مجله البيان (صفحة 3783)

دراسات في الشريعة والعقيدة

حاجتنا إلى أصول الفقه

هيثم بن جواد الحداد

haitham1234@hotmail.com

أصول الفقه هو ذلك العلم الذي نستنبط بواسطته الأحكام الشرعية الفرعية من

نصوص القرآن والسنة [1] ؛ وعلى هذا فإن علم أصول الفقه عبارة عن مجموعة

من القواعد والضوابط التي تحكم استنباط الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب

والسنة.

والدارس لهذا العلم بناءاً على ذلك سيتناول ثلاثة أقسام رئيسة: أدلة الاستنباط،

وهي أصالة القرآن والسنة والإجماع وما يتعلق بها، ثم يدرس الأحكام التي كلف

الله بها العباد (الأحكام الشرعية) ، وهي الوجوب والاستحباب والإباحة، والكراهة

والحظر، مع دراسة الأحكام الوضعية مثل الشرط والسبب والمانع والعلة، والقسم

الثالث: قواعد استنباط هذه الأحكام من تلك الأدلة، مثل كيف نستنبط الوجوب من

النصوص؟ وإذا عدم النص فماذا نفعل؟

ويلحق بهذه الأقسام قسم رابع هو حال الناظر في هذه الأدلة، وحال المستفتي

والاجتهاد وما يتعلق به.

جاء في كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) : «والداعي إلى

وضعه: أنهم نظروا في تفاصيل الأحكام والأدلة وعمومها فوجدوا الأدلة راجعة إلى

الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ووجدوا الأحكام راجعة إلى الوجوب والندب

والإباحة والكراهة والحرمة، وتأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك

الأحكام إجمالاً من غير نظر إلى تفاصيلها إلا على سبيل التمثيل، فحصل لهم

قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على الأحكام إجمالاً، وبيان طرقه

وشرائطه، ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من الأحكام الجزئية من

أدلتها التفصيلية، فضبطوها ودوَّنوها وأضافوا إليها من اللواحق، وسمَّوا العلم

المتعلق بها أصول الفقه، وأول من صنف فيه الإمام الشافعي رضي الله عنه» [2] .

وبمجرد تأمل هذه التعريفات لأصول الفقه والمسائل التي تدرس في هذا الفن

تظهر أهمية هذا العلم واضحة جلية لكل من له أدنى اهتمام بعلوم الشريعة.

لكننا مع ذلك سنحاول إبراز مزيد من فوائد هذا العلم وثمراته، وتسليط

الأضواء على حاجتنا المعاصرة إليه.

فائدة أصول الفقه وحاجتنا إليه:

أولاً: أصول الفقه أداة للفهم للسليم:

فالله أنزل القرآن ومعه السنة هدايةً للبشرية جمعاء، أنزلهما وفيهما جميع ما

يُصلح أمور الناس في الدنيا والآخرة.

وكفل الله لنا حفظ نصوص الوحيين؛ فها هي تتلى على مسامع الأمة صباحَ

مساءَ، ومع ذلك فقد ضلَّت طوائف كثيرة من الناس، وأسباب الضلال كثيرة من

أهمها الخطأ في فهم نصوص هذين الوحيين.

فلا تقتصر الهداية على مجرد التلقي من هذين الوحيين، إذا لم يكن التلقي

مضبوطاً بضوابط الفهم الصحيح.

هذه طائفة تمسكت بحديث صحيح هو قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات

وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [3] ، أو قوله صلى الله عيه وسلم: «من

شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول حرَّم الله عليه النار» [4] ، وما في معناه

من أحاديث، واقتصرت عليها وأهملت ما سواها، فجعلت الإيمان مجرد اعتقاد لا

يجاوز القلب [5] وإن اقترف صاحبه ما اقترف من الكبائر والآثام، فسوَّغت للناس

من حيث تدري أو لا تدري التساهل بالمعصية، والتمرد على أمر الله، فضلَّت

وأضلَّت، ونتج عن هذه العقيدة شر مستطير.

فلم يكن باب الخطأ الذي وَلَجَته هذه الطائفة، العمل بحديث مكذوب، أو

مقولة محرفة من كتب أهل الكتاب.

لا، وإنما حصل لها الانحراف من طريقة فهمها لنصوص الوحي، وقُل مثل

ذلك في كثير ممن زاغت أبصارهم عن تناول الشريعة بالطريقة الصحيحة

المنضبطة.

