دراسات في الشريعة والعقيدة
خميس بن عاشور [*]
يعتقد الكثير ممن يُحسبون على الثقافة أن العقائد الدينية كلها «دوغمائية»
أي مؤكدة من غير دليل؛ وإن كان ذلك ينطبق على كثير من الأديان الوضعية أو
السماوية المحرفة فإن العقيدة الإسلامية بعيدة كل البعد عن هذه التهمة، ولذا لا نخال
الحاكمين بهذه المقالة قرؤوا كتاب الله عز وجل بتدبر، أو درسوا شيئاً مما يعوَّل
عليه من فنون الإسلام وعلومه وعلى رأس ذلك علوم السنة النبوية الشريفة؛ لأننا
في دوائر العلوم الإسلامية نجد أن الإجماع منعقد على أن العلم قبل القول والعمل؛
وذلك أن الاعتقاد هو تصور جازم سواء طابق الواقع أو خالفه، وسواء كان ذلك
الاعتقاد صحيحاً أو خاطئاً على مقتضى أحكام العقول أو النقول، بينما العلم هو
اعتقاد الشيء على ما به مع شرط مطابقة الواقع؛ ولذلك فإننا نجزم بما لا مجال
للريب فيه أن العقيدة الإسلامية هي عِلْم أولاً وقبل كل شيء؛ لأنه لا مكان في
الإسلام لاعتقادٍ لا يؤسس على دليل علمي سواء كان عقلياً صريحاً أو نقلياً صحيحاً
. قال - تعالى -: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] (الإسراء: 36) ، وقوله - تعالى -: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] (محمد: 19) .
وهؤلاء الزاعمون من أهل الثقافة المنحرفة لا يعيرون أي اهتمام لأبسط
الأبجديات الإسلامية، وكأنهم لا يعلمون أنه من أول ما نزل من القرآن الكريم
الدعوة إلى وجوب القراءة؛ فقد قال - تعالى -: [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]
(العلق: 1) ، والقراءة هي أول مدارج العلم والمعرفة، وفضل العلم في الإسلام لا
يضاهيه أي فضل؛ وقد وجه الإسلام أتباعه إلى الاستزادة منه فقال - تعالى -:
[وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] (طه: 114) . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً
من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن
العَالِم ليستغفر له مَن في السماوات ومَن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن
فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء
ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم فمن أخذ به
أخذ بحظ وافر» [1] .
وجاء في كتاب العلم من صحيح البخاري رحمه الله باب: العلم قبل القول
والعمل، وقال جل ذكره: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) ،
وقال سبحانه: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 9) .
إن من أساسيات المنهج العلمي الملاحظة والافتراض، ثم التجربة والاستنتاج؛
ولقد نعى القرآن الكريم على الكفار عدم استعمالهم لوسائل الإدراك التي يتحقق بها
هذا المنهج العلمي الذي يقود حتماً إلى الحقيقة الإيمانية، قال - تعالى -: [وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ
بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ]
(الأعراف: 179) .
ولقد حفلت آيُ القرآن الكريم بتطبيقات كثيرة لهذا المنهج العلمي؛ فهذا
إبراهيم الخليل عليه السلام رأى قومه يعبدون الكواكب ويشركونها مع الله عز وجل
فأراد أن يقنعهم ويستدل لهم على بطلان ما هم عليه من الاعتقاد، فاستعمل المنهج
العلمي الذي يحقق تلك الغاية النبيلة فافترض، ثم جرَّب، ثم استنتج النتيجة
المطلوبة وهي بطلان الشرك أمام حقيقة التوحيد السامية. قال - تعالى -:
[وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي] (الأنعام: 75-76) إلى قوله - تعالى -:
[فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (الأنعام: 78-79) .
فقد كانت التجربة والاستنتاج هي الوسيلة الدافعة التي أظهرت أن
هذه المخلوقات السماوية لا يجوز لها عقلاً أن تكون أرباباً وآلهة معبودة من دون الله
عز وجل؛ لأنها تختفي وتزول، وهي خاضعة لنواميس الكون التي خلقها الله عز
وجل لحفظ الكائنات حتى تؤدي دورها الذي من أجله وُجدَت، وحتى تتحقق حكمة الله
في خلقها. فاعتقاد التوحيد في قصة إبراهيم مع قومه أساسه علمي راسخ،
ودليله ظاهر لا مجال فيه للشبهات والريب؛ ولكن قومه «الدوغمائيين» وأمام
حجة إبراهيم الدافعة تعنتوا واستعملوا العنف والقوة الظالمة لرد الحق الذي جاءهم به
قال تعالى: [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ
النَّار] (العنكبوت: 24) ، وكذلك كان ردهم عندما ألزمهم الحجة الباهرة على بطلان
عبادة الأصنام بقوله: [قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ]
(الأنبياء: 63) .
