المسلمون والعالم
عبد الملك محمود
في ظل تصاعد انتفاضة الأقصى المباركة وآثارها الإيجابية الضخمة ظهر
البعد الإسلامي لقضية فلسطين بصورة أكثر وضوحاً، وتبين أن الشارع الفلسطيني
يختلف تماماً عن السلطة التي تفاوض دولة العدو، كما ظهر من جهة أخرى هشاشة
وضع المستعمرات اليهودية بل الوضع السياسي كله للكيان اليهودي. وبعد سقوط
(باراك) هبَّ زعيم البيت الأبيض ونادى بمقترحات لحل قضية الفلسطينيين (!)
وإنقاذ عملية السلام من حافة الخطر الذي وصلت إليه، ففكر وقدَّر هو وأركان
البيت الأبيض، وخرج علينا بمشروعه الذي جمع فيه عصارة سياسته الخارجية
قبيل رحيله عن سدة الحكم بأيام قلائل. ولربما كان هذا المشروع يصب في حمّى
العالم النصراني اليوم خصوصاً أمريكا بدخول الألفية الثالثة وما يتبعه من معتقدات
وخرافات دينية تجتاح الغرب وتحرك بعض زعمائه، كما بيَّن الأستاذ الفاضل/
عبد العزيز مصطفى في مقالاته وكتابه القيم: (حمَّى عام 2000م) .
أراد كلينتون أن يكون هذا الحل الأخير؛ فعام 2000م هو عام الحل النهائي
حسبما قررت الدولة اليهودية وهو عام الحسم النهائي كما وعدت السلطة الفلسطينية
حيث توعد عرفات بإعلان الدولة الفلسطينية فيها، على أن تكون عاصمتها القدس
(وقد أُجبر عرفات على التخلي عن أحلامه هذه) . وكان على رأس المسائل
المؤجلة لهذا العام ضمن مفاوضات (الحل النهائي) قضية القدس التي تأتي في
مقدمة الموضوعات التي جرت دحرجتها منذ مؤتمر مدريد عام 1991م، حتى العام
2000م، بحجة إعطائها فرصة كافية للدراسة والتشاور. وكان معها من القضايا:
مسائل اللاجئين، الحدود، والمستوطنات والمياه، والدولة، وقد حشرت هذه
القضايا كلها ليتم الانتهاء منها في المباحثات الغامضة التي عرفت بـ (كامب ديفيد
الثانية) .
تفاعلت الأحداث وتتابعت التفاعلات المتنوعة عن مفاوضات الحل النهائي في
كامب ديفيد، وكان من أبرزها كما لا يزال الناس يذكرون: توعد بيل كلينتون أن
يقدم موعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو إجراء من شأنه جر أكثر دول
العالم إلى التتابع في هذا النقل؛ حيث يضع هذا العربَ والمسلمين أمام أمر دولي
واقع، وكان هذا التوعد الأمريكي رداً على تهديد عرفات بإعلان الدولة الفلسطينية،
وهو الإعلان الذي ظهر أن الأمريكيين لا يقلون عن الإسرائيليين معارضة له؛
وهذا ما جعل (كلينتون) يخرج عن تحفظاته المصطنعة وحياده الكاذب، ويعلن أن
السلطة الفلسطينية تعرِّض نفسها لسحب الاعتراف بها، ومنع المساعدات عنها إن
هي أعلنت عن قيام هذه الدولة بتلك الصيغة التي يرددها عرفات.
