المسلمون والعالم
سيان بين أن نصمت الآن أو أن ندين بعد فوات الأوان
د. جاسم محمد إبراهيم
لقد أدى الحصار الشامل على العراق منذ أكثر من عشر سنوات إلى قتل مئات
الآلاف من الأطفال الأبرياء وكبار السن والمرضى، كما أدى إلى تخريب النُظُم
الصحية والتعليمية، وتدمير نُظُم الصرف الصحي التي أدت بدورها إلى زيادة
مخيفة في نسبة الأمراض المعدية، مع توقف عجلة الاقتصاد وزيادة في البطالة،
وتفشي الفقر؛ فهو تدمير منظَّم مقصود للنسيج الاجتماعي للشعب العراقي.
وهو كما وصفه (دينس هاليداي) المنسق السابق لبرنامج النفط مقابل الغذاء
والذي استقال من منصبه احتجاجاً على بقاء الحصار، يقول: «الحصار عملية
تدمير لشعب بأكمله هذه هي حقيقة بسيطة ومرعبة» .
هناك جملة من الحقائق عن الحصار يجب وضعها لتقييمه وَفْق المنظومة الأخلاقية
الإسلامية وهي:
1 - إن الحصار مفروض من قِبَل أعداء الأمة الإسلامية بدون أدنى شك.
2 - الحصار لم يحقق ولا يحقق الأهداف التي وُضع من أجلها، وهي على
كل حال أهداف سياسية وضعها الأعداء ضد بلد مسلم.
3 - الحصار ألحق أضراراً ودماراً فادحاً بالمناحي النفسية والجسدية للشعب
العراقي.
4 - الحصار يستهدف الشرائح الضعيفة والفقيرة وذوي الحاجة والعجزة.
5 - يُستخدم الحصار وسيلة لفض النزاعات الدولية بعد الدبلوماسية، وقبل
استخدام القوة، والحصار فُرض على العراق قبل الدبلوماسية، وأثناء استخدام القوة
وبعدها ومعها ولعشر سنين وما زال.
6 - الحصار مرفوض من قِبَل أبناء الشعب العراقي جميعاً أفراداً وجماعات.
إن هذا الحصار ليس هجوماً بربرياً على شعب بأكمله فحسب؛ بل هو اعتداء
صارخ على معاني الخير والفضيلة والقيم الإيمانية، وهذا الهجوم يحدث من قادة
وإدارات ودول فقدت كل صلة بنور الله، وأنَّى لبشر متحضر يعيش حياة طبيعية
في رخاء ونعمة يمارس أو يتفرج على عمل في غاية القسوة والوحشية ضد النساء
والأطفال والشيوخ والمرضى الذين لا حول لهم ولا قوة، وهم ليسوا طرفاً في أي
استفزاز فضلاً عن أن يرتكبوا جريمة بحق أحد؟ !
إن المنظومة الأخلاقية الإسلامية التي تعلمناها، والتي تشكل بمجملها طريقة
للحياة في المشاعر والأفكار والسلوك هدفها الدفاع عن معاني الخير والحق،
ومحاربة سبل الشر والباطل، وهذه المنظومة الأخلاقية هي التي تجعل قتل نفس
بريئة واحدة كقتلها للناس جميعاً تدين هذا الحصار الشامل دون أدنى تردد أو تحقيق.
لكن كيف يمكن تسويغ صمت المؤسسة الإسلامية الرسمية وغير الرسمية على
حرب إبادة جماعية بحق شعب مسلم؟ !
وكيف يمكن أن تمر هذه الظاهرة التاريخية الفريدة وغير الاعتيادية، وتسير
الحياة الإسلامية سيراً اعتيادياً، ولا تتغير المشاعر والأفكار والسلوك؟ !
كيف يمكن أن نفسر هذه الظاهرة؟
أَلأن الأنانية والأنا فقط هي التي شاعت وأغلقت الإحساس والمشاعر دون
إدراك بما يعانيه الآخرون، وأن الألم والأذى لا يُحس إلا إذا وقع على الأنا؟ ! إذن
كيف تُبنى علاقة إنسانية والإسلام يريدها أخوية أساسها المشاركة مع الآخر الذي له
نفس الحقوق والتكريم من قِبَل خالقه العظيم، وإن هذا التكريم والحق مقدسان لا
يجوز المساس بهما؟ !
