حوار
حوار مع فضيلة الشيخ محمد بن إسماعيل العمراني
يجب على المسلم أن ينصف من نفسه.. لا أن يعتقد ثم يبحث
أجرى الحوار: بشير البعداني
ضيفنا في سطور
القاضي محمد بن إسماعيل العمراني أقرب علماء اليمن إلى الإمام المجدد شيخ
الإسلام محمد بن علي الشوكاني. يأسرك بحديثه المسترسل السهل وبأسلوبه
القصصي، زادته الأيام حكمة وخبرة في مجال الفتيا، رغب في إجراء الحوار في
المكان الذي تعوَّد أن يلقي فيه درسه اليومي بمسجد الزبيري قبل صلاة الظهر؛
ولولا أن الوقت ضاق بنا لقضينا معه وقتاً أطول، ولجنينا منه فائدة أكبر، وإليكم
تفاصيل الحوار.
البيان: فضيلة الشيخ محمد بن إسماعيل العمراني: في البداية حبذا لو
أعطيتم القارئ الكريم نبذة مختصرة عن حياتكم ومشايخكم ومؤلفاتكم؟
* ولدت عام 1340هـ الموافق 1922م، وقد درست الابتدائية والإعدادية
في المدارس التي وجدت قبل سبعين عاماً، وحصلت فيها على شهادة من مدرسة
الفليحي وأخرى من مدرسة الإصلاح، ثم بدأت بعد ذلك في دراسة علوم اللغة
العربية والعلوم الشرعية كالفقه والحديث والتفسير والفرائض والنحو والصرف
والمعاني والبيان وغيرها؛ وذلك على يد عدد من العلماء منهم: القاضي العلاَّمة
عبد الله حُميد، والعلاَّمة أحمد بن محمد زبارة، والعلاَّمة الحسن بن علي المغربي،
وعلي بن حسن المغربي، وعبد الله بن عبد الكريم الجرافي، والعلاَّمة عبد الله
بن محمد السرحي، وغيرهم من علماء صنعاء الذين أجازوني جميعاً بجميع ما صح
لهم: سماعاً وقراءة وإجازة عن مشايخ الإسلام رضي الله عنهم أجمعين.
كما أجازني جماعة من علماء اليمن كالعلاَّمة قاسم بن إبراهيم بن أحمد،
والعلاَّمة عبد القادر بن عبد الله، والعلاَّمة أحمد بن أحمد الجرافي، والعلاَّمة محمد
بن محمد زبارة، والعلاَّمة عبد الواسع الواسعي مؤلف كتاب: (الدر الفريد
الجامع لما تفرق من الأسانيد) ، والعلاَّمة محمد بن حسن الأهدل صاحب
مدينة (المراوعة) ، والعلاَّمة محمد بن محمد السماوي، وعبد الرحمن
الإمباري من علماء زبيد، والعلاَّمة منصور عبد العزيز نصر من علماء مدينة
(تعز) ممن أحسن الظن بي، كما قرأت على العلاَّمة محمد بن علي
السراجي، والعلاَّمة البهلولي، والعلاَّمة علي بن هرار الدبب، والقاضي العلاَّمة
يحيى بن محمد الإرياني، والعلاَّمة عبد الكريم بن إبراهيم الأمير، والعلاَّمة عبد
الخالق بن حسين الأمير، والعلاَّمة علي بن عبد الله الأنسي، والعلاَّمة عبد الوهاب
الشماحي، والعلاَّمة أحمد بن علي الكحلاني، والقاضي أحمد بن لطف الزبيري.
وأقرب سند لي إلى شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ما أرويه عن
القاضي عبد الله حُميد عن شيخه العلاَّمة علي السدمي عن شيخه جدي القاضي محمد
بن محمد العمراني عن شيخه شيخ الإسلام الشوكاني جميع ما حواه ملف الشوكاني
هو كتاب: (إتحاف الأكابر في مسندات الدفاتر) ، وأيضاً أقرب الأسانيد إلى الإمام
الشوكاني ما أرويه عن القاضي عبد الله الجرافي عن المولى العلامة حسين بن علي
العمري عن العلاَّمة إسماعيل بن محسن بن عبد الكريم بن إسحاق عن شيخ الإسلام
الشوكاني بسنده المعروف في (إتحاف الأكابر) ، ولي سند قريب آخر وهو ما
أرويه عن العلاَّمة قاسم بن إبراهيم بن أحمد عن القاضي العلاَّمة إسحاق المجاهد
عن جدي القاضي محمد بن محمد العمراني عن شيخ الإسلام الشوكاني بسنده
المعروف.