وعليه؛ فإن الفهم السليم الذي يحفظ من الزيغ والانحراف لا بد أن يعتمد على

أصلين عظيمين:

أولهما: التلقي من نصوص الوحيين وما دلاَّ عليه، لا شيء سوى ذلك.

ثانيهما: فَهْم هذه النصوص فهماً سليماً وفق القواعد المقررة عند أهل العلم.

وأصول الفقه كما تقدم وسيلة لاستنباط أحكام الشريعة؛ فهي جزء بل هي أهم

جزء في فهم نصوص الوحيين.

ففي طيّات هذا العلم نجد كمّاً هائلاً من قواعد الاستنباط والفهم والجمع.

فلو عملت تلك الطائفة التي ضلَّت في فهم قول النبي صلى الله عيه وسلم:

«من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [6] بهذه القواعد، لكان يتوجب

عليها أن تجمع بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى. قال النووي: «وهذا لا بد

من تأويله لما جاء في ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة؛ فلا بد من تأويل هذا

لئلا تتناقض نصوص الشريعة، وفي قوله صلى الله عيه وسلم: (وهو يعلم)

إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة: إن مُظهِر الشهادتين يدخل الجنة

وإن لم يعتقد ذلك بقوله، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله صلى الله عيه وسلم:

(وهو غير شاك فيهما) [7] .

لو نظرت هذه الطائفة في قواعد الاستنباط القاضية بأن من النصوص ما هو

عام ومنها ما هو خاص، وأنه لا بد من الجمع بينهما، وأن العام قد يُحمل على

الخاص، لنَأَت بها هذه القواعد عن هذا الفهم المنحرف لذلك النص.

ففي أصول الفقه نجد حديثاً عن العام والخاص والمطلق والمقيد وكيفية الجمع

بينها، وفيها حديث عن الناسخ والمنسوخ، وفي أصول الفقه بيان لدلالة أفعال

النبي صلى الله عيه وسلم ومكانتها من التشريع، وفيه بيان لمعاني الأدوات

والحروف اللغوية من وجهة النظر التشريعية، وفيه كذلك بيان لأسباب النزول،

ونجد فيه كذلك قسماً خاصاً بالسُّنة يتناول أقسامها وحجيتها ومنزلتها من القرآن.

كل هذه قواعد تُعين على فهم نصوص الوحيين فهماً سليماً، فلا تقتصر

وظيفة هذه القواعد - وأمثالها كثير - على استنباط الأحكام الفقهية، بل تتجاوزها

إلى جميع ما يتعلق بفهم الوحيين، سواء من ناحية علوم التوحيد والعقيدة، أو علم

التفسير، أو غيرها.

ولذا فإنك تجد في علوم القرآن مثلاً مباحث كاملة مستقلة تتحدث عن أسباب

النزول ودلالاتها، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وما هذه إلا موضوعات

رئيسة من علم أصول الفقه.

إن إهمال قواعد الفهم والاستدلال والاستنباط، أو إلغاء العمل بالأصل الثاني

من أصول الاستدلال المشار إليها آنفاً ساق على الأمة أنواعاً من البلايا والمحن

لا يعلم مداها إلا الله، وما المنهج المنحرف الذي تبنته الخوارج إلا نتاج لهذا

الانحراف.

انظر إليهم في مناظرتهم لابن عباس يحتجون بنص صريح من كتاب الله

بوصفه أحد الأسباب التي دعتهم للخروج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه

حين سألهم: ماذا تنقمون عليه؟ فأجابوا بقولهم:» حكّم الرجال في دين الله «،

والله يقول: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ] (يوسف: 40) .

وما زالت الأمة إلى عصرنا الحاضر تعاني من ظهور صور متعددة لمنهج

الخوارج وإن اختلفت عنه في الأسماء، وما ظواهر الغلو في التكفير، وما يقابلها

من تميع وإرجاء إلا أشكال متعددة لمنهج منحرف واحد، متمثل في إهمال فهم

النصوص الشرعية وفق القواعد المقررة، والتي يمثل علم أصول الفقه جزءاً كبيراً

منها.

