دراسات في الشريعة والعقيدة
أبو أنس ميمون باريش [*]
لم أكن لأُنفق وقتاً قل أو كثر للكتابة في موضوع حَسَم فيه الشرع سلفاً لو أن
القضايا الشرعية لا يتكلم فيها إلا من له إلمام بأصول الشرع: ضبطاً لمصادره،
وإحاطة بنصوصه، وتفقهاً لاجتهادات مجتهديه، لكن والأمر ليس كذلك أجدني
أحياناً مضطراً لأقول كلمتي في بعض القضايا التي تطلعنا عليها بعض المؤلفات
المعاصرة، أو وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة على السواء؛ ومن أمثلتها
القضية التي أثارتها في صفحة قضايا ساخنة جريدة الأحداث المغربية مشكورة، في
إطار الحوار الذي أجرته مع أحد الباحثين المدرسين لمادة القانون بسويسرا،
والمتخصصين في العلاقة بين الدين والقانون.
وقد دار الحوار حول موضوع: «ختان الأطفال» وهو منشور بتاريخ 27
28 ذو القعدة 1420هـ الموافق 4 5 مارس عام 2000م، تحت عنوان: «ختان
الأطفال عادة تمسُّ الحق في سلامة الأبدان، وإلغاؤه جزء من تحرير الإنسان» .
ما أروعه من عنوان لما فيه من السجع والبيان لولا ما فيه من الزور والبهتان
؛ إذ هو عبارة عن صورة مصغرة عن المقال المنشور، والمقال صورة مصغرة
عن كتاب ألفه الباحث نفسه في الموضوع ذاته، ومن خلال العنوان تتضح جلياً
أهداف صاحب المقال ومقاصده ومراميه وطبيعة دعوته، واللبيب تكفيه الإشارة.
وبكل وضوح فإن الباحث المذكور يدعو بصراحة وثقة في النفس لا نظير لها
إلى محاربة عملية الختان والقضاء عليها، ولم يقف به الأمر عند هذا الحد، بل
امتد به إلى درجة التدليس والاختلاق على الأديان السماوية بما في ذلك الدين
الإسلامي؛ إذ الباحث يدَّعي أنه قضى ست سنوات من الدراسة والبحث والتنقيب
والتفتيش والتقميش انتهت به إلى تأليف كتابه المطبوع المتداول: «ختان الذكور
والإناث في الديانات السماوية الثلاث» أعلن فيه مسروراً نتيجة بحثه التي أعرب
عنها أيضاً في الحوار الذي أجري معه، وإليك مضمونه مختصراً ومركَّزاً، مع
المحافظة على عبارته في الغالب الأعم.
فبعد أن حاول الباحث يائساً أن يبين أن عملية الختان هي عادة ضارة ومخالفة
لحقوق الإنسان من حيث إنها عنف واضطهاد، وتعدٍّ على سلامة الأبدان عمد إلى
نفي الطابع الشرعي لهذه العملية الجراحية مدعياً أنها عرف يهودي سيئ نقله من
أسلم من اليهود وفرضوه على المجتمع الإسلامي فرضاً؛ هذا مع تأكيده على أن
القرآن الكريم لم يذكر الختان بتاتاً ولا نص عليه، وأنه على خلاف ذلك ينص على
كمال الخلقة، ويدعو إلى احترام الأبدان ثم يقول: «وعلى هذا الأساس فسكوت
القرآن عن الختان ليس عبثاً؛ فالختان بوصفه تعدياً على سلامة جسد الإنسان يعتبر
خرقاً للمفهوم الفلسفي للقرآن بأن الخلق كامل» .
ثم بعد محاولته اليائسة هذه لنفي الشرعية القرآنية على الختان يحاول يائساً
كذلك نفي الشرعية السنِّية عنه فيقول: «وهناك المصدر الثاني للشريعة الإسلامية
وهي السنة؛ فبعد تمحيصي لكل النصوص التي صدرت في ختان الذكور يمكن
القول: إن كل هذه النصوص ضعيفة، وكل الأحاديث التي وردت في ختان الذكور
مختلقة، وما روي منها أكثره عن الرواة اليهود، إلى درجة أنَّ ختان النبي صلى
الله عليه وسلم غير معروف؛ فهناك أربع روايات متضاربة تماماً بخصوص ختان
النبي صلى الله عيه وسلم، وأكثر الظن أنه لم يختن» اهـ.