كرس (كلينتون) أيامه الأخيرة لصياغة مشروعه، ودرس الخرائط، والتقى
المستشارين طويلاً، وأصرّ على أن يختم حياته السياسية بحل هذه القضية على
الطريقة الأمريكية طبعاً فما هي طبيعة مشروع كلينتون ومبادرته الجديدة التي
طرحها في آخر العام (23/12/2000م) [1] ؟
تتمثل عناصر المشروع في أربعة محاور هي: الأرض الأمن القدس
اللاجئون. أما مشاكل المياه والأسرى وغير ذلك من القضايا المعلقة فلم تشر إليها
مبادرة كلينتون، ولا نود الدخول مطولاً في تفاصيل المقترحات وإنما سنقف عند
بعض الإشارات الملفتة، ومنها:
- طرح كلينتون مبادرته بصورة مخادعة غامضة؛ فقد كان دشن مشروعه
بقوله: «أعتقد أن الحل ينبغي أن يكون بين 94 96% من أراضي الضفة الغربية
في الدولة الفلسطينية» ، وقد يظن البعض لأول وهلة أنه يقر فعلاً بذلك؛ بينما
الحقيقة أن المبادرة تنطوي على كثير من المخادعة والأفخاخ والغموض، وهي
على الحقيقة مقترحات إسرائيلية بصياغة أمريكية فقط (أي صناعة إسرائيلية،
وتجميع أمريكي) . وكما كانت اتفاقيات (أوسلو) غامضة كما وصفها حافظ الأسد
سابقاً بأن كل نقطة منها بحاجة إلى عدة اتفاقيات كان الأمر في هذه المقترحات أشد
غموضاً. وبالتدقيق في بنود المشروع يتضح أن 26% من الأراضي محتل منذ
عام 1948م وهي داخلة في الحساب، إضافة إلى أن توسيع ما يسمى بالقدس
الكبرى يشمل نحو 18% من أجود أراضي الضفة الغربية.. إلخ، مما يعني مسخاً
كاملاً لأرض فلسطين.
- البند (?) ينص على وجود دولي لا يمكن سحبه إلا بموافقة متبادلة، كما
سيتولى مراقبة تطبيق الاتفاق بين الطرفين. وإذا عدنا إلى مواقف مثل هذه القوات
في النزاعات بين طرفين يكون أحدهما مسلماً لتراءت لنا سلفاً صورة الانحياز إلى
الطرف غير المسلم.
- وهناك بند ينص على وجود محطات إنذار مبكر للمراجعة كل 10 سنوات!
كما تتحدث المبادرة عن فترات طويلة جداً لتطبيق الاتفاقات ربما يتمكن اليهود
فيها من التخطيط لمشاريع جديدة كما أن حالة طوارئ تعني حسب تعريف كلينتون:
خطراً وشيكاً وممكناً إثباته على أمن إسرائيل القومي تكون طبيعته عسكرية.
- ومن مفردات الاتفاق المنشود: إمكانية دخول واحتلال مناطق إذا رأى
الجانب الإسرائيلي أنها تهدد أمنه!
- القدس: أما القدس فقضيتها أكبر، وقد كانت طروحات كلينتون حول
القدس غامضة وغير واضحة البتة، مثل استبعاد (التنازل) عن (وليس إعادة)
القدس الشرقية أو جزء كبير منها مقابل تنازل فلسطيني يتجسد في الشطب الفعلي
لحق العودة للاجئين الفلسطينيين. وربما يذكر الجميع أن الفترة السابقة شهدت
مناورات لتصفية قضية القدس؛ حيث طرح مشروع التدويل وجعلها عاصمة
مفتوحة دولية أو عاصمة للعالم كما اقترحت بعض القيادات الفلسطينية أو تقاسم
السيادة عليها بشرط ألا يأخذ الفلسطينيون منها إلا اسمها، بعد أن يخلع ذلك الاسم
على ضاحية (أبو ديس) المجاورة، كما اقترح أن تُسند السيادة (المؤقتة) على
القدس إلى الأمم المتحدة. ولا ننسى أيضاً مبادرة كلينتون بالسعي لنقل سفارة
واشنطن إلى القدس وإرغام العالم على ذلك.
- تحوي الاتفاقية تفصيلات عجيبة للسيادة اليهودية والأخرى الفلسطينية على
القدس مثل تحديد حائط البراق (حائط المبكى) . أما بخصوص عمليات الحفريات
أسفل الحرم ووراء حائط البراق (المبكى) فيتطلب ذلك موافقة مبدئية من الطرفين.
ومن العجيب أن قرار الحكومة البريطانية عام 1930م ينص على أنه ليس لليهود
حق في حائط البراق، كما أن الحائط طوله 58 متراً بينما يتحدثون الآن عن 840
متراً.
- لقد ظهر خلال الطروحات اليهودية والأمريكية الأخيرة طلاسم ومفاهيم
جديدة لم تكن واردة في حسبان المفاوضين؛ فهم يتحدثون عن سيادة فلسطينية على
مباني المسجد الأقصى بينما تكون السيادة لليهود على الأرض تحت المسجد وأخرى
فوقه! فهل سمعتم بأعجب من هذه الخزعبلات؟ لقد تحدثت مقترحات كلينتون عن
سيادة اليهود على أجزاء من الطبقة السفلية!
