إشراقات قرآنية
سورة العصر
فوائد ودروس
عبد العزيز بن عبد الله الصالح
تمهيد:
إن الله سبحانه وتعالى إنما أنزل القرآن لأخذ العبرة والعظة منه؛ حيث قال:
[فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2)
وأمر سبحانه بتدبر كتابه والتأمل في معانيه فقال: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ
عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24) .
وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر، وكان
لها أثر في سلوك الإنسان، ولهذا لمَّا سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول
الله صلى الله عليه وسلم قالت: «كان خلقه القرآن» [1] ؛ ذلك أنه كان يتمثل
القرآن منهجاً لحياته قراءةً وتدبراً وتطبيقاً، وهناك بعض الآثار عن السلف الصالح
يوصون فيها بتدبر القرآن وأخذ العظة والعبرة منه.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا
تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر
السورة» .
قال علي بن أبي طالب: «لا خير في قراءة لا تدبر معها» .
وقال ابن مسعود: «إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط
حرفاً وقد أسقط العمل به» .
من هذا المنطلق ومحبةً في المساهمة في هذا الجانب أضع بين يديك هذا
المبحث تحت عنوان: (سورة العصر: فوائد ودروس) ، وقد وقع الاختيار على
هذه السورة؛ لأنها تمثل منهجاً كاملاً للحياة الإسلامية سواء الفرد أو المجتمع.
أهمية السورة: لقد علم سلفنا الصالح ما لهذه السورة من الأهمية البالغة حتى
كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا حتى
يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ثمًَّ يسلِّم أحدهما على الآخر، وقال الشافعي:
«لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس» .
ومن تأمل في هذه السورة وجد فيها مقومات المجتمع المتكامل الذي قوامه
الفضائل المثلى والقيم الفضلى [2] .
ابتدأ الله سبحانه هذه السورة بقوله: [وَالْعَصْرِ] (العصر: 1) . وهو
الدهر كله أقسم الله به لما فيه من العجائب: أمة تذهب وأمة تأتي، وقدر ينفذ وآية
تظهر وهو لا يتغير، ليل يعقبه نهار، ونهار يطرده ليل، فهو في نفسه عجيب.
وهو في نفسه آية سواء في ماضيه لا يعلم متى كان، أو في حاضره لا يعلم
كيف ينقضي، أو في مستقبله « [3]
ومن هنا نعلم أهمية الوقت في الحياة وعظمته؛ لأن الله سبحانه عظيم ولا
يقسم إلا بما هو عظيم.
وقيل: أقسم الله بصلاة العصر لفضلها؛ لأنها الصلاة الوسطى عند الجمهور.
وفي الحديث:» من فاتته العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله « [4] وخُصَّت
بالفضل؛ لأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر
النهار واشتغالهم بمعايشهم» [5]
قال ابن جرير الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن ربنا
أقسم بالعصر و (العصرُ) اسم للدهر، وهو العشي والليل والنهار، ولم يخصص
مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى؛ فكل ما لزمه هذا الاسم فداخل فيما أقسم به
جل ثناؤه» [6]
تأملات في معاني السورة:
ومن تأمل في هذه السورة وجد أنها تقرر حقيقة ضخمة وهي: «أنه على
امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هناك
إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناجٍ هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده،
وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه، وكل ما وراء ذلك ضياع
وخسار» [7]
[ِإنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ] (العصر: 2)
لفظ الإنسان وإن كان مفرداً فإن (أل) فيه جعلته للجنس. والخسر: قيل:
هو الغبن، وقيل: النقص، وقيل: العقوبة، وقيل: الهلكة، والكل متقارب. ولم
يُبيِّن هنا نوع الخسران في أي شيء؟ بل أطلق ليعمَّ، وجاء بحرف الظرفية ليُشعر
أن الإنسان مستغرق في الخسران وهو محيط به من كل جهة [8] .
وهذه الآية هي جواب القسم. والخسر والخسران: النقصان وذهاب رأس
المال. والمعنى: إن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال
الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت [9] . «والخسار مراتب متعددة
متفاوتة: فقد يكون خساراً مطلقاً كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم
واستحق الجحيم. وقد يكون خاسراً من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمَّم
الخسار لكل إنسان إلا من اتصف بأربع صفات» [10] وسيأتي ذكرها.
[إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (العصر: 3) فإنهم في تجارة
لن تبور؛ حيث باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات
الصالحات بالغاديات الرائحات؛ فيا لها من صفقة ما أربحها، ومنفعة جامعة للخير
ما أوضحها! ! [11] .
وقد ورد في هذه الآيات الصفات المنجية من الخسران وهي:
1 - الإيمان بما أمر الله به، ولا يكون الإيمان بدون العلم؛ فهو فرع عنه
ولا يتم إلا به.
2 - والعمل الصالح: وهذا شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة
المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده الواجبة والمستحبة.
3- والتواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح أي: يوصي بعضهم
بعضاً بذلك، ويحثُّه عليه، ويرغِّبه فيه.
4 - التواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله
المؤلمة.
فبالأمرين الأوَّلين يكمِّل العبد نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمِّل غيره،
وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم [12] .
وعن مجاهد: [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (العصر: 3) يقول:
إلا الذين صدَّقوا الله، ووحَّدوه، وأقروا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات
: وأدُّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه. واستُثني الذين
آمنوا من الإنسان؛ لأن الإنسان بمعنى الجمع لا بمعنى الواحد [13] .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير
وتتعلق به كل ثمرة من ثماره؛ وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته صائر إلى ذبول
وجفاف، وإلا فهي ثمرة شيطانية وليس لها امتداد أو دوام، وهو المحور الذي تُشَدُّ
إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة، وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء، ذاهبة بدداً مع
الأهواء والنزوات. هو المنهج الذي يضم شتات الأعمال ويردها إلى نظام تتناسق
معه وتتعاون، وتسلك في طريق واحد، وفي حركة واحدة، لها دافع معلوم ولها
هدف مرسوم.
والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، والحركة الذاتية التي تبدأ في
ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب؛ فللإيمان حقيقة إيجابية
متحركة، ما أن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج
في صورة عمل صالح، هذا هو الإيمان الإسلامي الذي لا يمكن أن يظل خامداً لا
يتحرك، كامناً لا يتبدَّى في صورة حسِّية خارج ذات المؤمن، فإن لم يتحرك هذه
الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها فهو ينبعث
منها انبعاثاً طبيعياً وإلا فهو غير موجود!
ومن هنا قيمة الإيمان: إنه حركة وعمل وبناء وتعمير يتجه إلى الله، إنه
ليس انكماشاً وسلبية وانزواءاً في مكنونات الضمير، وليس مجرد النوايا الطبيعية
التي لا تتمثل في حركة، وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء
كبرى في صميم الحياة [14] .
قوله: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3)
عن قتادة وعن الحسن: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ] (العصر: 3) : كتاب الله.
[وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3) طاعة الله [15] .
ويعتبر التواصي بالحق من الخاص بعد العام؛ لأنه داخل في عموم
الصالحات، وقد جاءت آيات في القرآن تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة
كلها أصولها وفروعها، ماضيها وحاضرها، من ذلك ما وصَّى الله به الأنبياء
عموماً من نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن بعدهم في قوله تعالى: [شَرَعَ لَكُم
مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] (الشورى: 13) . وقد كانت هذه
الوصية عمل الرسل لأممهم من بعدهم.
ويأتي عقبها قوله: [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3) . بمثابة التثبيت
على هذا الصراط المستقيم؛ إذ الصبر لازم على عمل الطاعات كما هو لازم لترك
المنكرات [16] .
وفي جعل التواصي بالصبر قريناً للتواصي بالحق دليل على عظيم قَدْره،
وفخامة شرفه، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه [إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ] (البقرة: 153) ، وأيضاً التواصي بالصبر مما يندرج تحت
التواصي بالحق؛ فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة
على إنافته على خصال الحق، ومزيد شرفه عليها، وارتفاع طبقته عنها [17] .
والتواصي بالحق ضرورة؛ فالنهوض بالحق عسير والمعوقات عن الحق
كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة، وطغيان الطغاة،
وظلم الظلمة، وجور الجائرين. والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في
الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة؛ فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات
الفردية؛ إذ تتفاعل معاً فتتضاعف؛ تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه
غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله، وهذا الدين وهو الحق لا يقوم
إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال.
