دراسات تربوية
إبراهيم داود
ما زلنا نسمع ونرى من يتحمّس للتربية الحديثة، ويتحدّث عنها وكأنها البلسم
الشافي للعلل والمشكلات التي عانت وتعاني منها نُظم التربية والتعليم في بلاد
المسلمين، فما التربية الحديثة؟ وهل يجوز لنا أن نتحمّس لها وندعو إليها وهي
تربية غربية في منطلقاتها وأهدافها ومناهجها وبرامجها؟ نحاول من خلال هذه
النظرات أن نتبيّن الإجابة عن هذين السؤالين.
معلوم أن التربية الغربية ظلت متأثرة بالفلسفة إلى أن انطلقت بروح جديدة من
الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث أسس (شتانلي هول) أول معمل لعلم النفس
سنة 1887م [1] ، وكانت مناهج التربية الغربية القديمة تعكس طبيعة مجتمعها القديم
بطبقيته وقسوته، حتى إنّ (أرسطو) كان يرى أن تشرف الحكومة على التربية
إشرافاً صارماً، وأن تتخلص من الأطفال الضعاف والمشوّهين [2] . ويرى كثير من
الباحثين أن آراء الفرنسي (جان جاك روسو) هي التي بشّرت بميلاد التربية
الحديثة، ويتحدّث عنه كثير من تربويينا المعاصرين بإعجاب شديد، ومنهم من
يسميه: (شيخ المربّين وحامي لواء التربية الحديثة) ويزعم هؤلاء أن رجال
تاريخ التربية كادوا يتفقون على أن (روسو) هو (رسول التربية) في العصور
الحديثة! [3] .
المذهب الطبيعي:
يُعدّ (روسو) رائد (المذهب الطبيعي) وواضع أصوله؛ ومن أصول ذلك
المذهب أنّ الفرد هو شعار التربية، وأنّ التعبير عن الذات هو الهدف النهائي لها؛
وبنى الطبيعيون على هذا أنّ التربية القويمة لا تتحقق إلا بإطلاق الحرية التامة
للأطفال، وأنّ من مقتضيات الحرية أن يكون التعليم مختلطاً، وأن يُسْمح بالرقص
والسباحة والتعري ومناقشة مسائل الجنس بلا تحفظ، أما المشكلات الجنسية فترجع
أسبابها بزعمهم إلى رغبة الآباء الذين يريدون حمل أبنائهم على مبادئ الدين وقواعد
الأخلاق! والصواب بزعمهم أيضاًَ أن تكون تربية الطفل بين سن الخامسة والثالثة
عشرة سلبية، لا يُعلَّم فيها الطفل شيئاً ولا يُربّى خلالها أيّ تربية، بل يُترك
للطبيعة، محاطاً بأجهزة وأدوات من شأنها أن تُوسِّع مداركه. ويؤمن الطبيعيون
بأنّ التربية هي عملية إعداد للحاضر لا للمستقبل، ومن الخطأ عندهم أن يُضَحّى
بالحاضر المتيقَّن في سبيل مستقبل مظنون [4] .
ولا يخفى خطأ هذه الآراء (الطبيعية) وضلالها، ومخالفتها للفطرة السليمة؛
فكون التربية إعداداً للحاضر لا للمستقبل لا معنى له؛ لأنّ الحاضر والمستقبل
متصلان اتصال الليل بالنهار، ولأنّ التربية عملية اجتماعية، والأفراد لا يعيشون
أشتاتاً كنبتات بريّة في صحراء، فإنّ أمكن جدلاً إعداد الطفل للحاضر بوصفه
الشخصي لم يتأتَّ ذلك بوصفه الاجتماعي، وإلا كانت العملية التربوية نفسها عبثاً
لا طائل تحته.
ولا معنى - كذلك - لإطلاق الحرية التامة للأطفال ما داموا يجمعهم مكان
واحد وزمان واحد، وإنما يُتَصَوّر إطلاق الحرية التامة لطفل واحد، أو لأطفال
مبعثرين قد تقطّعت بينهم الأسباب! ولا معنى لانتهاء حرية الفرد عندما تبدأ حرية
الآخرين إلا انتفاء الحرية المطلقة التي يدّعيها أو يدعو إليها الطبيعيون، والحرية
المطلقة إنْ وجدت عاقبتها تحويل المجتمع برمّته إلى بؤر فساد وإفساد.
