابل الحفاظ على مصالح فرنسا
الثقافية في تونس. ولقد عبَّر بورقيبة عن ذلك بوضوح في أكثر من مناسبة؛ حيث
قال في لقاء صحفي له مع إحدى الصحف الفرنسية: «إني مدين إلى فرنسا بكل
شيء، وأساتذتي الفرنسيون هم الذين يرجع إليهم الفضل فيما بلَغْته، وتعليمهم هو
الذي نهلت منه، وهو الذي أمدني بالسلاح الذي اعتمدته في السبيل التي اخترتها
لنفسي وفي الطريق التي سلكتها منذ شبابي» . وقال في مقابلة أخرى له مع
صحيفة لوفيجارو (الفرنسية) : «لقد كافحت لأمتع بلادي بالحرية والكرامة؛ لكن
حبي لفرنسا ووفائي لها لن ينقطع أبداً؛ وكنت أكافح باسم الثقافة التي تلقيتها
وبوحي من الأفكار الفرنسية، ومعلميَّ وأساتذتي الفرنسيين هم الذين صنعوني ...
إننا لا نستطيع الإعراض عن الغرب، إننا متضامنون مع الغرب بأكمله،
متضامنون بصورة أخص مع فرنسا وتدعيم الروابط معها؛ وبصورة أخص في
ميدان الثقافة، وفكرة بعث رابطة للشعوب الفرنكفونية تولدت هنا» [2] وهكذا فإن
هوية تونس الثقافية كما يراها زعيمها الأول تجد امتدادها في الثقافة العلمانية
الفرنسية، وهو ما سيجد القارئ الكريم دليله واضحاً في الحرب التي شنَّها بورقيبة
وخلَفُه على هوية تونس الإسلامية والعربية، وهو ما ولَّد صراعاً دائماً بين صنائع
فرنسا وأتباع الثقافة الغربية من عناصر الحزب الحاكم وأحلافه من اللائكيين
(العلمانيين) والفرنكفونيين، وبين أصحاب التوجه العروبي الإسلامي ممثلاً في
قدامى خريجي الزيتونة وأصحاب التيار الإسلامي على وجه الخصوص. فما هي
أبعاد هذا الصراع؟ ومن هم أطرافه؟ وما هي النتائج القريبة المترتبة على هذا
الصراع؟ وما هي يا ترى الآفاق المستقبلية لصراع الهوية بتونس؟ وإلى أين يتجه
مسار هذا الصراع؟
أبعاد صراع الهوية في تونس:
لقد طالت الحرب التي شنها بورقيبة على الهوية الإسلامية لتونس جميع
النواحي القضائية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والسياسية في المجتمع التونسي؛
وساعده في ذلك كل ما تخوله له سلطته الدستورية من سَنِّ القوانين وإصدار
المراسيم والتوجيهات مستفيداً من الآلة الإعلامية الرهيبة للدولة الناشئة، فاستطاع
بذلك أن يحقق ما عجزت فرنسا عن تحقيقه خلال مدة استعمارها للبلاد التونسية،
وكان من أبرز ملامح هذه الحرب ما يلي:
1 - إصدار مجلة الأحوال الشخصية التي اشتملت فيما اشتملت على تحريم
تعدد الزوجات ومعاقبة من خالف ذلك بالسجن. وقد أصدر بورقيبة هذا القانون
متذرعاً بحرصه على تحرير المرأة التونسية وردِّ الحقوق إليها وإنصافها من جور
الرجل وظلمه؛ إذ «إن تعدد الزوجات يسيء إلى كرامة المرأة وعنفوانها، ويجعل