والذي يظهر من هذه النقول وهي غيض من فيض أن كلام الباحث يفتقر إلى
أدنى مستوى من العلمية والمصداقية، بل أغلب ما فيه عبارة عن تمويه وتدليس
وتزوير وبهتان ما أنزل الله به من سلطان، ولا يقوم عليه دليل ولا برهان، ولا
سيما أن الباحث يستعمل عبارات الجزم والدقة واليقين، ويدَّعي اعتماد المنهج
الاستقرائي في أرقى مظاهره وهو الاستقراء التام للنصوص الشرعية، وهو يعلم
أن الاستقراء التام لا يدَّعيه عاقل حتى في العلوم الدقيقة المجردة. وإليك أخي
القارئ بياناً لمكانة الباحث العلمية، وكشفاً عن جهله التام بالأديان السماوية؛ وذلك
باستقرائه الناقص للنصوص القرآنية الكريمة وللأحاديث النبوية الصحيحة
والحسنة، ولأقوال علماء الأمة، ولما تقتضيه العادة والفطرة في عملية
الختان.
مشروعية الختان من القرآن الكريم:
الأمر الذي لا يختلف فيه عاقلان أن القرآن الكريم لم ينص تنصيصاً على
جميع جزئيات الشرع؛ بل ذكر بعضها بصيغة الإبهام، وبعضها الآخر بالإطلاق،
وبعضها بالعموم تاركاً المجال واسعاً للسنة النبوية الشريفة لتبيين المجمل وتقييد
المطلق وتخصيص العام؛ فلا نجد في القرآن الكريم ذِكراً لعدد ركعات الصبح أو
الظهر أو العصر أو غيرها، ولا نجد ذكراً لنصاب المال الذي تجب فيه الزكاة ولا
لمقدار ما يجب في المال منها، إلا أن السنَّة فصَّلت ذلك تفصيلاً سواء كان ذلك
بالخدمات المذكورة آنفاً، أو بإضافة أحكام جديدة باعتبار أنها وحي يوحى بلغة
صاحب الشرع الذي لا ينطق عن الهوى. ولكن كان من منهج السلف الصالح في
مناظراتهم مع من أنكر مشروعية أمر لعدم وروده في القرآن الكريم تنصيصاً، أن
يقيموا عليه الدليل بنص من النصوص القرآنية الداعية إلى ضرورة اتباع محمد
صلى الله عيه وسلم والاقتداء به في أفعاله وأقواله وتقريراته.
ومن أمثلة ذلك: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن مسعود
قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلِّجات
للحسن المغيِّرات خلق الله.
فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن فأتته،
فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات
والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ ! فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن
رسولُ الله صلى الله عيه وسلم؟ ! وهو في كتاب الله. فقالت المرأة، لقد قرأت ما
بين لوحي المصحف فما وجدته! ! فقال: لئن كنت قرأته لقد وجدته! قال الله
تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] (الحشر: 7) [1] .
هذا إذن هو المنهج الذي كان الصحابة خاصة والسلف الصالح عامة يسلكونه
مع منكري الأحكام الشرعية غير المذكورة لفظاً في القرآن الكريم، وهو المنهج
نفسه الذي سنسلكه مع كل من أنكر تنصيص القرآن على عملية الختان، فنقول له:
لو قرأت فعلاً القرآن قراءة تأمل وتدبر وإمعان وإنصاف لوجدت فيه ذكراً صريحاً
للختان وما في معناه من مظاهر الفطرة التي فطر الناس عليها وكانت في المرسلين
أوْكد، والدعوة إلى الاقتداء بهم دعوة صريحة إلى الأخذ بها، وبيان ذلك في الآتي:
أ - القرآن يدعو إلى اتباع ملة إبراهيم عليه السلام ومن ملته الاختتان.