- أما قضية اللاجئين فلم يُذكر أصلاً مصطلح (عودة اللاجئين) وإنما
اختُزلت المسألة في عبارة مطاطة لا تؤدي حقيقة إلا إلى (حق عودة الجثث)
وإمكانية جمع شمل بضع عشرات الآلاف من بين اللاجئين الذين لا يقل عددهم عن
خمسة ملايين. والعائدون هؤلاء يجب أن يكونوا من مواليد فلسطين قبل عام
1948م، مما يعني شطب نصف الشعب الفلسطيني وحقوقه.
هل تصورتم ذلك؟ فإن جمع الشمل هذا ورغم تفاهته يخص عدداً محدوداً من
المولودين قبل عام 1948م! وهذا يعني أن أعمارهم يجب أن تكون حوالي 60
سنة فصاعداً؛ فمن بلغ المائة سنة فسيكون له الحق في العودة إلى بلده وكذلك شقيقه
الذي بلغ التسعين! !
- وحتى حق التعويض المعروض فإن دولة إسرائيل ليست مسؤولة عنه،
لكن نعتقد أنها ستسهم في هذا المشروع الخيري وتساعد في جمع التبرعات من
الدول الغنية في المنطقة (فالأقربون أولى بالمعروف) بالإضافة إلى فتات الدول
الغربية.
- وبما أن باب العمل الخيري مفتوح فلا بأس بأن تبدأ بعض الدول بعرض
استضافتها للاَّجئين الذين لا يجدون لهم مأوى؛ فها هي كندا التي حاولت جاهدة
خلال الثلاثين عاماً الماضية فتح الباب على مصراعيه للفلسطينيين كي يحصلوا
على الجنسية الكندية ترحب مجدداً باللاجئين الفلسطينيين [2] في إطار اتفاق سلام
في الشرق الأوسط. وقال وزير الخارجية الكندي جون مانلي في مقابلة مع صحيفة
(تورنتو ستار الكندية) يوم 10/1/2001م: «نحن مستعدون لاستقبال لاجئين
والمساهمة في إطار اتفاق سلام» . كما أشار إلى اتصالات تمت مع وزيرة
الخارجية الأمريكية ونظيريه الفلسطيني والإسرائيلي بهذا الصدد، وأن ذلك يندرج
في إطار خطة الرئيس الأمريكي كلينتون التي تضمن إقامة دولة فلسطينية على
أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل تنازل الفلسطينيين عن حق عودة
اللاجئين.
- ومشروع كلينتون يمسخ مسألة المطالبة بالأرض ويجعلها مساومة على
رقعة بسيطة لا تصل إلى ربع مساحة فلسطين الأصلية، أو بلغة الأرقام أقل من
20%، ونذكِّر أن اليهود لم يكونوا يملكون قبل عام 1947م إلا نحو 5. 66% من
مساحة فلسطين.
وحتى لا نتهم بأننا متطرفون ولا نحسن قراءة المقترحات؛ فإننا نحيلهم إلى
الكاتب الصحفي المعروف فهمي هويدي، ولا أظن أن أحداً يحسبه على التيار
الأصولي المتطرف!
لقد قرأ هويدي مقترحات كلينتون أكثر من عشر مرات [3] ، وبيَّن أن
المشروع يكافئ إسرائيل على احتلالها لفلسطين وتشريدها للاَّجئين، كما أنها لا
تمثل أي خطوة إيجابية باتجاه استرداد الحقوق الفلسطينية المهدرة ولو عند الحد
الأدنى، كما أنها لا تقدم أي حل عادل لأي عنصر من عناصر القضية، ناهيك عن
تغييبها لبعض العناصر الجوهرية ... إلخ. وذكر هويدي أن المقترحات الأمريكية
ما هي إلا صياغة جديدة لطروحات دولة اليهود الغاصبين، في القضايا الأربع التي
طرحت كلها. وقد تمثلت خلاصة رأي هويدي في أن (إسرائيل لا تعرف غير لغة
القوة، والذين يراهنون على غير ذلك لن يحصلوا منها إلا على قبض الريح) .
