مجله البيان (صفحة 3797)

مراجعات في السيرة والتاريخ

ضوابط استخراج الدروس والفوائد التربوية من السيرة

د. محمد بن صامل السلمي

إن استخراج الدروس والعبر والأحكام من حوادث السيرة النبوية من أهم

أهداف الدراسة لها وأعظم فوائدها؛ لكن هذا الأمر لا يستطيعه كل باحث أو قارئ

للسيرة؛ لأنه يحتاج إلى مرجعية شرعية، وإلى ضوابط تضبط طريقة الاستنتاج،

وبالنظر إلى مناهج الاستدلال والاستنباط عند علماء المسلمين؛ فإنه يمكن معرفة

ضوابط استخراج الدروس والفوائد التربوية من خلال طريقهم في البحث

والاستدلال وفقاً للخطوات الآتية:

1 - التأكد من صحة الحدث أو الواقعة التاريخية حتى يصح الاستدلال بها:

وذلك أن السيرة النبوية جزء من السنة النبوية التي هي أحد مصادر الأحكام

الشرعية؛ فلا بد من التثبت من صحة الحادثة. ونجد أن العلماء يسلكون في منهج

التوثيق لأحداث السيرة منهج علماء الحديث النبوي، لكنهم يفرِّقون في النتيجة بين

الأحداث والوقائع التي تبنى عليها أحكام شرعية واعتقادية، وبين الأحداث التي لا

تؤخذ منها الأحكام مثل الفضائل، وأخبار الحضارة والعمران، فيتشددون في الأولى

ويتساهلون في النوع الثاني من الأخبار، كما رُوي ذلك عن الإمام أحمد، وابن

مهدي، وابن المبارك [1] ، وأمثالهم.

2 - بذل الجهد في جمع الأخبار الواردة في الموضوع الواحد:

وهذه هي الطريقة العلمية الصحيحة حيث يحيط الباحث بجميع الأخبار

الواردة في الموضوع، بل يجمع الطرق والألفاظ لكل نص حتى يستطيع أن يخرج

بحكم صحيح وتصور واضح، ويَعْرف المتقدم من المتأخر، والعام من الخاص،

والألفاظ يفسر بعضها بعضاًَ، وبهذا يتمكن من الجمع بين النصوص والأخبار

المتعارضة، أو ترجيح أحدهما على الآخر على وجه صحيح.

مثال ذلك: لو احتج بعض الباحثين أنه لا يجوز الدعاء على الكفار؛ لأن

الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض الصحابة رضي الله عنهم: ادع الله

على ثقيف؛ قال: «اللهم اهدِ ثقيفاً» [2] .

واحتج آخر بأنه لا يجوز الدعاء للكفار بل يدعى عليهم؛ لأن الرسول صلى

الله عليه وسلم قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني

يوسف» [3] ، فكيف العمل؟

نقول: إن الحديث الأول ضَعّف بعض أهل العلم إسناده، لكن لمعناه شاهد

من حديث أبي هريرة عند مسلم قال: قدم الطفيل وأصحابه، فقالوا: يا رسول الله!

إن دوساً قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس. فقال: «اللهم

اهد دوساً وائت بهم» [4] . وبهذا نلجأ إلى الجمع بين الخبرين، فيقال: إنه يجوز

في بعض الأحوال الدعاء للكفار الذين ترجى هدايتهم، ومن لا ترجى هدايته مع

كثرة أذاه للمسلمين فيدعى عليه.

3 - معرفة حدود العقل في نقد الأخبار:

المنهج النقدي الذي اتبعه العلماء المسلمون في نقد الأحاديث والأخبار النبوية

يتناول نقد السند ونقد المتن، فلم يكتفوا بالنقد الخارجي للنص (نقد السند) وإنما

نظروا إلى داخل النص، وقرروا ضوابط في نقد المتون منها: سلامة النص من

التناقض، وعدم مخالفته للوقائع والمعلومات التاريخية الثابتة، وانتفاء مخالفته

للأصول الشرعية، وعدم اشتماله على أمر منكر أو مستحيل ... إلخ [5] .

