دراسات في الشريعة والعقيدة
فيصل بن علي البعداني
albadani@hotmail.com
أمر الله تعالى عباده باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: [وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] (الحشر: 7) ، وجعله سبحانه قدوة
حسنة لهم فقال: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21)
والحج من أوضح عبادات الإسلام التي يتجلى فيها اتباع النبي صلى الله عليه
وسلم والتأسي به، والملحوظ في واقع الناس اليوم سيطرة الحديث عن الأحكام
وانشغالهم بتعداد الأخطاء التي تقع فيه، وما يصح به النسك أو يبطل، ومع أهمية
هذا الجانب وضرورته نتيجة تفشي الجهل ودوران صحة العمل أو بطلانه على ذلك،
إلا أنه أدى إلى نسيان الكثير من جوانب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم،
وإغفال أعداد غفيرة من الحجيج لمعان كثيرة راعاها النبي صلى الله عليه وسلم
أثناء أدائه لنسكه، وفي ظل هذا الغياب أصبح المرء يرى في الحج العديد من
المظاهر التي يقع فيها كثير من طلبة العلم الحريصين على تطبيق السنَّة فضلاً عن
غيرهم، وهي غير متفقة مع هديه صلى الله عليه وسلم، ولذا جاءت هذه المقالة
لتحاول إعطاء توصيف أشمل وصورة أدق عن أحواله صلى الله عليه وسلم في
الحج لعل في ذلك مزيد عون للمتأسين به صلى الله عليه وسلم، والسائرين على
نهجه. ونظراً لكثرة الحديث عن صفة نسكه صلى الله عليه وسلم فلن تتعرض
المقالة لذلك، وستكتفي بإبراز نماذج وإشارات عامة في الجوانب الأخرى نظراً
لكون الموضوع أوسع من أن تحيط به مقالة أو تكفي في عرضه الموارد المعتمدة.
ورغبة في تقريب الموضوع ولمِّ شتاته للقارئ فسيكون في ثلاثة محاور
رئيسة:
الأول: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع ربه:
لم يشغل النبي صلى الله عليه وسلم تعليم الحجيج وقيادتهم والعناية بأهل بيته
ورعاية زوجاته عن الصلة بربه والانكسار بين يديه، وقد أخذ ذلك صوراً وأشكالاً
شتى من أبرزها:
1 - تحقيق التوحيد والعناية به:
يعد التوحيد أحد القضايا الرئيسة التي عمل النبي صلى الله عليه وسلم في
الحج على تحقيقها والعناية بها، وهذا جلي من خلال التأمل في أعماله صلى الله
عليه وسلم في الحج، ومن ذلك: التلبية وهي شعار الحج التي تتضمن إفراد الله
وحده لا شريك له بالعمل، واستمر صلى الله عليه وسلم يلهج بها منذ دخوله في
النسك إلى حين رميه لجمرة العقبة يوم النحر.
ومنها: عنايته صلى الله عليه وسلم بإخلاص العمل وسؤاله ربه أن يجنبه
الرياء والسمعة كما في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً قال: «اللهم حجة لا
رياء فيها ولا سمعة» [1] .
ومنها: دعاؤه صلى الله عليه وسلم على الصفا والمروة بالتوحيد كما في
حديث جابر رضي الله عنه قال: «فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت،
فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك،
وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده ... قال مثل هذا ثلاث
مرات ... حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا..» [2] .
2 - إظهار البراءة من المشركين وتعمد مخالفتهم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة المشركين والسير على سنة
أبينا إبراهيم عليه السلام في كثير من شعائر الحج وأحكامه، ووصل الأمر غايته
حين تبرأ صلى الله عليه وسلم من أعمال المشركين في خطبته يوم عرفة، وأخبر
أن كل شيء من أمر الجاهلية فهو موضوع تحت قدميه [3] . والشعائر التي بان فيها
تعمده المخالفة كثيرة، من أهمها: التلبية، وقد كان المشركون يضمنونها الشرك
بالله ويقولون فيها: (إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) ؛ فأخلص النبي صلى الله
عليه وسلم فيها التوحيد، ونبذ الشرك وتبرأ منه [4] .
ومنها: وقوفه مع الناس بعرفة ومخالفته لكفار قريش الذين كانوا يقفون في مزدلفة
ويقولون: لا نفيض إلا من الحرم [5] .
ومنها: إفاضته من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفاً المشركين الذين كانوا لا
يفيضون منها حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير [6] .
3 - كثرة التضرع والمناجاة والدعاء:
للدعاء منزلة رفيعة؛ إذ هو «إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة
له» [7] ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» [8] ، وقد
كان للنبي صلى الله عليه وسلم في الحج منه أوفر الحظ والنصيب؛ فقد دعا ربه
في الطواف [9] ، وعند الوقوف على الصفا والمروة، وأطال في الدعاء يوم
عرفة وهو على ناقته رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين منذ أن استقر في
مقامه الذي وقف فيه بعد الصلاة إلى أن غربت الشمس، وفي مزدلفة في المشعر
الحرام منذ أن صلى الفجر إلى أن أسفر جداً قبل أن تطلع الشمس [10] ، وفي أيام
التشريق بعد رمي الجمرتين الأُوليين كان يستقبل القبلة ويقوم طويلاً يدعو ويرفع
يديه [11] .
