مجله البيان (صفحة 3756)

قضية للمناقشة

عوائق في طريق المراجعات

(1 - 2)

محمد مصطفى المقرئ

أحسنت مجلة «البيان» إذ أفردت لقضية المراجعات حلقات للمناقشة نرجو أن

تطول، كما نرجو للموضوع أن يلقى اهتماماً يكافئ حجمه، وإيجابية تضعه موضع

التمثل والتطبيق.

ففي تقديري أننا لم تُمْسِ حاجتنا للمراجعة - أمة وأفراداً وجماعات - مثل

حاجتنا إليها اليوم، وإذا كانت الحركة الإسلامية تمثل طليعة الأمة ونواة التغيير

فيها.. فهي الأحوج للمراجعة باعتبارها القدوة، ولما يناط بها من مهمة تغييرية

إسلامية عظيمة.

وإذ نتفق على أن هذه المشاركات المحدودة عبر مجلة أو أكثر لن توفِّي مسألة

المراجعات حقها؛ فحسبنا منها تفتيح نوافذ تطل على مجالاتها الرحيبة؛ فهي دعوة

نطرح من خلالها رؤوس أقلام وحسب، ويبقى على العلماء العاملين والدعاة

المربين توفيتها حقها من التنظير والتجذير واستنبات الثمار [وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ

نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ] (الأعراف: 58) .

وقد اخترت أن تكون مشاركتي المتواضعة في جانب لا بد من تذليله أولاً؛

ذلك إن شئنا أن تأخذ المراجعة موقعها اللائق من خارطتنا التربوية، وتصير عملاً

إصلاحياً قيد التطبيق، وهذا الجانب أسلِّط من خلاله الضوء على عوائق أراها

معرقلة لهذه المهمة الصعبة، ومؤخرة للإصلاح المنشود.

المعوق الأول: إحسان الظن بالنفس.

المرء منا يلحظ عيوب غيره، ويغفل عن عيوب نفسه؛ فيحسن الظن بها،

ويخالها خيِّرة صفية، وما يدري أن في ذلك هلاكه! !

وكذلك تُستدرَج الجماعات والأمم؛ فحين يتسرب إلى نفوسنا هذا النوع من

الوثوق المغرِّر، والطمأنينة الخادعة فإننا نتواكل على صلاح موهوم، ونركن إلى

استقامة منتحلة! ! نرى أننا وافينا بلوغ الكمال أو كدنا، ولا حاجة بنا إلى إصلاح،

بل لا حاجة بنا إلى التفتيش عن نقص أو عيب؛ فهذا أمر مستبعد، أو هو لا يَرِدُ

على خواطرنا أصلاً! !

لما أصيب الصحابة - رضي الله عنهم - يوم أحد نزل قول الله - تعالى -:

[أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ]

(آل عمران: 165) فأنى لجماعة أو جيل بعد خير القرون أن تخلو من نقص

وقصور؟

لقد كان مَن هُم خير منا على العكس مما نحن فيه من إحسان الظن بأنفسنا؛

فكانوا يمقتون أنفسهم في جنب الله - تعالى -؛ حتى لا يرى أحدهم نفسه إلا شراً

من المسلمين أجمعين.

روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: «لا يفقه الرجل

كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد

مقتا» [1] .

وقال مطرِّف - في دعائه بعرفة -: «اللهم لا تردَّ الناس لأجلي» [2] .

وقال بكر بن عبد الله المزني: «لما نظرتُ إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غُفِرَ

لهم لولا أني كنت فيهم» [3] .

وقال أيوب السختياني: «إذا ذُكِرَ الصالحون كنت عنهم بمعزل» [4] .

ولما احتُضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحماد بن سلمة، فقال

له حماد: «يا أبا عبد الله! أليس قد أمنتَ مما كنت تخافه، وتَقدِم على من ترجوه،

وهو أرحم الراحمين؟ فقال: يا أبا سلمة! أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال:

إي والله! إني لأرجو لك ذلك» [5] .