ورغم تطبيقهم لمثل هذه المقاييس الدقيقة إلا أنهم يحترمون النصوص الثابتة

سنداً، ويعرفون حدود العقل في نقد الأخبار، ويبتعدون عن المجازفات العقلية؛

فإن في أمور الشرع ما لا يستقل العقل بإدراكه؛ بل هو فوق طاقته؛ وذلك مثل

البحث في كيفية الصفات الإلهية، وأمور الغيب، ودلائل النبوة ومعجزاتها؛ ولهذا

يجب الوقوف عند النصوص الثابتة وعدم معارضتها بالمقولات العقلية، أو متابعة

الفكر المادي والفلسفات الوضعية التي أشاعها المستشرقون ومن تأثر بهم؛ فقد أنكر

بعضهم حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو شاب في بادية بني سعد، بينما

الخبر ثابت في صحيح مسلم [6] ، وقد أفادنا راوي الحديث أنس بن مالك رضي الله

عنه الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، ودخول الرسول صلى

الله عليه وسلم العقد السادس من عمره أنه رأى أثر المِخْيَطِ في صدره صلى الله

عليه وسلم. وهذا نص واضح يلغي أي محاولة لتأويل النص والقول بأنه تطهير

معنوي.

4 - أحكام الدعوة خاضعة للنصوص الشرعية في الكتاب والسنة وليست

خاضعة للتجارب:

وهذا أمر له أهميته؛ إذ إن الوسائل وإن كانت غير محدودة لها أحكام المقاصد؛

فكل وسيلة أفضت إلى محرم أو خالفت نصاً شرعياً فإنها محرمة.

مثال ذلك: لو استدل بعضهم بجواز زيارة كنائس النصارى ومشاركتهم في

أعيادهم واحتفالاتهم وذلك من باب التأليف والدعوة لهم، أو إعطاء صورة حسنة عن

تسامح المسلمين ونفي التشدد عنهم، وقال: هذه وسيلة مجربة ووجدت ناجحة؛

فهل هذا يكفي للاستدلال؟ وهل استدلاله صحيح؟

نقول: هذا لا يكفي في الاستدلال؛ وذلك أن تلك الوسيلة التي يقول إنها

مجربة وناجحة وسيلة غير شرعية؛ لأنها أفضت إلى مخالفة نصوص شرعية تنهى

عن الدخول على الكفار في أماكن عبادتهم التي يشركون فيها بالله، كما تنهى عن

تهنئتهم بأعيادهم فضلاً عن مشاركتهم فيها [7] .

5 - ملاحظة المراحل التي مرت بها السيرة النبوية ونزول التشريع:

فمن المعروف أن الأحكام والتشريعات قد نزلت على مراحل وبالتدريج حتى

استقرت واكتمل التشريع، وبوفاته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي وثبتت

الأحكام؛ فمثلاً تحريم الخمر جاء على مراحل، أولاً: بيان أن فيها إثماً كبيراً كما

قال تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا

أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا] (البقرة: 219) ، ثم في مرحلة ثانية جاء النهي عن شربها

قرب أوقات الصلوات، كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ

وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ] (النساء: 43) ، وثالثاً: جاء الأمر

بتحريمها نهائياً وفي كل وقت، كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ

وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]

(المائدة: 90) . وهذا هو الحكم الثابت والمستقر، وهو تحريم الخمر وأنها من

الكبائر وأمُّ الخبائث.

ومن الأمثلة التي قد يطرحها بعض الناس ويجادل فيها: مسألة تغيير المنكر

باليد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي لم يغير المنكر باليد، ولم

يكسر شيئاً من أصنام المشركين في مكة؛ وحيث إن الدعوة قد يأتي عليها زمان

وحالة من الضعف تشبه الحالة المكية؛ ولهذا فإنه يترك تغيير المنكر بحجة مشابهة

الحال للحال.

نقول: إن هذا الاستدلال غير صحيح، ومعارض لنصوص شرعية مثل قوله

صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،

فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [8] .

فتغيير المنكر كما نص عليه الحديث هو بحسب القدرة والتمكن من التغيير،

ونص أهل العلم على ضابط في ذلك وهو ألاّ يترتب على تغيير المنكر المحدد

منكراً أعظم منه [9] ؛ فليست العلة في ترك تغيير المنكر لأجل النظر إلى المرحلية

ودعوى مشابهة الحال بالعهد المكي، ولكنها عدم التمكن، ومن تمكن من تغيير

المنكر بضابطه الذي ذكره أهل العلم فالواجب عليه القيام بذلك.

وكذلك الجهاد في سبيل الله قد جاء تشريعه على مراحل، واستقر الحكم على

المرحلة الأخيرة وهي وجوب قتال الكفار كافة ابتداءاً وطلباً، ولكن هذا منوط

بالقدرة عليه والتمكن منه، فلا يجوز إيقاف الجهاد وتعطيله بدعوى مشابهة الحال

للعهد المكي الذي كان الجهاد فيه ممنوعاً كما قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ

كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ

يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ]

(النساء: 77) . بل يجب على المسلمين الاستعداد وتكوين القدرة على الجهاد التي

يحصل بها النكاية في العدو وحماية المسلمين من شره، وتتحقق بها أهداف الجهاد

وغاياته.

