الافتتاحية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه
ومن سار على هديه، وبعد:
فنحن نعيش في عصر وصلت فيه أمتنا المسلمة إلى حالة من التخلف والفرقة
لم تعرفها من قبل، وقد طال هذا التخلف الدعائمَ الأساسية التي قامت عليها الأمة،
والأركان التي ارتكزت عليها في سابق تكونها، بدءاً بجانب الإيمان وقضية الهوية؛
حيث أصبحت الأمة في الجملة في وقتنا الراهن متَّشحة بهويات غيرها من الأمم،
ففقدت نتيجة ذلك جوهر عقيدتها، وتحلَّت بأخلاق أعدائها وسلوكهم حتى وصل
الحال بطائفة كبيرة من أبناء الأمة إلى التباهي بالتحلي بمنطلقات وأخلاق وسلوك
الأمم الأخرى، والتفاخر بالمبادرة إلى تطبيق ذلك في واقع حياتهم وسيرهم على
منوالها.
أضف إلى ذلك وجود برود ظاهر في انتساب جل الأفراد إلى الأمة، وضعف
بيِّن في اعتزازهم بها وثقتهم بإمكانية نهوضها نتيجة الانبهار برقي (الآخر)
المادي وتقدمه المعرفي وضخامة الفجوة بين أمتنا وبينه في هذا الأمر.
وليس هذا فحسب؛ إذ نُحِّيت الشريعة عمداً عن التطبيق والحكم في الغالب
الأعم، وتم تقزيم مفهوم الدين، والقيام بالفصل بينه وبين جوانب الحياة المختلفة
بدرجات متفاوتة.
كما تم صياغة العقائد الزائفة والمفاهيم المغلوطة والشرائع المشوهة بصورة
بهية وأساليب جذابة مخادعة تساعد على تمريرها وتقبُّل العامة لها، بالإضافة إلى
القيام بفلسفة الدين وعرضه بهيئة تقر الأمر الواقع، وتعطي له شرعية حتى صار
الصواب في كثير من الأحيان انحرافاً والانحراف صواباً.
وتم في جل الأماكن إقصاء العلماء الصادقين والدعاة المخلصين عن مؤسسات
التوجيه الفاعل وأماكن صنع القرار والتأثير في صياغته، وتجفيف منابع الخير،
والكيد الشديد للدعوة والدعاة، ومحاربة ذلك بشتى سبل الحرب المعنوية والمادية
وأقساها.
ولم تؤتَ الأمة في هويتها فقط بل كان من أبرز مقومات تخلفها فقدان كثير
من أبنائها الإخلاص لها، وتصدَّر جل شؤونها صنائع الأعداء من أبنائها، فتعمقت
لذلك التبعية وكثرت حالات تقلبها في أحضان الشرق والغرب بحسب اختلاف
الظروف وتبدل موازين القوى.
وأخطر ما في الأمر أن أصبح آخر ما يفكر به جلُّ الملأ في أمتنا - إن كانوا
يفكرون - هو المحافظة على هوية الأمة وتحقيق مصالحها نتيجة فساد الطويَّة
وتسابق القوم في إرضاء أسيادهم: نشراً لأفكارهم وممارسة لسلوكياتهم وخدمة
لمصالحهم؛ طمعاً في استمرار التصدُّر ونيل المزيد من المآرب.
ومن الإنصاف إثبات وجود طائفة تحمل هوية الأمة، وتمتلك إخلاصاً لها
واعتزازاً بالانتساب إليها، وثقة بقدرتها على النهوض من كبوتها وتجاوز تخلفها
متى استمسكت بدينها وأخذت بسنن الله تعالى في النصر والتمكين، ولكن الذي
يعيب جلَّ أفراد هذه الطائفة أحد أمرين:
الأول: احتقار الذات وعدم ثقة الفرد بقدراته بصورة جعلت منه غاية في
السلبية؛ مما أفقده الحماس الدافع لعمل ما يفيد الأمة ويكون سبباً في رقيها وتجاوز
كبوتها.
الثاني: عدم قدرة كثير من المتحمسين لنهوض الأمة على تحويل حماسهم
والأفكار التي تختلج في صدورهم إلى أعمال مثمرة نتيجة ضعف المعرفة بمقومات
النهوض، أو عدم امتلاك المهارات اللازمة لتحقيقها.
وأياً كانت طبيعة الاختلاف بين فصائل هذه الطائفة وموقف الشرع منها؛ فإن
المؤدى واحد في مجال حديثنا وهو عدم قيام الجميع بالشيء المأمول منهم لرقي
الأمة ونهضتها.
وباختصار: فأمتنا بعد أن هجرت دينها وابتعدت عن هدي ربها نراها قانعة
بالقبوع في ذيل الأمم، وما من جانب من جوانب الحياة تأملتَهُ إلا رأيتَ أن تخلفها
فيه قد بلغ الغاية أو قاربها.
