المسلمون والعالم
سعيد بن صالح المصلح
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فلعله لم تحظ قضية من الاهتمام بما حظيت به القضية الأفغانية؛ حيث إنها
أول حركة جهادية معاصرة بعد حركات التحرر من الاستعمار رفعت راية الجهاد
وأعادت تلك الفريضة إلى مواقع المسلمين، ودفعتهم إلى إعادة البحث والدراسة في
أبواب الجهاد من كتب الفقه والحديث، ولذا فقد حظيت القضية الأفغانية بالقبول من
المسلمين على مستوى العالم، فبادروا للمشاركة بالنفس والمال والإعلام وبكل
الإمكانات على شكل إجماع لم يقع لقضية أخرى من قضايا المسلمين.
فكم بُذلت من المهج سواء من الشعب الأفغاني الأبي الذي ضحى بأكثر من
مليون ونصف المليون من الشهداء، وخمسة ملايين مهاجر، وأكثر من مليوني
أرملة ويتيم ومعاق؛ أو من الأنصار الذين خرجوا بأنفسهم وأموالهم فلم يرجعوا من
ذلك بشيء، سُفكت دماؤهم، وأنفقت أموالهم ابتغاء مرضاة الله والدفع عن إخوانهم
المضطهدين في أفغانستان، وبعد هذه التضحيات الضخمة اندحر العدو الكافر،
وطوي بساط أكبر دولة تملك ترسانة عسكرية ضخمة، ونكست أعلام السوفييت،
وتفاءل المسلمون بحصول النصر والتمكين، وقيام دولة الإسلام على أرض
أفغانستان.
ولكن الصراع بين الأحزاب الأفغانية خيب آمال المسلمين في العالم، وأحبط
طموحاتهم حتى صاروا يكرهون سماع أخبارهم، فضلاً عن تتبع ما يجري؛ فقد
آلمهم صراع تلك الأحزاب فيما بينهم، فيما لا نجد تفسيراً له سوى الصراع على
السلطة، وإراقة الدماء البريئة، وتدمير البقية الباقية من البنية الأفغانية، تحت
ضغط حب الزعامة واتباع الأهواء.
وقد شَمِت الأعداء من العلمانيين وأسيادهم بما وصل إليه الحال في أول وأكبر
تجربة من أكبر التجارب الجهادية المعاصرة، وأصبحوا يشككون في أمر هذه
الفريضة نعني الجهاد في سبيل الله وفي قدرة المسلمين على الحكم.
ولم تكن الآثار السلبية خاصة بالقضية الأفغانية والشخصيات القائمة عليها،
بل حاول العلمانيون أن يلصقوا كل ما يجري بأحكام الشريعة الغراء، واستغلوها
فرصة للتنفير من الدين عموماً والجهاد بصفة خاصة، وقد نجحوا في ذلك إلى حد
بعيد.
وفي الوقت الذي يتطاحن فيه قادة الأحزاب على كابل، وقد تحالف كل منهم
مع أعداء الأمس من الشيوعيين الذين لم تجف أيديهم بعدُ من دماء المسلمين،
تتحقق سنة الله الماضية فيحصل الفشل نتيجة التنازع، ثم الاستبدال. [وَإِن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ] (محمد: 38) .
خلال أوضاع الحرب بين الأحزاب أهملت المحافظات وأصبحت نهباً
للعصابات وقطاع الطرق، وأصبحت الفوضى وانعدام الأمن هي السمة السائدة،
وأصبح الناس لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم ولا على أعراضهم،
وارتفعت أسعار المواد الأساسية لكثرة الضرائب التي تأخذها العصابات في الطرق
من التجار، والتي يدفعها في النهاية المواطن المسكين، وأصبحت الفرصة متاحة
لأصحاب الشر والفساد من الشيوعيين السابقين وغيرهم من المجرمين، فأصبحوا
يسرحون ويمرحون في البلاد من غير رقيب ولا حسيب، يبتزون الناس بأخذ
أموالهم والعبث في أعراضهم وإتلاف نفوسهم.