منها ذليلة لا تهدف إلا إلى إرضاء زوجها خوفاً أن يتحول عنها إلى امرأة
أخرى» [3] على حد زعمه. فهل مَنْعُ تعدد الزوجات على ما فيه من مخالفة
صريحة للشريعة الإسلامية يهدف إلى إصلاح ما فسد من أحوال الأسرة التونسية،
أم أن له دلالات أخرى؟ يجيب عن هذا السؤال بوضوح د. محمود الذوادي
بقوله: «فالتشريع الجديد يشير إلى مجلة الأحوال الشخصية يشير بالبنان إلى
انجذاب القيادة البورقيبية إلى روح القوانين الغربية من ناحية، وعدم مصالحتها
على الأقل مع روح الفقه الإسلامي التقليدي غير الاجتهادي من ناحية أخرى،
ومن ثم فإصدار قانون منع تعدد الزوجات لا ينبغي أن يفهم على أن تحرير
المرأة التونسية هو الهدف الأول والأخير منه، بل يجوز الافتراض بأن القصد
الرمزي لهذا التشريع يتجاوز ذلك؛ فيمكن النظر إلى هذا التشريع على أنه يمثل
محاولة تقريب تشريعات المجتمع التونسي من تشريعات المجتمعات الغربية من
جهة، وإبعادها قدر المستطاع عبر الرموز التشريعية عن الانتماء الإسلامي من
جهة أخرى» [4] وهكذا فتشريع منع تعدد الزوجات فيه أكثر من رمز، وبالتعبير
السوسيولوجي: هناك رمز ظاهر، ورمز خفي. فالظاهر يرمز إلى الرفع من
مكانة المرأة الاجتماعية، والرمز الخفي يتمثل في إدانة الدين الإسلامي الذي يتخذ
موقفاً مختلفاً عن الغرب بخصوص مسألة إباحة تعدد الزوجات « [5] ويعلق على
ذلك الشيخ محمد الهادي الزمزمي بقوله:» إن تذرع بورقيبة في إصداره هذا
القانون بحرصه على تحرير المرأة وضمان حقوقها مثلما يدعي ذريعة كاذبة؛ فلم
تكن هذه المجلة إلا نكبة على المرأة خاصة وعلى الأسرة التونسية عامة. والحق
أن هناك مقاصد متعددة من وضع هذه المجلة:
* مصادمة الشرع الإسلامي بتقرير نصوص قانونية مخالفة للشريعة.
* التبجح بحقيقة مساواة المرأة بالرجل بما يوهم وقوع حيف من الإسلام عليها.
* الطعن في صلاحية الشرع الإسلامي للحكم بما يسوِّغ استبعاده والتخلص
منه.
* إخضاع الأسرة التونسية تدريجياً للقانون الوضعي لئلا يبقى للشريعة نفوذ
في المجتمع التونسي لا على الأفراد ولا على الجماعة.
* إعادة صوغ الأسرة التونسية ومن ثم المجتمع التونسي على النمط الغربي.
* ضرب الهوية الإسلامية للمجتمع والأسرة التونسية.
*إظهار الإسلام بمظهر ظالم للمرأة [6] .
2 - إلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد القضاء بموجب القرار المؤرخ في 25
سبتمبر 1956م ونشره بالجريدة الرسمية للجمهورية التونسية عدد 77، وبذلك
يكون بورقيبة قد نجح في تحقيق ما عجزت فرنسا عن تحقيقه بإلغائه للقضاء
الشرعي واستبداله بقضاء وضعي مدني.