وأيضاً من جملة أسانيدي القريبة إلى السيد العلاَّمة محمد بن إسماعيل الأمير
الصنعاني صاحب المؤلفات المشهورة ما يرويه جدي العمراني عن السيد العلاَّمة
عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني عن والده الإمام العلاَّمة البدر محمد
بن إسماعيل الأمير بسنده المعروف في (إتحاف الأكابر) ، وفي غيره من الأسانيد.
كما أروي عن شيخي العلاَّمة عبد الواسع بن يحيى الواسعي جميع ما تضمنه
كتابه (الدر الفريد) من المقروءات والمسموعات والإجازات عن علماء اليمن
وحضرموت والهند ومصر والشام وغيرهم من علماء الأقطار؛ كل ذلك قد
أجازني به مشايخي، ومن جملة ما أرويه عن شيوخي المذكورين سابقاً الحديث
المسلسل المروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وكذلك الأحاديث المسلسلة
بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لي مؤلفات إلا بعض الرسائل
والمجاميع؛ لكن طُبع لي كتاب تحت عنوان: (نظام القضاء في الإسلام) ، وهو
محاضرات كنت قد ألقيتها في المعهد العالي للقضاء عن القضاء في العصر الجاهلي،
وعصر النبوة، والخلفاء الراشدين، وتاريخ القضاء أيام الخلفاء الأمويين
والعباسيين، ثم المماليك، ثم القضاء في اليمن، فقام المعهد العالي للقضاء بجمعها
في هذا الكتاب.
البيان: شهدت اليمن في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين حركة
فكرية لا مثيل لها في البلاد الإسلامية، وكان من رواد هذه الحركة القاضي محمد
بن علي الشوكاني، فما هي أبرز ملامح التجديد لدى الشوكاني؟
* في كل من القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من الهجرة
ظهرت في اليمن حركة علمية، وتحرر فكري، واجتهاد مطلق لم يوجد مثله في
بلاد الشام أو مصر أو المغرب في ذلك العصر؛ وذلك لأن المذهب الزيدي يقرر أن
كل مجتهد مصيب، وأن العالِم إذا حاز علوم الاجتهاد فعليه أن يجتهد ولا يقلد؛
لأجل هذا ظهرت حرية فكرية كان على رأسها السيد حسن الجلال مؤلف (ضوء
النهار) وغيره، والعلاَّمة صالح بن مهدي المقبلي صاحب (العلم الشامخ) وغيره،
ثم ظهر الشيخ العلاَّمة محمد بن إسماعيل الصنعاني بكتابيه (سبل السلام)
و (منحة الغفار) وغيرهما، ثم جاء من بعده شيخ الإسلام القاضي العلاَّمة محمد
ابن علي الشوكاني الذي كان في غاية من الاجتهاد ومن الاستقلال في الفكر منذ
صغره؛ فقد بدأ يقرأ (شرح الأزهار) وعمره نحو أربعة عشر عاماً، وعندما
كان الشيخ الذي قرأ عليه يقول: قال الشافعي كذا، قال أبو حنيفة كذا، قال الهادي
كذا، يفكر في ذلك ويسأل: أيهما أصح من هذه الأقوال؟ فكان الشيخ يجيبه في كل
مسألة: الذي عليه علامة حمراء يعني كلام الإمام المهدي في المذهب الزيدي هو
الأصح، قال: لا يمكن أن يكون الحق معه في ألف مسألة من أول شرح الأزهار إلى
آخره، فلا بد أن يخطئ مرة ويصيب أخرى، والشافعي هكذا، وكذلك أبو حنيفة،
ولذا فأنا أريد أن تخبروني أين الصواب في كل مسألة؟ فقال له أبوه: نحن نعلمك
المذهب الزيدي تقليداً، ولا يستطيع أحد أن يرجح في كل مسألة أي قول من الأقوال
أصح؛ من أول الكتاب إلى آخره إلا العلاَّمة المجتهد. قال: هل يوجد في اليمن
علاَّمة مجتهد يستطيع أن يقارن بين المذاهب، ويرجح في كل مسألة القول الصحيح
عنده؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: العلاَّمة عبد القادر بن أحمد صاحب
مدينة (كوكبان) . قال الشوكاني: أريد أن أقرأ وأصبح مثل صاحب (كوكبان) ؛
حتى أعرف ما هو الراجح والمرجوح من أول مسائل شرح الأزهار إلى آخرها.
قال: اقرأ علوم الآلة، وعلوم الاجتهاد، وهناك ستستطيع أن تعمل كل شيء.