وذُكر عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد أن

أباه أخبره قال: «خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة بن أشيم، فنزل

الناس عند العتمة، فصلوا، ثم اضطجع (صلة) ، فقلت: لأرمقن عمله، فالتمس

غفلة الناس، حتى إذا قُلْتُ: هدأت العيون، وثب فدخل غيضة قريبة منا، فدخلت

على إثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت شجرة،

فتراه التفت أو عدَّه جرواً؟ ! فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس، ثم سلم، ثم

قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر. فولَّى وإنَّ له لزئيراً، أقول:

تصدع الجبال منه. قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد

الله - تعالى - بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من

النار، ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة. قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات

على الحشايا (يعني حيث ينامون كأنه لم يستيقظ) ، وأصبحت وبي من الفزع

شيء الله به عالم» [6] .

وقال يونس بن عبيد: «إني لأعد مائة خصلة من خصال الخير، ما أعلم أن

في نفسي منها واحدة» [7] .

وروى الإمام أحمد عن مسروق قال: «دخل عبد الرحمن على أم سلمة -

رضي الله عنها - فقالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:» إن من

أصحابي لَمَنْ لا يراني بعد أن أموت أبداً «فخرج عبد الرحمن من عندها مذعوراً،

حتى دخل على عمر - رضي الله عنه - فقال له: اسمع ما تقول أمك! فقام عمر -

رضي الله عنه - حتى أتاها، فدخل عليها فسألها، ثم قال: أنشدك الله، أمنهم

أنا؟ قالت: لا، ولن أبرئ بعدك أحدا» [8] .

قال العلاَّمة ابن قيم الجوزية: «ومقت النفس في ذات الله من صفات

الصدِّيقين، ويدنو العبد به من الله - تعالى - في لحظة واحدة أضعاف ما يدنو

بالعمل» [9] .

إن المسافة بين إحسان الظن بالنفس وبين مقتها في ذات الله - تعالى - هي

كالمسافة بين الكبر والتواضع، بين الدعوى والحقيقة، بين الكذب والصدق، بين

العلم والجهل.. ويخطئ من يحسب أن مقته لنفسه إهدار لمكانته، فيدع ذلك بدعوى

اتقاء تجرؤ السفهاء، مع أن مقتها لا يكون بالضرورة جهرة بين الناس.

إننا مع الأسف لا نطرق مسألة المراجعات إلا وتذهب أذهاننا إلى غيرنا؛

فكل الناس يحتاجها إلا (أنا.. جماعتي.. منهجنا! !) .

المعوق الثاني: الإعجاب بالعمل:

إذا نسي الناس عظمة المنعم جل وعلا، وتغافلوا عن عظيم نعمه استكثروا

أعمالهم، وأعجبتهم هيئاتها! !

قال مسروق: «كفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله» [10] .

فمن الذي يوفق لعمل الصالحات ويهدي إليها ويعين عليها؟ [وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ

اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ] (النور: 40) .

يقول أحدنا لنفسه: ولكن جهدي في تزكية نفسي هو الذي جلب توفيق ربي! !

فليجب هو نفسه: [وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً

وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ] (النور: 21) فهو محض فضل الله تعالى لا غير.

فتقول النفس: ما زكيت دون كثير غيرك إلا لما في قلبك من محبة الله ومحبة

طاعته! ! فليقل هو لها: [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ

إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً]

(الحجرات: 7-8) .

ولربما يعجب أحدنا بملكاته، وعلو مهاراته، وتفننه وإتقانه، وعلمه

وعرفانه.. وإن هي إلا أرزاق مقسومة من الله لعباده؛ فإن يكن لنا في تحصيلها جهد

فالعون منه - تعالى - وحده، ولا ريب أن في الخلق من يفوقنا فيها [وَفَوْقَ كُلِّ

ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (يوسف: 76) وما يأمن امرؤ نعمة أنعمها الله عليه أن تسلب،

لا سيما إن رآها حاصلة منه إليه.

أين تبلغ بنا هذه الأعمال - إن قبلت - بغير رحمة الله وفضله؟ والنبي

المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يُدخِلَ أحداً منكم عمله الجنة»

قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بفضل

ورحمة» [11] .