وليس من نافلة القول أن نقول إن العلماء قد تنبهوا قديماً إلى خطورة

إهمال النظر في دلالة النصوص وفقه معانيها بحجة الاقتصار على العمل

بظواهر نصوص القرآن والسنة، قال ابن المديني:» التفقه في معاني الحديث

نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم « [8] كما قال أبو عاصم النبيل:

» الرئاسة في الحديث بلا دراية رئاسة نذالة « [9] وهذا ابن عبد البر يقول بعد أن

ذكر باباً في ذكر مَن ذمّ الإكثار من الحديث دون التفهم والتفقه قال:» وأما طلب

الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه

فمكروه عند جماعة من أهل العلم « [10] .

أما ما ورد في الحث على الاشتغال بالحديث، وذم الرأي، فذلك محمول على

الرأي المجرد الذي لا يعتمد ولا ينظر في الأدلة البتة، وهذا لا شك في ذمه.

وعليه؛ فإن كل فائدة تنتج عن اتباع المنهج الصحيح في النظر والاستدلال

يصح أن تكون من فوائد أصول الفقه.

فلا يخفى عليك بعد ذلك أن تعلم أنّ أول فائدة لأصول الفقه وأهمها أنه يمثل

الجزء الأكبر من المنهج الصحيح في النظر والاستدلال..

ثانياً: أصول الفقه طريق للعبادة الصحيحة:

وهذا واضح جداً من التعريف. قال الآمدي:» وأما غاية علم الأصول

فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية التي هي مناط السعادة الدنيوية

والأخروية « [11] ،» فإن المجتهد متى كان عالماً بأحوال الأدلة الكلية مثل علمه

بأن الأمر للوجوب، إذا لم تقم قرينة على خلاف ذلك، وأن النهي للتحريم، ما لم

تقم قرينة على الكراهة، استطاع أن يستنبط وجوب الصلاة من قوله تعالى:

[وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] (البقرة: 43) وتحريم الزنا من قوله تعالى: [وَلاَ تَقْرَبُوا

الزِّنَى] (الإسراء: 32) فيقول: [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] (البقرة: 43) أمر،

والأمر للوجوب، فأقيموا الصلاة للوجوب، [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى] (الإسراء: 32)

نهي، والنهي للتحريم، فلا تقربوا الزنا للتحريم؛ فالمقدمة الأولى في الدليلين يعلمها

من اللغة، والمقدمة الثانية في كل منهما يعلمها من الأصول، ولولا معرفته

لأصول الفقه ما استطاع أن يستنبط هذين الحكمين؛ فأصول الفقه جعلته قادراً

على استنباط هذين الحكمين من دليليهما، ومثل ذلك يقال في غيرهما من

الأصول « [12] .

وقد يقول قائل: لكن هذا للعلماء المجتهدين. فيقال جواباً على ذلك: ليس

هذا بصحيح؛ بل إن من أصول الفقه ما يمكن أن يتعلمه كثير من طلبة العلم وأفراد

الصحوة الإسلامية، بل إن كل من له أهلية التعلم قادر على أخذ طرف من هذا

العلم، حتى يفهم ولو بشكل إجمالي كيف جاءت الأحكام التي يعمل بها؛ ولهذا أثر

كبير على عبادة الإنسان؛ ف» شتان بين من يأتي بالعبادة تقليداً لإمامه بمعقوله،

وبين من يأتي بها وقد ثلج صدره عن الله ورسوله، وهذا لا يحصل إلا بالاجتهاد،

والناس في حضيض عن ذلك، إلا من تغلغل في أصول الفقه، وكرع من مناهله

الصافية، وادَّرع ملابسه الضافية، وسبَحَ في بحره، وربح من مكنون دُرِّه « [13] .

وهاتان الفائدتان هما أُسُّ فوائد هذا العلم، وعليهما تقوم كثير من الفوائد

الأخرى؛ ولهذا فقد نص كثير من العلماء على أن أصول الفقه من أشرف العلوم

[14] ، بل قال عنه العلاَّمة ابن خلدون وهو من علماء الاجتماع والتأريخ:» اعلم

أن علم أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية، وأجلِّها قدراً، وأكثرها فائدة « [15] .

وتأمل كلام الغزالي حيث يقول:» وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل

والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل؛ فإنه

يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرُّفٌ بمحض العقول بحيث

لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد العقل له

بالتأييد والتسديد ... « [16] .

