وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
لبث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاماً يحذر الناس من
الشرك، ويدعوهم إلى التوحيد، ويربي المؤمنين عليه. ولكنَّ العجيب اللافت
للنظر أنَّ ذلك الأمر العظيم لم يصرف النبي صلى الله عليه وسلم عن العناية بحقوق
الناس الدنيوية، وحاجات المستضعفين؛ ففي العهد المكي تنزل عليه قول الله -
تعالى -: [وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ
أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ] (المطففين: 1-6) . وقوله - تعالى -: [إِنَّهُ كَانَ لاَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ] (الحاقة: 33-34) .
وقوله - تعالى -: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ] (الماعون: 1-3) ، ونحوها من الآيات كثيرة جداً،
ومثلها كذلك الأحاديث النبوية التي تواترت في الحث على السعي في قضاء حاجات
الناس وتفريج كرباتهم؛ فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو
المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن
فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات القيامة، ومن ستر مسلماً ستره
الله يوم القيامة» [1] . وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» . وأحسبه
قال: «كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر» [2] .
إنَّ أولويات الدعوة والتغيير في هذه الأمة كثيرة جداً، والحكمة الشرعية
تقتضي البدء بالأوُلى فالأوْلى، ولكن هذا لا يعني إلغاء العناية بالحاجات الدعوية
والاجتماعية المفضولة؛ فالأمور تقدر بقدرها، والفقه الناضج هو الفقه الذي يوائم
بين تلك الحاجات بتوازن تام.
ومن ذلك السعي الحثيث لكفالة ضروريات الناس وتوفير حاجياتهم التعليمية
والاجتماعية والصحية.. ونحوها؛ فهي من الطرق الرئيسة للتأثير على نفوسهم
وتأليف قلوبهم. قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبدْ قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسانَ إحسان
وقد التفت إلى هذا الأمر في عصرنا فرق كثيرة من أهل الضلال، منهم:
1 - الشيوعيون الذين طالبوا بحقوق العمال والطبقات الكادحة - زعموا! -،
وأصبحت شعاراتهم البراقة - في يوم من الأيام - تكتسح صفوف المستضعفين
والبسطاء..!
2 - المنصّرون الذين استغلوا ثالوث الفقر والمرض والجهل الذي يضرب
بجِرانه في أنحاء المعمورة لترويج باطلهم.
ونحن الدعاة أوْلى الناس بهذا الأمر، فمن الخطأ الجسيم الذي قد يرتكبه بعض
الدعاة أن يتغافلوا عن مشكلات جمهور الأمة، وأن يهمشوا قضايا رجل الشارع
العادي واحتياجاته اليومية؛ فليس من فضول البرامج الدعوية أن تُؤسس الجمعيات
الخيرية التي ترعى العجزة والأرامل والأيتام، وليس من العبث أن نسعى في
حاجات الفقراء والمستضعفين والمرضى، وليس من الفقه والسياسة الشرعية أن
نتعامى عن التصدع النفسي والاجتماعي الذي ينخر في ديار المسلمين، وليس من
المروءة أن نقصر الجهد في مواساة المنكوبين، وإغاثة الملهوفين. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛
إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [3] .
وإنك لتعجب أشد العجب من أن بعض الدعاة يدع كثيراً من الهموم العامة
للأمة، ولا يلقي لها بالاً، ويترك العلمانيين وأدعياء الوطنية يَلْغون فيها،
ويتشدقون بأطروحاتهم. ألا تتيح لنا ثقافتنا الإسلامية وأوْلوياتنا الدعوية أن نطرح
قضايا التنمية والنهضة، ونعالج مشكلات البطالة، وتعلو لنا يد جادة تدعو إلى
العدل الاجتماعي، ويكون لنا صوت مؤثر ورائد في انتشال الأمة من حمأة التخلف
والانحطاط الحضاري..؟ ! !
لقد رأيت لبعض فضلاء المفكرين الإسلاميين أطروحات فكرية تزري ببعض
الأعمال الاجتماعية والإصلاحية، وتهوِّن من شأن المؤسسات الخيرية، ويزعم أن
ذلك يستهلك طاقات الدعاة ويشتت جهودهم، ويبعدهم عن الهدف الحقيقي، والتغيير
الشامل لمسار الأمة..!
وهذا صحيح بلا شك إذا كانت تلك الأعمال الاجتماعية هي البرامج
الإصلاحية الوحيدة التي نقدمها للناس، ولكنها حلقة مهمة من حلقات النهضة الشاملة
للأمة إذا كانت تقدم في رؤية علمية واضحة المعالم ضمن سلسلة من الإنجازات
التي تأتلف مع بعضها، وتتكامل في رسالتها، وتخرج من مشكاة واحدة يتمم
بعضها بعضاً؛ فمنا من يعتني بالإصلاح الاجتماعي، وآخر يتخصص بالإصلاح
التربوي، وثالث يتصدر للإصلاح الفكري، ورابع للإصلاح السياسي.. وهكذا.
وأحسب أن من أبرز جوانب التحدي الذي تواجهه الصحوة الإسلامية هو
الدخول المتوازن لكافة شرائح المجتمع وطبقاته؛ فالطرح الإصلاحي النخبوي وحده
يبقى محدود التأثير منغلقاً في قاعات الدرس وبطون الكتب، والطرح الجماهيري
وحده يبقى ضعيف التأثير لا يستوعب إمكانات الأمة وقدراتها، ولا يحسن توظيفها
واستثمارها. وأما المواءمة بين الأمرين فهو التجديد الذي يحيي الأمة ويسلك بها
في سبيل النهضة والتغيير المنشود.