إن المرء إذا لم يتجرد من الحول والقوة عند شروعه في عمله، ويلقي أحماله

على توفيق ربه؛ ويستجلب المدد والعون من رحمته وفضله؛ إذا لم يكن ذلك كذلك؛

رأى نفسه هي الصانعة المبدعة، وعندئذ يوكَل إليها، وإذا وُكِلَ العبد إلى نفسه

فقد وكل إلى عجز وضيعة، وفقر وفاقة، وهو ما كان يستعيذ منه رسول الله صلى

الله عليه وسلم، وبأعظم أسماء الله - جل وعلا -: «يا حي يا قيوم، برحمتك

أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من

خلقك» [12] .

لقد كان الدرس يوم حنين عظيماً، العظة فيه لنا نحن؛ فجيل الصحابة

استوعب الدرس وفهمه، وورثنا منه العبرة والعظة، وهم خير القرون قدوة

ومثلاً.. [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ

بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ] (التوبة: 25) .

وترانا نتيه بالجماهيرية والكثرة، ونفاخر بالسبق والقدم، ونزهو بتميز

المنهج وتفرده، مع كوننا بهذا وبغيره لم نزل نعاني الاستضعاف والهوان [فَلَمْ تُغْنِ

عَنكُمْ شَيْئاً] (التوبة: 25) .

وثَمَّ أمور تزكي نيران العجب وتغذيها:

منها: الاعتداد بالنفس، ومشاهدة فضلها وملاحظة عطائها، وهو لون

من عدم إنكار الذات، والتنكر لفضل الله - تعالى -، ونسيان فضل

الغير.. [فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى] (النجم: 32) ، [وَلَوْلا

فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن

يَشَاءُ] (النور: 21) ، [وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ] (البقرة: 237) ، [وَلاَ

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .

ومنها: تحقير عمل الغير، وغمط فضله، والتقليل من شأنه، وهو - لعمر

الله - الكبر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم: «الكبر بطر الحق، وغمط

الناس» [13] ، وهو هضم لحق من حقوق الأخوة في الدين ف «المسلم أخو المسلم

لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره» [14] .

ومنها: مغالاة الأتباع، ومدحهم لطوائفهم، وإطراؤهم لمشايخهم، وثناؤهم

عليهم في وجوههم؛ ولَذاك انتهاك صارخ للنهي الشرعي؛ حيث يقول صلى الله

عليه وسلم: «انثروا في وجوه المداحين التراب» [15] ؛ ذلك أن المرء إذا مُدِحَ

في وجهه دخله العجب، وإذا دخله العجب هلك، لقول رسول الله: «ثلاث

مهلكات..» ، وذكر: «فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء

بنفسه..» [16] .

وفي حديث آخر: «.... حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا

مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك» [17] .

وهذه الخصال الأربع بينها ارتباط وصلة، وكذلك شأن أمراض القلوب،

تخالها كأنها شبكة فيروسية، أو كأنها ميكروب انشطاري؛ فغالباً ما تجد الشح

واتباع الهوى وإيثار الدنيا والعجب مجتمعة كلها في حالة مرضية واحدة، وقد يعافى

المرء من تلك الثلاثة الأُوَل، إلا إعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فهي أشدها، وهي

التي منها المعاناة عند الخلاف.

قال علي - رضي الله عنه -: «الإعجاب آفة الألباب» ، وعن أبي

الدرداء - رضي الله عنه -: «علامة الجهل ثلاثة: العُجب، وكثرة المنطق فيما

لا يعنيه، وأن ينهى عن شيء ويأتيه» ، وعن مسروق: «كفى بالمرء علماً أن

يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله» ، قال أبو عمر ابن عبد البر:

«إنما أعرفه بعمله» [18] .