ثالثاً: أصول الفقه ميزان عدل:

فأصول الفقه ميزان توزن به كثير من الآراء المتصلة بالمسائل الشرعية،

مقبولها من مردودها، وصحيحها من ضعيفها وراجحها من مرجوحها، فنعرف ماذا

نأخذ وماذا نترك وما الذي ندين الله به؟

ولا يقتصر أثره على تمييز الصحيح من المردود، بل يتجاوز ذلك إلى

تمكيننا من معرفة درجات المردود نفسه؛ فبه نميِّز بين ما يُردُّ كليّة من الأقوال

والآراء وبين ما له وجهة من النظر، بين الاجتهاد المردود بالكلية وبين الاجتهاد

المقبول والمردود.

وعليه؛ فإننا سنتمكن من المفاضلة الصحيحة المبنية على أسس شرعية بين

المخالفين، ومن ثمّ الموقف الشرعي الصحيح الذي ينبغي أن يتخذ تجاه كل طائفة؛

فمن يكون اجتهاده معتبرًا ليس كمن يكون رأيه مردوداً بالكلية.

إنّ المساواة بين المخالفين - وإن اشتركوا في المخالفة - ليس من الشرع

والعدل في شيء، ولقد تباينت مواقف الإسلاميين من هذا المبدأ؛ فطائفة ضيقت

دائرة الخلاف المعتبر إلى حد أصبحت معه تعتبر أن كل قول يخالف ما سارت عليه

قول ساقط مردود، بل ربما وصَمَتْ صاحبه بالضلال والابتداع والخروج عن

الصراط المستقيم، ومن ثَمَّ وقفت منه موقف المبغض المتبرئ المعادي.

ثم ما لبث ذلك المبدأ حتى أصبح مِعْولاً يهدم بنيان ما كان متماسكاً من بنيان

هذه الصحوة، وأحدث فيها شروخاً عميقة، فزاد من فرقة المسلمين، وزاد من

التناحر بين جماعات الصحوة، وهو نتيجة تلقائية لعدم وضوح الميزان الذي ينبغي

أن توزن به الأقوال وقائلوها..

وفي مقابل من ضيَّق دائرة الخلاف ظهر من وسَّعها عن حجمها المطلوب

حتى أوغل في التسامح مع جميع الأقوال المخالفة، بل ربما أظهر تسامحاً ومودة

مع أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم ظناً منه أن هذا المسلك يوحِّد صف

المسلمين، ويقوي شوكتهم، فأخطأ الطريق، ومن أخطأ الطريق فلا بد أن يخطئ

الوجهة.

لقد جرّ هذا المسلك المنحرف على المسلمين أفراداً وجماعات مصائب عقدية

واجتماعية بل وسياسية، ولقد انتهى الأمر بهؤلاء إلى أنهم أخضعوا الدين لأهوائهم

ومصالحهم بحجة المصلحة.

ومن فوائد هذا الميزان أنه يتيح لنا المقدرة على التمييز بين أصول الدين

وفروعه ومراتب كلٍّ منها، وهذا مهم جداً؛ فإن العالِم، أو طالب العلم إذا أتقن

استخدام هذا الميزان فإنه قد حاز ملكة مهمة لا يستغني عنها الناظر في فقه

الموازنات والأولويات، فالموازنات الصحيحة لا بد أن تكون مبنية على معرفة

مراتب أحكام الشريعة: مراتب المصالح، ومراتب المفاسد.

وكذا فإن هذا الميزان يعين صاحبه على الإلمام الجيد بنظرية الضرورة وما

يترتب عليها من أحكام فقهية متعددة وصور شتى ولا سيما في عصرنا الحاضر،

وما من شك أن هذه النظرية وأمثالها أضحت من أهم القواعد التي تبنى عليها

الاجتهادات الفقهية المعاصرة.

لقد وقع خلط كبير في هذه القواعد والضوابط، وما ذلك إلا لفساد منهج

الاستدلال بالكلية أو حدوث خلل فيه.