هذا شيء مما نقل عنه في دعاء المسألة. أما دعاء الثناء والذكر فلم يفارقه
صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل في النسك إلى أن عاد إلى المدينة؛ إذ لم يزل
صلى الله عليه وسلم رطب اللسان بذكر الله مكثراً من الثناء على الله بما هو أهله
من تلبية وتكبير وتهليل وتسبيح وتحميد راكباً وماشياً وفي جميع أحواله صلى الله
عليه وسلم كما هو جلي لمن قرأ صفة حجه صلى الله عليه وسلم وتتبع أحواله
فيه [12] .
ومن الأهمية بمكان التنبيه على أن المنقول من دعائه صلى الله عليه وسلم
وتضرعه وثنائه على ربه في الحج قليل جداً بالنسبة لما لم ينقل؛ إذ الأصل أن
ذلك سر بين العبد وربه، وإنما جهر صلى الله عليه وسلم بما جهر به حين كان
يريد تأسي أمته به، وإلا فإن ذكر الله من غايات الحج ومقاصده العظام كما يُلْمح
ذلك من قوله عز وجل: [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً] (البقرة: 198-200) ، بل إن أعمال الحج
وشعائره إنما شرعت لذكر الله تعالى كما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها
مرفوعاً: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة
ذكر الله» [13] ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل
وشرب وذكر لله» [14] .
4 - التوقف عند حدود الله عز وجل:
الوقوف عند حدود الله تعالى غاية التقوى ودليل صدق الإيمان وعلامة كمال
العبودية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بحدود ربه، وأتقاهم له،
وأكثرهم تعظيماً لحرماته، وقد لاح ذلك في الحج في مواقف شتى، منها: عندما لم
يُحِلَّ من إحرامه مراعاة لأصحابه؛ لأنه ساق الهدي؛ وذلك أنه صلى الله عليه
وسلم أمر من لم يسق الهدي من أصحابه بأن يحلوا إحرامهم ويجعلوا حجهم عمرة؛
فتأخروا في ذلك ظناً منهم أنه لم يعزم عليهم في ذلك وإنما أبان لهم الجواز، وقال
بعضهم معبراً عن عدم رغبته في الحل من الإحرام: «نأتي عرفة تقطر مذاكيرنا
المني» ! فقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم حين بلغه ذلك فقال: «قد علمتم
أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون فحلوا» [15] .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم عن زوجه صفية رضي الله عنها حين
حاضت ليلة النفر وقبل أن يعلم أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر: «ما أراها
إلا حابستكم» [16] مع ما في ذلك من الحرج الشديد له أمام الخلق؛ إذ كيف يُحبَس
الناس عن النفير بسببها؟ !
5 - الخشوع والسكينة:
يُدرَك حضور القلب وخشوعه بسكون الجوارح ووقارها؛ إذ الظاهر عنوان
الباطن [17] ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجه بين الأمرين؛ فكان
حاضر القلب غير متشاغل بشيء عن نسكه، خاضعاً لربه فيه، ذليلاً منكسراً بين
يدي مولاه، مكثراً من التضرع والمناجاة مع إطالة للقيام ورفع لليدين أثناء ذلك [18] .
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم خاشع الجوارح يسير سيراً ليناً بسكينة
ووقار، ويؤدي مناسكه بتؤدة واطمئنان، يدل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه
قال: «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة» [19] ، وحديث
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم
عرفة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل،
فأشار بسوطه إليهم، وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس
بالإيضاع» [20] .
6 - الاستكثار من الخير ومباشرته:
حث الله عباده على التزود من التقوى والتسابق في الخيرات، فقال عز وجل:
[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] (البقرة: 197) ،
وقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وديدنه فيه، ومن المظاهر
الدالة على ذلك: حرصه صلى الله عليه وسلم على المجيء بمستحبات النسك
كالاغتسال للإحرام [21] ، والتطيب عند الإهلال به وعند الخروج منه [22] ،
وإشعار الهدي وتقليده [23] ، والإكثار من التلبية والجهر بها حتى رمي جمرة
العقبة [24] ، وبدء البيت بالطواف [25] ، والرَّمَل فيه [26] ، والاستلام
للركنين [27] ، وصلاة ركعتي الطواف خلف المقام [28] ، والدعاء على الصفا
والمروة، والسرعة الشديدة في بطن الوادي [29] ، والذكر عند استلام الركنين
ورمي الجمار [30] ، وغيرها من السنن كثير.
7 - التوازن والاعتدال:
خير الأمور الوسط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وقد كان من أبرز
أحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم وما تجلى من خلقه في الحج التوازن
والاعتدال، وكراهية الإفراط والتفريط، ولعل الذي يعنينا من ذلك في حاله مع ربه
عز وجل أمران:
الأول: اعتداله صلى الله عليه وسلم وموازنته بين العناية بنفسه من خلال
قوة صلته بربه من جهة [31] ، وبين التعليم لأمته وقيادتها، والرعاية لزوجاته
والحنو على أهل بيته من جهة أخرى [32] .
الثاني: اعتداله صلى الله عليه وسلم وموازنته بين كل من حقوق روحه
وجسده؛ إذ في ذلك الجو الإيماني المهيب الذي قد يدفع الكثيرين إلى التفريط في
حق الجسد والإفراط في حق الروح نجده صلى الله عليه وسلم معتنياً بجسده غاية
العناية؛ إذ صعد يوم التروية إلى منى ليقرب من عرفة [33] ، ونام ليلة عرفة
ومزدلفة [34] ، وأفطر يوم عرفة [35] ، وترك ليلةَ جَمْع صلاة النافلة [36] ، واستظل
فيه بقبة من شعر ضُرِبت له قبلُ [37] ، وركب في تنقلاته بين المشاعر [38]
وأثناء قيامه ببعض أعمال الحج [39] ، واتخذ صلى الله عليه وسلم من يخدمه ويقوم
بأمره [40] ... ونحو ذلك من الأمور التي ترفق بالجسد، وتمكنه من التقوِّي على
العبادة وأداء النسك بحضور قلب وتدبر وخشوع وطمأنينة.