ولكن الله برحمته الواسعة، لم يكن ليمكِّن الأعداء من قطف ثمرة الجهاد بعد
كل هذه التضحيات، وبعد كل الآمال التي عُلِّقت بهذه القضية، وما كان الله ليضيع
تلك الجهود من الدماء والأموال وأنواع البذل وصور العطاء، فقيض الله تعالى
بعض طلبة العلم من المجاهدين الذين اعتزلوا الفتنة وتجنبوا الصراع بين القادة،
وآلمهم ما يجري على أرضهم، فتحركوا بهدف كف المعتدين وبسط الأمن، ونشر
الشريعة، فرفعوا لواءاً يتكون من ثلاثة محاور:
1 - توفير الأمن والقضاء على الفساد والمفسدين.
2 - توحيد البلاد تحت قيادة واحدة.
3 - تحكيم الشريعة كاملة في جميع أنحاء البلاد.
وهنا جاءت الطالبان التي وُلدت من رحم المعاناة، والشعب الأفغاني يترقب
المُخلِّص أياً كان. جاءت الطالبان وبتوفيق من الله تعالى لتمتد كالريح في محافظات
أفغانستان واحدة تلو الأخرى، أغلبها من غير قتال، ساعدها في ذلك عامل جذب
من الشعب الذي وثق في هذه القوة الجديدة لتنقذه من حياة التفرق والصراع والخوف
الذي أحاط به، وعامل نجاحهم في تحقيق طموح الشعب في المحافظات التي سيطر
عليها، وقد كانت المحافظات تسقط بين أيديهم قبل أن يصلوا إليها، حيث كان
الشعب ينتفض على حكام الولايات ويسلمها لطالبان.
وامتدت الطالبان كالغيث بما يحمله من خير، وبما فيه من رعد وبرق
وصواعق، فأسقطت القوة الكبيرة في المنطقة؛ وبخاصة قوات الميليشيا الشيوعية،
وقوات الرافضة والإسماعيلية، وسيطرت على 90% من أرض أفغانستان،
وزالت الأحزاب أو كادت من على الخارطة الأفغانية.
جاءت الطالبان وأمامها مجموعة كبيرة من التحديات؛ فماذا صنعت؟ وهل
يمكن للطالبان أن تستنقذ ثمرة الجهاد من الضياع؟
جاءت الطالبان وأمامها مجموعة من التحديات؛ من أبرزها:
* انعدام الأمن وعموم الفوضى في البلاد.
* وجود قوى كثيرة متنازعة.
* البنية التحتية مدمرة.
* انتشار الجهل والفقر والمرض في صفوف الشعب.
* تعطيل الشريعة مع كثرة الفرق والطوائف والمذاهب الفكرية المنحرفة.
لقد بدأ الطالبان في مواجهة كل هذه التحديات بجدية وقوة. فبالنسبة للأمن
فكل من زار أفغانستان لا يمكن إلا أن يسلم لهم بذلك، فقد استتب الأمن وعم الهدوء
المناطق التي يسيطر عليها طالبان، وأصبح الناس ينتقلون في قضاء حوائجهم بكل
راحة واطمئنان، مما لم تشهد أفغانستان مثله منذ عقود طويلة، وهذا ما شهد به
العدو قبل الصديق.
واستطاعت الطالبان القضاء على غالبية القوى الموجودة ولم تبق إلا
المعارضة الشمالية المحاصرة في مناطق محدودة، والطالبان جادة في معالجتها
وتطهير جيوب المقاومة من تلك المناطق، مع أن المعارضة مدعومة من الخارج.
وقد أعلنت الطالبان تحكيم الشريعة في جميع شؤون الحياة، وأصدروا
مجموعة من القرارات الشجاعة في قضية المرأة وحمايتها من الانحراف؛ فقد قال
الملا عمر: «نحن لسنا ضد تعليم المرأة، لكننا نريد أن نضبط تعليمها بالضوابط
الشرعية» ، وأصدر أهم قرار في تاريخ أفغانستان يُرجِع للمرأة كرامتها وحقوقها
ويمنع ما كان سائداً من عادات مخالفة للشرع تقضي بأن المرأة إذا مات زوجها
يرثها ذووه ويتزوجها أحدهم ولو كانت كارهة. وأصدر قرارات متتابعة بمنع
زراعة المخدرات وإنتاجها واستعمالها في أفغانستان، التي ظلت عبر التاريخ في
مقدمة البلاد المصدرة لهذه المادة الخبيثة.