والقول بأن التربية المقصودة هي إفساد لطبيعة الطفل الخيّرة.. تحكّمٌ بلا دليل،
وإذا كان الصغار كما تفترض المدرسة الطبيعية ملائكة فلِمَ لا يحافظ خريجو
المدرسة الطبيعية على نقائهم؟ ولِمَ لا يكونون هم المؤثرين فيمن سواهم من الناس؛
إذ هم كبار راشدون؟ ! بل الصواب كما قال (المناوي) في شرح حديث الفطرة
الذي رواه البخاري [5] : « ... أنّ الإنسان مفطور على التهيّؤ للإسلام بقوة، ولكن
لا بد من تعلُّمه بالفعل؛ فمن قدَّر الله كونه من أهل السعادة قيّض الله له مَن يعلّمه
سبيل الهدى فصار مهذّباً بالفعل، ومن خذله وأشقاه سبَّب له مَنْ يغيّر فطرته ويثني
عزيمته» [6] .
واكتساب المعرفة ليس رهناً باتباع أسلوب التعلم كما يزعم الطبيعيون، وإلا
فمتى يكتسب كل طفل بذاته ذلك الكمّ التراكمي الهائل من المعارف والخبرات التي
جمعتها البشرية عبر العصور؟ ! أما إطلاق الحريات للغرائز الجنسية، والأخذ
بالتعليم المختلط، وإباحة التعري لمن شاء من الطلبة والطالبات فلا ريب أن ذلك
هو - عينه - المتسبب في إنتاج المشكلات وترويجها، ولا يمكن أن تكون مبادئ
الدين وقواعد الأخلاق هي المتسببة فيه، لا، حتى ولو كان الدين مُحَرَّفاً كدين
الغربيين، والأخلاق منحرفة كأخلاقهم!
ومعلوم أن الغريزة الجنسية لا تثور من تلقاء نفسها، بل لا بد لها من مثير
يثيرها؛ فكان القصد إلى إثارتها سَفَهاً وضلال رأي، وقد تواترت الأدلة، وأثبتت
الوقائع أنّ عاقبة ذلك لا تكون إلا الفتنة والفساد الكبير، وانظر تَرَ أن أكبر نسبة من
الأطباء النفسيين في العالم متجمّعون في (هوليود) مدينة صناعة السينما الأمريكية
والإباحة الجنسية، وأن السويد صاحبة قصب السبق في الحرية الجنسية هي أكثر
دول العالم اكتظاظاً بالمشكلات الناشئة من تلك الحرية، وأن دائرة هذه المشكلات قد
اتسعت فيها لتشمل الزنا بالبنات والأخوات والأمهات.. وكانت الاحصاءات قد
أحصت في أوائل الخمسينيات من هذا القرن في إنجلترا وحدها أكثر من نصف
مليون طفل من أبناء الزنا؛ فكم أصبح العدد في إنجلترا وأخواتها الأوروبيات، وقد
أصبحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين؟ !
حقيقة المذهب المثالي:
أمّا «المذهب المثالي» من مذاهب التربية الغربية فهو في حقيقته صدى
لفلسفة أفلاطون، وتعبير عن نظريته المسماة بـ «المثل» ، ومؤدى هذه النظرية
أن ثمة عالمين اثنين: عالماً حسياً يتألف من «الأجسام» ، وعالماً معقولاً يتألف
من المجردات التي هي «المُثُل» . وبناء على ذلك قال الغربيون: إن الإنسان
يعيش في عالمين: عالم مادي متغيّر، وعالم روحاني خالد، وهذا الأخير هو عالم
المثل العليا التي تشكل الهدف الأسمى للتربية والحياة. وهكذا رأى الغربيون في
الإنسان جانبيْن: جانباً روحياً سامياً، وجانباً جسدياً تحكمه النوازع الدنيا والشهوات،
وهذان الجانبان كالخطين المتوازيين يتجاوران ولا يلتقيان، ويتناقضان ولا
يتكاملان، وهو ما أدى إلى قيام سلطتين في بلاد الغرب: سلطة روحية تشرف
عليها الكنيسة، وسلطة زمنية قوامها حكم الواقع مفصولاً عن الدين، وترتّب على
ذلك الاعتقاد بأن الإنسان أوْلى بالدرس من العالم الخارجي، وأن العلوم الإنسانية
أهم من العلوم الطبيعية.