3 - خطاب بورقيبة الشهير الذي ألقاه في مؤتمر المدرسين والمربين بمناسبة
الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية والوعي القومي المنعقد في مارس 1974م،
والذي نال فيه من شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واتهم فيه القرآن
بالتناقض، ودعا فيه إلى تسوية الرجل بالمرأة في الميراث، وادعى لنفسه فيه حق
تبديل أحكام الله وتطويرها بحسب تطور المجتمع وتطور مفهوم العدل ونمط الحياة
باعتباره من حق الحكام بوصفهم أمراء المسلمين على حد زعمه؛ مما أثار عليه
حملة واسعة النطاق من علماء المسلمين في العالم العربي والإسلامي حكمت بكفره
وردته، وطالبته بإعلان التوبة أو تكذيب ما نسب إليه في وسائل الإعلام العامة،
ولكن بورقيبة لم يعبأ بهذه النداءات ورمى بها عُرض الحائط. وسِجِلُّ بورقيبة
حافل بحربه الشعواء على الإسلام وأهله وتعديه على شعائر الإسلام ومظاهره العامة
واستفزاز مشاعر المسلمين والنيل من الهوية الإسلامية لتونس منذ أن أعلن صراحة
أن الإفطار في رمضان من مقتضيات التنمية وزيادة الإنتاج القومي، ومنذ أن حظر
لبس الحجاب وارتداء اللباس الشرعي على التلميذات في المعاهد والثانويات
والجامعة وعلى الحرائر من النساء في الإدارة العمومية؛ حيث اعتبر الزي
الإسلامي زياً طائفياً منافياً لروح العصر وسنَّة التطور السليم. كما اعتبر سُنَّة
إرسال اللحى مظهراً من مظاهر التخلف الذي لا يليق بمظهر المواطن التونسي كما
يريده محرر تونس وزعيمها الأوحد. كما اختار بورقيبة منذ فجر الاستقلال يوم
الأحد يوم العطلة الأسبوعية في الدوائر الحكومية؛ بينما اعتبر يوم الجمعة يوم
عمل حتى الواحدة ظهراً، وقد شاع لدى شعوب العالم ارتباط يوم عطلة آخر
الأسبوع بهوية هذه الشعوب الثقافية والدينية؛ فيوم السبت يوم عطلة لليهود، ويوم
الأحد يوم عطلة للمسيحيين يمارسون فيه طقوسهم الدينية ويؤمُّون فيه الكنائس ودور
العبادة؛ وكأنما أراد بورقيبة بذلك محق الهوية الإسلامية لتونس وبث روح الانتماء
إلى المجتمع الغربي النصراني.
ولقد تعددت مظاهر التعدي على الهوية الإسلامية في تونس في العهد
البورقيبي بما لا يمكن حصره في مقال مثل هذا، والسؤال الجوهري الآن هو:
هل اقتصر الأمر على شخص بورقيبة وعهده البائد، أم أن الأمر تعداه إلى غيره
من رجالات تونس وأصحاب القرار فيها؟
محاربة الهوية الإسلامية بعد بورقيبة:
والحقيقة أن بورقيبة استطاع أن يربي جيلا كاملاً من حَمَلة الفكر العلماني
(اللائكي) وبوَّأهم من تونس مكاناً علياً؛ فلقد ازدادت الحرب على الهوية الإسلامية
لتونس ضراوة في العهد الجديد، وتعدد رموزها، وتنوعت أشكالها بتحالف التيار
الماركسي مع رموز الحزب البورقيبي الحاكم في مواجهة التيار الإسلامي الصاعد
ممثلاً في حركة النهضة التونسية. ومن ملامح هذه الحرب المستعرة ما يلي:
1 - في المجال التعليمي والتربوي: بادر بورقيبة منذ أيام الاستقلال الأولى
إلى غلق جامع الزيتونة بوصفه مؤسسة تربوية عريقة؛ حيث أغلقت المدارس
الثانوية التابعة للزيتونة بأنواعها منذ منتصف الستينيات، وتحولت الجامعة
الزيتونية العريقة إلى كلية تابعة لجامعة تونس الحديثة، كما أرسى بورقيبة سياسة
التمييز الثقافي بتهميشه لأصحاب التكوين الثقافي العربي والإسلامي من خريجي
الزيتونة والجامعات الإسلامية في المشرق العربي وإقصائهم من الوظائف الكبرى
في الدولة، ولقد استمرت سياسة الإقصاء هذه في العهد الجديد بحدة أكثر؛ حيث تم
تسريح كل من يُشَكُّ في تدينه من الوظيفة العمومية في المواقع الحساسة في الدولة،
وشُكِّلت للكثير منهم محاكم وهمية، وزج بالكثير منهم في غياهب السجون، وتم
العمل بقانون (108) سيئ الذكر، فطرد بمقتضاه العديد من الموظفات من
الوظيفة العمومية، ومنعت الفتيات من الالتحاق بالمدارس والمعاهد والجامعات
لارتدائهن للباس الشرعي، بل حُرِمَ بعضهن من الاستشفاء في المستشفيات العامة
لتمسكهن برداء الحشمة والحياء، كما تم إجراء تعديلات عديدة على منهج التربية
الإسلامية، وتم إقصاء العديد من المدرسين من مواقع التأثير والتربية.