والنصوص الداعية إلى ذلك كثيرة أذكر بعضاً منها:
- قوله تعالى: [ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ
المُشْرِكِينَ] (النحل: 123) .
- قوله عز وجل: [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] (البقرة: 130) .
ومن مظاهر ملة إبراهيم الاختتان؛ إذ ورد في نصوص شرعية عدة أن
إبراهيم هو أول من اختتن من البشرية، ومن ملته التي يجب اتباعه فيها الاختتان،
وقد ثبت في الصحيحين وعند الإمام أحمد عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم:» اختتن إبراهيم
عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم « [2] .
وإبراهيم عليه السلام لم يكن ليختتن من تلقاء نفسه مع ما يسببه الاختتان من
المشقة لكبار السن لو أن الأمر لم يكن أمراً إلهياً؛ وهذا ما يرشد إليه ما رواه أبو
يعلى من طريق علي بن أبي رباح قال:» أُمِرَ إبراهيم بالختان، فاختتن بقدوم
(وهي آلة النجارة) فاشتد عليه، فأوحى الله إليه أن عجلت قبل أن نأمرك بآلته.
فقال: «يا رب! كرهت أن أؤخر أُمرك» [3] فالختان إذن مظهر من مظاهر الملة
التي أمر إبراهيم الخليل بإظهارها والتي أمرنا باتباعه فيها، والأمر يفيد حكماً
شرعياً يقتضي الامتثال. يقول العلاَّمة الفقيه أبو العباس القرطبي: «قلت: قد
تقدم أن إبراهيم أول من اختتن، وأن ذلك لم يزل سُنَّة عامة معمولاً بها في ذريته
وأهل الأديان المنتمين إلى دينه، وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم» [4]
وإذا كان إبراهيم الخليل قد أُمِرَ بالختان، وإذا كان المسلمون قد أُمِروا باتباع ملة
إبراهيم، فإن ضرورة البرهان تقتضي أن المسلمين مأمورون بالختان، والأمر
يقتضي الوجوب «؛ إذ الملة هي الفطرة وهي الدين؛ ومحال أن يأمر الله سبحانه
باتباع إبراهيم في مجرد الكلمة دون الأعمال وخصال الفطرة؛ وإنما أمر بمتابعته
في توحيده وأقواله وأفعاله، وهو عليه السلام اختتن امتثالاً لأمر ربه الذي أمره
وابتلاه به، فوفَّاه كما أمر؛ فإن لم نفعل كما فعل لم نكن متبعين له» [5] .
ب - القرآن يحث على ضرورة الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عيه وسلم،
ومن سنته الختان:
النصوص المرشدة إلى ذلك كثيرة جداً؛ باعتبار أن سنة محمد صلى الله عيه
وسلم تمثل جزءاً من الوحي مكملاً للقرآن وخادماً له، وسأكتفي في هذا المقام
بالنصوص الآتية:
1 - قوله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (الحشر: 7) .
2 - قوله عز وجل: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
الكَافِرِينَ] (آل عمران: 31-32) .
3 - قوله جل شأنه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء: 59) .
هذه النصوص وغيرها كثير تنص على أن محبة رسول الله صلى الله عليه
وسلم من محبة الله تعالى، وأن طاعته من طاعة الله تعالى، وأن اتباع سنته أمر
واجب على المكلف، وفي القرآن الكريم نصوص أخرى تحث آمرة على ضرورة
الاحتكام إليه صلى الله عيه وسلم في كل شيء تنازع فيه المكلفون سواء كان من
أصول الشريعة أو من فروعها، وذلك بعرضه على ما جاء به من الوحي قرآناً
وسنة، وهذا الحث طبعاً لا يستجيب له إلا من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً
وبالقرآن دستوراً ومنهجاً، وبمحمد صلى الله عيه وسلم نبياً ورسولاً وقاضياً وحكماً،
والرسول صلى الله عيه وسلم نفسه، فيما ثبت عنه بسند صحيح رغَّب في ذلك
وأكده بقوله: «عليكم بسنتي» [6] ولم يقف به الأمر عند هذا الحد، وإنما تبرأ من
كل راغب عن سنته معرض عنها؛ حيث قال كما ورد في الصحيحين وغيرهما من
كتب السنن: «من رغب عن سنتي فليس مني» [7] . واعلم أن من سنة نبينا
عليه الصلاة والسلام الختان سواء تعلق الأمر بسنته الفعلية أم القولية أم التقريرية.