فمثلاً: ظهرت بعض الدعاوى المعاصرة لإباحة الفائدة الربوية البنكية بحُجة

أن هذا التعامل أصبح من ضرورات العصر، وفي بلاد الغرب تساهَل كثير من

المفتين في بعض القضايا التي تعرض للمسلمين هناك بحُجة الضرورة، ولمَّا

تتحقق فيها شروط الضرورة؛ فربما أجازوا الجمع بين الصلوات مطلقاً بدون عذر،

وأجازوا كثيرًا من المعاملات الربوية، وتساهلوا في كثير من المواقف مع

النصارى ممتطين إلى ما يريدون صهوة الضرورة والمصلحة ليعبروا بها إلى ما

يريدون من أحكام الشريعة، وأخذ هذه النظرية كثير من العامة واستخدموها حجة

بحسن نية للتحلل من أحكام الشريعة.

فمن الذي يضع حدود الضرورة والمصلحة ومعالمهما وضوابطهما

وشروطهما [17] ؟

رابعاً: أصول الفقه أداة الاتباع:

نخطئ كثيرًا حينما نَقْصر فائدة أصول الفقه على العلماء وأهل الاجتهاد؛ فإذا

كنا نطالب الناس باتباع الدليل، لا سيما طلبة العلم منهم، وننهاهم عن التقليد

واتباع أقوال الرجال، فأنَّى لهم العمل بالدليل إذا لم تكن لديهم الآلة التي تمكنهم من

فهم هذا الدليل؟

لعلِّي لا أبعد القول في أن مطالبة الناس وطلبة العلم باتباع الدليل مع عدم قرن

ذلك بضرورة اتباع المنهج السليم في فهم النص هو الذي أفرز الظواهر المَرَضيّة

التي تحدثنا عنها سابقاً، وكيف نطالب الناس باتباع الدليل وكثير منهم في كثير من

المسائل يجهل كيفية فهم الدليل؟

وعليه؛ فحتى نكون معتدلين في مطالبتنا باتباع الدليل وترك التقليد لا بد أن

نقرن هذه المطالبة بضرورة التنبيه على الأخذ بآلة الفهم الصحيح، فتكون دعوتنا

بذلك متكاملة واضحة المعالم.

» وقصارى القول في هذه القضية: أن كل من اشتغل بالفقه الإسلامي لا بد

له من معرفة هذه الأصول؛ لأنها تُكوِّن العقل السليم المنتج، ولذلك كانت دراسته

بعد أن كملت قواعده واشتغل العلماء بتدريس العلوم الإسلامية، تسير جنباً إلى

جنب مع دراسة الفقه من غير تفرقة بينهما إلا في ترتيب سِنيِّ الدراسة « [18] .

خامساً: أصول الفقه أداة لتمييز السُّنَّة من البدعة:

من الأخطاء التي وقع فيها كثير من الإسلاميين في هذه الأيام لا سيما الشباب

منهم، اعتقادهم أنّ كل حديث ثبتت صحته فظاهره سنة وما يخالفه بدعة، وقد

أوقعهم هذا الاعتقاد الخاطئ في مخالفة سنن صريحة أخرى متفق عليها، وما لبثوا

أن أصبحوا بذلك فرقاً وأحزاباً يبدِّع بعضها بعضاً؛ وواقع شباب الصحوة في كثير

من البلدان يشهد بهذا.

ومما ترتب على هذا أن اعتمد أصحاب هذا الفهم الخاطئ مبدأهم هذا قاعدة

لمبدأ آخر لكنّه أشد منه خطورة ألا وهو وَصْم كل من لم يعمل بالسنن التي ظنوها

سنناً بمخالفته للسنة، أو تفريطه في السنة، ثم تبديعه وتفسيقه، ولا تسل بعد ذلك

عن آثار هذه الفتنة!

إنّنا حينما نُحذِّر من هذا المنهج الغالي في فهم النصوص فإننا في المقابل نُحذِّر

كل الحذر من الطرف المقابل ألا وهو إهمال النص والاعتماد على العقل، وهو

منهج المدرسة العقلية التي تمثلت في المعتزلة قديماً، وتتمثل في بعض أفراخهم من

العصرانيين حديثاً.

لقد شارك هؤلاء بجناية مقابلة؛ حيث ردُّوا كثيرًا من الأحكام الشرعية بحُجة

مناقضتها للعقل؛ فبعضهم ردّ حديث الذبابة، وضاق عقل بعضهم أن يفهم كيف

جعل الشارع دية المرأة على النصف من دية الرجل؟ وكيف يكون الإنسان ولو

كافرًا مملوكاً لإنسان آخر يبيعه ويشتريه؟ وكيف يقاتل غير المسلمين من نصارى

وغيرهم، إذا لم يدخلوا تحت لواء الإسلام؟ إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية

القائمة منذ عهد التشريع إلى قُبَيْل زماننا هذا؛ حيث تسلط أولئك على رقاب

النصوص بالنقض بحجة معارضتها للعقل.