2 - في المجال الثقافي والإعلامي: وقد تميز العهد الجديد في حربه على
الهوية الإسلامية لتونس بالتمكين في المجال الثقافي لعناصر التيار الماركسي
الإباحي مما شاع معه إنتاج وعرض أفلام خليعة لا تمت إلى الحياء بصلة مثل فيلم:
«عصفور فوق السطح» الذي عرضت فيه أجساد النساء عاريات بلا حياء،
وعرض فيه مؤدب القرآن الكريم في مشهد يدعو إلى السخرية والاستهزاء، إلى
غير ذلك من الأفلام الخليعة المحلية والمستوردة فضلاً عما تزخر به القناة التلفزية
من صنوف الرقص الغربي بأنواعه وتشكيلاته المختلفة.
3 - في المجال السياسي: على الرغم من أن الدستور التونسي حدد في أول
بنوده هوية تونس الإسلامية العربية بقوله: «تونس دولة مستقلة، دينها الإسلام
ولغتها العربية» أي أنه حدد انتماء تونس إلى العروبة والإسلام لا كما أراد لها
بورقيبة أن تكون في مصاف الدول الغربية العلمانية متنكبة لدينها الإسلامي وأصلها
العربي. ولقد درج الحزب الحاكم في عهد بورقيبة كما في عهد الرئيس الحالي
(بن علي) على تجريد تونس من هويتها الإسلامية، ومن دلالات ذلك في المجال
السياسي في العهد الجديد ما ورد في وثيقتيْ: قانون تنظيم الأحزاب السياسية
الصادر في 3 مايو 1988م وخطة تجفيف المنابع؛ فقد جاء في الفصل الثالث من
القانون المذكور: «لا يجوز لأي حزب سياسي أن يستند أساساً في مستوى مبادئه
أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة» [7] ،
فقطع بذلك الطريق على أصحاب التوجه العروبي والإسلامي في تونس من أن
يكون لهم دور في بناء مستقبل تونس السياسي أو حتى المساهمة في الحياة السياسية
بوجه عام بتحريمه الاستناد إلى الدين واللغة على مستوى المبادئ أو الأهداف أو
البرامج أو الأنشطة بينما فتح الباب واسعاً لأصحاب الأفكار اللائكية (العلمانية)
والبرامج المستوردة من الشرق الشيوعي والغرب النصراني من الشيوعيين
واللادينيين مما مهد لولادة تحالف قوي بين الحزب الحاكم والعناصر الشيوعية
المنبثة في مؤسسات الحزب وهيئاته العليا.
أما عن خطة تجفيف المنابع:
فحدث ولا حرج؛ فقد تكونت هذه الخطة من شقين: يتجه شقها الأول إلى
استئصال الإسلاميين باعتبارهم رأس الحربة، فيما يتجه الشق الثاني إلى تجفيف
منابع الدين باعتباره الرافد الأساسي لبروز أي حزب سياسي ذي توجه إسلامي في
المستقبل القريب أو البعيد؛ ولسان حالهم يقول: «إن جعل الدين برنامجاً سياسياً
لأحد الأحزاب يؤدي بالضرورة في حال نجاح هذا الحزب إلى تطبيق تعاليم الدين
بحذافيرها» [8] فهم عندما يمنعون قيام حزب سياسي على أساس ديني فإنما
يستهدفون تعطيل تطبيق تعاليم الدين؛ لأن نجاح هذا الحزب سيؤدي إلى تطبيق
تعاليم الدين بحذافيرها على حد قولهم.
وهكذا يتضح من هذا العرض المختصر أخطار هذه الحرب المستعرة على
هوية تونس الثقافية منذ فجر الاستقلال وحتى يوم الناس هذا، منذ أن أشعل
بورقيبة فتيلها والحرب مستمرة بلا هوادة وطرفاها: أقلية فرنكفونية علمانية متنفذة
تمسك بزمام السلطة ومقدرات الدولة تعضدها العناصر الماركسية اللادينية المتحالفة
معها من جهة، والشعب التونسي العربي المسلم ممثلاً في قدامى خريجي الزيتونة
وخريجي الجامعات الإسلامية بالمشرق العربي من أصحاب التوجه الوطني العروبي
الإسلامي تعضدهم ثلة من شباب الصحوة الإسلامية المباركة في تونس من جهة
أخرى. فما هي يا ترى النتائج القريبة لهذه الحرب، ومن الخاسر فيها والمنتصر؟
النتائج القريبة لصراع الهوية بتونس:
من البدهي أن يكون لكل حرب ضحايا وقتلى وجرحى ومغانم أيضاً، ومن
البدهي أيضاً أن تحسم المعركة في نهايتها لصالح أحد الطرفين المتصارعين:
فمنتصر، ومنهزم.