ولم يكتف الطالبان بالأقوال والقرارات؛ بل حوَّلوا ذلك إلى واقع يعيشه الناس،
فأقاموا الشرع بينهم، وحاربوا الشرك، ومنعوا الطواف بالقبور أو تقديم القرابين
لها، ووضعوا عليها سياجاً بمنع الدخول إليها، ومنعوا بعض البدع، وحاربوا
بعض صور الشعوذة، وخصصوا وزارة كاملة للحسبة والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وطهروا أجهزة الدولة من الشيوعيين، وقضوا على أوكار الفساد
ودور السينما، وبيوت الدعارة وحانات الخمور، ووضعوا برنامجاً لإصلاح التعليم
وأسلمة المناهج.
ويقومون الآن بمحاولة ترميم البنية التحتية وإصلاحها، وتشييد الجسور وبناء
السدود، وتعبيد الطرق المهمة، ورفع مستوى الخدمات الصحية، وتحسين الوضع
الاقتصادي، ورفع المستوى المعيشي للفرد، كل ذلك من منطلق شرعي، بحسب
ما تمليه عليهم الشريعة التي تعاهدوا على تحكيمها.
عندما يحدث كل ذلك فإنه يمثل مؤشرات واضحة الدلالة على حقيقة حركة
طالبان وحقيقة أهدافها وغاياتها، وعن مدى جديتها. لقد قدمت الحركة حلاً لقضية
أفغانستان المستعصية، ونجحت حيث أخفق الآخرون، وثبتت حين نكصوا،
ووفَّت حين خانوا، وصبرت حين جزعوا، ولم تفلح كل محاولات الإغراء
والإغواء في ثنيها عن الطريق الذي رسمته لنفسها، حين يقول أميرها بملء فيه
رداً على الحصار والتضييق والمساومة: «إن المبادئ الإسلامية للإمارة الإسلامية
غير قابلة للتفاوض أو المساومة عليها مع أي كان» .
إنهم لم يصلوا إلى هذا المستوى بكل سهولة ويسر؛ ولكنهم دفعوا الثمن غالياً
ليستنقذوا ثمرة الجهاد التي أوشكت على الفوات. كم بذلوا من الدماء والأموال
والجهود والمعاناة وقد صحبهم توفيق الله وإعانته؛ وإلا لم يكن لهم أن يحققوا عُشر
ما حققوه بجهودهم الذاتية.
قاموا بذلك كله في الوقت الذي فرض عليهم الحصار، وحل ببلادهم الجفاف
واشتد في مناطق منها حتى تحولت الأنهار المتدفقة إلى بلاقع يعلوها الغبار،
واشتدت عليهم الأمور في كل جانب، ولكنهم ساروا على الطريق الذي ارتضوه لا
يلوون على شيء، فكان من جراء ذلك أن رُمُوا عن قوس واحدة، وبخاصة قائدة
الإرهاب العالمي والعدوة الأولى للإسلام (أمريكا) فضربتها بالصواريخ، وفرضت
عليها أنواعاً من الحصار والعقوبات تحت مظلة الأمم المتحدة.
إن الشعب الأفغاني اليوم يدفع ضريبة جهاده، وإحيائه لهذه الفريضة الغائبة
في تاريخ المسلمين المعاصر.
إن الغرب الكافر وعلى رأسه أمريكا تريد لهذه التجربة الجهادية الضخمة
الهزيمة، وتريد التنكيل بذلك الشعب الذي تبنَّى الجهاد وتحمَّل في سبيل الله ما
تحمل ليكون عبرة للشعوب المسلمة، وإلا فلماذا الحصار للشعب الأفغاني؟ !