على أنّ دراسة الغربيين للإنسان - سواء قُدِّمت أم أُخّرت - في ظل عقيدتهم
القائمة على فصل الدين عن الحياة لا تأتي بخير؛ لأن المقدمات الخاطئة لا تقود
إلى نتائج صحيحة؛ ولذا لم تستطع الدراسات الغربية في مجال النفس والتربية
والاجتماع الرقي إلى مستوى العلم، وإن سُمّيت باسم العلم، وهو ما يؤكده إخفاق
الغربيين في وقف التدهور السلوكي الذي يُنذر المجتمعات الغربية بأوخم العواقب.
والنظرة المثالية الغربية بما ترتب عليها من فصل بين الدين والحياة خاطئة
ومدمرة، وهي - كما يقول (علي عزت بيجوفيتش) رئيس جمهورية البوسنة
والهرسك في كتابه المعروف: (الإسلام بين الشرق والغرب) [7]- هي المسؤولة
عن إخفاق الأيديولوجيات الكبرى في العالم؛ فهذه النظرة هي التي شطرت العالم
شطرين متصادمين بين مادية ملحدة، وكاثوليكية مغرقة في الأسرار، والصواب
أنها «وحدة ثنائية القطب، تضم القضيتين المتصادمتين في العقل الغربي ألا وهما:
الروح والمادة، السماوي والأرضي، الإنساني والحيواني، الدين والدنيا. وهذان
المتناقضان يوجدان معاً وجود تفاعل وتزاوج وتكامل.. كما تتفاعل ذرات
الأوكسجين مع ذرات الإيدروجين لتنتج الماء الذي يشرب منه الإنسان والحيوان
والنبات» [8] .
وقد نبّه بيجوفيتش على أن طبيعة العقل الأوروبي (أحادي النظرة) كانت
سبباً في عجزه عن فهم حقيقة الإسلام؛ ولذا أنكر الغربيون الإسلام لسببين
متعارضين؛ فقد أنكره الماديون منهم بوصفه اتجاهاً يمينياً أي دين غيبيات، بينما
أنكره المتدينون لأنهم رأوا فيه اتجاهاً يسارياً أي حركة اجتماعية سياسية [9] .
ولا تغني عن المذهب المثالي دعواه أنه إنما يريد - من خلال التربية - أن
يحيط الطفل بالمثل العليا؛ لأنه لا يدري ما المثل العليا على وجه التحديد. يقول
سير برسي نن: «نستطيع أن نحكم بأنه لا يمكن أن يكون هناك غرض عام
للتربية ما دام هذا الغرض يحقق مُثُلاً عليا؛ لأن هذه المثل تتعدد بتعدد
الأفراد» [10] .
المذهب البراجماتي:
وأمّا «المذهب النفعي الذرائعي» المعروف باسم البراجماتية أو البراجماسية
فقد ارتبط باسم (جون ديوي) [11] أشهر التربويين المعاصرين، وهذا المذهب ذو
صبغة عملية تجريبية لا يبدو فيها أي أثر للقيم أو الأخلاق.
هدف التربية في نظر (ديوي) هو النمو، والهدف - بزعمه - جزء لا
يتجزأ من عملية النمو، وليس أمراً خارجياً تتجه إليه خبرة المتعلم، فلا هدف
لعملية النمو إلا المزيد من النمو؛ ولذا أنكر (ديوي) أي هدف نهائي وقال:
«الفكرة القائلة بأن النمو والتقدم يرميان إلى هدف نهائي لا يتغيّر ولا يتبدل هي آخر
أمراض العقل البشري في انتقاله من نظرة جامدة إلى الحياة إلى نظرة مُفْعمة
بالحركة» [12] ومعنى هذا أن النمو والتربية والحياة هي مسميات لاسم واحد في
نظر (ديوي) !
ولا ريب أن «التسليم بوجود أهداف ثابتة يزود القائمين على التربية بمعايير
ثابتة وصادقة يستعينون بها للحكم على مدى تقدم التلاميذ في عملية التعلم، أما
القول بأن الأهداف جزء من عملية النمو ذاتها فإنه يزيد من حيرة المربين؛ فاللص
الذي يكتسب المزيد من المهارات في السلب والنهب ينمو في هذا المجال؛ فهل
تعتبر اللصوصية عملية تربوية هادفة؟ ! وإذا سلمنا جدلاً بصحة ما ذهب إليه فإن
السؤال الذي يظلّ قائماً هو: ما هي المعايير التي نستعين بها للحكم على نمو إنسان
نمواً شاملاً؟ ومتى يكون النمو مرغوباً فيه، ومتى لا يكون كذلك؟ [13] .