لقد هب الشعب التونسي مدافعاً عن هويته العربية والإسلامية في أكثر من
مناسبة في عهد الاستعمار الفرنسي كما في عهد الاستقلال، ومن المعارك التي
خاضها التونسيون أثناء حرب التحرير وكانت ذات صلة رمزية بصراع الهوية:
مقاومة حركة التجنيس، ومعركة الزلاج [9] دفاعاً عن الوقف الإسلامي،
والانتفاضة ضد مؤتمر الصليبية الإفخرستية [10] ، وقد سقط في هذه المعارك مئات
الشهداء وآلاف الجرحى والمعتقلين دفاعاً عن الهوية الإسلامية لتونس. ويتكرر
المشهد نفسه في الحرب المستعرة منذ فجر الاستقلال وحتى عهد التغيير، حيث
سقط مئات الشهداء وغصَّت السجون بالأحرار من سجناء الرأي ولا زالت، وشرد
العديد من الوطنيين الإسلاميين لا لشيء إلا لتمسكهم بدينهم وهويتهم الإسلامية؛
حيث أصبح من النادر جداً أن تخلو دولة من دول العالم الفسيح بقارَّاته الخمس من
لاجئين سياسيين تونسيين.
ورغم ضراوة المعركة وكثرة الخسائر في صفوف المدافعين عن الهوية
الإسلامية لتونس فقد أعقبت هذه المعركة وعياً دينياً وسياسياً واسعاً في أبناء الشعب
التونسي لم يمنع من ظهورها سوى بطش السلطة وعنفها المسلط على كل من تخول
له نفسه التعبير عن هويته السياسية.
هذا مشهد لواقع الحال يحكي صوراً من صور صراع الهوية في تونس؛ فهل
يا ترى سيبقى الوضع على حاله أم يتبدل؟ وما هي الاحتمالات الممكنة لمستقبل
صراع الهوية؟
مستقبل صراع الهوية في تونس:
بقاء الحال من المحال كما يقال، ثم إن الأمة الإسلامية تشهد اليوم تحولا
كبيراً في تركيبتها الثقافية والاجتماعية يتجه نحو مزيد من التمسك بدينها والاعتزاز
بعروبتها. لقد أيقظت الحروب الأخيرة في أفغانستان والبوسنة والهرسك
وكوسوفو والشيشان والاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على المقدسات الإسلامية
والشعب الفلسطيني الأعزل، أقول لقد أيقظت هذه الحروب في الشعوب الإسلامية
روح التمسك بدينها وثقافتها وهويتها الإسلامية، كما أن إخفاق التجربة الشيوعية
وانكسارها في الوطن الأم روسيا أسقط أسطورة الفكر الماركسي المخلّص للشعوب
المضطهدة من نير البورجوازية المستبدة وجور الأنظمة الظالمة، أضف إلى ذلك
إخفاق الثورة القومية التي رافقت حرب التحرير في الوطن العربي واعتَلَت سدة
الحكم في أغلب البلاد العربية في توفير الأمن والاستقرار والتنمية والعزة والكرامة
للشعوب العربية؛ بحيث لم يبق أمام هذه الشعوب من سبيل سوى العودة إلى دينها
والتصالح مع هويتها، كما لم يبق أمام الحاكمين بأمرهم في بلاد العرب من سبيل
سوى سبيل التصالح مع شعوبهم على أساس احترام ثوابت الأمة وحفظ الدين واللغة؛
وهو أمر قد تنبهت إليه العديد من الأنظمة الحاكمة واستجابت له من خلال
استيعابها الاتجاهات الإسلامية المعتدلة كما هو الحال في بعض الدول العربية
وغيرها من الدول الإسلامية، بينما بقي النظام التونسي يراوح مكانه مشكِّلاً حالة