8 - الزهد في الدنيا:
كان النبي صلى الله عليه وسلم زاهداً في الدنيا، معرضاً عما لا ينفع في
الآخرة منها، ومظاهر زهده صلى الله عليه وسلم في الحج بالدنيا وتعلق قلبه
بالآخرة كثيرة لا تكاد تحصى، ومن أبرزها: أنه حج على رَحْل رثٍّ وقطيفة
تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي [41] .
ومنها: إردافه صلى الله عليه وسلم على راحلته أمام الحجيج أسامة بن زيد
رضي الله عنهما من عرفة إلى مزدلفة، والفضل بن العباس رضي الله عنهما من
مزدلفة إلى منى [42] .
ومنها: عدم تميُّزه في الموسم عن الناس بشيء، وأعظم ما تجلى فيه ذلك أنه
صلى الله عليه وسلم «جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس: يا فضل! اذهب
إلى أمك فائت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: اسقني،
قال: يا رسول الله! إنهم يجعلون أيديهم فيه. قال: اسقني، فشرب منه» [43] ،
وفي رواية أنهم حين قالوا: نأتيك به من البيت قال: «لا حاجة لي فيه، اسقوني
مما يشرب منه الناس» [44] .
ومنها: عظم هديه؛ إذ قرَّب مائة بدنة [45] ، ومن تعلق قلبه بالدنيا فإنه لا
يُخرِج شيئاً فوق الحد الواجب.
ومنها: جمعه بين الهدي والأضحية [46] مع أن الهدي يجزئ الحاج عنها.
الثاني: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أمته:
عَجَبٌ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج؛ إذ قام بتعليم الناس
وقيادتهم في آن واحد؛ ومع ذلك فما أنت مريد أن ترى شيئاً فعله صلى الله عليه
وسلم معهم على خلاف الأوْلى إلا وأنت عاجز عن ذلك.
وكل أحواله صلى الله عليه وسلم والوظائف التي قام بها مع أمته دالة على
عظمته وعلو مرتبته، ولعل من أبرز ذلك:
1 - التعليم:
بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم «معلماً ميسراً» [47] ، وقد بلغ الغاية
في ذلك، فشهد له الناس بأنه ما رأى الخلقُ «معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً
منه» [48] ، ومن تأمل حَجَّه صلى الله عليه وسلم وجد أنه هو ذلك المعلم
الموصوف بعينه؛ إذ أمر صلى الله عليه وسلم بأن يؤذن قبل الحج في الناس بأنه
صلى الله عليه وسلم يريد الحج ليسهل على من يريد مرافقته السفر معه، فقدم
المدينةَ بشرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتم به ويأخذ عنه [49] ، فاختلط بالناس وأشرف
لهم، وبرز طوال الموسم [50] ، وكان أحد لا يُصرف عنه ولا يُدفع [51] ، ولم
يكن حوله ضرب ولا طرد ولا قول: إليك إليك [52] .
وحرص صلى الله عليه وسلم على البلاغ وإقامة الحُجَّة على الخلق فحفزهم
على التعلم، وشحذ هممهم، وشد انتباههم إلى ما يقول ويفعل بتنويع أساليب
الخطاب وطرق التعليم، وأمره لهم بأخذ المناسك عنه لاحتمال أن تكون حَجَّته
الأخيرة [53] ، ومطالبته إياهم بالشهادة له بالبلاغ؛ إذ مراراً ما خاطبهم بعد أن يتم
تعليمهم قائلاً: «ألا هل بَلَّغت؟» [54] ، فيشهد الناس له بذلك قائلين: «نشهد
أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت» [55] .
ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم على البلاغ والتعليم بنفسه، بل اتخذ من يُبلِّغ
عنه [56] ، وأرسل الرسل لذلك [57] .
وأبرز الأمور التي اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الناس إياها هي
أحكام المناسك التي جمع فيها النبي بين البيان والتطبيق العملي [58] .
ومن ذلك: بيان منزلة أركان الإسلام ومبانيه العظام؛ إذ قال صلى الله عليه
وسلم في إحدى خطبه في الموسم: «اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا
شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» [59] .
ومن ذلك: بيان خطورة الشرك وبعض المحرمات العظام؛ إذ قال صلى الله
عليه وسلم: «إنما هن أربع: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم
الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تزنوا» [60] .
2 - الإفتاء:
من أهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم والأعمال التي تقلب فيها مع الناس
في الحج تبيين المشكل عليهم من الأحكام والجواب عن استفساراتهم، ومن أشهر
فتاويه صلى الله عليه وسلم في الحج «أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله!
إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر
بعيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحُجي عنه» [61] ، وقوله صلى الله
عليه وسلم لكل من سأله عن التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر: «افعل ولا
حرج» [62] .
والملحوظ: في إفتائه صلى الله عليه وسلم في الموسم أمور من أوضحها:
وقوفه صلى الله عليه وسلم للناس وبروزه لهم ليروه ويسألوه [63] .
ومنها: جنوحه إلى التيسير في فتاويه [64] والتخفيف على ذوي الحاجات [65] .
ومنها: حرصه صلى الله عليه وسلم على الإقناع لمن يستفتيه كقوله صلى الله
عليه وسلم لرجل قال له: «يا رسول الله! إن أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ
كبير لا يثبت على راحلته، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان عليه دين فقضيته
عنه أكان يجزيه؟ قال: نعم. قال: فاحجج عن أبيك» [66] .