المعوق الثالث: تقديس المقدمين والمغالاة فيهم:

وهو ما نهينا عنه حتى في حق أكمل الخلق وأحبهم إلينا: رسول الله صلى

الله عليه وسلم القائل فيما صح عنه: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح

ابن مريم؛ إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» [19] ، وترانا نستنكف أن

نذكر بغير ألقاب تضاف إلى أسمائنا؛ فالفضيلة والسماحة والمشيخة والأستاذية

وغيرها.. لها في آذاننا رنين محبوب مرغوب! ! في حين ندرج أسماء الصحب

الكرام - رضي الله عنهم - بغير ألقاب..؛ فنقول: أبو بكر، وعمر، وعثمان،

وعلي، وسعد، وسعيد....، ولا نرضى للمعظم فينا أن يدرج اسمه غير مضاف

إلى (الإمام.. العلاَّمة.. الشيخ..) وربما يُجمَع له ذلك كله وغيره! !

وإن تعجب فعجب: أن تقابل هذه المغالاة في المقدمين فينا بتفريط يضع من

قدر المقدمين في غيرنا ممن هم من ذوي الفضل والسبق والعلم أيضاً! ! إذن هي

العصبية المقيتة، والموالاة حمية [حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ] (الفتح: 26) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومما يتعلق بهذا الباب: أن يعلم أن الرجل

العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل

البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى

الخفي، فيحصل بذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.

ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك

الفعل واتباعه عليه. وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره

وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه من الإيمان! !

وكلا الطرفين فاسد: الخوارج، والروافض، وغيرهم من أهل الأهواء،

دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم

وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظِّم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل

الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه

ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة، والجماعة خلافاً للخوارج،

والمعتزلة , ومن وافقهم» [20] .

المعوق الرابع: الجهل والهوى:

الجهل ظلمة لا تلغي وجود المعارف، ولكن تحول دوننا ودون رؤيتها، وآلة

الرؤية كائنة ميسورة، ولكن لا بد لها من شعاع ضوء يعكس عليها صور المعارف

وماهياتها.. وذلك هو العلم. فالعلم: هو النور، والجهل ضده. والهوى: ظلمة

تحرمك الرؤية؛ وإن ملكت آلة الإبصار.. فكأن نور العلم أضعف من أن يخترق

حجاب الهوى، فهو معه غير نافع لآلتك.. [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ

اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ

اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] (الجاثية: 23) .

قال الحافظ ابن قيم الجوزية: «فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها

بمضرته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذم الله - تعالى -

في كتابه من أجاب داعي الجهل والظلم، فقال: [فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا

يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ

الظَّالِمِينَ] (القصص: 50) ، وقال: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ

وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى] (النجم: 23) ، فأصل كل خير: هو العلم والعدل،

وأصل كل شر: هو الجهل والظلم» [21] .

والجهل: ليس جهل الحرام، والحلال، وحسب، بل من أعظم الجهل:

جهل المرء بنفسه، وبأدوائها، وبما يجب عليه في تزكيتها، وإصلاحها، ومجاهدة

ميولها، ومغالبة هواها، وفي الأثر: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما

جئت به» [22] .

والمرء عدو ما يجهله، ويأبى الهوى على صاحبه أن يوقفه أحد على أخطائه،

ولا حتى أن يقف عليها هو بنفسه، يكره أن يخطَّأ في أعين أتباعه، فيهرب من

مكاشفة نفسه، ويفر منها إليها، ولو رزق هذا التوفيق لفر منها إلى ربه.. [وَأَمَّا

مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى]

(النازعات: 40-41) .

قال العلاَّمة ابن القيم: «والإنسان خلق في الأصل ظلوماً جهولاً، ولا ينفك

عن الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده؛ فمن أراد به الخير

علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم،

ومتى لم يرد به خيراً أبقاه على أصل الخلقة، كما في المسند من حديث عبد الله بن

عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى

عليهم من نوره؛ فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل « [23] .

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العلم والعدل في سؤاله الله - جل

وعلا -:» اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرور أنفسنا « [24] ؛ فالرشد هو العلم بما

ينفع، وشرور النفس هو ظلمها، وهو اتباع الهوى.

وفي الحِلْم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك أهواء الفؤاد المتيم

بصائر رشد للفتى مستبينة ... وأخلاق صدق علمها بالتعلم

المعوق الخامس: الإرهاب الفكري:

يبدو لي أن أجواء القهر والاستبداد والظلم التي تعيشها أكثر بلداننا قد أصابتنا

بلوثتها، فصرنا نعاني من الإرهاب الفكري حتى فيما بيننا نحن الإسلاميين! !