من الاختناق السياسي بإقصائه للمعارضة السياسية الجادة بكل أطيافها الإسلامية
والعروبية، بل وحتى العلمانية التي لا تتفق معه في طرحه الديمقراطي المزيف،
مثل هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، بل لا بد أن يشهد انفراجاً ما عاجلاً أم آجلاً
لأن العالم أصبح عبارة عن قرية صغيرة في ضوء نظام العولمة الجديد وفي ضوء
التقدم التقني الهائل في مجال وسائل الإعلام والثورة المعلوماتية التي أفضت إلى
ظهور القنوات الفضائية العابرة للقارات، وشبكة الإنترنت المفتوحة على العالم
بأسره؛ فلم تعد الأنظمة الحاكمة قادرة على تضليل شعوبها وتأطيرها على الطريقة
التي تريدها، ولم يعد للدجل والكذب الإعلامي المحلي من مجال؛ بل إن كثيراً من
الشعوب أشاحت بوجهها عن وسائل الإعلام المحلية لتستقي المعلومات عن واقعها
السياسي المحلي من القنوات الفضائية الأجنبية، وهذا يعني زيادة مطالبة الشعوب
لحكامها بمزيد من الشفافية والوضوح ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، ولم
تعد هذه الشعوب ترضى من حكامها بغير ذلك. ونظراً لأن هذه الشعوب في
مجموعها شعوب مسلمة تعتز بإسلامها وعروبتها فإن المرء يستطيع أن يتنبأ بأن
صراع الهوية سيحسم بلا شك في القريب العاجل لصالح الهوية الحقيقية لهذه
الشعوب، وما على النظام التونسي وأشباهه في البلاد العربية إلا الاعتراف
بالهزيمة في هذه المعركة المستعرة منذ أربعة عقود من الزمن، وبعبارة أخرى:
فما على الحزب الحاكم في تونس إلا أن يتكيف مع نتائج المعركة والاعتراف بهوية
تونس الإسلامية والعربية، والتصالح مع أصحاب التوجه الإسلامي والعروبي،
وفتح أقدار من العمل السياسي المشترك لكل التونسيين دون إقصاء أو مغادرة
الساحة السياسية، مختاراً أو مضطراً إن عاجلاً أو آجلاً.
الموقف من صراع الهوية:
على الرغم من أن صراع الهوية أشعل فتيله الرئيس الهالك الحبيب بورقيبة
انطلاقاً من تكوينه العقائدي والثقافي الغربي، وربما كانت تلك استراتيجيته الحقيقية
في سلخ المجتمع التونسي من هويته الأصلية وإلحاقه بركب الحضارة الغربية؛ إلا
أن الأمر يختلف إلى حد ما بالنسبة للرئيس الحالي بن علي؛ إذ إن الخلفية الخفية
لصراع الهوية فيما أعتقد هي خوفه المتنامي من صعود نجم التيار السياسي
الإسلامي ممثلاً في حركة النهضة أن تستولي على السلطة في تونس عبر الاقتراع
النزيه وعبر آليات الديمقراطية الحقيقية خصوصاً بعد ظهور نتائج الانتخابات
البرلمانية في سنة 1989م التي فاز فيها التيار الإسلامي فوزاً ساحقاً عبرت عنه
السلطة في حينها بحصوله على نسبة 30% من مجموع أصوات الناخبين، فكان
لابد من وضع حد لهذا الخطر الداهم وتهميشه واستئصاله؛ فكانت خطة تجفيف
المنابع التي صادفت هوى وحقداً دفيناً لدى العناصر اليسارية في الحزب الحاكم،
ورغبة ملحة لديهم في استئصال كل ما يمت للإسلام بصلة.