ومنها: صبره صلى الله عليه وسلم على السائلين واحتماله لأذاهم مع الرفق
والرحمة بهم [67] .
3 - الوعظ:
كان للنبي صلى الله عليه وسلم في الوعظ اليد الطولى والقدح المعلى؛ إذ
بعثه الله مبشراً ونذيراً، فأرشد أمته إلى الخير ورغبها فيه، ونهاها عن الشر
ورهَّبها منه.
وفي الحج كان للوعظ والتوجيه ميدان فسيح ووجود ظاهر، حتى إن النبي
صلى الله عليه وسلم أعاد التذكير ببعض القواعد والأمور الهامة [68] من غير ما
تكلُّف أكثر من مرة، وقد تناول وعظه صلى الله عليه وسلم موضوعات عدة كان
من أهمها:
التزهيد في الدنيا؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم قبل الغروب بعرفات: «أيها
الناس! إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى
منه» [69] .
ومنها: الأمر بالتقوى والدلالة على ما يُدخِلُ المرءَ الجنةَ؛ إذ قال صلى الله
عليه وسلم: «اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم؛ وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم،
وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» [70]
ومنها: بيان أن لا أحد يحمل جريرة أحد، وأن المسؤولية أمام المولى عز
وجل فردية؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، لا
يجني والد على ولده، ولا مولود على والده» [71] .
ومنها: الترغيب في ترك الفسوق والعصيان أثناء النسك والاشتغال بما ينفع؛
إذ قال صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم
ولدته أمه» [72] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس البر بإيضاع الخيل ولا
الرِّكاب» [73] .
ومنها: التحذير من الغلو؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس!
إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» [74] .
ومنها: الوصاية بالضعفاء من النساء والأرقَّاء والأمر بالإحسان إليهم؛ إذ قال
صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله،
واستحللتم فروجهن بكلمة الله» [75] ، وجاء في حديث مرفوع: «أرقَّاءَكم أرقاءَكم
أرقاءَكم أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون؛ فإن جاؤوا بذنب لا تريدون
أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم» [76] .
4 - توحيد الأمة، وتحذيرها من الفتن ودواعي الافتراق:
كان الحج بما يحمل في طياته من وحدة بين أفراد الأمة في الشعور والمشاعر
فرصة سانحة لتوحيد الأمة وتحذيرها من الفتنة ودواعي الفرقة، وقد اهتم النبي
صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وأولاه عنايته، وقد أخذ ذلك الاهتمام مظاهر شتى
من أبرزها:
تسويته صلى الله عليه وسلم بين أفراد الأمة، وعدم تمييزه بينهم إلا بالتقوى؛
إذ قال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم واحد، وأباكم واحد؛ ألا لا فضل
لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر
على أسود إلا بالتقوى» [77] .
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لمن يقيم كتاب الله عز
وجل، ولزوم الجماعة والنصح للأئمة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن أُمِّر
عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» [78] ، وقال صلى
الله عليه وسلم بالخيف من منى: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص
العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من
ورائهم» [79] .
ومنها: تحذيره صلى الله عليه وسلم من الاستجابة لتحريش الشيطان؛ حيث
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة
العرب، ولكن في التحريش بينهم» [80] .
ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الابتداع في الدين؛ إذ قال صلى الله
عليه وسلم محذراً أمته: «ألا وإني مستنقِذٌ أناساً، ومستنقَذٌ مني أناس فأقول:
يارب أصيحابي! فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [81] .
ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عما يسبب الفرقة ويؤدي إلى الفتنة في
المجتمع المسلم كالاقتتال؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم بعد أن استنصت الناس:
«لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» [82] .
وكالاستهانة بدماء الآخرين وأموالهم وأعراضهم؛ حيث قال صلى الله عليه
وسلم في خطبه الثلاث في عرفة ويوم النحر وأوسط أيام التشريق: «فإن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم
هذا» [83] .
وكالظلم وأخذ أموال الناس بغير طيب نفس منهم؛ حيث قال صلى الله عليه
وسلم: «اسمعوا مني تعيشوا: ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا؛ إنه
لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» [84] .
5 - التربية على الاتباع وتوحيد مصدر التلقي:
الإسلام هو الخضوع والذل لله وحده والإذعان لما جاء به رسوله صلى الله
عليه وسلم، ولا تثبت قدم أحد فيه ما لم يسلِّم لنصوص الوحي، وينقاد إليها ولا
يعترض على شيء منها [85] ، والحج آية في الانقياد ومدرسة في التسليم
والاستسلام، ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم فيه أصحابه رضي الله عنهم على
توحيد متابعته، وغرس في نفوسهم ضرورة التأسي به. يقول جابر رضي الله عنه
واصفاً الحال: «ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه القرآن
ينزل، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به» [86] ، فأنتجت تلك
التربية العظيمة ثمرات يانعة مباركة.
ومظاهر تربيته صلى الله عليه وسلم في الحج لأصحابه رضي الله عنهم على
المتابعة والاقتصار في الأخذ والتلقي على نصوص الوحي كثيرة، من أبرزها:
مطالبته صلى الله عليه وسلم الحجيج في مواطن عدة خلال الموسم بالتأسي به
وتحفيزه إياهم على ذلك بذكر احتمال أن تكون حجته تلك آخر حجة له؛ إذ قال
صلى الله عليه وسلم مراراً: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد
حجتي هذه» [87] .
ومنها: حثه صلى الله عليه وسلم الناس في خطبته يوم عرفة على الاعتصام
بالتنزيل والتمسك به؛ لأن ذلك طريق الوقاية من الزيغ والضلال؛ حيث قال صلى
الله عليه وسلم: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب
الله» [88] .