أما بخصوص الأولى فعلى خلاف ما يدعيه المدعي من تضارب الروايات فيه؛
فالذي ترشد إليه هذه الروايات بغض النظر عن درجتها في الصحة أو الضعف أن
التضارب لم يحصل في إثبات ختانه أو نفيه، وإنما وقع في بيان طبيعة ختانه:
هل ولد مختوناً؟ أم ختنه جبريل عليه السلام يوم شق صدره؟ أم أن جده عبد
المطلب هو الذي تولى الأمر؟ وإلا فإن ختانه أمر مسلَّم به في جميع الروايات [8] .
ويلحق بهذا أيضاً ما تذكره بعض الروايات الحديثية من أن الرسول صلى الله عيه
وسلم قد تولى هذه العملية في حياته، ومن ذلك حديث جابر رضي الله عنه أنه قال:
«عق رسول الله صلى الله عيه وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة
أيام» [9] .
هذا بخصوص سنته الفعلية. أما بخصوص سنته القولية؛ فإن أحاديث نبوية
عدة فيها أقوال الرسول صلى الله عيه وسلم خرجت مخرج الأمر بالختان أو المدح
لفاعله أو الذم لتاركه، وأما التقريرية فمن الصحابة من خَتن أو خُتن ولم ينكر عليه
الصلاة والسلام ذلك، فكان هذا بمثابة تقريره للختان [10] .
مشروعية الختان من السنة النبوية الشريفة:
وإن كان المحاور قد ادَّعى أنه لم يجد نصاً صحيحاً في سنة رسول الله صلى
الله عيه وسلم، يشرع فيه الختان؛ فإن النصوص الصحيحة والحسنة مما يتضمنه
هذا المبحث يفيد خلاف ذلك تماماً فمن ذلك:
- ما روى البخاري ومسلم وغيرهما من أهل السنن عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: «الفطرة خمس: الختان،
والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط» [11] .
وتأملاً في هذا الحديث الصحيح وهو في أعلى مراتب الصحة يقول ابن القيم
رحمه الله: «فجعل الختان رأس خصال الفطرة، وإنما كانت هذه الخصال من
الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم، وهذه الخصال أُمِرَ بها إبراهيم وهي
الكلمات التي ابتلاه ربه بهن» [12] .
- حديث أبي أيوب الأنصاري بسند حسن أن النبي صلى الله عيه وسلم قال:
«أربع من سنن المرسلين: الختان، والتعطر، والسواك، والنكاح» [13] .
- أخرج الإمام أحمد والإمام أبو داود بسند حسن عن غثيم بن كليب عن أبيه
عن جده «قال للنبي صلى الله عيه وسلم: (أسلمتُ) . قال له النبي صلى الله عيه
وسلم:» ألقِ عنك شعر الكفر، واختتن « [14] .
- حديث عائشة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وغيرهم رضي
الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عيه وسلم قال:» إذا التقى الختانان فقد وجب
الغسل « [15] .
وهذا حديث صحيح يفيد وجوب الغسل إذا التقى الختانان في الجماع، وأراد
بالختانين الموضع الذي قطعت منه القلفة أو الغرلة بالنسبة إلى ذكر الغلام في إطار
الإعذار، والجلدة التي كعرف الديك بالنسبة إلى فرج الجارية في إطار الخفض.