ملاحظات على صراع الهوية:
وبقطع النظر عن أوجه التشابه والاختلاف بين الرئيسين؛ فإن التطورات
الأخيرة في العالم التي رافقت الثورة المعلوماتية والنظام العالمي الجديد ليست في
صالح دعاة التغريب والحرب على الهوية الإسلامية، كما أسلفت، وأريد أن أختم
هذا المقال بذكر بعض ملاحظاتي عن صراع الهوية في تونس:
1 - على الرغم من أن صراع الهوية فُرض على الشعب التونسي فرضاً من
طرف الرئيس الراحل بورقيبة؛ فإن استجابة الصحوة الإسلامية المباركة للدفاع
عن هويتها اتسمت بالعمومية وعدم التمييز بين الأعداء الحقيقيين للهوية الإسلامية
وأصحاب المصالح والمنتفعين السائرين في ركب بورقيبة؛ لا موافقة له في حربه
على الإسلام والمسلمين، ولكن اتقاء شره أو طمعاً في عطاءاته أو حرصاً على
المناصب الدنيوية، وبعض هؤلاء من خريجي الزيتونة ممن دجنهم بورقيبة
بضرباته المتتالية، فاضطروا للتكيف مع الوضع الجديد من غير أن يمس ذلك
بالضرورة معتقداتهم وانتماءهم العروبي الإسلامي، فتكون الحركة بذلك قد دفعتهم
إلى الاحتماء بكنف بورقيبة بدل الانجذاب نحوها باعتبارها تمثل تعبيراً جديداً عن
الصراع القديم بين بورقيبة وخصومه من خريجي الزيتونة. والحقيقة أن حركة
النهضة قد انتبهت إلى هذا الأمر مبكراً منذ منتصف الثمانينيات واتخذت الإجراءات
اللازمة لتلافيه، ولكن الأحداث داهمتها.
وعلى أية حال فإن خطاب الحركة الحالي لا يحمل أي عداء لمثل هؤلاء؛ بل
إن أياديها ممدودة للتعاون مع أي فصيل سياسي في تونس في معركة الدفاع عن
الحريات لاسترداد الحقوق وبناء تونس دولة شورية تتسع لجميع الفرقاء السياسيين
مهما اختلفت مشاربهم الثقافية مقدرة أن الشعب التونسي المسلم لو أتيحت له فرصة
الاختيار الحر فلن يرضى بغير شرع الله حكماً، ولن يرشح لحكم تونس سوى
الشرفاء والغيورين على دينهم وأمتهم.
2 - نقدر أن صراع الهوية في تونس يحمل رمزاً خفياً وآخر ظاهراً بينهما
تفاعل وانفعال؛ فالظاهر هو ضرب الهوية الإسلامية من طرف النظام الحاكم
والدفاع عنها من طرف أصحاب التوجه العروبي؛ والرمز الخفي هو الصراع على
السلطة ومواقع النفوذ؛ فلقد بدأ الصراع على قيادة الحزب الدستوري التونسي منذ
عهد الاستعمار بين قيادة الحزب القديم ممثلة في الشيخ الثعالبي ورفاقه من ذوي
التوجه الإسلامي العروبي، وبين بورقيبة وأنصاره من قيادات الحزب الدستوري
الجديد الذين انقلبوا على القيادة القديمة وأسسوا الحزب الدستوري الجديد، واستولوا
بعد ذلك على السلطة في تونس الفتية؛ فلم ينس بورقيبة ذلك لخريجي الزيتونة
وانتقم منهم بطرق شتى أدناها إقصاؤهم من مواقع القرار والوظائف الكبرى في
الدولة، وتهميشهم من الحياة السياسية عامة؛ نقول هذا على الرغم من اعتقادنا بأن
بورقيبة كان علمانياً إلى حد النخاع؛ قاده تكوينه العقائدي والثقافي الفرنسي إلى شن
حربه الشاملة على الإسلام والمسلمين، ولما تولى الرئيس الحالي الحكم في البلاد
أظهر تسامحاً مع الإسلام والإسلاميين، وتظاهر بالتصالح مع هوية البلاد العربية
والإسلامية. وسواء كان ذلك نهجاً سياسياً لسحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين
الذين كان الصراع الدائر بينهم وبين بورقيبة حول الهوية الإسلامية لتونس سبباً في
صعوده إلى سدة الحكم على طريقة المثل السائر: تمسكنْ حتى تتمكَّن، أو كان
اعتقاداً حقيقياً لديه؛ فالنتيجة التي انتهى إليها بعد فوز التيار الإسلامي في
الانتخابات البرلمانية، وشعوره بتهديد سلطته واهتزاز مركزه هي عودته عن كل
الوعود التي قطعها على نفسه في البيان رقم صفر في انقلابه الأبيض على بورقيبة،
فنكص على عقبيه، وشن حرباً لا هوادة فيها على كل ما يمت للإسلام
والإسلاميين بصلة، وظهر ذلك جلياً في خطة مبتكرة محبكة عرفت بخطة تجفيف
المنابع، وأصبحت مفخرة من مفاخر تونس العهد الجديد لما حققته من نجاح في
ضرب الحركة الإسلامية بتونس.