ومنها: تحذيره صلى الله عليه وسلم أمته من اتباع الأهواء والابتداع في
الدين؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم وهو واقف على ناقته بعرفات: «ألا وإني
فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم؛ فلا تُسوِّدوا وجهي، ألا وإني مستنقِذ
أناساً ومستنقَذ مني أناس، فأقول: يا رب أصيحابي، فيقول: إنك لا تدري ما
أحدثوا بعدك» [89] .
6- القيادة الناجحة والمعاملة الحسنة:
جمَّل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بكمالات الأخلاق، وزيَّنه بأجل
الآداب، فامتلك لذلك مقومات القيادة الناجحة والأساليب المثلى للمعاملة الحسنة،
فهوت لذلك إليه الأفئدة، وتدافع عليه الناس حين بلغهم عزمه على الحج كل يريد
السير في رعايته وتحت لوائه، فحج معه أكثر من مائة ألف إنسان [90] كل يريد
أن يأتم به ويعمل مثل عمله [91] فأثر صلى الله عليه وسلم في نفوسهم أعمق تأثير،
ووجههم أحسن توجيه، وقادهم أعظم قيادة عرفتها البشرية.
ولن تستطيع هذه الكلمات القليلات الإتيان على كافة جوانب عظمته صلى الله
عليه وسلم في قيادة تلك الأفواج الضخمة من الحجيج وإبراز تعامله الفذ معها؛ ولذا
فستقتصر على ذكر إشارات وتجلية جوانب مختصرة لتكون أنموذجاً لما خلفها
ودليلاً على ما وراءها، وذلك فيما يلي:
أ - جعله صلى الله عليه وسلم من نفسه قدوة حسنة:
عاب الله عز وجل على بعض عباده قول الخير والأمر به دون فعله، فقال
سبحانه: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]
(البقرة: 44) ، ولأن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن [92] ؛ فما
كان عليه الصلاة والسلام ليأمر أمته بأمر إلا وكان أسبقهم إليه، وما كان لينهاهم
عن شيء إلا وكان أبعدهم منه، وفي الحج تجلى لديه صلى الله عليه وسلم هذا
الخلق السامي في مواقف عدة، من أبرزها:
ما جاء في خطبة الوداع حين قال صلى الله عليه وسلم: «ألا كل شيء من
أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع
من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا
الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه
موضوع» [93] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان يحث أصحابه على بر
الحج والاشتغال بالطاع والخضوع لله عز وجل والانكسار بين يديه سبحانه [94]
كان أكثرهم تقرباً وخشية، وأعظمهم ذلاً لله تعالى وضراعة بين يديه [95] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان يحث أصحابه على
الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة [96] كان يحج على رحل رث وقطيفة لا تكاد
تساوي أربعة دراهم [97] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر بترك المزاحمة وأداء النسك بتؤدة
وطمأنينة، وأفاض هو صلى الله عليه وسلم بسكينة وكان يسير على مهله [98] .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن الغلو في الدين وأمرهم بأن
يرموا الجمرة بمثل حصى الخذف [99] ، ورماها هو صلى الله عليه وسلم بمثل ما
أمرهم به [100] .
وهذا الأمر من أعظم ما دعا الناس إلى حبِّه صلى الله عليه وسلم، وحملهم
على التأثر به؛ إذ هو عنوان استقامة القيادة وإخلاصها ودليل إيمانها فيما تأمر به
وجديتها في تنفيذه.
ب - تواضعه صلى الله عليه وسلم مع الناس:
التواضع سيد الأخلاق ومصيدة الشرف، ومن أسباب رفعة الله تعالى للعبد
كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «وما تواضع أحد لله إلا
رفعه الله» [101] ، وقد أمر الله سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل:
[وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] (الشعراء: 215) فامتثل صلى
الله عليه وسلم أمر ربه، فبلغ في التواضع منزلة لا يطاوله فيها أحد من الخلق.
وفي الحج تجلى تواضعه صلى الله عليه وسلم في قيادته للناس من خلال
مواقف وصور شتى كان من أبرزها:
ما تقدَّم من أن حَجَّه صلى الله عليه وسلم كان على رحل رث، وقطيفة لا
تكاد تساوي أربعة دراهم [102] .
ومنها: إباؤه صلى الله عليه وسلم التميز عن الناس بشيء، ومن أجلى ما
ظهر فيه ذلك: رفضه صلى الله عليه وسلم أن يُخَصَّ بماء لم تُجعل فيه الأيدي دون
الناس، وقوله صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه ذلك: «لا حاجة لي فيه،
اسقوني مما يشرب منه الناس» [103] .
ومنها: إردافه صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنهما من عرفة
إلى مزدلفة أمام الخلق وهو من الموالي [104] .
ومنها: وقوفه صلى الله عليه وسلم لامرأة من آحاد الناس يستمع إليها ويجيب
عن سؤالها [105] .
ومنها: تمكن كل أحد من الوصول إليه وقضاء بغيته منه بيسر إذ لم يكن
صلى الله عليه وسلم يتخذ حُجَّاباً يصرفون الناس عنه ويمنعونهم من مقابلته
والتحدث معه [106] .
فكسب صلى الله عليه وسلم بتواضعه الجم قلوب الناس وثقتهم، ونال محبتهم.
ج - رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس:
الإسلام دين الرحمة، وشريعته مبنية على العطف والشفقة في أصولها
وفروعها [107] ؛ ولذا فمن البدهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا رحمة
كما قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) وكما أخبر
صلى الله عليه وسلم عن نفسه بذلك فقال: «إنما بعثت رحمة» [108] .