والدليل على ذلك ما قاله ابن منظور مادة ختن:» ختن الغلام والجارية يَخْتِنُهما
ويَخْتُنُهما خَتْناً، والاسم الختان والختانة. والختان موضع الختن من الذكر وموضع
القطع من نواة الجارية. قال أبو منصور: هو موضع القطع من الذكر والأنثى
ومنه الحديث: (إذا التقى) ... « [16] .
- حديث ابن عباس رضي الله عنه قال:» سبعة من السنة في الصبي يوم
السابع: يسمى، ويختتن، ويماط عنه الأذى، ويثقب أذنه، ويعق عنه، ويحلق
رأسه، ويلطخ بدم عقيقته، ويتصدق بوزن شعره في رأسه ذهباً أو فضة « [17] .
فهذه كما تلاحظ نصوص حديثية في التنصيص على الختان إن وجوباً أو سنة،
وهي من قبيل ما روي عن رسول الله صلى الله عيه وسلم بطرق صحيحة أو
حسنة، وكلها في مستوى واحد من الاحتجاج إذا لم يحصل التعارض.
أقوال العلماء في مشروعية الختان:
لم أجد بعد البحث والتقصي في حدود طاقتي ومبلغ علمي أحداً من العلماء قد
قال بعدم مشروعية الختان سواء تعلق الأمر بعلماء السلف أم بعلماء الخلف، وأقل
ما يمكن أن يذكر هنا أن علماءنا قد اختلفوا في مشروعيته بين قائل بوجوبه، وقائل
بسنيته. فأما القائلون بوجوبه فهم: الشعبي وربيعة والأوزاعي ويحيى بن سعيد
الأنصاري ومالك والشافعي وأحمد والبيهقي. وأما الذين قالوا بسنيته فهم: الإمام
الحسن البصري والإمام أبو حنيفة وبعض الحنابلة. والقائلون بالسنية منهم
مَن شدد وأكد على ذلك باعتبار أن السنة هي الطريقة المتبعة وجوباً، والشرع الذي
يأثم بتركه من حيث إنها تقع بين الفرض والندب.
وإليك أقوال بعض علماء السلف في شأن الختان [18] : قال ابن عباس:
» الأقلف لا تقبل له صلاة، ولا تؤكل ذبيحته، ولا تجوز له شهادة «قال البيهقي
بعد أن ساق هذه الفتوى:» وهذا يدل على أنه يوجبه «.
وقال عكرمة: لا تأكل ذبيحة الأقلف، وقيل له: أله حج؟ قال: لا.
قال الإمام مالك: من لم يختتن لم تجز إمامته، ولم تُقبل شهادته.
وقال الخطابي:» أما الختان فإنه وإن كان مذكوراً في جملة السنن؛ فإنه عند كثير
من العلماء على الوجوب؛ وذلك أنه شعار الدين «.
وقال ابن القيم:» الختان عَلَم الحنفية، وشعار الإسلام، ورأس الفطرة،
وعنوان الملة « [19] .
هذه بعض أقوال علماء السلف في مشروعية الختان وإليك أيضاً بعض فتاوى
الخلف المعاصرين الذين عايشوا حقوق الإنسان عموماً وحقوق الطفل خصوصاً،
وهم ممن ينادي بها ويدافع عنها متى ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهي كالآتي:
- سئل فضيلة الشيخ عبد الله جبرين: ما حُكم الختان للمسلم الجديد؟ فأجاب
جزاه الله خيراً: ورد الأمر بالختان، وأنه من سنن الفطرة، وشُرع لإتمام الطهارة
في حق الرجل؛ فلذلك نرى أنه واجب لقوله صلى الله عيه وسلم:» ألق عنك
شعر الكفر واختتن «، وظاهر الأمر الوجوب، لكن إذا خيف أن يكون منفراً عن
الإسلام جاز لهم تأخيره وإخبارهم بحكمه بعدما يثبت في الإسلام ويحبه» [20] .
- وسئل فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي عن الختان عامة؟ فأجاب حفظه
الله: «أما الختان للنساء، فأعدله الختان الخفيف، وأما الختان للذكور فهو من
شعائر الإسلام، ولا يجوز تركه، وتركه كترك الأذان وغيره من شعائر
الدين» [21] .