وبهذا يتضح الفرق بين المرحلية في التشريع وسير الدعوة في عهد النبي

صلى الله عليه وسلم، وبين المرحلية في اكتساب القدرة والاستعداد للجهاد بما

يستطاع من عُدته، ومن ثمّ البدء بالمواجهة وتغيير المنكر.

6 - ملاحظة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ بعض المواقف، وعقد

بعض المعاهدات بموجب ما أوحى الله إليه:

الدارس للسيرة النبوية يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ من الله

باتخاذ موقف محدد في بعض الحالات، وقد أُعْلِم صلى الله عليه وسلم بأن مآل هذا

سيكون خيراً على المسلمين في حين أن ظاهره غير ذلك، مثل قبوله صلى الله

عليه وسلم بعض الشروط في صلح الحديبية التي ظاهرها الحيف على

المسلمين [10] ؛ ولذلك أنكر بعض الصحابة القبول بها وجاؤوا إلى رسول الله صلى

الله عليه وسلم مستغربين ومستفسرين، فلما علموا أنه قد أُلْهِم فيها وحياً من الله

رضوا، ثم تحقق بعد الصلح والانصراف من الحديبية أن هذا الأمر كان فتحاً عظيماً

بتقدير الله سبحانه وتعالى حيث نزلت سورة الفتح وسمَّت صلح الحديبية فتحاً مبيناً،

ثم صار الأمر أن تنازل المشركون عن شرطهم الظالم؛ حيث انقلب ضد مصلحتهم

وجاؤوا إلى رسول الله يطلبون موافقته على ذلك [11] .

وبهذا يتضح أن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لشرط قريش الجائر وغير

المكافئ كان بوحي من الله، وأن الله قدر أن مآله إلى خير للمسلمين. ولكن هذا

خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يوحى إليه، أما والي أمر المسلمين

وخليفتهم فيجب عليه الاجتهاد في مصلحة المسلمين وعدم مهادنة العدو أو عقد

الصلح معهم على شروط فيها ذلّ للمسلمين أو تفريط بحقوقهم وقضاياهم، أو قبول

شروط فيها ضياع دينهم وعقيدتهم كما يحدث الآن في فلسطين؛ حيث إن من أسس

المصالحة المقترحة نبذ الدين والاحتكام إلى القوانين الوضعية، وقيام نظام علماني

يحكم المسلمين في فلسطين.

7 - هناك أمور في السيرة النبوية وقع تحديدها قدراً واتفاقاً فلا يقاس عليها:

مثال ذلك: كون الفترة المكية ثلاث عشرة سنة، وهي فترة الإعداد والتربية

والصبر على الأذى وعدم المواجهة، فلا يُلتزم بالمدة في الإعداد والتربية؛ لأنها

ليست شرطاً ولا مقصودة وإنما هذا يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال

المحيطة.

ومثل الاستدلال بإنزال النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه الغرباء

والفقراء في صُفَّة المسجد على مشروعية بناء الزوايا الصوفية.

وهذا استدلال غير صحيح، والغرباء الذين نزلوا الصُّفَّةَ من أصحاب النبي

صلى الله عليه وسلم كانوا من العزَّاب والفقراء الذين لا يستطيعون تدبير سكن لهم،

ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر دار ضيافة ولا نُزُل، ولذا

كان إنزالهم في المسجد حلاً لمشكلة، وتوظيفاً لمكان موجود، وبياناً لبعض وظائف

المسجد، وهم ليسوا منقطعين عن العمل بل يعملون إذا تيسر لهم ذلك، ويبادرون

إلى الخروج في السرايا والغزوات، ويتعلمون القرآن والأحكام طيلة مكثهم في

المسجد، ومجرد نزولهم الصفة لا يعطيهم فضيلة أو منزلة يتميزون بها عن بقية

الصحابة؛ فليس منقبة لأحدهم أنه نزل في الصُّفَّة كما يقال في مناقب الصحابة:

مهاجري، بدري، عَقَبي بايع تحت الشجرة ... إلخ من المناقب والمشاهد العظيمة

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبهذا يتضح الفرق بين الصُّفَّة النبوية ومن نزلها، وبين الزوايا الصوفية

البدعية؛ في الأصل والهدف والغاية [12] ، وأنه لا يمكن الاستدلال بالصُّفَّة النبوية

على جواز بناء الزوايا الصوفية التي تُمثِّل انحرافاً عن المنهج النبوي في التعبد

والسلوك والجهاد والدعوة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015