أم أن الكبر والاستغناء هما اللذان يعطيان الإنسان إحساساً بالقدرة على
اكتشاف أسرار الكون وتسخيره، وأن يحيا وجودياً مستغنياً بنفسه عمن سواه؟ !
والله خلق الإنسان غير مكتف بذاته، عاجزاً مفتقراً لغيره في حياة أساسها الأخذ
والعطاء، وإن صِفَتَي العجز وعدم الاكتفاء تضعان عبئاً أخلاقياً خطيراً تجاه الآخر
عند وقوع الحاجة والعجز.
أم أن القسوة ونزع الرحمة من القلوب باتت أساساً للتعامل؟! ونبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم يُمثل التواد والتراحم بين المسلمين كالجسد إذا اشتكى عضو
كان رد الفعل سهراً وانفعالاً محموماً لا يفتر حتى ثبتت معاني الطمأنينة والسلام في
القلوب، وإلا فكيف يتحقق السلام تحية الإسلام في معادلة أحد طرفيها يعاني ويتألم
ويموت، والآخر متخوم لاهٍ في الحياة؟! أم ليس كل الذي ذكرنا؛ لكن الضمير
المؤمن الذي ليس لأحد عليه سلطان إلا الله، أُخضع لمنطق القوة والبغي
والطغيان؟!
لقد بيَّن الحصار خللاً عميقاً في الشخصية المسلمة في عصرنا الراهن، ونحن
بحاجة ماسة وسريعة إلى إعادة النظر في طرائق التعليم والتربية في مختلف
مراحلها لإعادة تشكيل المشاعر والفكر والسلوك للصغير والكبير، للمتعلم والأمي،
وكافة شرائح المجتمع، حتى تحصل له استجابة إنسانية صحيحة، وإدانة واضحة
عندما يواجه جريمة نكراء أو اعتداءاً أثيماً أو خطأً جسيماً.
الإدانة في الدين ليس معناها منشوراً يوزع أو خطبة تلقى فيستريح الضمير
وترفع عن الكاهل المسؤولية، كلا، إنها عملية إيجابية تحفز المشاعر والعقول
والسلوك بصورة مستمرة يومياً إلى أن يتحقق أمران: أولهما: تحقيق العدل وإزالة
الظلم، وثانيهما التأكد من عدم تكرار هذا الظلم على أي أحد مستقبلاً.
ويتم تحفيز هذه المنظومة الأخلاقية الخيِّرة من خلال الزيارة لمسرح المعاناة،
الكتابة، الخطابة، إصدار الفتوى، الاعتصام، الاحتجاج، مقاطعة بضائع الدول
الفارضة للحصار، وأساليب إنسانية وشرعية كثيرة أخرى.
إن هذا الحصار الدامي الطويل الذي ُيذكِّر بحصار شِعْب أبي طالب للعصبة
المؤمنة الأولى يضع كثيراً من القيم والمبادئ التي نحملها تحت المساءلة والتحقيق؛
فعلماء الأزهر الشريف، ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي،
ومجمع البحوث الفقهية، وقادة الجماعات الإسلامية، وعلماء الشرع الحنيف،
الكتَّاب، الشعراء، المثقفون والصحفيون المسلمون مدعوون جميعاً لفحص خفايا
الأنفس والضمائر، والتحقق من الأفكار ومواجهتها مواجهة شجاعة صادقة،
وعرضها على المبادئ والقيم التي يحملونها ثم مقارنتها بما يحصل في هذه الجريمة.
إن عدم القيام بهذا العمل واتخاذ الموقف المسؤول معناه أننا لا نحس بمعاناة
ضعفاء المسلمين والأخطار المحدقة بهم؛ وعندها يصبح الأمر سيَّان: أن نصمت
الآن، أو أن ندين بعد فوات الأوان. فهذه والله مأساة نحن مسؤولون عنها أمام الله،
والله نسأل أن يلطف بشعب العراق، وأن يجازي كل من تسبب في حصاره
ودمار مقدَّراته.