وفعلاً بدأ يقرأ علوم النحو والصرف، والمعاني والبيان، والأصول، وعلوم
الحديث، وكتب التفسير وغيرها، ولم تمض عليه عشر سنوات حتى أصبح
مجتهداً اجتهاداً مطلقاً، ولما دخل السيد العلاَّمة عبد القادر بن أحمد إلى صنعاء
وزاره علماؤها ليدرسوا عنده، كان منهم الإمام الشوكاني، فدرس عنده إلى موته،
وحينها كان قد بدأ يؤلف بعض مؤلفاته.
البيان: هل هناك صلة بين الحركة الشوكانية في الهند والقاضي الشوكاني؟
* نعم هناك صلة قديمة بدأت بواسطة شاب هندي يسمى عبد الحق الهندي،
وكان عالماً نشيطاً سافر من الهند إلى مكة والمدينة ثم إلى صنعاء وفيها أخذ عن
الشوكاني بعض علومه ومؤلفاته، ودرسها عليه، وأجازه الشوكاني إجازة عامة،
ولما رجع بعدها إلى الهند نشر علم الشوكاني في بلاده. ثم ظهر بعده صدِّيق حسن
خان القنوجي، وكان من العلماء الأغنياء، وسبب غناه أن أحد ملوك الهند بمقاطعة
(هوبار) كانت لديه بنت لا تريد الزواج إلا من رجل فقيه عالم، فزوَّجها بصدِّيق
حسن، ثم من حُسن حظه أن توفي ملك هوبار، والقاعدة عندهم أن يتولى الحكم
أولاده؛ ولأنه لم ينجب غير بنت واحدة، ولا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة نقلت
زوجة صدِّيق المُلك إليه، وسمَّته: (الملك النواب صدِّيق حسن خان نائب الملكة) .
ومن هنا استطاع أن يشتري مطبعة لأول مرة، وكانت لا توجد إلا في
إستانبول والقاهرة، وعندها أرسل إلى زبيد ومكة وصنعاء من يشتري له مؤلفات
الإمام الشوكاني المخطوطة كلها. ومن هنا انتشرت آراء الشوكاني، وأول ما
طبعت مؤلفات الشوكاني في الهند قبل أكثر من مائة عام، حيث طبع (نيل
الأوطار) و (إتحاف الأكابر في مسندات الدفاتر) وغيرهما، لذا فصدِّيق حسن
خان يقول في مؤلفاته: «قال شيخي الشوكاني» ، وليس بشيخه وإنما شيخ شيخه،
أو شيخه بمطالعة مؤلفاته؛ لأن الشوكاني توفي سنة 1250هـ في صنعاء،
وصدِّيق خان إذ ذاك كان طفلاً عند وفاة الشوكاني؛ حيث ولد في 1246هـ؛ ولكن
بواسطة عبد الحق الهندي أو غيره، أو بواسطة بيت الحازمي وهم سادة وعلماء في
(صبيا) وكانوا يدرسون في صنعاء ويشترون مؤلفات الشوكاني وينقلونها إلى
(صبيا) ثم جاءت رسل صدِّيق حسن واشتروا له الكتب بواسطة بيت الحازمي،
وبواسطة القاضي محسن السبيعي أحد علماء (صبيا) .
البيان: المذهب الزيدي يجهله كثيرمن أبناء العالم الإسلامي، فهل يمكنكم
إعطاؤنا نبذة مختصرة عن نشأته، وظروف هذه النشأة، وأصول المذهب، وأبرز
رجالاته؟
* أول من أصَّل أصول المذهب الزيدي هو زيد بن علي، ثم انقسم المذهب
إلى فرعين هما: المذهب الناصري، والمذهب الهادوي. فالمذهب الناصري
ذهب به الحسن الأطروش من المدينة إلى بلاد الجيل والديلم في إيران، ونشر
المذهب هناك وبقي نحو 400 عام، ثم انقرض المذهب الزيدي هناك. ويسمى
المذهب الزيدي في الأصول والناصري في الفقه. أما اليمن فقد وصل الإمام الهادي
يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم إلى اليمن في النصف الثاني من القرن
الثالث من الهجرة.