وطريقة التدريس في هذا المذهب هي طريقة المشروع التي تُنسب إلى
الأمريكي (كلباترك) تلميذ (جون ديوي) . والمشروع يأخذ شكلاً فردياً أو جمعياً،
وفي المشروع الجمعي يتعاون الأطفال لحل مشكلةٍ ما بتقسيم العمل بينهم.
ولـ (هيلين باركهرست) طريقة أخرى تسمّى طريقة (دالتن) ، وتقوم هذه
الطريقة على ثلاثة أسس هي: الحرية، والتعاون، وتحمل المسؤولية؛ وبمقتضى
هذه الطريقة يتمتع التلميذ بكامل حريته بعد أن يتفق على إنجاز قدر معين من
المقرر في مدة معينة، يستعين أثناءها بالمدرس متى شاء.
وقد قيل في الكلام عن مساوئ طريقة المشروع إنها سائبة ومتميعة وتجرّ
التلاميذ إلى دراسات متشعبة لا حصر لها، وإنها تكلّف كثيراً من الوقت والمال،
وتحتاج إلى مدرسين مدرّبين تدريباً خاصاً، وتنتج معلومات مفككة يصعب معها
وضع المناهج والأطر التعليمية. كما قيل في طريقة (دالتن) إنها تجانب الحكمة
إذ تحمِّل التلاميذ منذ الصغر مسؤولية إنجاز المقرر، وإنّ بينهم من الفروق الفردية
ما قد يُزكي روح الحسد والبغضاء، ولا سيما أنّ هذه الطريقة توازن بين التلاميذ
عن طريق الرسوم البيانية، ثم إن من التلاميذ مَنْ لا يميل بطبعه إلى العمل، ومن
شأن هذه الطريقة أن تشجّع هؤلاء على التمادي في الكسل، والتلاميذ عموماً
مضطرون في حياتهم الواقعية إلى مواجهة ما لا اختيار لهم؛ بالإضافة إلى أن هذه
الطريقة كغيرها من الطرق الحديثة تحتاج إلى مدرس موسوعي ليس من اليسير
إعداده [14] .
طريقة التعليم المبرمج:
وفي أمريكا طريقة حديثة تسمّى: (التعليم المبرمج) وهي طريقة ينتفي فيها
دور المدرس؛ إذ يتعامل الطالب مع آلة رُكّبت فيها أسئلة متدرجة في صعوبتها،
ويجيب الطالب على الأسئلة بوضع الإجابة على الآلة نفسها، والإجابة الصحيحة
هي التي تضمن استمرار دورة الآلة، وربما استخدم الكتاب المبرمج في هذه
الطريقة مكان الآلة، وفي الكتاب توجد المادة العلمية، مع سؤال يتعلق بها وفراغ
يُفترض وضع الإجابة فيه، وفي الصفحة التالية يوجد الجواب الصحيح، وما على
الطالب إلا أن يقارن إجابته بالإجابة الصحيحة [15] .
ولا شك أن للطريقة الحديثة التي اتبعها الغرب جوانب إيجابية أثّرت في
نهضته وتقدمه، ولكن منطلقات تلك الطريقة وأهدافها دائرة قطعاً في مجال الخطأ
والخطيئة، ونظرة منصفة واعية تكفي للدلالة على أنّ ما حققه الغرب كان في
حقيقته وبالاً عليه وعلى العالم أجمع، وحَسْبُ الغربيين أنهم إنما: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا
مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: 7) . والغفلة عن الآخرة
تجعل كل مقاييس الغافلين تختلّ، وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم؛ فلا يملكون
تصور الحياة، وأحداثها، وقيمها تصوراً صحيحاً، ويظل علمهم بها ظاهراً،
سطحياً، ناقصاً» [16] .
ومن المؤكد أن من شأن أسلوب التعلم الذي يُتيح للطلبة فرص التفكير
والابتكار أن يخرّج علماء مبدعين ومفكرين بارزين، ولكن من الغفلة والسذاجة ردّ
الفضل فيما وصل إليه الغرب من تقدم علمي إلى تربيته الحديثة، مع التسليم بأنها
ساهمت - من خلال جوانبها الإيجابية في إحداث هذا التقدم.