وأمام انقطاع حجتهم: [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ]
(الأنبياء: 68) ، وفي قصة موسى مع سحرة فرعون عندما هزمهم الله ونصر
نبيه عليه السلام: [قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ]
(الشعراء: 47-48) . واعتقاد هؤلاء السحرة بعد توبتهم وعلمهم بالإيمان
الصحيح كان مؤسساً على منهج علمي أكيد؛ وذلك أنهم كانوا أعلم الناس في
مملكة فرعون بالسحر، وعندما رأوا معجزة موسى علموا أن ذلك لا يمت بصلة
لجنس السحر الذي علموه، فانقدح في رُوعهم نور الإيمان عن علم ودليل وتوفيق
من الله عز وجل. ولذلك يرد كثيراً في القرآن الكريم اقتران العلم بالإيمان،
واقتران الذين يعلمون بالذين يؤمنون. قال تعالى: [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ
وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ] (الروم: 56) . وقال سبحانه: [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن
رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ] (الحج: 54) . وقال سبحانه: [لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ] (النساء: 162) . وقال
سبحانه: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ] (المجادلة: 11) .
وفي قوله تعالى: [وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ
مُّسْتَقِيمٌ] (الزخرف: 61) . وردت قراءة أخرى: (وَإِنَّهُ لَعلَمٌ لِّلسَّاعَةِ) ، أي
أمارة، وقد فرق الأصوليون بين الدليل والأمارة من حيث إفادة اليقين أو الظن،
ولكن المقصود هنا أن مادة العلم في القرآن العربي المبين تدور حول الدليل
والأمارة؛ حيث ذهب المحققون من أهل الأصول أنه لا فرق بين الدليل والأمارة
من حيث إفادة اليقين أو الظن [2] ، وهذا ما يعني أن الإيمان في الإسلام علم سواء
كان عن استدلال ونظر أو عن اعتقاد فطري؛ لأن كل ذلك مطابق للواقع وموافق
لنصوص الكتاب والسنة التي تصحح الإيمان الفطري وتحث كذلك على الاستدلال
والنظر العقليين لزيادة اليقين وترسيخ العقيدة، والآيات في ذلك كثيرة من مثل قوله
تعالى: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (العنكبوت: 20) . وقوله: [أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى
السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ] (ق: 6) . وقد ذهب
بعض المحققين إلى أن معرفة الدلائل العقلية قد تجب في حق من تساورهم
الظنون وتراودهم الشكوك؛ وذلك من أجل أن يُدعِّموا قاعدة الإيمان عندهم؛
فلا يلقوا ربهم إلا بقلب سليم خالٍ من الشُّبَه المهلكة [3] .
والإيمان بالنبوة والرسالة أساسه صدق الرسول؛ وهذا الصدق قد يُعرف
بأوصاف معينة، وقد يكون عن طريق المعجزة؛ فكثير من الناس دخلوا في دين
الله أفواجاً عن طريق ما عرفوه من صفات الرسول صلى الله عيه وسلم الحميدة،
وشرف ما يدعوهم إليه من المكارم؛ ومن ذلك ما قاله جعفر بن أبي طالب للنجاشي:
إن الله بعث لهم رسولاً يعرفون نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعاهم إلى التوحيد
وترك الشرك، وأمرهم بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار
والكف عن المحارم والدماء، ونهاهم عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم
وقذف المحصنات، وأمرهم بالصلاة والزكاة والصيام. قال جعفر بن أبي طالب:
«فصدَّقنا وآمنا به، واتبعنا ما جاء به من الله» [4] .
وأساس العقائد الدينية هو الإيمان بما جاءت به الرسل؛ وصدقُ الرسول
صلى الله عيه وسلم ثبت ضرورةً؛ فكان كل ما أخبر به صدق؛ لأن الصدق لا
يولّد إلا صدقاً وهذا استنتاج علمي.
وخلاصة القول أن العلم الذي سبيله الاستدلال العقلي أو النقلي هو منهج
العقيدة الإسلامية، وهذا ما أثبتته نصوص الكتاب والسنة، وأن «الدوغمائيين»
الحقيقيين هم الذين يوظفون الجهل والتدليس لتحقيق أغراضهم في الصد عن سبيل
الله، ولكن إذا كان الصراع بين العلم والجهل، والعالم والجاهل فلا ريب أن النصر
سيكون حليف العالم؛ فكيف بمن هو أعلم؟ ولا أعلَمَ من كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عيه وسلم.