والمذهب الزيدي في العقائد يشبه المذهب المعتزلي إلا أنه يختلف معه في
مسألة الإمامة، فالمعتزلة يقولون: خليفة النبي أبو بكر. والزيدي يقول: الخليفة
علي بن أبي طالب، إلا أن أبا بكر وعمر وعثمان قد أدوا الواجب والمسنون
وعملوا كل شيء، وسدُّوا الفراغ؛ ولذا فالمذهب الزيدي يحترم الخلفاء الثلاثة لكن
لا يعترف بالإمامة إلا لعلي بن أبي طالب. ثم أصبح زيدية اليمن على مذهب الإمام
الهادي. ومن جملة محاسن المذهب الزيدي أنه يفتح باب الاجتهاد لمن يريد أن
يجتهد. أما في الفقه فهو مأخوذ من المذهب الحنفي، والمذهب الزيدي الهادوي لا
يخرج إلا نادراً عن المذاهب الأربعة، وهو يوافق في أكثر المسائل واحداً منها ولا
سيما المذهب الحنفي؛ إذ هما أخوان متقاربان.
البيان: لكل مذهب من المذاهب الفقهية إيجابيات بارزة، فما أبرز إيجابيات
المذهب الزيدي؟
* أنهم فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه من أيام الإمام الهادي إلى عصرنا
هذا، وخصوصاً باب الاجتهاد المطلق، بينما بقية المذاهب الأخرى يبقى علماؤها
مقيدين بالمذهب؛ فمثلاً بقي ابن حجر العسقلاني شافعي المذهب، وكذا الإمام
النووي، وبقي ابن عبد البر والقرطبي مالكيين، أما علماء المذهب الزيدي فقد
فتحوا باب الاجتهاد، وهذه ميزته.
لقد أخرج لنا المذهب الزيدي علماء أحراراً مجتهدين، منهم، (الجلال)
الذي يقول:
لولا محبة قدوتي بمحمد / زاحمت رسطاليس في أبوابه فالمشكلات شواهد لي أنني /
أشركت كل محقق بلعابه
ومنهم المقبلي الذي قال في أول كتاب (العلم الشامخ) : «ها أنا ذاهب إلى
رب سيهدين» ، يقصد: من العلماء من صار شافعياً أو زيدياً أو حنبلياً أما أنا
فذاهب إلى رب سيهديني، وأعلن اجتهاده المطلق. وأخرج المذهب الزيدي أيضاً
العلاَّمة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير مؤلف (سبل السلام) و (منحة الغفار)
الذي قد برزت مؤلفاته في الأصول والحديث والفقه وغيره. فمن أهم ما يتميز به
المذهب الزيدي أنه فتح باب الاجتهاد انطلاقاً من القاعدة المذكورة في أول متن
(الأزهار) أن كل مجتهد مصيب.
البيان: ما هي أهم الكتب المؤلفة فيه لإحالة القارئ إليها للاطلاع؟ ثم ما
مدى قربه من المذاهب الأربعة؟
* سبق أن قلت إنه يتقارب كثيراً مع المذهب الحنفي ونادراً مع المذهب
الحنبلي، أما الكتب المؤلفة في المذهب فهي كثيرة جداً، ومما طبع منها: كتاب
(الأحكام) للإمام الهادي، و (شفاء الأوام) للأمير الحسين، وكذا متن (الأزهار)
وشرحه (المنتزع المختار من الغيث المدرار) المشهور بـ (شرح الأزهار) ،
و (التاج المذهب) ، و (الروض النضير) شرح مجموع زيد بن علي، و (البحر
الزخار الجامع لعلماء الأمصار) ، وشرح (الفرائض) .
البيان: ما مدى تأثير المذهب الجعفري على المذهب الزيدي اليوم، ومن
يقود العمل في هذا الاتجاه؟ وما هي أبرز نقاط الالتقاء والافتراق بين المذهبين؟
وما هي الأهداف الخفية وراء تهميش المذهب الزيدي وطغيان المذهب الجعفري؟
* المذهب الزيدي غير المذهب الجعفري وبينهما بون شاسع؛ فالجعفري
يقول مثلاً بعصمة الأئمة أما الزيدية فلا تقول بعصمتهم. الجعفري يقول بأن الأئمة
اثنا عشر إماماً فقط، أحد عشر مضوا، والثاني عشر سيأتي في آخر الزمان؛
بينما الزيدي يقول بأن من كان قوياً عالماً مجتهداً صالحاً سخياً شجاعاً علوياً فاطمياً
يصلح أن يكون إماماً كذلك. الجعفري يقول بنكاح المتعة بينما الزيدي لا يقول بذلك.
لكن مع الأسف الشديد أن بعض الزيدية في هذا العصر خلطوا فأصبحوا
يقرؤون كتب الجعفرية ويفتون بأن أهل البيت مظلومون، وكذا وكذا ... مثلما يفعل
الجعفرية؛ مع أن الجعفرية لا يعترفون إلا باثني عشر إماماً ليس منهم الإمام زيد
بن علي ولا الإمام الهادي. ومع أن الإمام زيد بن علي برئ منهم وسمَّاهم الرافضة،
وقال لهم: اذهبوا فأنتم الرافضة. وكذلك الإمام الهادي في كتاب الأحكام كان
يتبرأ منهم؛ فهذا مذهب وهذا مذهب، وبينهما فرق كبير.
