الإسلام لعصرنا
أ. د. جعفر شيخ إدريس
العقل جزء من الشرع؛ فكما أنه لا عقل كاملاً بلا شرع، فكذلك لا شرع
كاملاً بلا عقل، والشرع هو كل ما ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
فما العقل؟
كان السلف يقولون: إن العقل عقلان: غريزي، ومكتسب. فالغريزي هو
ما نسميه بالمقدرات العقلية مِن فَهمْ، وإدراك، وفقه، واتساق في الكلام، وحسن
تصرف إلى آخر ما سنبينه بعد إن شاء الله. هذا العقل الغريزي هو موضوع مقالنا.
العقل الغريزي هذا هو مناط التكليف؛ فمن لا عقل له لا يكلف، ومن فقد
بعض مقدراته العقلية؛ فإنما يُكلف بحسب ما بقي له منها.
والذي أعطي عقلاً ثم ألغاه فلم يستعمله الاستعمال الصحيح، ولم يلتزم بمبادئه
لا يفقه الدين، فلا يؤمن به، لكنه يحاسب على عدم فقهه؛ لأنه كان نتيجة لتعطيله
الاختياري لعقله [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ
لاَ يَعْقِلُونَ] (يونس: 100) .
فلا غرو أن جعل الله عقاب الذين لا يعقلون هذا هو نفسه عقاب الذين لا
يؤمنون: [فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ] (الأنعام: 125) ، الرجس في أصله اللغوي هو النتن، فكأن الآيتين
الكريمتين تدلان على أن نقاء القلب لا يتأتى إلا بنور العقل ونور الشرع.
وللعقل في القرآن معان بحسب نوع المعقول أعني نوع الشيء المراد عقله
وفهمه من هذه المعاني:
1 - فهم الكلام: [أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ
كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (البقرة: 75) . [إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] (يوسف: 2) . فبين أن السبب في جعله
عربياً هو أن يفهمه ويعقله أولئك المتحدثون بهذه اللغة.
2 - عدم التناقض في القول: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا
أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 65) ، فالذي
يقول: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً كأنه يقول: إن إبراهيم كان سابقاً في
وجوده لليهودية والنصرانية لكنه كان أيضاً لاحقاً لهما. وهذا كقوله - تعالى -:
[وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ
الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ
كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ]
(الأنعام: 91) هذا الكلام موجه لليهود الذين يزعمون أنهم يؤمنون بنبوة موسى؛
فكأن الآية الكريمة تقول لهم: إن من التناقض أن تقولوا: إن الله أنزل التوراة على
موسى، ثم تقولوا: ما أنزل الله على بشر من شيء.
3 - فهم الحجج والبراهين: [ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (الروم: 28) ، [قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (يونس: 16) .
4 - موافقة القول للعمل: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (البقرة: 44) ، ولذلك قال النبي الصالح: [قَالَ يَا
قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ
إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] (هود: 88) . لكن تصحيح هذا التناقض إنما يكون بجعل
العمل موافقاً للقول الصحيح لا العكس؛ فالذم في هذه الآية منصب على نسيانهم
لأنفسهم لا لأمرهم بالبر؛ لأن الأمر بالبر شيء حسن، ولا يغير من حسنه كون
الداعي إليه لا يلتزم به. وقد يأمر الإنسان به بإخلاص وإن لم يعمل به. فالذي
يأمر أولاده بعدم التدخين أو عدم شرب الخمر مثلاً، مع فعله لذلك، خير من الذي
يأمرهم بالتأسي به في فعله، بل خير من الذي لا يأمرهم ولا ينهاهم.
5 - اختيار النافع وترك الضار سواء كان مادياً أو معنوياً: [وَمَا الحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (الأنعام: 32) ،
[لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (الأنبياء: 10) .
6 - التضحية بالمصلحة القليلة العاجلة من أجل مصلحة كبيرة آجلة:
[وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (القصص: 60) ، ويؤيد هذا آيات أخرى لم يرد فيها ذكر
العقل، منها قوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ
الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ] (التوبة: 38) .
7 - استخلاص العبر الصحيحة من الحوادث: [وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (العنكبوت: 35) ، يشير سبحانه وتعالى هنا إلى قرى قوم لوط
التي قال عنها في آية أخرى مبيناً عدم إدراك الكفار لمغزاها بسبب إنكارهم للبعث:
[وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القَرْيَةِ الَتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لاَ
يَرْجُونَ نُشُوراً] (الفرقان: 40) .
8 - استخلاص العبر مما جرى في التاريخ: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ
رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (يوسف: 109) .
9 - فَهْم دلالات الآيات الكونية: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ
الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (البقرة: 164) ،
[وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (النحل: 12) .
10 - حسن معاملة الناس ولا سيما الأنبياء: [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ
الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] (الحجرات: 4) .
هذه كلها مقدرات عقلية زود الله - تعالى - بها الناس أجمعين؛ فهم جميعاً
يقرون بها، ويرون من عدم العقل ترك الالتزام بها؛ لكن ما كلهم يلتزم في الواقع
بها. ولذلك يكفي أن ينبه من خرقها إلى أنه أتى بفعل غير عقلي كما رأينا ذلك في
آيات القرآن السابقة.
لكن ينبغي أن ننبه إلى أن بيان القرآن للمسائل العقلية وإقراره لها ليس
محصوراً في الآيات التي ذكرت فيها كلمة العقل، فهنالك آيات تذكر فيها كلمات
أخرى تشير إلى المقدرات العقلية بذلك المعنى العام الذي ذكرناه، بل إنه يبدو أن
كل سؤال استنكاري في القرآن يدل على أن المسؤول عنه أمر بدهي ما ينبغي لذي
عقل أن يماري فيه.
بل إن القرآن الكريم مليء بالآيات التي يمكن أن يتخذها المسلم موازين عقلية.
ولعل هذه هي المرادة بالمعنى الثاني لمفهوم العقل، أعني كونه علوماً يهتدي بها
الإنسان.