إن هذه المقترحات يراد لها أن تكون بمثابة إقفال ملف القضية تماماً ومفهوم
الحل النهائي وليس فترة انتقالية. كيف يمكن لمقترحات سخيفة أن تختصر التاريخ
وإقفال صراع من أعقد وأشرس الصراعات في التاريخ بجرة قلم أو توقيع من
بعض المجرمين والفساق المستهترين الذين لا يقيمون وزناً للأديان ولا الأوطان ولا
الشعوب؟ إنه لا حق للسلطة لا شرعاً ولا عقلاً ولا تاريخياً في التوقيع النهائي
والتنازل عن فلسطين، وليس لها صلاحية في ذلك مطلقاً.
الدور الأمريكي المنحاز خلال فترة كلينتون:
كم يغيظك قول بعض من لا خلاق لهم بأن أمريكا هي راعية السلام، وأنها
وسيط يسعى إلى إبرام اتفاقيات سلام محايدة. تسمع هذا وتقرؤه فيصيبك الغثيان.
الكل يعرف أن أي دولة في العالم يمكن أن تكون محايدة في قضية فلسطين إلا
أمريكا؛ فدورها غير منحاز إلا إلى دولة العدو اليهودي فقط.
ونحن في إطار حديثنا عن خطة كلينتون ينبغي لنا التذكير بالخلفية والأجواء
التي صدرت منها هذه الخطة الكلينتونية؛ فهي لم تأتِ من طرف محايد مطلقاً.
لسنا هنا في حال التباكي والحديث عن الدعم الأمريكي غير المحدود لدولة
العدو الصهيوني؛ فهذا أمر معتاد، وقد تعهدت الحكومات الأمريكية المتعاقبة به،
ولكن إدارة بيل كلينتون تحديداً (بفترتيها على امتداد ثماني سنوات) تجاوزت كل
ارتباطات الإدارات السابقة، ومن أهم أسباب ذلك هذا الجيش الهائل من الوزراء
والمسؤولين وأصحاب النفوذ في الإدارة الأمريكية. كان الزعم الأمريكي قديماً في
دعم دولة إسرائيل بحجة احتواء النفوذ الشيوعي، وضرب الراديكالية القومية،
واستمرار تدفق النفط الحيوي ... فما هي حجتهم الآن في التبني الكامل لدولة اليهود
واعتبار أمنها من أمن أمريكا؟
ومع هذا فقد دأب الأمريكان على الزعم بأن موقفهم من قضية فلسطين حيادي،
وقد أيدهم في ذلك كثير من المتواطئين أو المغفلين، سواء أكان ذلك في (مدريد)
و (أوسلو 1) و (أوسلو 2) و (كامب ديفيد 1) و (كامب ديفيد 2) و (واي
بلانتيشن) و (شرم الشيخ 1) إلخ ... وخلال ذلك وقبله وبعده لم تنقطع
المساعدات المالية بالمليارات والمعونات السنوية الثابتة والمساعدات العسكرية
والقروض غير المحدودة والهبات المتنوعة، فضلاً عن الدعم غير المباشر من
اليهود الأمريكان، ودعم الشركات والأفراد في ظل تفوق عسكري ونووي
واقتصادي يهودي في المنطقة.
كان البيت الأبيض في عهد كلينتون يموج بعشرات المسؤولين من اليهود
(64 مسؤولاً كبيراً) ، وزارة الخارجية تحشد عشرات السفراء اليهود في أهم
العواصم العالمية (أكثر من 23 سفيراً) ، فضلاً عن الرأس الأول في هذه الوزارة
(العجوز المتصابية) ، والموفد الأمريكي الرئيسي لعملية السلام في الشرق الأوسط
دينيس روس، ووزير الدفاع وليام كوهين، وطواقم من القادة العسكريين، روبرت
روبين (وزير الخزانة) ، فضلاً عن المتنفذين في عالم المال، بالإضافة إلى
(السي. آي. إي) التي يرأسها جورج تينت، ومجلس الأمن القومي (صموئيل
بيرغر) ، ومعظم المستشارين في مجلس الأمن القومي، وغيرهم وغيرهم في
الكونجرس والمجالس الرئيسية المختلفة [4] .