ومما يتميز به المذهب الزيدي: التسامح وعدم التعصب؛ فهم يقولون: «كل
مسألة خلافية خرج وقتها فلا قضاء فيها» ، ففي المذهب الزيدي مثلاً إذا صلى
إنسان وترك بعض الواجبات ناسياً فإنه لا يقضيها إذا انقضى الوقت؛ لأن المسألة
فيها خلاف بين المذاهب، وهذا مما يدل على تسامحهم، كذلك يقولون: «لا إنكار
في مختلف فيه» ، وعليه فلا يجوز الإنكار على من خالف المذهب ووافق المذهب
الشافعي أو الحنفي، مما يدل على حريتهم وإنصافهم، وأيضاً يقولون: الإمام في
الصلاة حاكم فصلِّ خلف الشافعي أو المالكي وصلاتك صحيحة، ولا يقولون
بوجوب الصلاة خلف إمام المذهب.
لكن يؤخذ على أصحاب المذهب الزيدي الانزواء، وأنهم لم يقوموا بنشر
مؤلفاتهم والتعريف بها في الخارج، ولقد كان للموقع الجغرافي أثره في ضعف
انتشار المذهب؛ فاليمن لا يقع بها طريق الحجاج ولا التجار ولا السياح ولا غيرهم،
بخلاف بلاد المغرب ومصر والشام؛ لأجل هذا لم يكن يعرف كثير من العلماء
هذا المذهب؛ إلا أنه عرف بعد ذلك في أوساط العلماء لا سيما المختصين بالفقه
المقارن.
البيان: ما هي الجارودية؟ وما هي علاقتها بالزيدية؟
* الزيدي إذا تعصب يُسمى جارودياً نسبة إلى المنذر بن عمر أبي الجارود؛
فهو من الذين يسبُّون الخلفاء فيسمى زيدي جارودي.
البيان: كثيراً ما نسمع عن وجود خلاف بين بعض علماء الحديث وبعض
علماء الفقه؛ فما قولكم في هذا؟ وكيف يمكن التغلب عليه؟
* هذا لا يكون إلا عند الجهلة والمتعصبين؛ أما العالم فلا يهمه ولا يعيبه هذا؛
فوظيفة المحدث مستقلة بنفسها والفقيه كذلك. المحدث يبحث في السند والصحة
فقط، والفقيه يستنبط الأحكام الشرعية من الأحاديث النبوية الصحيحة؛ لكن
المتعصبين والجهلة يسيئون فهم ذلك، وإلا فالإمام أحمد بن حنبل وهو من المحدثين
كان من طلاب الشافعي وهو من الفقهاء، وكان الشافعي يقول لابن حنبل: إذا تثبَّتَّ
من الحديث أنه صحيح ائتني به أستنبط منه الأحكام الشرعية. فالشافعي كان فقيهاً
يستنبط الأحكام الشرعية؛ فقد كانوا متفاهمين متعاونين مثل الإمام أحمد بن حنبل،
والإمام مالك وغيره كل واحد منهم يحترم الآخر، لكن جهل المتأخرين وتعصبهم
أوجد بينهم سوء التفاهم والخلاف، ويمكن الرجوع في هذا الباب إلى كتاب:
«أدب الطلب ومنتهى الأرب» للشوكاني وهو كما نسميه اليوم مذكرات،
وهو مطبوع أكثر من مرة، وتكلم فيه بأنه يجب على الإنسان أن ينصف من نفسه،
فلا يعتقد ثم يبحث؛ ولكن يبحث أولاً ثم يعتقد، ويتحلى بالإنصاف وبالاستقلال،
وسيوفقه الله ويصبح من أكبر العلماء، ثم أتى بقصته من أول طلبه للعلم وقصته
مع شيوخه وغيرهم. هذا ما أنصح وأوصي به كل طالب علم أن يشتري كتاب:
«أدب الطلب ومنتهى الأرب» لكي يعرف كيف يقرأ العلم، وتتحرر أفكاره، ولا
يتعصب على الغير.