3 - وسواء اقتنع القارئ الكريم بهذا التحليل أو خالفه فالفكرة التي أشرت
إليها في فقرة سابقة في ثنايا حديثي عن التطورات الجديدة في العالم العربي
والإسلامي تحت عنوان: (تونس الحديثة وصراع الهوية) والتي لخصتها في
ظهور احتمال قوي لحسم صراع الهوية لصالح الشعوب في المستقبل القريب تلك
الفكرة كافية بحد ذاتها لدعوة حكام تونس للتصالح مع هوية البلاد الحقيقية وخوض
المعركة مع الإسلاميين وغيرهم من الفرقاء السياسيين في ضوء رمزها الخفي ألا
وهو الصراع على السلطة والنفوذ، وخير لهؤلاء وأولئك أن يستبدلوا بهذه الحرب
الدموية حرباً رمزية تتصارع فيها الأطراف السياسية المختلفة من دون إقصاء،
ويكون الحكم فيها للشعب عبر صناديق الاقتراع الحر النزيه ليختار من يمثله ويحكم
نيابة عنه، فإذا ما حاد عن الجادة واستبد بالأمر خلعه واستبدله بمن هو أفضل منه،
وبهذه الطريقة وحدها يمكن لتونس أن تكون وطناً لجميع التونسيين يسود فيه
التسامح والأمن والاستقرار، ويتم فيه التداول على السلطة بطريقة سلمية.
4 - وأريد أن أشير أخيراً إلى أن المعركة الحقيقية التي ينبغي أن يصار إليها
مستقبلاً هي مقاومة الظلم والاستبداد السياسي، والبحث عن الطرق السلمية لحسم
الصراع على السلطة في البلاد العربية؛ حيث لا يزال الصراع على السلطة هو
المعضلة الحقيقة التي لم تستطع الأمة الإسلامية عبر قرون عديدة إيجاد حل سلمي
لها، والسؤال الجوهري الذي لم يلق إجابة حتى الآن من الفرقاء السياسيين
معارضةً وحكاماً في الدول العربية والإسلامية هو: إلى متى يظل الصراع السياسي
في هذه الدول محكوماً بقانون: إما ذابح أو مذبوح، إما قاتل أو مقتول؟ إلى متى
تظل جثث الجماهير سُلَّماً لارتقاء الحكام إلى سدة الحكم؟ ومن جهة أخرى إلى متى
تظل هذه الشعوب تدفع حكامها إلى طريق مسدود لا مخرج منه إلا الموت، ومن
سنَّة الحياة الطبيعية، فضلاً عن الحياة السياسية أن يدافع الكائن الحي عن نفسه
حتى آخر رمق له في الحياة، وإن كان لا بد له من الموت فلن يستسلم للموت إلا
بعد أن يستنفد ما لديه من إمكانيات القتل والتدمير للآخرين. لقد استطاع الغرب
الحديث أن يحل هذه المشكلة بالطرق السلمية من خلال تطويره لآليات الديمقراطية
وآليات التداول السلمي على السلطة من خلال الاحتكام إلى الشعب في اختيار من
يحكمه، وأخفقت الأمة الإسلامية في حلها رغم مبدأ الشورى العظيم الذي أكد عليه
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكان يمكن لهذه الأمة أن تستفيد مما حققته
الأمم الأخرى في هذا المضمار من نجاحات دون أن يتعارض ذلك مع مبادئها
وتشريعاتها الإسلامية، والحديث هنا عن آليات الديمقراطية لا عن فلسفتها
التشريعية.