إنّ من المحقق أن وراء ما وصل إليه الغرب من تقدم علمي عوامل تاريخية
وموضوعية كثيرة ومتداخلة، ومن المحقق أيضاً أنّ الأمور لا تُقاس وما ينبغي لها
بأعداد من يتخرج من العلماء والمخترعين فقط، ولا بمقدار القدرة المادية التي
يهيئها الخريجون لأمتهم، وليس من الصواب أن تُوزن الأمور مفصولة عن الغايات،
ولا أن ينظر إلى بعض النتائج ويُغض النظر عن بعضها الآخر، وإلا فإنّ من
الممكن أن يُقال: إنّ التربية الحديثة قد خرّجت - في الوقت نفسه - أعداداً لا
تُحصى من المجرمين والشاذين والمرضى النفسيين والمصابين بالإيدز ومروّجي
المخدرات والمدمنين عليها، وحسب النفعية - وهي روح التربية الحديثة - أنها
تدور بأصحابها حيث دارت، ولا تقيم وزناً لدين أو خلق، وتُضعف - وقد تُميت-
الالتزام الخلقي مما يجرّ على الفرد والمجتمع شروراً مدمّرة. والمنفعة - مهما مسّت
الحاجة إليها - لا ينبغي أن تكون الغرض النهائي للتربية والتعليم، وكثيراً ما يكون
الناس قادرين على تحقيق المنافع دون أن يدرسوا في المدارس والجامعات.
لماذا التربية الحديثة تفسد المجتمع؟
إن إقامة بناء التربية الحديثة على أسس إلحادية أو علمانية قد أفسد التربية
والمجتمع جميعاً؛ فالتربية لا يمكن أن تكون صالحة ومصلحة إلا في إطار غايتها
العظمى وهي تحقيق العبودية لله تعالى، ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أنّ التربية
النفعية قد ميّعت مفهوم الحق في أنظار الغربيين وربطته بمرادات حكوماتهم؟ !
إنّ العلاقة بين التربية الغربية من جهة وبين الفلسفة وعلم النفس من جهة
أخرى قد أورثتها كثيراً من الخلل والتناقض والاضطراب، وأكّدت القطيعة بينها
وبين الدين، بل جعلتها عدوة للدين تحاربه بسبب أو بدون سبب، ونسفت أساساً
عظيماً من أسس التربية الصحيحة وهو أساس التعليم بالقدوة.
والتربية الحديثة لم تحترم أنوثة المرأة، بل دفعتها إلى مخالطة الرجل
ومنافسته، حتى ظهر الانحراف الجنسي وتفشى الشذوذ، وفي الوقت الذي أهدرت
فيه هذه التربية كرامة المرأة دفعت بالغانيات والمومسات والساقطات إلى بؤر
الضوء ومراكز الشهرة [17] .
أما الذين فتنتهم - وما زالت تفتنهم - حضارة الغرب وتربيته فلا بد من
تذكيرهم بحقائق ثابتة لا تجوز الغفلة عنها ساعة من ليل أو نهار، ومن أهمها:
1 - أن الغاية من خلق الإنسان في هذه الأرض هي عبادة الله - تعالى -
على الوجه الذي أراده سبحانه، ولا سبيل إلى بلوغ هذه الغاية إلا بالتربية الإسلامية.
2 - أن حكم الوسائل في الإسلام كحكم الغايات لا بد أن تكون مشروعة، بل
النيات لا بد أن تكون خالصة لله عز وجل، وإلا حبطت الأعمال وإن كانت مفيدة
نافعة في ظاهر الأمر؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال
بالنيات» [18] .
3 - أن من شأن المسلم ألا يغترّ بما قد يغرّ ويُغري من مظاهر القوة ما دامت
ظالمة لا تهتدي بنور الله تعالى؛ فلو تعيّنت التربية الغربية سبيلاً وحيداً لقوة
المسلمين (وهذا مستحيل) لما جاز للمسلمين أن يأخذوا بها؛ لأن في الإسلام ما
يغني عنها ويفوقها؛ فكيف إذا كانت تلك التربية لا تُفضي بالمسلمين إلا إلى مزيد
من التخلف والهوان؟ !