فأنت دائماً متهم بالإفراط أو التفريط؛ ذلك بعدما صارت الوسطية أمراً نسبياً يقيسه

كل من جهته، وعلى أساس من مقرراته هو.. فإذا كتبت في الاعتقاد: فأنت

متزمت وهَّابي، أو مبتدع حشوي، وإذا كتبت في الإيمان: فأنت خارجي أزرقي،

أو مرجئي جهمي، وإذا كتبت في المنهج: فأنت سلفي متعصب، أو خلفي متسيب،

وهكذا..! !

وما أسهل أن تطالك أحكام جاهزة، شبه عسكرية واستثنائية، ولكن من لون

آخر تعلوه مسحة شرعية، ليس في الحقيقة ولكن في إهاب يبدو كذلك؛ فتُخلَع

عليك ألقاب من نحو: منافق، مبتدع، مرجف، مداهن، خارجي، مرجئ،

مخرف، صوفي....! !

فإذا كنت واحداً من هؤلاء ولا بد فأبشر بألوان من التشهير والتعيير والتنفير

والذم والحض على الكراهية.... فما يدَعونك إلا وسيرتك جثة هامدة ينأى عنها

أتباعهم قابضين على أنوفهم، يريدون ليوهموا الناس أنها كريهة! !

يعلم المراجِع لنفسه أنه متجه نحو هذا الكمين، فيتردد ألف مرة، يُحب أن

يراجع فيقدم، ثم يتراجع.. ينمق العبارات، ويدبج الصياغات، يريد أن يكون

لوقع تراجعه أخف الوطء على نفوس هؤلاء المتحفزين، وبينما هو يهم بالتراجع

مجرد همٍّ، تنهمر فوق رأسه اتهامات بالانحراف المنهجي، وعدم الثبات على الحق،

والفتنة في الدين، والتخاذل والنكوص، ونكث العهود! !

ألا فلا تتردد وقد عزمت؛ فإنه متى بان لك خطأ لم يحل لك أن تتوانى أو

تسوِّف في التراجع عنه، [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ]

(النمل: 79) ، وثق أن رضا الناس غاية لا تدرك. قال صلى الله عليه وسلم:

» من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مُؤْنَة الناس، ومن التمس رضا الناس

بسخط الله وكله الله إلى الناس « [25] .

المعوق السادس: خشية شماتة المخالف:

من المؤسف أننا لا نفرق بين النصيحة والتعيير، وفي الحديث:» من عيَّر

أخاه بذنب لم يمت حتى يفعله « [26] ، وللحافظ ابن رجب الحنبلي مصنف مفرد

لهذه المسألة وحدها، موسوم بـ:» الفرق بين النصيحة والتعيير «، فما أن

يرجع مخالف عن خطأ كان عليه إلا وتنهمر عليه عبارات التبكيت والتأنيب

والتقريع.. ألم ننصح لك؟ ألم نبين لك خطأ ما درجت عليه؟ هل أدركت الآن

أننا كنا على حق؟ ألم نقل لك إن منهجنا هو المنهج؟ ! ! وتدبج المقالات،

وترصف الأسطر الطوال، تحقر من شأن المتراجع وتزدريه، وتنعى عليه منهاجه

كله، بل يظهرون الشماتة فيه، أنه قد أقر على نفسه بالخطأ، واعترف بما كان فيه

من مخالفة، ولو يدري هؤلاء لعلموا أن ما يشنعون به عليه من الإقرار بالخطأ

والتراجع عنه: فضيلة ومنقبة تذكر له لا عليه، ولعلهم هم أعجز من أن يرجعوا

عن خطأ هُم عليه كذلك، وربما كان خطؤهم أشنع من خطئه، وعلى كل فقد تراجع

هو، فأين هم من أخطائهم؟ وفي التحذير النبوي البليغ:» لا تظهر الشماتة

بأخيك فيرحمه الله ويبتليك « [27] .