هذا عن الانحطاط والتخلف، أما الفرقة فلا يُعرف عصر من العصور بلغ
فيه الرابط الشرعي بين أفراد الأمة وشعوبها ما بلغه الآن من التفكك والضعف.
ومع المعرفة الأكيدة بأن السبب الرئيسي لذلك التمزق يعود إلى الأمة نفسها مصداقاً
لقوله عز وجل: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) ، إلا أنه لا
يمكن الراصد للوضع بحال إغفال المكر الكُبَّار والدور الضخم لأعداء الأمة
وصنائعهم داخلها في ذلك، والذين مزقوا الأمة تحت رايات القومية بصورها
المختلفة في تارات، وتحت رايات الشعارات الإقليمية الضيقة (الوطنية) في
تارات أخرى، حتى إنه لم يعد يوجد ذكر للرابط الشرعي بين أفراد الأمة في جل
الأوقات إلا في بعض الخطب والبيانات السياسية التي تستلزم ذلك.
وأنكى ما في الأمر أن التشرذم قد جاوز الملأ والعامة إلى العلماء والدعاة
أنفسهم، وأصبح المتأمل في واقع الصحوة يشاهد داء التعصب، والولاء والبراء
من منظور حزبي لا شرعي. وأزمة الثقة، وسوء الظن، وتتبع الزلات تموج في
أوساط الأفراد والمؤسسات والجماعات الدعوية موج البحر.
في ظل هذا الظلام الدامس والواقع المفزع للتوحيد والوحدة والانقياد للشرع
في حياة الأمة يأتي الحج بما يحمل في طياته من توحيد نقي وعبودية حقة؛ بدءاً
من التلبية التي يجيب فيها الحاج نداء ربه ويعلن إفراده - سبحانه - وحده دون
سواه بالألوهية، ومروراً ببقية الشعائر التي يتقصد فيها الحاج مخالفة المشركين
والسير على هدي إمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وما يتضمنه من
صور مشرقة ومعالم وضَّاءة للوحدة؛ إذ الرب المقصود واحد، والدين واحد،
والرسول المتبوع واحد، والزمان واحد، والمكان واحد، واللباس واحد، والشعائر
والأحكام واحدة، ولا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر
على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى.
زد على ذلك ما يشتمل عليه من استسلام تام وخضوع شامل في القصد
والهيئة والزمان والمكان وأداء الشعائر.. يأتي الحج بهذه الهيئة ليكون بمثابة أمل
يطل ونور يسطع على كل غيور بأن الأمة لا تزال حية تحمل في طياتها مقومات
البقاء وإمكانات النهوض والوحدة، وإن اعتورها من العاهات وأصابها من
الأمراض الفتاكة الشيء الكثير، مما يرجى أن يكون في ذلك دافعاً قوياً لكل مخلص
لأمته معتز بهويتها مشفق على واقعها للتركيز على هذا النور الخافت في بحر
الظلمات بدلاً من التيهان في تأمل الظلمة، والقيام بالمحافظة عليه ورعايته حتى
يقوى على مدافعة الظلام ومن ثم إزاحته أو تقليل مساحته؛ لأن الاستمرار في
التباكي دون القيام بعمل مثمر لن يزيد الظلام إلا انتشاراً ولا النور إلا إخفاتاً.
ولعل مما يدفع لذلك أن الحج جهاد وبذل وعمل بنوعيه القلبي والبدني
ونهوض الأمة واجتماع كلمتها وانقيادها لكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم
لن يكون إلا بجهاد وبذل وعمل بنوعيه أيضاً.
وغير خفي التحول الضخم الذي أحدثه الحج في نفوس كثير من الوجهاء
وذوي الشأن في كثير من البقاع عبر التاريخ؛ مما حدا بهم إلى الدعوة إلى الخير
بدلاً من مواجهته والوقوف حجر عثرة في سبيله.
ولعل من التباشير الجالبة للأمل ما هو ملحوظ من عود كثير من العلماء
والدعاة بعد الحج إلى بلدانهم وهم أشد حماساً لدعوتهم، وأكثر استعداداً للبذل
والتضحية في سبيل تمكينها، وما هو مشاهد من تأثير الحج على قطاع كبير من
الحجيج ودفعه إياهم إلى تغيير حياتهم نحو الأفضل بمفارقة ما لديهم من عقائد
مغلوطة وسلوكيات منحرفة وتقصير في طاعة الله عز وجل، وليس هذا فحسب؛
إذ يتجاوز بعضهم أمر الاستقامة إلى الدعوة فيقوم بدور إصلاحي في مجتمعه يدعو
فيه إلى الحق مناصراً أهله، ويقارع الباطل مجابهاً حملته.
وبعد هذا: فيا ترى من يكون له شرف السبق في نهضة الأمة واجتماع
كلمتها؟ ! ويا ترى من يحمل الراية ويقول: أنا لها؟ !
وفَّق الله الجميع للخير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.