الدليل العقلي على مشروعية الختان:
كل الدلائل العقلية من عادة وطبيعة وتجربة وغيرها تؤكد أن السلامة الصحية
في الختان أوكد لا في عكسه. وقد تتبع العلماء من فقهاء ومتخصصين وأطباء ذلك،
فانتهى بهم الأمر إلى التنصيص على ما يأتي:
أ - أن الأقلف أي الذي لم يختتن في حكم من به سلس البول أو غيره
لاحتباس البول في القلفة؛ إذ إن «الأقلف مُعرَّض لفساد طهارته وصلاته؛ فإن
القلفة تستر الذكر كله فيصيبها البول، ولا يمكن الاستجمار لها، فصحة الطهارة
والصلاة موقوفة على الختان» [22] .
ب - الختان يساهم في تحقيق التوازن الجنسي عند بني آدم. يقول ابن القيم:
«هذا مع ما في الختان من الطهارة، والنظافة، والتزيين، وتحسين الخلقة،
وتعديل الشهوة التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، وإذا عدمت بالكلية
ألحقته بالجمادات؛ فالختان يعدلها» [23] .
إضافة إلى ما سبق أو تأكيداً له ذكر الأطباء فوائد صحية جمَّة للختان؛ أكتفي
هنا بما ساقه الدكتور صبري القباني في كتابه: «حياتنا الجنسية» ، ومن ذلك:
1 - بقطع القلفة يتخلص المرء من المفرزات الدهنية، ويتخلص من السيلان
الشحمي المقزز للنفس، ويحال دون التفسخ والإنتان.
2 - بقطع القلفة يتخلص المرء من خطر انحباس الحشفة أثناء التمدد.
3 - يقلل الختان إمكان الإصابة بالسرطان؛ وقد ثبت أن هذا السرطان كثير
الحدوث في الأشخاص المتضيقة قلفتهم؛ بيد أنه نادر جداً في الشعوب التي توجب
عليهم شرائعهم الختان.
4 - إذا شرعنا في ختان الطفل أمكننا تجنيبه الإصابة بسلس البول الليلي.
5 - يخفف الختان من كثرة استعمال العادة السرية لدى البالغين « [24] .
وفي حوار علمي أجريته مع فضيلة الأستاذ الدكتور صلاح الهسكوري [25] ،
وهو المتخصص في أمراض الأطفال بمدينة مراكش. أكد لي حفظه الله أن الختان
خير كله بالنسبة لصحة الطفل البدنية والنفسية؛ شريطة أن يتم وفق شروط معينة،
وبأدوات متميزة، وفي ظروف مناسبة؛ لوقاية الطفل من كل مكروه إن عاجلاً أو
آجلاً، ثم ذكر أن الطفل في أمريكا يختتن يوم ولادته، وهذه المبادرة دليل على
أهمية الختان الصحية.
وهذه المفاهيم نفسها أكدها فضيلة الأستاذ الدكتور محمد توفيق جسوس وهو
متخصص أيضاً في علاج أمراض الأطفال بمراكش، ثم أضاف حقيقة طبية مفادها
أن الأقلف أي غير المختتن قد يتسبب لزوجته في مرض سرطان الرحم.
ولولا ما تقتضيه السرعة الإعلامية للرد على ما أثاره صاحب النظرية الفاسدة
من مغالطات لجمعت عشرات الأقوال لأطباء مرموقين يشهد لهم بالسبق في ميدانهم
بهذه المدينة المباركة كلها في صميم الدحض لطروحاته اللاعلمية والتقويض لها،
فلنحترم التخصص.
وأخيراً: لا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة هي من الأهمية بمكان، ومضمونها
أن وسطية الإسلام ويسره وما يرومه من جلب المصلحة ودرء المفسدة كل ذلك
يرخص للمكلف بإسقاط فرضية الختان إذا خيف التلف أو الضرر، لا سيما إذا كان
الطفل أو المسن الذي أسلم بعد الشيخوخة ضعيفاً لا يقوى على احتماله.