د. غازي الخطيب
[إن الشعب الفلسطيني كشف للجيل الذي يشاهد تحليل الذرة على أن الذرة الإنسانية لا تحطم فعلاً وأن الأجهزة الضخمة التي تريد تحطيمه قد يصيبها العطب] . ...
مالك بن نبي
نعم ... هل انتصرت - وليس هل ستنتصر - ... نعم، فلو توقفت الحجارة
عن الحركة وعادت إلى أماكنها المعتادة، فلقد انتصرت الحجارة، ولو لم تحقق إلا
ما حققته إلى أن توقفت.
إذا كان لابد لإعلان انتصار الحجارة من أن تؤدي إلى استرجاع فلسطين
وطرد اليهود منها فهي لم تنتصر ولن تنتصر، ولكن هذا قصور في فهم حقيقة
وأبعاد الصراع بين المسلمين واليهود. فالصراع طويل الأجل، وإن عدتم عدنا.
وانتفاضة الحجارة هي مرحلة من مراحل هذا الصراع، وظاهرة من ظواهره،
وليس بالنتيجة نهايته.
إذن ... فالإجابة بالإيجاب، مناقضة لمنطق الأحداث وتسلسلها.
ولقد انتصرت انتفاضة الحجارة للأسباب التالية:
1- أنجزت الحجارة مالم تنجزه البنادق، ولعل حامل الحجارة ليس كحامل
البندقية، وليس من العدل مقارنة ما حققته الحجارة مع ما كان يجب أن أو يمكن أن
تحققه البنادق.
2- أزالت الحجارة حجاب الخوف من اليهود الذي هيمن على قلوب أهل
الأرض المحتلة خلال السنين الماضية. فالعمل من خارج الأرض المحتلة لم يكن
ليجدي في غياب الدعم الفعلي من داخلها، فكان لابد لفعالية إعلان رفض الاحتلال
اليهودي، أن تقوم انتفاضة من الداخل، بالرغم من التضحيات الكبيرة التي تتطلبها، من قتل وسجن وتعذيب وترحيل وهدم للبيوت.
3- حطمت الحجارة أسطورة الجندي الإسرائيلي القادر على فعل ما يشاء ولا
يزال قابعاً خلف الثكنات والمعدات، [لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ
مِن ورَاءِ جُدُرٍ] فها هي الحجارة قد جردت الجندي الإسرائيلي من سلاحه التقليدي
ووضعته أمام جوهر قوة الإنسان النابع من عقيدته الأخروية، والتي بانعدامها تفقد
أسلحة الدنيا قوتها وفعاليتها.
4- نقت الحجارة القلوب من حجاب الوهن، فالإقبال على الدنيا والهروب من
الموت لم يكن لينجي أهل الأرض المحتلة من الذل والهوان، ولا من طغيان
الاحتلال، [وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ] وقد أردنا غير ذات الشوكة سنين طويلة، حتى طغى حب الدنيا ولذاتها
ورغباتها على حب الآخرة والرغبة في الجنة والشوق للقاء الله.
5 -ردمت الحجارة الهوة بين عالمين: عالم المشقة في مجابهة العدو وعالم
الهناءة ورغد العيش بعيداً عن العدو. فالحرب النظامية كان لها ساحات هي غيرها
التي يعيشها عموم الناس أثناءها. وساحة المجابهة هي الآن ساحة واحدة متحدة تقع
في بقعة جغرافية واحدة، تلتقي فيها آلام وأحزان رامي الحجارة في الشوارع
والمنتظر الداعي في البيوت أو القابع فيها، وتتعانق فيها أحلام الصغار وآمال
الكبار، ويتفاعل فيها شوق للقاء الله وانسلاخ من حب الدنيا، وتتحد فيها رغبتان:
رغبة في المشي سوياً على صراط مستقيم، ورغبة في التخلص من اتباع السبل
المتفرقة.
وليس لأحد أن ينتقص من دور وآثار انتفاضة الحجارة. وأرجو للحجارة
استمرار الحركة، ليس فقط لرجم اليهود، ولكن أيضاً لإحياء القلوب بالإيمان عن
طريق تمزيق حجاب الخوف والوهن.