الإدارة الأمريكية في عهد كلينتون كانت الأجرأ في السعي الدؤوب لإنهاء
المقاطعة العربية ضد اليهود، وقد تدخلت في ذلك بصورة فاعلة وعلى أعلى
المستويات ومن ذلك إرسال كلينتون أحد وزرائه إلى القاهرة مطالباً الأمين العام
لجامعة الدول العربية بذلك.
أما الدور الأمريكي في الأحداث الأخيرة فقد كان تآمرياً بكل ما في الكلمة من
معنى؛ فرغم حوادث التقتيل اليومي للأبرياء والأطفال، ورغم هدم البيوت ورغم
إهلاك الحرث والنسل إلا أن رموز السلطة الأمريكية مثل أولبرايت يلقون باللائمة
على الأطفال وشباب الانتفاضة.. ويطالبون السلطة بإيقاف العنف أي القضاء على
انتفاضة الشعب الأعزل المخنوق. وحين بدرت بعض العمليات الشجاعة ضد
اليهود قامت قائمة أمريكا، فأرسل كلينتون مدير المخابرات الأمريكية (جورج
تنيت) في أوائل شهر يناير، وكأن الأمن القومي الأمريكي مهدد بالخطر. وفي
حين كانت القيادات الأمنية الفلسطينية تسرِّب أنه لا اتفاق مع اليهود مرفقة ذلك
ببعض كلمات الشجب والتنديد في القاهرة، فإن ذلك لم يمنع من مواصلة الحوار
والمفاوضات مع المسؤولين اليهود بحضور مدير المخابرات الأمريكية وتشكيل لجنة
سياسية أمنية عسكرية من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي مهمته تهدئة
الأوضاع (! !) كما تم التنسيق لاستئناف تسيير الدوريات الأمنية المشتركة
حسبما ذكرت الإذاعة الإسرائيلية بالعبرية [5] .
الموقف الإسرائيلي:
عرض الموقف الأمريكي يعتبر كافياً في بيان الموقف الإسرائيلي، وكما
صرح بعض زعماء إسرائيل قديماً عن وجود (كيسنجر) في المفاوضات مع
العرب بأن اليهود لن يحصلوا على أفضل مما سيتوصل إليه (كيسنجر) ، كذلك
الحال في المرحلة الحالية إن لم يكن بصورة أعمق وأشمل. فصانعو السياسة
الخارجية الأمريكية وعلى رأسهم اليهودية الحاقدة (مادلين أولبرايت) والموفد
والمنسق الرئيسي هو (دينيس روس) اليهودي وغيرهم، فهما موقفان متطابقان.
ولا يمنع هذا أيضاً من وجود بعض التصريحات المتشددة لقادة إسرائيل؛ فإيهود
باراك يصرح للتلفزيون الإسرائيلي بأنه: «لن يوقع أي اتفاق سلام يمنح
الفلسطينيين السيادة على الحرم القدسي» ، وأضاف بأن «الحرم القدسي هو لب
الهوية الإسرائيلية» [6] .
وإزاء عدم القبول الفلسطيني مباشرة لمقترحات كلينتون اقترح (جلعاد شير)
اليهودي طرفاً ثالثاً لم يحدده (! !) للسيطرة على القدس تحت سيادته، وقد ذكر
بعض أعضاء الكنيست أن هذا الطرح غير جاد.
كما اقترح وزير الخارجية الإسرائيلي (شلومو بن عامي) خلال زيارته لبرلين
طرح أي مشروع سلام مع الفلسطينيين في استفتاء عام.
موافقة عرفات المشروطة!
أعلن عرفات قبوله المشروط لمقترحات كلينتون حسب طريقته المعهودة (نعم)
أي (لا) و (لا) أي (نعم) ، ولكن الحقيقة أن الشروط التي طلبها عرفات لم
تعلن ولم تعرف. فهل كان يناور بتصريحاته هذه خوفاً من ردة الفعل الشعبية؟ أم
ماذا؟ ربما كانت تلك التصريحات من باب إبداء بعض التحفظات لحفظ ماء الوجه
أو تجميل الموقف لا غير حتى إذا ما مرت العاصفة بهدوء تم لهم ما يريدون أو
بدقة أكثر ما يريده الأسياد. ولا ندري ما هي النقاط التي رأى فيها عرفات بادرة
إيجابية فقبل بها ثم تحفظ على الباقي؟ لعل من العجيب ما ذكره هويدي في مقاله
الآنف الذكر من أن أكثر من 60 وزير خارجية ومسؤولاً دولياً بارزاً اتصلوا
بعرفات هاتفياً قبل ذهابه إلى واشنطن لإقناعه بالموافقة وعدم تفويت (فرصة)
إحلال السلام في المنطقة! كما أن بعض المحيطين به لا يمانعون في القبول بأي
شيء.