وفي الحج نرى رحمته صلى الله عليه وسلم في قيادة الناس متجلية في مواقف
كثيرة وصور متنوعة، كان من أبرزها:
إلزامه صلى الله عليه وسلم لمن لم يَسُقِ الهدي من أصحابه بالحل الكامل من
الإحرام، والذي يتضمن إتيان النساء ولبس الثياب ومس الطيب رحمة بالأمة
وتخفيفاً عنها [109] .
ومنها: جمعه صلى الله عليه وسلم لصلاتي الظهر والعصر في عرفات [110] ،
وتأخيره للصلاة حين أفاض إلى مزدلفة [111] حتى لا يشق على الناس بتعدد
النزول، ويتمكن الحاج من إناخة بعيره ووضع متاعه في الموضع الذي سيبيت فيه.
ومنها: إذنه صلى الله عليه وسلم للضعفة في الإفاضة من مزدلفة قبل الناس
ليلاً حين يغيب القمر حتى يتمكنوا من أداء أعمال يوم النحر قبل الناس تخفيفاً عنهم
ووقاية لهم من الزحام [112] .
ومنها: تيسيره صلى الله عليه وسلم على الناس في التقديم والتأخير في
أعمال يوم النحر، وقوله لمن سأله عن ذلك: «افعل ولا حرج» [113] .
ومنها: تخفيفه صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الحاجات كإذنه لعمه العباس
رضي الله عنه بأن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته الحاج [114] ، وإذنه لرعاة
الإبل بأن يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما [115]
ومنها: تركه صلى الله عليه وسلم لفعل الأفضل في أحيان رحمة بالناس
ورفقاً بهم كركوبه في الطواف والسعي واستلامه الحجر بمحجن، وتركه تقبيله
واستلامه باليد، والمشي في الطواف والسعي وهو أفضل لكي لا يصرف الناس
عنه ويضربوا بين يديه [116] .
د - إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى الناس:
وفي الحج نجد أن إحسانه صلى الله عليه وسلم أثناء قيادته للناس لا يحد؛ إذ
ما أنت متأمل في جانب إلا وترى إحسانه فيه بارزاً، وبما أن حصر دلائل إحسانه
صلى الله عليه وسلم في كافة الجوانب أمر يطول وليس بغاية، فسيُقتصر فيما يلي
على أمثلة من ذلك:
إكثاره صلى الله عليه وسلم في الموسم من البذل والعطاء؛ إذ قسم في
المساكين بُدْنَه المائة كلها: لحومها وجلودها وجلالها [117] ، وقسم الصدقة على
الناس في أكثر من موضع [118] .
ومنها: إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى أسامة بن زيد والفضل بن العباس
رضي الله عنهم بإردافهما خلفه على راحلته خلال التنقل بين عرفة ومزدلفة
ومنى [119] .
ومنها: إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى الضعفاء من خلال الوصاية بهم في
خطبه [120] .
ومنها: حرصه صلى الله عليه وسلم على نجاة أمته وقبول الله لها؛ إذ ألح
على الله بالدعاء لها بالمغفرة عشية عرفة وفي مزدلفة [121] ، وحين طلب أحدهم
الدعاء منه عمم دعاءه فقال: «غفر الله لكم» [122] .
ومنها: حرصه صلى الله عليه وسلم على البلاغ من خلال وضوح البيان
والتكرار لما يحتاج إلى ذلك، وتركه تشقيق الأمور؛ إذ اقتصر صلى الله عليه
وسلم في خطبه على بيان أصول الإسلام والمحرمات العظام وبعض القواعد التي
تحتاج إلى مزيد بيان حتى يوعى عنه ويفهم [123] .
ومنها: استجابته صلى الله عليه وسلم لرغبات الناس وتحقيقه لمطالبهم تطييباً
لنفوسهم ومراعاة لخواطرهم [124] .
هـ - صبره صلى الله عليه وسلم على الناس:
جُمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج أنواع الصبر الثلاثة في آن
واحد؛ إذ كان أبر أصحابه رضي الله عنهم بالله، وأعظمهم صبراً في امتثال
الأوامر وفعل القربات حتى يؤديها بطمأنينة وإخبات وخشوع بين يدي مولاه
سبحانه [125] .
كما كان صلى الله عليه وسلم أتقاهم لله تعالى، وأعلمهم به، وأغضبهم له،
وأحفظهم لحدوده، وأبعدهم عن انتهاك حرماته [126] .
أما صبره صلى الله عليه وسلم على الناس وتحمله لمشقة قيادتهم دون ملل أو
سخط أو تضجر فأمر يبهر العقل، ويكفي للتدليل عليه تصور وظائفه صلى الله
عليه وسلم وإدراك حاله في الموسم وواقع من حج بهم.
فأما وظائفه: فقد كان صلى الله عليه وسلم عبداً لله حريصاً على تحقيق
الكمال البشري في التذلل لله والانكسار بين يديه سبحانه، وأداء النسك على وجهه.
وكان صلى الله عليه وسلم قائداً للناس وراعياً لهم ومسؤولاً عن أحوالهم
واجتماع كلمتهم.
وكان صلى الله عليه وسلم معلماً مرشداً لتلك الأفواج الضخمة من البشر
ومربياً لها على الخير، يختلج في صدره حرص شديد على تحقيق الكمال في تبليغ
الرسالة وبيان الأحكام.