ألا يكفي ما حل به من ويلات وما يعيشه من معاناة؟ وهل محاصرة الشعوب
وتعريضها للقتل البطيء، والتستر خلف الشرعية الدولية ومحاربة الإرهاب يُخلِّي
أمريكا من المسؤولية ثم هي اليوم تقف بكل إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية
والسياسية والإعلامية مع العدو اليهودي المحتل لمقدسات المسلمين الذي يقتل
الأطفال وينكل بالعزل المستضعفين، ويدمِّر البيوت على أصحابها؛ فأين من يوقف
أمريكا عند حدها؟ ! أين مجلس الأمن؟ ! أين الأمم المتحدة؟ ! إنه ليس غريباً أن
يقوم الكفار بمحاصرة الشعوب المسلمة، ومعاداة من ينادي بتطبيق الشريعة،
والضغط عليهم حتى يتخلوا عنها، لكن الغريب سكوت الشعوب المسلمة على هذا
الحصار الظالم، وعدم السعي لخرقه بكافة الوسائل، ودعم المسلمين ورفع معاناتهم
وإن سَخِط الكفار وأذنابهم.
مهما كانت المسوغات والمعوقات فإن من المهم استكمال الجهاد ومتابعة الأمر
حتى تقام دولة الإسلام على أرض الأفغان، ولا بد من تحمل المعاناة في ذلك،
والوقوف مع الشعب الأفغاني الذي عانى الكثير ولا يزال يعاني مرة على يد أعدائه
ومرات على يد أبنائه.
واليوم وقد جاءت حكومة طالبان لتستنقذ ثمرة الجهاد وتحافظ على المكتسبات،
وبدأت تطرح تطبيق الشريعة بكل قوة وثقة، والواقع يحتم إعطاءها فرصة
إصلاح الأوضاع يوماً بعد يوم، وأمام هذه الهجمة الشرسة من قِبَل الكفار فإنه قد آن
للشعوب المسلمة التي شاركت في الجهاد وبذلت فلذات أكبادها وحُرَّ أموالها وهمَّها
وجهدها، آن لها أن تشارك في استنقاذ ثمرة الجهاد بعد أن أوشكت على الضياع،
وآن لها أن تحيي الأمل بعد أن كاد يتحطم على صخرة الصراعات بين القادة.
إنها دعوة لكل المخلصين أن يراجعوا مواقفهم من حكومة طالبان، ويعيدوا
حساباتهم وتقييمهم للحركة، وألا يعتمدوا أقوال خصومهم.
ثم هذا الشعب المسلم الذي طالت معاناته وما زالت، ألا يستحق منا التفاتة
لمواساته ومداواة جراحه الغائرة، وكفكفة عبراته المهراقة. إنه لا أحد اليوم يتحدث
عن الحصار الظالم على الشعب الأفغاني المسلم فضلاً عن أن يوجد من يسعى إلى
كسر الحصار والوقوف مع معاناة هذا الشعب المسلم.
فلنساهم في دعم الدولة المسلمة التي تسعى إلى تحكيم الشريعة كاملة على
أرض الواقع، ولنقف مع هذا الشعب الأبي الذي دفع الكثير وعانى الكثير، من
خلال المشاريع التالية:
أولاً: دعم حكومة الطالبان من جميع الجوانب السياسية والاقتصادية
والإعلامية والاجتماعية.
ثانياً: دعم مشروع إعادة البنية التحتية المدمّرة في الجوانب الصحية
والتعليمية والزراعية والخدمية.
ثالثاً: دعم المشاريع الإغاثية كحفر الآبار، وكفالة الأرامل والأيتام، وتوزيع
المواد الغذائية.
رابعاً: العناية بالمشاريع الموسمية كإفطار الصائم والأضاحي.
إن كل مسلم يجب عليه أن يقف مع إخوانه في معاناتهم، وبخاصة وقد رُموا
عن قوس واحدة، والعلماء والدعاة وأبناء الحركة الإسلامية يتعين عليهم ما لا يتعين
على غيرهم؛ فليقم كل بما يستطيع؛ فإن الحجة قد قامت، ولا يسع المسلم إلا أن
يؤدي حق الله عليه.
«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى
منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [1] .