فلماذا يشمت الشامتون؟

أليس التزام الحق هو مطلب كل صادق؟ فلِمَ إذن نرى الشامتين يتخذون من

تراجع المخالف فرصة لمهاجمته، بل وللمزايدة عليه، وإظهار منهجهم على حساب

التحقير من منهاجه؟ ! أوَ ننسى أن الكثير منا وممن نحب ونقرب، وممن نعظم

ونوقر؛ قد هداهم الله من هنات وهنات، وزلات وزلات؟ فليسمع هؤلاء وأولئك

لقول الله - تعالى -: [كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ] (النساء: 94) .

فيا أيها العازم على الرجوع إلى الحق: امض لما عزمت؛ فإنها والله فضيلة

تجعلك فوق من يحقرونك [وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]

(الأحزاب: 48) .

المعوق السابع: توهم فتنة الأتباع إن طالعوا المخالفة:

يلقي الشيطان في روع أحدنا: أن اعترافنا بالخطأ، وإقرارنا بما كنا عليه من

المخالفة سوف يفتن الأتباع، ويصدهم عن التمسك بالمنهج، وربما ينفرهم عن

الطريق كله..

أفتريد يا هذا أن تكون جذوة نار تحترق لتضيء للناس الطريق؟ وقد دلَّك الله

كيف تضيء لهم من الحق مصباحاً، فتهتدي ويهتدون تبعاً، وتنجو وينجون

جميعاً.. [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ

وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .

إن الرجوع إلى الحق ولزومه حيث كان: هو الدرس العظيم الذي يجب أن

نعلِّمه أتباعنا، ومن كان فيه خير فسيلزم التصويب، وليس في لزوم الحق فتنة،

وإنما تكون الفتنة بالنكوص المنهجي عن ثوابت الحق، والتنكر لما أثبته الدليل من

غير حجة شرعية، ففرق بين الرجوع إلى الحق والتراجع عنه، والخلط بين

المفهومين هو سبب هذا الغلط.

المعوق الثامن: بطر الحق وغمط الناس:

إنه الكبر.. وبذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم:» الكبر بطر الحق،

وغمط الناس « [28] ، هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ولله دره، بأبي

هو وأمي؛ فالبطر للحق والغمط للخلق: بينهما وشيجة وصلة؛ إذ قد يحمل المرء

على المكابرة في الحق والتنكر له وردِّه؛ أنه جاءه ممن يراه دونه! ! كما أن بطر

الحق يشتمل على نسيان فضل الغير وهضم حسناته.

والمرء إذا تسرب إلى نفسه الكبر منعه ذلك من طلب التصويب، وحال بينه

وبين الحرص على التصحيح؛ فأنَّى للمتكبر الذي يحسب نفسه فوق الناس أجمعين،

وأكمل من أقلَّته الأرضون؛ أن يرى به حاجة للمراجعة، فضلاً عن مظنة تلبُّسه

بخطأ، أو تعثره بكبوة؟ ! وفي جامع الترمذي عن سلمة بن الأكوع - رضي الله

عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» لا يزال الرجل يذهب بنفسه

حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم « [29] .

ثم إنه قد ينبه إلى غلط عنده، بل وقد يستشعر خللاً مَّا في عمله، ولا يقدم

أبداً على مراجعته، لئلا يصير هو ومخالفه في عموم الخطأ سواءاً، ومثل هذا إن

قدر له الوقوف على خطئه كره أن يقر به وإن استيقنته نفسه! ! وهذا من أكبر

بواعث المراء المذموم والجدال بالباطل.

فيا طالب الآخرة: هلمَّ إلى مراغمة نفسك، وضع من تعاليها؛ فذلك سبيلك

إلى المراجعة، وقنطرتك إلى حسن العاقبة [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ

يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (القصص: 83) .