البيان: يقال إن دور العلماء اقتصر على الفتاوى في الأحكام الشخصية
والاجتماعية، بل أصبح العلماء لا يفتون إلا عند الطلب! ! هل هذه حقيقة؟ أم أن
هناك تعتيماً إعلامياً حول فتاوى العلماء التي تمس القضايا العامة والهامة في حياة
الأمة؟
* غالب ما يُسأل عنه العلماء في الإذاعة أو التلفزيون أو المسجد يكون في
مسائل الأحوال الشخصية وقضايا الأسرة ولا سيما الطلاق والرضاع والمواريث
وعقود النكاح، أو في مسائل العبادات كالصلاة والصيام، وبالنسبة لي ما يسألوني
إلا في الصلاة والزكاة، وأيام الحج يسألوني عن أحكام الحج، وفي رمضان عن
أحكام الصيام ومسائل الزكاة، ويسألون عن الطلاق وقليل عن الرضاع والمواريث،
ولا يسألوني عن القضايا العامة إلا نادراً، هذا بالنسبة لي.
البيان: يذكر أنكم كنتم أول من أحيا تراث الشوكاني وقام بتدريسه في
الجامع الكبير، فلماذا الشوكاني؟ وهل وجدتم مواجهة من قِبَل متعصبة المذهب؟
وكيف عالجتموها؟
* في الحقيقة أنا مجرد رجل عادي ولست أول من أحيا تراث الإمام الشوكاني
رحمه الله؛ فقد كانت بعض كتبه ومؤلفاته تدرس في جامع اسمه جامع الفليحي،
وبعض مؤلفاته كانت تدرس في البيوت، مثل كتابَيْ: «نيل الأوطار» ،
و «فتح القدير» كانوا يدرسونهما في مسجد الفليحي، وهذان الكتابان
يعتبران من مؤلفات الإمام الشوكاني الهادئة. أما بالنسبة لمؤلفاته الشديدة التي تناقش
قضايا هامة مثل كتاب: «السيل الجرار» وكتاب: «وبل الغمام» فهذه الكتب
قمت بتدريسها بنفسي؛ فإذا أردت أن تجعلني أول من أحياها فأنا أول من أحيا
ودرَّس كتب الإمام الشوكاني ومؤلفاته الشديدة السابقة الذكر في المسجد؛ فلقد درَّست
كتاب: «السيل الجرار» في أيام الملكية في مسجد الفليحي، ودرَّست كتاب:
«وبل الغمام» ، و «السيل الجرار» بعد ذلك في مسجد الزبيري.
وأذكر أنني في أيام الملكية عندما بدأت أدرِّس كتاب «الدراري المضية»
وكان الطلبة في ذلك الوقت قليلين، وشى بي بعض من لا أعرفه عند السيد قاسم
العزي ناظر الأوقاف، وهو يعتبر آنذاك زعيم المحافظين على المذهب الزيدي،
وقد كان دائماً ما يسبب لنا المضايقات، ومن جملة ما فعله معي أنه ذات مرة
توعدني وهددني بأنه سيقوم بإبلاغ الإمام أحمد يحيى حميد الدين وقد كان الإمام في
تلك الأيام في مدينة تعز وأنه سيخبره بما أفعل، وأني أعارض المذهب، وأعلِّم
الطلاب كذا وكذا. حينذاك قمت بكتابة خطاب إلى الإمام، ولكي أضمن وصوله إلى
يد الإمام مباشرة ذهبت إلى السيد محمد بن محمد زبارة وهو من المقربين إلى الإمام؛
فقلت له: أريد منكم أن تعينوني على إيصال هذه الرسالة بجانب رسالتكم التي
تصل إلى يد الإمام نفسه إن شاء الله. قال زبارة: حسناً ولكن بشرط. قلت: ما
هو؟ قال: ألا يعلم أحد أني قمت بمساعدتك في إيصال هذه الرسالة، وخاصة
السيد قاسم العزي؛ لأننا أصدقاء وإذا علم بالأمر فسوف يحصل بيني وبينه سوء
تفاهم. قلت له: حسناً. وكنت قد كتبت إلى الإمام في رسالتي له: «إن السيد
قاسم العزي يعارضني فيما أدرس من كتب الحديث للإمام البخاري، ومسلم،
وسنن أبي داود، ويقول: إنكم منعتم ذلك؛ فإذا كان ما قال صحيحاً امتنعت
وسأمتثل لأمر الإمام، أما إن كان هذا الكلام من ذات قاسم العزي، وأنه يتدخل في
الشؤون الخاصة ما بين الإمام وطلبة العلم فهذا الأمر لا يرضيكم، والسلام عليكم
ورحمة الله» .