استراتيجيات السلطة:
تُعوِّل سلطة عرفات في اتخاذ قراراتها وخططها كثيراً على الأمم المتحدة
والولايات المتحدة ودول المفوضية الأوروبية، وما يفرزه ذلك من خيارات سلمية
وقرارات دولية ومفاوضات كمدريد وأوسلو وكامب ديفيد وواي بلانتيشن.. إلخ،
ولا تستفيد هذه السلطة من التجارب. واعتراضنا هنا ليس على مبدأ المفاوضات؛
فهذا له حديث آخر، ولكن التعجب لا ينتهي من التعامل مع هذه الجهات بطريقة
مذلة ومخزية تضيِّع حقوق الفلسطينيين. فالولايات المتحدة لا تتعامل مع
الفلسطينيين شأنها كذلك في كل قضايا المسلمين كطرف مساوٍ أو ند، بل هي وكيل
عن الطرف اليهودي ومنحازة تماماً. بل إن بعض قيادات المنظمة يصرحون بذلك.
ومن جهة أخرى فإن الجميع يعلم أن قرارات الأمم المتحدة شكلية لا تعدو أن
تكون حبراً على ورق؛ فهل يمكن لعرفات أن يبين لنا ماذا فعلت الأمم المتحدة
خلال الأشهر الأربعة الماضية من عمر الانتفاضة تجاه جرائم اليهود في حوادث
القتل والتدمير اليومي المتعمد من طرف حكومة العدو وجيشه وقطعان مستوطنيه؟
هاتوا عملاً واحداً إيجابياً مؤثراً قامت به هذه المنظمة المقعدة؟ بل إن قراراتها
السخيفة حول لجنة تقصِّي الحقائق ماتت في المهد.
وحتى لا يقال إن هذا كلام للمتطرفين الأصوليين.. فهاكم ما قاله د. ميلاد
حنا، وهو أحد المثقفين النصارى في مصر؛ حيث يشدد على أن (الانتفاضة
الفلسطينية وما حدث في فلسطين أكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا وجود للأمم
المتحدة) [7] . وهذا نقل آخر عن شخصية أخرى معروفة بعلمانيتها ومحسوبة على
الصف المعادي للإسلاميين؛ حيث تؤكد أن منظمة الأمم المتحدة (أصبحت أداة في
يد قوى البطش الاستعماري العسكري والاقتصادي الجديد، ألم يعلق كوفي عنان
السكرتير العام للأمم المتحدة عن أن الأطفال الفلسطينيين هم الذين يعتدون على
الإسرائيليين) ؟ [8] .
ويعجب المراقب حقيقة من هذا الإصرار الفلسطيني على المفاوضات رغم
معرفته المسبقة بعدم الوصول إلى نتائج كعادة اليهود دائماً في عهودهم واتفاقاتهم
يؤكد ذلك النتائج السابقة للاتفاقيات المتعددة، ويؤكد ذلك الإصرار اليهودي على
تدمير كل شيء.
(باراك) قال في بعض تصريحاته: «إن قرار 242 لا ينطبق على الحالة
الفلسطينية؛ لأنه لم تكن هناك فلسطين» [9] ، وهذا ما يؤكده زعماء اليهود دائماً،
ومن شاء فليرجع إلى مذكرات القادة اليهود وتصريحاتهم ومنها وليس آخرها كتاب
(بنيامين نتنياهو) الذي نشره قبل بضع سنوات: (مكان تحت الشمس) [10] وهو
طافح بالحقد على العرب والمسلمين.
ألا يتذكر زعماء المنظمة كيف بدأت المفاوضات في مدريد؟ ولما هزم شامير
في الانتخابات قال: كنا نخطط لمفاوضات مدتها 10سنوات! !
الموقف الشعبي:
في ظل الانتفاضة الباسلة والرائعة من الشعب الفلسطيني يأبى عرفات كعادته
إلا أن يضيع ثمار الانتفاضة ويطعن الفلسطينيين بقبوله المذل للتنازل عن فلسطين
أو القدس.