و رفقه صلى الله عليه وسلم بالناس:
وفي الحج بان رفقه صلى الله عليه وسلم بالناس أثناء قيادته لهم في مواقف
عدة:
منها: استظلاله صلى الله عليه وسلم وركوبه في التنقل بين المشاعر، وغير
ذلك من جوانب اليسر التي لو فعل صلى الله عليه وسلم خلافها لكان على العباد في
التأسي به مشقة عظيمة [127] .
ومنها: ركوبه صلى الله عليه وسلم أثناء أداء بعض المناسك كالطواف
والسعي خشية أن يُدفع عنه الناس ويُضربوا بين يديه [128] .
ومنها: بروزه صلى الله عليه وسلم للناس طوال الموسم لكي لا يشق على
الناس تأسيهم به أو سؤاله عما يشكل عليهم [129] .
ومنها: تخفيفه صلى الله عليه وسلم على الناس وعدم تكليفهم من الأمر فوق
ما يطيقون، سواء من جهة أعمال النسك أو من جهة قيادته الحجيج وتوليه أمرهم،
وهذا جلي لمن تأمل سيرته صلى الله عليه وسلم في الحج [130] .
ومنها: عدم قربه صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد طوافه بها طواف القدوم
حتى رجع من عرفة [131] ، واستقراره صلى الله عليه وسلم على الصحيح بمنى في
أيام التشريق، وعدم خروجه منها إلى الحرم إلا حين أراد الوداع، وفي ذلك من
الرفق ما هو ظاهر [132] .
ومنها: اختياره صلى الله عليه وسلم للأيسر دوماً؛ كما تقدم من أمره صلى
الله عليه وسلم من لم يَسُقِ الهدي من أصحابه رضي الله عنهم بالحل، وجمعه صلى
الله عليه وسلم للصلوات في عرفة ومزدلفة، وقصره للصلاة بمنى [133] .
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بالرفق بأنفسهم،
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين رأى رجلاً يسوق بدنة وهو يمشي:
«اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك في
الثالثة أو في الثانية» [134] .
الثالث: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أهله:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أرعى الخلق لقريب، وأحناهم على رحم،
وأكثرهم إحساناً إلى أهل، شهد المخالطون له صلى الله عليه وسلم بذلك، فوصفه
واصفهم بأنه صلى الله عليه وسلم كان «أبر الناس وأوصل الناس» [135] .
وفي الحج تجلى بره بأهله، وصلته صلى الله عليه وسلم لرحمه، وإحسانه
إلى أقاربه في صور شتى ومشاهد مختلفة، ومن الأهمية بمكان الإشارة قبل تعداد
شيء من ذلك إلى أن أهل بيت النبوة رضي الله عنهم قد شاركوا الناس فيما أفادهم
به صلى الله عليه وسلم، ومن دلائل ذلك قول عائشة رضي الله عنها مخاطبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سمعتك تقول لأصحابك ما قلت؛ فمنعت
العمرة» ، بل إن المتأمل في أمر النسك يجد أن كثيراً من أحكامه منقول عنهم،
وذلك لما كان لهم رضي الله عنهم من مزيد لصوق به صلى الله عليه وسلم
واختصاص دون الناس، ولعل من أبرز أحواله صلى الله عليه وسلم معهم ما يلي:
1 - تعليمهم أحكام النسك:
اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم أهل بيته أحكام النسك ليصفو لهم
تقربهم، وتصح منهم عبادتهم، ومن دلائل ذلك:
ما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: أهلُّوا يا آل محمد بعمرة في حج» [136] ، وقوله صلى الله
عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت قبل أن تطوف بالبيت: «افعلي ما
يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» [137] ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأغيلمة
بني عبد المطلب ليلة مزدلفة: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» [138] ، وما
روي عنه صلى الله عليه وسلم حين قالت له عائشة رضي الله عنها: ألا نبني لك
بيتاً يظلك بمنى؟ فقال: «إنما منى مناخ من سبق» [139] .
2 - مواساتهم ومراعاة خواطرهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يواسي أهل بيته حين كان الأمر يقع على
خلاف ما يشتهون، ويراعي خواطرهم؛ فيفعل ما يريدون إذا كان الأمر لا يعارض
مراد الله تعالى، وأبرز ما كان هذا الأمر مع زوجه عائشة رضي الله عنها وذلك
حين دخل عليها وهي تبكي؛ لأنها مُنِعَتِ العمرة المفردة بسبب الحيض، فواساها
صلى الله عليه وسلم قائلاً: «فلا يضركِ، أنت من بنات آدم، كتب الله عليك ما
كتب عليهن، فكوني في حجتك عسى الله أن يرزقكها» [140] ، وحين قالت رضي
الله عنها: «يا رسول الله! أترجع صواحبي بحج وعمرة وأرجع أنا بالحج؟ فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، فذهب بها إلى التنعيم،
فلبَّت بالعمرة» [141] .
3 - الرفق بهم والتيسير على ضعيفهم وصاحب الحاجة منهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم في الحج رفيقاً بآل بيته، رحيماً بهم، يحن
على ضعيفهم ويختار الأيسر لهم، ويعطف على صاحب الحاجة منهم ويخفف عنه،
والشواهد الدالة على ذلك عديدة، منها:
اختياره صلى الله عليه وسلم الأيسر لزوجاته وأمرهن به، كما في حديث
حفصة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن
عام حجة الوداع» [142] .
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لما دخل على ضباعة بنت الزبير رضي
الله عنها وهي وجعة: «حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث
حبستني» [143] .