إن جناية الفريقين ربيبة إهمال ضوابط الفهم والاستدلال المتمثل جزؤها

الأكبر في أصول الفقه.

سادساً: والعامة يحتاجون أصول الفقه:

نعم، العامة يحتاجون أصول الفقه! أليس من مباحث أصول الفقه: الفتوى

وآدابها، والمفتي والمستفتي وما يتعلق بهما من أحكام؟ ومن هو المستفتي؟ أليس

العامي؟ ألا يجب أن يعرف كيف يسأل ومن يسأل؟ !

ألسنا نلحظ خللاً كبيراً في هذا الجانب؛ فالعامة لا يعرفون من هذه الأحكام

شيئاً؛ فلذلك لا يعرفون كيف يسألون، ومن يسألون؟ فللفتوى يسألون كل من

تصدَّر حتى ولو لم يُشتهر بالفقه والفتوى؛ فنشاهد كثيراً من العامة يتجهون بأسئلتهم

إلى كل من يحلو لهم، إما لجمال صوته في قراءة القرآن، أو لحسن أدائه لخطبة

الجمعة، أو لاشتهاره بالتسهيل على الناس.

ثمّ إذا استفتوا أحداً ذهبوا إلى آخر يستفتونه في المسألة نفسها، فإذا أجابهم

بغير ما أجاب الأول وقعوا في حيرة، فذهبوا إلى ثالث يحكم بين سابقيه، ثم يقعون

في دوامة.

أليس من مباحث أصول الفقه: الاجتهاد، والمسائل الاجتهادية، وموقف

المسلم منها؟ ألا يحتاج العامي أن يعرف ماذا يفعل في مسألة قال له أحدهم إنها

حلال، وقال له الآخر: بل حرام، بِمَ يأخذ ومن يتبع؟ ! كل هذا مفصل في

أصول الفقه.

قد يقول قائل: دع العامي يتعلم أولاً ما يهم دينه، فإذا أتقن ذلك فلينتقل إلى

أصول الفقه! ولهذا القائل نقول: أصول الفقه من الدين، ولا سيما المباحث التي

ذكرناها، ثم ألا يحسن بالمتعلم أن يتعلم أولاً كيف يتعلم، وممن يتعلم؟ نعم! لا

نقول للعامة: اذهبوا فاقرؤوا رسالة الشافعي في أصول الفقه، ولا روضة الناظر

لابن قدامة، ولا مختصر ابن الحاجب.... ولا غيرها، ولكن نقول لأهل العلم

والخطباء والدعاة: ادرسوا هذه المسائل، وقربوها للناس وعلموها لهم.

لقد أدى إهمال الدعاة لهذه الجوانب العلمية إلى بروز مشكلات كثيرة متعلقة

بالاجتهاد والمسائل الخلافية، وما الفوضى الفقهية التي نعيشها هذه الأيام إلا من

إفرازات هذه المشكلة.

فوائد متفرقة لعلم أصول الفقه:

- منها أنه يعين على معرفة مراتب العلماء وطلبة العلم والمشتغلين به: المقلد

منهم الذي يحفظ الأقوال مجردة، من ذلك العالم الذي استنبط واستدل، فليس الأول

كالثاني، وهذا مهم، فلا شك أن قول المستدل ليس كقول غيره ممن اكتفى بالتقليد،

ولم يعرف مأخذ الدليل ووجه الدلالة.

وعليه فإننا سنتمكن من إنزال أهل العلم منازلهم اللائقة بهم فيما نأخذ عنهم،

كل حسب تخصصه، فليس المحدِّث كالفقيه، والعكس صحيح، وليس اللغوي

والمؤرخ كالمحدِّث وهكذا، فهل يصح أن نسأل اللغوي عن صحة حديث،

والمحدِّث عن مسألة أصولية.. وهكذا؟ وهذا طبعاً إذا لم تتنوع معارف المشتغل

بالعلم ويبرز فيها، وهو قليل في هذه الأزمنة.