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة؛ فالقيام على الإيمان والعمل الصالح
وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجهه الفرد والجماعة ولا بد من الصبر، لا
بد من الصبر على جهاد النفس وجهاد الغير والصبر على الأذى والمشقة والصبر
على تبجح الباطل وتنفُّج الشرّ، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل
وانطماس المعالم وبُعد النهاية!
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف
ووحدة المتجه، وتساند الجميع وتزوُّدهم بالحب والعزم والإصرار إلى آخر ما يثيره
من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوِّها، ولا تبرز إلا من
خلالها وإلا فهو الخسران والضياع [18] .
الدروس والفوائد:
1- اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلُّم أربع مسائل: الأولى: العلم وهو
معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة:
الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه؛ والدليل قوله تعالى: [وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 1-3) . قال الشافعي: «لو ما أنزل الله حجة
على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم» [19] .
2 - قوله: [وَالْعَصْرِ] (العصر: 1) هذا إقسام منه جل وعلا بالدهر
وهو الوقت والعمر، وقد أقسم الله به لعظمته، وبيَّن بعده أن الإنسان في خسر؛
وذلك في استغلال هذا الوقت، ثم استثنى بعد ذلك أهل الإيمان والعمل الصالح؛
لأنهم عرفوا قيمة الوقت فاستغلوه أحسن استغلال.
3 - أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر: لما فيه من العبر من جهة مرور
الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء؛ فإن في ذلك دلالة بيِّنة
على الصانع عز وجل وعلى توحيده [20] .
4 - إن الإنسان إذا عُمِّر في الدنيا وهرم لفي نقص وضعف وتراجع إلا
المؤمنين؛ فإنهم تكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم [21] ، ولعل
هذا يشهد له الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري؛ حيث قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول: «إذا كان العبد يعمل عملاً
صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر كتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيح
مقيم» [22] .
5 - الخسران جاء في هذه الآية مجملاً، وقد بينته آيات أخر في كتاب الله.
أما الخسران بالكفر فكما في قوله تعالى: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الخَاسِرِينَ] (الزمر: 65) وأما الخسران بترك العمل فكما في قوله تعالى: [وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ] (المؤمنون: 103) وأما
التواصي بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال، والحق هو الإسلام
بكامله، وقد قال تعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85) وأما الخسران بترك التواصي بالصبر
والوقوع في الهلع والفزع فكما قال تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ
ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] (الحج: 11) [23] .
6 - الإيمان لغة التصديق. وشرعاً: الاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الست
في حديث جبريل عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإسلام
والإيمان والإحسان، [وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] (العصر: 3) : العطف يقتضي
المغايرة. ولذا قال بعض الناس: إن الأعمال ليست داخلة في تعريف الإيمان.
ومقالاتهم معروفة.
والصحيح: أن الإيمان اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح؛
فالعمل داخل فيه، ويزيد وينقص؛ فمجرد الاعتقاد لا ينفع صاحبه كما كان يعتقد
عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم صحة رسالته، ولكنه لم يقل كلمة يُحاجُّ له صلى الله
عليه وسلم بها، وكذلك لو اعتقد ونطق بالشهادتين ولم يعمل كان مناقضاً لقوله [24] .
7 - لا يعتبر العمل صالحاً حتى تتوفر فيه ثلاثة شروط:
1 - موافقة العمل لكتاب الله.
2 - إخلاص النية لله.
3 - كونه صادراً من مؤمن بالله [25] .
8 - استدل بعض المعتزلة بما في هذه السورة على أن مرتكب الكبيرة مخلَّد
في النار؛ لأنه لم يستثن فيها عن الخسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. إلخ.
وأجيبَ عنه: بأنه لا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في
[خُسْرٍ] (العصر: 2) ، وأما على كونه مخلداً في النار فلا، كيف والخسر عامٌّ؛
فهو إما بالخلود إن مات كافراً، وإما بدخول النار إن مات عاصياً ولم يُغفر له،
وإما بفوات الدرجات العاليات إن غُفر له. وهو جواب حسن [26] .