4 - إزالة ما لديهم من منكر:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تنقية آل بيته رضي الله عنهم من
المعاصي، وتصفيتهم من المنكرات؛ فكان إذا وقع أحدهم في منكر أنكر عليه،
وصرفه عنه، ومن ذلك إنكاره صلى الله عليه وسلم العملي على الفضل بن العباس
رضي الله عنهما النظر إلى المرأة الخثعمية التي جاءت تسأل النبي صلى الله عليه
وسلم ومنعه له من الاستمرار في ذلك [144] ، بل إنه صلى الله عليه وسلم جعل من
آل بيته في هذا الجانب قدوة للناس، ومن ذلك حين قام صلى الله عليه وسلم خطيباً
في وسط الناس بعرفة فقال: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع،
ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا: دم ابن ربيعة بن
الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول
ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله» .
5 - تشجيعهم على الخير وحثهم عليه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث آل بيته رضي الله عنهم على فعل
الطاعات، ويشجعهم على التزود من الخيرات، ومن ذلك: أنه حين مر على بني
عمومته، وهم ينزعون الماء من بئر زمزم ويسقون الناس خاطبهم قائلاً:
«انزعوا بني عبد المطلب؛ فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت
معكم» [145] ، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان ييسر لهم ذلك، ومنه: إذنه لعمه
العباس رضي الله عنه بالبيتوتة بمكة ليالي أيام التشريق من أجل سقايته
الحجيج [146] .
6 - وقايتهم من الفتن:
الفتن مفسدات للقلوب، مزيغات للألباب، وحين تجتمع الأعداد الغفيرة من
الذكور والإناث تكون الفرصة مهيأة لحصولها، وبخاصة فتنة النساء، ولذا نجد
النبي صلى الله عليه وسلم يخاف على آل بيته رضي الله عنهم في الحج منها؛
ويحرص صلى الله عليه وسلم على حمايتهم عند تعرضهم لها، ومن الشواهد الدالة
على ذلك:
إسدال نسائه صلى الله عليه وسلم بحضرته للجلابيب على وجوههن وهنَّ
محرمات عند محاذاة الرجال لهن، فإذا جاوزوهن كشفن [147] .
ومنها: توجيهه صلى الله عليه وسلم لنسائه بعدم مخالطة الرجال في الطواف
مع أنهن رضي الله عنهن كن يطفن معهم، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه
وسلم لأم سلمة رضي الله عنها: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» [148] ،
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي
على بعيرك والناس يصلون ففعلت ولم تصلِّ حتى خرجت» [149] ، وكما يفهم ذلك
من حديث ابن جريج قال: «أخبرني عطاء إذْ منع ابن هشام النساء الطواف مع
الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟
قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري! لقد أدركته بعد الحجاب، قلت:
كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف
حَجْرَة من الرجال لا تخالطهم، فقالت: امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين! قالت:
عنك. وأبت، فكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا
دخلن البيت قُمْن حتى يدخلن، وأخرج الرجال» [150] .
7 - الإحسان إليهم:
تعددت وجوه إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى آل بيته وتنوعت بصورة
جعلت المتأمل يجزم بأن كل أحواله صلى الله عليه وسلم معهم إحسان؛ إذ ما من
جانب إلا وأنت راءٍ أن فضله صلى الله عليه وسلم عليهم ظاهر، وجوده عليهم بيِّن،
ودلائل ذلك فوق الحصر، ومن أوضح ذلك:
حرصه صلى الله عليه وسلم على أدائهم للنسك معه، وإقناعه لمن لم يكن
ينوي منهم الخروج بالمبادرة إلى ذلك، كما في قصة ضباعة رضي الله عنها حين
دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: «أردت الحج؟ قالت: والله ما
أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث
حبستني» [151] .
ومنها: خروجه صلى الله عليه وسلم بجميع نسائه رضي الله عنهن [152] ،
وهو أمر يفوق العدل كما هو جلي لمن تدبر؛ إذ كان بوسعه صلى الله عليه وسلم
أن لا يخرج بواحدة منهن، أو أن يقرع بينهن ويخرج بإحداهن.
8 - الاستعانة بهم واستعمالهم:
استعان النبي صلى الله عليه وسلم بآل بيته رضي الله عنهم، واستنابهم
واستعملهم في بعض أمره، ومن شواهد ذلك:
جعله صلى الله عليه وسلم زوجه عائشة رضي الله عنها تفتل له قلائد بُدْنِه
من صوف كان عندها بالمدينة قبل أن يحرم [153] .
ومنها: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: القطْ لي حصى، فلقطت له سبع
حصيات» [154] .
ومنها: إعطاؤه صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ما بقي من بُدْنِه
لينحرها [155] ، وأمره صلى الله عليه وسلم له بأن يقوم على بُدْنِه، وبأن يتصدق
على الناس بلحومها وجلودها وأجلتها [156] .
ومنها: استسقاؤه صلى الله عليه وسلم من بني عمه حين جاء إليهم وهم
يسقون الناس من زمزم، فقال لعمه العباس رضي الله عنه: «اسقني، فشرب
منه» [157] ، ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
«سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم» [158] .
وبعد:
فإن ما سبق من سطور لا يعدو أن يكون ومضات مشرقة من أحواله صلى
الله عليه وسلم في الحج، كتبت من مقل على عجل، راجياً من ربي قبولها والنفع
بها، لتكون عوناً للسائرين إليه عز وجل على حج مبرور وذنب مغفور،
والموضوع أكبر من أن يحيط به مثلي، وهو بحاجة إلى مزيد بحث، وإمعان فكر،
وتدقيق نظر، أسأل الله أن يهيئ له من يقوم به على وجهه من أهل العلم، إنه
على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى
آله وأصحابه أجمعين.