إن عدم تقديرنا لهذا الأمر، ووجود الرؤية الضبابية حول هذا الأمر جعلنا

نزج بالمحدِّث الذي لا يحسن الفقه والأصول في حلبة الفقه بل في أشد المسائل

الفقهية وُعُورةً، وأصبح كل من اشتهر بصرف النظر عما اشتهر فيه مفتياً، بل

عالماً علاَّمة يُسأل عن كل فن؛ فالواعظ يُسأل عن الأصول، والمفكر يُستفتى،

والأديب يُسأل عن صحة حديث، والفقيه عن اللغة.. وهكذا، وقد يغتر المسؤول

بكثرة سائليه؛ فيظن من حيث لا يشعر أنه أهل للجواب في هذا الفن، فيقتحم

المخاطر فيهلك ويُهلك. نسأل الله العافية.

ثم تجاوز الأمر هذه المحنة إلى أخرى أشد منها، فأصبح هذا المسؤول عند

أصحابه ومحبيه، أو لنقل مقلديه، حاكماً على كثير من القضايا والنوازل، حتى لو

لم يمتَّ إليها بصلة، أو ليس له بها أدنى اطلاع، بل تجاوزت أهليته للحكم عند

بعض الناس إلى أهليته للحكم على غيره من المشتغلين بالعلم، فأصبح الإمام الذي

على قوله يسيرون، وبهديه يهتدون، القول قوله، والحكم حكمه، ولا حول ولا

قوة إلا بالله العلي العظيم.

إنّ من إنزال أهل العلم منزلتهم أن نعرف تخصصاتهم، وماذا يجيدون وماذا

يحسنون، وليس في هذا انتقاص ولا ازدراء.

ليس كل من أُطلق عليه عالم هو عالم حقيقةً؛ فكثير من المشتغلين بالعلم في

هذا الزمان لا تصدق عليهم هذه الكلمة ألبتة، وهل من اقتصر على معرفة أقوال

الفقهاء وعلى مذهب واحد أيضاً، ولم يعرف الأدلة ولا مآخذها وكيفية استنباط

الأحكام منها، يُدعى عالماً ... ؟

وقُل مثل هذا في من اقتصر على جملة من الأحاديث واشتغل بالمصطلح

والتخريج والتحقيق.

إن اندراس العلم في هذه الأزمنة هو الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة، ولم يكن

هذا ليحدث لو أُنزل كل صاحب علم منزلته بناءاً على ما يُحسن، والله الهادي إلى

الصواب.

- ومنها أهميته في الردّ على المخالفين لأهل السنة والجماعة؛ فأصول الفقه

تعيننا على الرد على كل من أخطأ التعامل الصحيح مع النصّ، سواء كان من

عقلانيي العصر الحديث، أو من أهل الجمود الظاهري. وفي ما تقدم بيان واضح

على ذلك.

- ومنها أنه يعين الإنسان على سرعة الفهم والحفظ؛ لأنه بتمكنه من أصول

الفقه يتمكن من معرفة أصول المسائل وما بنيت عليه، ثم يستطيع أن يُلحق

المسائل المتشابهة بعضها ببعض، ولا شك أن هذا من أقوى أسباب سرعة الفهم

والحفظ.

- ومنها أنه يورث الإنسان الدقة في التعبير، سواء كان كتابيًا أو شفهيًا،

فيتوخى الدقة في اختيار الألفاظ وبناء التراكيب، ويرتب النتائج على المقدمات

ترتيباً سليماً، ثم ينظم الأفكار في سلسلة مترابطة مُحكمة الصياغة قوية البناء.

- ومنها أنه يورث الإنسان الطريق الصحيح للحوار والجدل، وجودة

المناظرة، وقوة الحجة؛ فلا تطول المناظرة بلا داع كما يحدث في كثير من

المناظرات اليوم.

- ومنه أنه يعين الإنسان على اتساع الصدر للمخالف الذي بنى خلافه على

دليل يُعتد به، وقبول رأيه، وعدم اعتداده برأي نفسه؛ فإدراكه لوجود الاختلاف

في هذه المسألة، وقوة دليل المخالف يجعله منفتح الذهن، متسع الصدر للرأي

المخالف في المسائل الاجتهادية، مرن التعامل من غير تساهل محرَّم ولا تعصب

مذموم.

نسأل الله عزّ وجل أن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا

اتباعه إنه سميع عليم، والصلاة والسلام على سيد الأنام خير ولد عدنان وآله

وصحبه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015