إن ما يقوم به عرفات وسلطته يناقض موقف الشعب الواضح من العملية
التفاوضية المقيتة. قام مركز القدس للإعلام والاتصالJMCC بعمل استبيان
أظهرت نتائجه أن: أكثر من 70% من الفلسطينيين يؤيدون استمرار الانتفاضة،
وأكثر من 72% يؤيدون العمليات العسكرية ضد اليهود مؤيدي عملية أوسلو الذين
أصبحت نسبتهم لا تتجاوز 39% [11] ، فلِمَ التنازلات إذن؟
وأخيراً وليس آخراً:
سيظل زعماء المنظمة يسيرون في النفق المظلم ما داموا على منهجهم.
كيف يتم تجاهل الرأي العام الفلسطيني، بل العربي والإسلامي، على الأقل
في مثل هذه الظروف؟ فها هي المنظمة لم تتوقف عن مسيرتها ولو نفاقاً لتعبر عن
احترام دماء الأبرياء والشهداء وجنائز الشباب اليومية، ومجاملة عواطف الشعوب
الإسلامية الصادقة!
لقد سارع عرفات من بداية الانتفاضة إلى تلبية الدعوات الإسرائيلية
والأمريكية، فذهب إلى باريس لعقد مفاوضات واتفاقات رغم الظلم الصارخ الذي
يواجهه الشعب الأعزل في شوارع فلسطين. لقد كشفت الأحداث قبح ووحشية
المشروع الصهيوني وقادته من مجرمي الحرب الصقور أو المتنكرين بأقنعة الحمائم،
ورأينا بأعيننا فضح الكثير من الدعاوى والأوهام التي سعى البعض إلى تسويقها
بيننا طيلة السنوات الأخيرة وفي المقدمة منها دعاوى السلام واتفاقاته، والمراهنة
على هذه الفئة أو تلك في خرائط العدو. وفي حين يراهن زعماء السلطة على
المفاوضات والتنسيق مع إسرائيل نجد رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي (شاؤول
موفاز) رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي يصرح [12] : «بأن الجيش الإسرائيلي
يعيش حرباً بدأت بالفعل، وقد تستمر لمدة عام» ، وقد كرر هذا الكلام مرة أخرى
بعد أيام (31 أكتوبر 2000م) .
زعماء السلطة يحلمون بإقامة كيان هش يسمى دولة ولو على رقعة بسيطة من
فلسطين، والعدو يخطط لهم في الخفاء؛ فهذا باراك يقول في اجتماع سري
لأعضاء حكومته الأمنية المصغرة: «تعرفون جيداً؛ فقد عارض رابين بشدة إقامة
كيان عربي مستقل في أرض إسرائيل الغربية يقصد دولة فلسطينية تضم الضفة
والقطاع ورأى في ذلك كارثة قومية لـ (إسرائيل) . وتذكرون بلا شك أقواله التي
كررها مراراً وتكراراً، شفاهة وخطياً، وقد اقتبست منه قوله: (دولة فلسطينية
لن تقوم إلا على أنقاض إسرائيل) » [13] . وهي في الأصل عبارة وردت في
مذكرات رابين.
إذن لن يحصل الفلسطينيون في تداعيهم على الاجتماعات مع العدو وتحت أي
مسمى على أي نتيجة مأمولة لأن العدو قد صاغ السلام بمقاسات محددة تلغي كيان
الدولة الفلسطينية حتى إن أعلنت؛ لأنها ستكون ممزقة أشلاءاً فضلاً عن كونها
تحت رحمة العدو بإقفال المعابر الدولية وخنق الاقتصاد والتحكم في الوصول للدولة
براً وجواً. إذن الخيار الوحيد مع العدو هو المقاومة بالجهاد الذاتي أو ما يحلو
لبعضهم تسميته بالانتفاضة؛ فإنها على محدودية آثارها لها تأثير كبير على العدو
عسكرياً واقتصادياً ونفسياً.
وما ضاع حق وراءه مطالب لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار الوعد الإلهي
بنصر المؤمنين وهزيمة اليهود، يوم نكون حقاً مسلمين؛ حينها سينادى الحجر
قائلاً: «يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» [14] .
والله المستعان.