وبعد فترة أجاب الإمام على خطابي قائلاً: «عافاكم الله: لا تظن أبداً أني
أمنع دراسة كتب الحديث في المساجد وأخذ العلم عن رجل عاقل فضلاً عن رجل
عالم، فاستمروا على ما أنتم عليه وأقرئ وعلِّم الطلبة الأمهات الستة وغيرها،
ولكن ترغيماً للشيطان وإرضاءاً للرحمن وقطعاً للسان يمكن أن تجمعوا بين الشيئين؛
فتعلِّموا الطلبة (شفاء) الأمير الحسين من كتب الزيدية، وتعلموهم البخاري
ومسلم وغيرها من كتب السنة، وتسكتوا بذلك كل لسان وإنسان» ، وبالفعل وصل
جواب الإمام فأرسل السيد محمد زبارة في طلبي، فذهبت إليه، فلما وصلت قال:
هذا جواب الإمام، اقرأه عليَّ وأنت واقف أمامي. وبالفعل قرأت عليه جواب الإمام
كاملاً وهو جالس في مكانه، وبعد أن انتهيت، قال: رجاءاً لا أريد أن يعرف أحد
بهذا. ثم خرجت من عنده، وبعدها وجدت الكاتب التابع لناظر الأوقاف قاسم
العزي، فأريته الخطاب وقلت: خط من هذا؟ قال: خط الإمام. قلت: إذن اقرأ
المكتوب. وبعد أن انتهى من قراءته قلت: قل لناظر الأوقاف إن العمراني لديه
أمر من الإمام أن أعلِّم الطلاب بلا قيد أو شرط إلا شرط واحد. فقال لي الكاتب:
أعطني الخطاب. فقلت: لا أعطيكه أبداً وسيبقى معي وذلك لأنه في تلك الأيام لا
يوجد ماكينة تصوير للرسائل وقلْ ما قلت لك فقط.
فذهب الكاتب إلى قاسم العزي وأخبره بالأمر الذي معي من الإمام، ثم أخذ
قاسم العزي عصاه التي يتوكأ عليها وذهب إلى بيت محمد زبارة غاضباً ودخل
منزله، فقال لزبارة: ماذا بك يا صنو [*] محمد! تريد أن تنتشر الفوضى، قال:
ما تقول يا صنو قاسم؟ قال: قد جاء العمراني وفي يده أمر من الإمام أحمد، فلا
أعلم أحداً يمكن أن يوصل رسالة العمراني إلى يد الإمام سواك، وما خصمي إلا
أنت يا صنو زبارة، ولن يساعده أحد غيرك. قال زبارة: أبعد عنك الأوهام
والخيال يا صنو قاسم، فلقد أتى العمراني إليَّ صباح اليوم وقرأ عليَّ خطاب الإمام
وأنا جالس في هذا المكان، وهو واقف أمامي حتى انتهى من خطابه. قال العزي:
أخطأتُ ظننت أنه أنت. قال زبارة: يا صنو قاسم، السادة هم المساكين وأنا وأنت؛
أما القضاة فهم متعاونون فيما بينهم؛ فكل من القاضي الحلالي، والقاضي العمري
صديق للعمراني، والقاضي عبد الله الشوكاني، وبيت مطهر هم أصهاره، وهؤلاء
كلهم موظفون لدى الإمام، وأي واحد فيهم يمكن أن يساعد العمراني.
وأذكر قصة أخرى حدثت قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر (1382
هـ 1962م) ؛ فقد كنت أدرِّس الطلبة كتاب: «السيل الجرار» في رمضان،
ومن ثم ذهب أحد الأشخاص إلى الأخ يحيى محمد عباس الذي كان في ذلك الوقت
رئيس الاستئناف وقد قتل يوم الثورة فذكر له أني أدرِّس قضايا هامة، وأني ضد
المذهب، وأني أدرِّس كتاب «السيل الجرار» للشوكاني، فقام يحيى عباس
بإرسال رسالة إلى الإمام يشكوني فيه، وبعد فترة رأيت أحد موظفي المواصلات
فقال لي: ما الذي بينك وبين يحيى عباس يا قاضي محمد؟ قلت: لا شيء. قال:
لقد كتب يحيى عباس ضدك برقية إلى الإمام فما ظننت أبداً أنه سيرسل بالرسالة
هذه من أجل التدريس في المسجد ولكن ظننت أنه من أجل الوظيفة التي كنت مكلفاً
بها (مقام البدر) ومقام النائب؟ وكنت أقوم بعمل الأوامر وإنجاز الأعمال، فقلت:
ربما لم تعجبه طريقتي في إنجاز الأعمال. أخيراً وصلت الشكوى إلى الإمام فقام
الإمام وخاطب السيد عبد الله عبد الكريم وهو زوج بنته، وقال له: أخبر القاضي
عبد الرحمن العمراني أن يخبر أخاه القاضي محمد العمراني أن يتجنب عمل
المشاكل، وإثارة الفتن، والفوضى في صنعاء، ولولا أني أعرف العمراني
وعقيدته لكنت صدقت ما قيل عنه، لكن ربما يندس بعض الأشخاص بجانب
العمراني؛ فيثيرون الفتن ويكون الضحية العمراني؛ فقل لأخيك ليكن إنساناً عاقلاً.