المعوق التاسع: الخطأ في مفهوم الثبات على الحق:

الحق قديم لا يبطله شيء، والثبات عليه واجب حقيقة: بالاستقامة عليه،

وحكماً: بالرجوع إليه، كلما وقع انحراف عنه، قال - تعالى -: [فَاسْتَقِمْ كَمَا

أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (هود: 112) ، فرحى

الإسلام دائرة، ونحن مأمورون أن ندور معها حيث دارت، وهذه المناهج

والتجارب التي هي اجتهادات بشرية: تصيب وتخطئ، وتصلح وتفسد، لسنا

مطالبين بالتمسك بها على كل حال؛ بل المتجرد في طلب الحق لا يتردد في تجاوز

منهجه إلى ما فيه تصويب له، وتكميل لنقصه، وإصلاح لعيبه، أما أن يكون

التمسك بالرأي الأول، أو المذهب الأقدم، أو المنهج الذي أقرته الطائفة واتبعت

عليه؛ هو الثبات المطلوب: فتلك مغالطة كبيرة؛ وإلا كان مذهب الإمام أبي حنيفة

النعمان هو الأوْلى بالاتباع مما تبعه من مذاهب، بل لما جاز أصلاً إحداث مذهب

بعده، وأحج من ذلك: أن الأئمة لم يذهبوا إلى حرمة الخروج على اجتهاداتهم، ولم

يمنع فقهاؤنا من إحداث اجتهادات مخالفة للمذاهب الأربعة المقررة عند الأمة.

وقد نقل الحافظ ابن عبد البر ما يربو على عشرين أثراً في» جامع بيان

العلم « [30] في اختلافات جرت بين الصحابة، أو بين التابعين كذلك، ثم قال -

رحمه الله -:» هذا كثير في كتب العلماء، وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم، والتابعين ومن بعدهم من الخالفين، وما رد فيه بعضهم على

بعض لا يكاد أن يحيط به كتاب، فضلاً عن أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا منه

دليل على ما عنه سكتنا، وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

بعضهم إلى بعض، وردِّ بعضهم على بعض: دليل واضح على أن اختلافهم

عندهم خطأ وصواب؛ ولولا ذلك لكان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلتَ أنت،

وجائز ما قلتُ أنا، وكل نجمٌ يهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا « [31] .

ثم ذكر ابن عبد البر - رحمه الله - آثاراً أخرى في رجوع الصحابة بعضهم

إلى آراء بعض.

وتراثنا العلمي غني مكتنز بروائع من التصويبات والردود التي تداولها

علماؤنا سجالاً بينهم.. ومن أمثلة ذلك:

1 - الرد على أبي حنيفة، لأبي بكر بن أبي شيبة - رحمهما الله تعالى -،

وذلك ضمن كتابه المصنف.

2 - الرد على محمد بن الحسن الشيباني، للإمام الشافعي، رحمهما الله

تعالى.

3 - الرد على سِيَر الأوزاعي، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، رحمهما

الله تعالى.

4 - بيان خطأ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه، لأبي

محمد بن حاتم الرازي، رحمهما الله تعالى.

5 - بيان الوهم والإيهام الواقعيْن في كتاب الأحكام لعبد الحق الإشبيلي، لابن

القطان، كما نقد النقد الحافظ الذهبي، رحمهم الله أجمعين» [32] .

فإذا أخطأ هؤلاء ورد عليهم أفلا يخطئ أمثالنا؟

ولكنك إذا رددت على مخطئ - فيما تعتقد - قوله أو مذهبه؛ قوبل ردك

بالغضب، والعداوة، وإعلان الحرب، والدعوة إلى النزال! ! وفي أحسن الأحوال:

تدعى إلى الاعتذار وطلب المسامحة! !

قال ابن قتيبة الدينوري: «وقد كنا زماناً نعتذر من الجهل، فقد صرنا الآن

نحتاج إلى الاعتذار من العلم، وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة، فصرنا

نرضى بالسلامة، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولا ينكر مع تغير

الزمان، وفي الله خلف وهو المستعان» [33] .

والأحج من جميع ما سبق: «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ورضي الله عنهم -، وهم قادة الأنام، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة، وأوْلى

البشر بكل فضيلة، وأقربهم من التوفيق والعصمة: ليس منهم أحد قال برأيه في

الفقه إلا وفي قوله ما يأخذ به قوم، وفيه ما يرغب عنه آخرون» [34] اهـ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015