4 - أن من قِصَرِ النظر نسبةَ الفضل فيما حققه الغرب من تقدم علمي إلى
طبيعة التربية الغربية، ولم تسلم تلك التربية من نقد الغربيين أنفسهم ومن إدخال
الإصلاحات عليها والتعديلات، وما تمتاز به التربية الغربية من اهتمام بالتعليم
وإعداد للمعلمين وتوفير للإمكانات، ومن الحرص على المتابعة والمراجعة، وإتاحة
الفرص للإبداع والابتكار وتغليب الطابع العملي التطبيقي؛ كل ذلك لا يرادف
التربية الغربية الحديثة، بل يشكل بعض جوانبها، فإن كنا - نحن المسلمين -
محتاجين إلى هذه الجوانب - وإنا لكذلك - كان علينا أن نأخذ بها؛ لأنها من قبيل
الصواب الذي نحن بحاجة إليه، لا لأن الغربيين قد أخذوا به؛ وإلا أخذناه وأخذنا
غيره معه وانسلخنا من ديننا عالمين أو جاهلين.
5 - ليست القوة دائماً دليلاً على صواب من تهيأت له أسبابها، واقرأ - إن
شئت - قول الله - تعالى -: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ *
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي
الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ
عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] (الفجر: 6-14) .
فاللبيب من نظر إلى العواقب، وعلم أن أعمار الأمم والعقائد كثيراً ما تكون
أطول من أعمار الأشخاص، وأن سنن الله لا تتخلّف أبداً؛ فمن لم يرَ بأم عينيه
انهيار أمم الباطل وعقائد الضلال اعتبر بما آل إليه الأوائل. قال - عز وجل -:
[أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً] (الروم: 9) .
لقد كان فينا من يجادل عن عظمة الاتحاد السوفييتي، ويزعم أن شمس
سلطانه لن تغيب أبداً، وما زال العقلاء والمصلحون من أهل الغرب يؤكدون أن
حضارة أمتهم تقف على حافة الهاوية، وأن مجتمعاتهم تتحول إلى مستنقعات آسنة
تعجّ بمظاهر الشذوذ والجريمة والانحراف.
6 - ولا يعني ذلك أبداً أن تكون القوة من نصيب الظالمين، ولا ليكون
الضعف قد كتب على المسلمين، كلاَّ؛ بل المسلمون أوْلى أن يكونوا وقد كانوا
أقوى الأمم، وكيف يؤدون شهادتهم ويبرئون ذمتهم أمام ربهم بدون قوة تهيئ لهم
أسباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ !
7 - أن «التربية الحديثة» مصطلح غربي يكتنز في دلالته كثيراً من
عناصر رؤية الغربيّ للحياة، وأن لكل مصطلح دلالته التي وُضع لها، وإن زعم
الزاعم أنه يطلق ذلك المصطلح بدلالة مختلفة هو يريدها، والتربية الحديثة مرتبطة
بالعقيدة الغربية وتصوراتها الضالة؛ فالصواب نبذ هذه التربية، والإقبال على
التربية الإسلامية التي شرعها الله - تعالى - وبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم
وحققها الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان، وما يثبت فيه الخير
مما يأخذ به الغربيون وغيرهم من غير المسلمين يُقدّر بقدره من جهة، ولا يكون
الدافع إلى أخذه إلا خيريته من جهة أخرى.
8 - أن أكثر الدعاة إلى التربية الحديثة يجهلون أو يتجاهلون عن عمد حقيقة
مشكلتنا التربوية، وأنها مظهر من مظاهر مشكلتنا الكبرى المتمثلة في الانحراف
عن منهج الله - تعالى -؛ وقراءة أكثر ما كتبه ويكتبه هؤلاء يقطع بأن دعوتهم
ليست إلا حلقة في سلسلة الافتتان بالغرب الكافر، وإلا فكيف يُفسَّر خلوّ ما يكتبونه
من أية إشارة إلى التربية الإسلامية ومصدريها العظيمين وأعلامها الأفذاذ، مع أنهم
يرددون أن (روسو) رسول التربية الحديث، و (ديوي) نبي التربية الجديد!
ألا إن الإسلام هو النظام الأمثل الذي يقي من الوقوع في المشكلات، وهو -
في الوقت نفسه - السبيل إلى معالجة المشكلات الناشئة من الانحراف عنه، وكل
محاولة للإصلاح تُغْفِل هذه الحقيقة أو تَغْفَل عنها محكوم عليها بالإخفاق؛ «فحقيق
لمن لنفسه عنده قدر وقيمة ألا يلتفت لهؤلاء، ولا يرضى لها بما لديهم، وإذا رُفع
له علم السنة النبوية شمّر إليه ولم يحبس نفسه عليهم» [19] .