فكتب لي أخي القاضي عبد الرحمن العمراني وقال: لا بد يا أخي محمد أن
تتورع وتكون عاقلاً، واعلم أنك لا تدرس إلا في رمضان، فعلِّم الطلبة بهدوء،
وتجنب المشاكل. وبعد ذلك لم يأت رمضان الآخر إلا وقد قامت الثورة وانتهت
المشكلة.
البيان: شهدت السنوات الأخيرة تمييعاً لعقيدة الولاء والبراء مع اليهود
والنصارى على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي؛ حيث قام عدد من
حكومات الدول الإسلامية والعربية بتطبيع العلاقات مع (إسرائيل) ؛ فما هو قول
العلماء في ذلك؟
* لا أتكلم هنا باسم العلماء؛ فكل عالم يعبر عن نفسه، ولا أنطق بدلاً عنهم،
أما بالنسبة لي فأنا من الذين يعارضون وبشدة التطبيع مع اليهود، واليهود الذين
يقولون إنهم يمنيون هم في الحقيقة ليسوا كذلك؛ فلقد انسلخوا انسلاخاً كاملاً
وأصبحوا (إسرائيليين) .
البيان: كثير من الناس يتجهون للتجارة مع أن أغلبهم لا يفقهون الأحكام
الشرعية المتعلقة بذلك؛ فبماذا تنصحون هؤلاء؟
* كان تجار صنعاء قبل (50 - 60) سنة يمتازون بأنهم يرسلون أولادهم
لطلب العلم وخاصة لدراسة الفقه وعلم الربويات خشية الوقوع في الحرام، وقد
عرفت أبناءاً لبعض هؤلاء التجار يحفظون القرآن الكريم ويعرفون أحكام البيع
والشراء، فلما أهمل كثير من التجار تعلم أحكام البيع والشراء واجهتهم المشاكل
ووقعوا في الشبهات وربما في الحرام، ثم يذهبون فيسألون الفقهاء! ولو كان الأمر
على سؤال الفقهاء وأخذ الجواب فحسب لهان الأمر ولكن بعضهم يسأل ولا يقتنع،
فيسأل أكثر من فقيه ويرى أي الآراء يوافق هواه فيأخذ به، ولقد كتبت مقالة في
مجلة الإرشاد، وذكرت فيها أن على العامي أن يسأل من الفقهاء من يقتنع به هو ثم
يقبل الإجابة سواء بالترك أو الجواز أو التحريم أو الكراهة، وألا يعمل مناقضة بين
آراء الفقهاء؛ لأن هذا لا يجوز لأنه تتبع للرخص.
البيان: «كثر الحديث عن المخطوطات المتوفرة في اليمن فما مدى أهمية
هذه المخطوطات؟ وهل تضيف شيئاً إلى الساحة العلمية؟ بحيث يقابل ما ينفق فيها
من جهد ووقت ومال؟ وما أشهر هذه المخطوطات ومن أشهر مؤلفيها؟
* في الحقيقة أن مخطوطات اليمن قد انقرضت؛ فلقد نُقل أكثرها أيام الأتراك
وأيام صدِّيق حسن، ثم أيام الحرب والخوف والجوع، ولم يبق منها إلا القليل الذي
يجب أن تُحافِظ عليها دور الكتب، وأن تُشترى بأي ثمن أيُّ مخطوطات من الأُسر
التي تقتني الكتب المخطوطة لحفظها والاعتناء بها.
البيان: يلاحظ في اليمن كغيرها من البلاد الإسلامية عزوف الشباب عن
طلب العلم الشرعي، فما هي الأسباب وكيف يمكن علاجها؟
* من أهم الأسباب أن الطالب لا يجد الوظيفة أو العمل إلا إذا كان يحمل
شهادة من كلية التجارة والاقتصاد مثلاً، لكن لو أنشأت الحكومة كليات شرعية مثل
كلية لأصول الدين، وكلية للعلوم الشرعية، وكلية للسنة، ودعموا هذه الشهادات
بوظائف حكومية لتغير الحال.