9 - قوله: [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (العصر: 3) جاء الحث على التواصي
بالرحمة أيضاً مع الصبر في قوله تعالى: [ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] (البلد: 17) [.
وبهذه الوصايا الثلاث: بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والتواصي
بالرحمة تكتمل مقومات المجتمع المتكامل قوام الفضائل المثلى والقيم الفضلى؛ لأن
بالتواصي بالحق: إقامة الحق والاستقامة على الطريق المستقيم، وبالتواصي
بالصبر يستطيعون مواصلة سيرهم على هذا الصراط ويتخطون كل عقبات
تواجههم، وبالتواصي بالمرحمة: يكونون مرتبطين كالجسد الواحد؛ وتلك أعطيات
لم يعطِها إلا القرآن وهذه السورة الموجزة] 27 [.
10 - وفي السورة الإشارة إلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وأن من يقوم به غالباً يتعرض لأذى الناس؛ فلزمهم التواصي بالصبر كما قال
لقمان لابنه يوصيه:] يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [ (لقمان: 17) ] 28 [.
11 - وسنذكر هنا بعض المسائل المنتقاة من كتاب: (أضواء البيان للشيخ
محمد الشنقيطي) فأما التي تتعلق بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فمنها:
المسألة الأولى: «اعلم أن كلاً من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق
المأمور به، وقد دلَّت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى
عن المنكر ويفعله أنه حمارٌ من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها» .
وقد دلَّ القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمارٌ أيضاً.
أما السنة المذكورة فقوله صلى الله عليه وسلم: «يُجاء بالرجل يوم القيامة
فيُلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل
النار عليه فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن
المنكر؟ ! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر
وآتيه» ] 29 [.
واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في
النار ليس على الأمر بالمعروف وإنما على ارتكابه المنكر عالماً بذلك.
المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به أن ما
يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إن كان جاهلاً بذلك فقد يأمر بما
ليس معروفاً وينهى عما ليس بمنكر، ولا سيما في هذا الزمن الذي عمّ فيه الجهل
وصار فيه الحق منكراً والمنكر معروفاً والله تعالى يقول:] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو
إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ (يوسف: 108) فدلَّ على أن الداعية لا
بد أن يكون على بصيرة، وتكون دعوته بالحكمة وحسن الأسلوب واللطافة مع
إيضاح الحق؛ لقوله تعالى:] ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ [
(النحل: 125)
المسألة الثالثة: الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:
الأولى: إقامة حجة الله على خلقه كما قال تعالى:] رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ (النساء: 165) .
الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف كما قال تعالى في
صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت:] قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [
(الأعراف: 164) وقال تعالى:] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [ (الذاريات: 54)
فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملوماً.
الثالثة: رجاء النفع للمأمور كما قال تعالى:] قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ [ (الأعراف: 164) ، وقال:] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [
(الذاريات: 55) .] 30 [
12 - قد بيَّن الله أن الناس أقسام ثلاثة إزاء دعوة الرسل:
1 - قوم آمنوا وقالوا: ربنا الله، واستقاموا على ذلك بالعمل الصالح.
2 - قوم ارتفعت همتهم إلى دعوة غيرهم، وهم أحسن قولاً بلا شك.
3 - قوم عادوا الدعاة وأساؤوا إليهم.
قال تعالى:] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ [
(فصلت: 30) إلى قوله:] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ
إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [ (فصلت: 33-34) ] 31 [.
يقول سيد قطب رحمه الله: «وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي
يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران؛ فيهولنا أن نرى الخسر
يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء، يهولنا هذا الضياع
الذي تعانيه البشرية في الدنيا قبل الآخرة، هذا والمسلمون هم أبعد أهل الأرض
عن هذا الخير وأشدهم إعراضاً عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم» إلى أن
قال: «ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض، وهو على عظمته إذا قيس بشأن
الآخرة صغير، وهناك هناك الربح الحق والخسر الحق، هناك في الأمد الطويل
وفي الحياة الباقية وفي عالم الحقيقة هناك الربح والخسر: ربح الجنة والرضوان،
أو خسر الجنة والرضوان، هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له أو
يرتكس فتهدر آدميته وينتهي إلى أن يكون حجراً في القيمة ودون الحجر في
المرابحة.
ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم
يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر] 32 [.