قضايا دعوية
أسيد بن عبد الرحمن الأثري
لقد طلع علينا في العقود الأخيرة فئامٌ وفرقٌ تمارس تساهلاً دعوياً عجيباً،
وهزالاً إصلاحياً فريداً، وتماوتاً في الخير لا يمتّ للحزم بصلة؛ حيث يأخذ نمطية
الدعة والسهولة، والراحة والليونة، والضعف والنعومة. قد صدع شامخاً باللين
والتيسير، وتسوّد متعاظماً بالبسمة والتبشير، وانبرى جاهداً بالتسلية والتحبيب،
جعلوا الوسائل غايات، والمقدمات خاتمات، والتوطئات مقاصد ساميات. لم يفرّقوا
بين مدخل ومقصد، وأصل وفرع، وجبل وتلّ، وذكر وأنثى؛ فلقد خلطوا الفروع
بالأصول، والوسائل بالمقاصد، والأبناء بالآباء، فضاعت الحرمات، وهانت
الأصول، واختلطت المفاهيم، وأضحت الدعوة (مزاداً) يؤمه غير فقيه، ويقصده
غير متقن، ويقوده غير متمكن: جميع الفئات الجاهلة والناشئة والفاترة والهازلة،
دون قيود أو شروط أو التزامات.
وهؤلاء يسلكون مع المدعوين لطيف الوسائل وخفيفها، وسهلها ولينها، وهي
تتمثل في ضروب واسعة من الترويح والتسلية والتلهية نحو: النشيد المشهد اللعبة
الطرفة حتى غلبت على معاني الدعوة الجادة، وأساسيات الإصلاح المتميز من همة
عالية، وحزمٍ متوقد، وصبرٍ شامخ، وتضحيةٍ جبّارة.
ولا ارتياب أن مثل هذا المسلك إجحاف بالدعوة، وإقصاء في فهم حقيقتها
واتجاهاتها وأهدافها، وجناية على قطوفها وثمراتها وبركاتها. وهؤلاء ينتشرون في
مجامع الشباب والمراكز والمخيمات التربوية التي تقصدها جموع غفيرة من الشباب
والناشئة الذين يحملون فكرها وثقافتها.
وربما تذرع هؤلاء بوجود طوائف غير سوية تحتاج ذاك المسلك لتحقيق
التآلف والتجاذب والتضامن والتأثير والتحبيب، والعلم ثقيل حجمه، عظيم كاهله
على هؤلاء، ومراعاتهم في الدعوة مقصدٌ مهم، لاحتوائهم والتأثير فيهم. والواعي
وهو يرى حتمية بروز العلم وضرورته وغلبته في دعوة هؤلاء وغيرهم، ويرى
أن تجريد الدعوة من العلم والهدى والجد والحزم خطأ محض، وفكرة شاذة - هذا
الواعي لا يختلف مع هؤلاء في أنه ينبغي مراعاة حال المدعوين في الدعوة
والنصحية، بل عندنا أصول شرعية، تعزّز ذلك وتعضّده، منها قول - علي
رضي الله عنه -: «حدّثوا النّاس بما يعرفون؛ أتريدون أن يُكَذَّبَ الله
ورسوله؟» [1] .
وقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغهُ
عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» [2] .
واللين والرفق مقامان ممدوحان في الشريعة، والنصوص فيها كثيرة وفيرة،
ولهما حدود وقيود تحفظ قدرهما وعدم التجني والتلاعب بمعانيهما؛ لأن إدراجَ
التساهل والتلاين والخضوع وسائر وسائل الترويح تحت اللين باستدامة وإطلاق
مسلكٌ مطروح مردود؛ وظهور المغالطة فيه أعظم من أن نقف لكشفها وبيانها
والتحذير منها.
والذي ينبغي تبيينه، ويُتأكد توضيحه هو أننا لا نعلم دليلاً يقصر الدعوة على
صنوف اللعب واللهو والترفيه إلى مدد سحيقة وآماد بعيدة يحملها جيل عن جيل،
وطائفة عن أخرى. وأيضاً لم نقف على طريقة للأنبياء والدعاة والهداة والصالحين
في ذلك. ومن كان عنده فضل علم فليدلنا عليه ونكون له من الشاكرين. بل الذي
يعتقده المصلحون الواعون أن هذا الدين عظيم جليل، وبناؤه متين، وأساسه قويٌّ
رصين كما قال تعالى: [ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ] (ق: 1) .
وقال تعالى: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 5) . وهو مع ذلك
كله سهل في أحكامه وشرائعه، لا يأمر بشدّة ولا بإجحاف أو ظلم أو انحراف، بل
يفيض رحمة وحناناً وسلاماً ونوراً على حامليه والقائمين تحت لوائه وسمائه.
ومباحاته تُساس بالأدب، وتُصان بالمروءة، وتُحفظ من كل ألوان السفه
والتكدير والإضاعة.
وجعل من شروط الدعوة إليه وأساسياتها: الرفق، واللين، والسماحة، ولم
يُقصر الدين كله على ذلك، هذا إذا علمت أن الرفق واللين عند من سلف غير ما
نحن بصدده، وهو عند المتلاينين يعني الترويح والتنفيس إلى أجل غير محدود
ووقت غير معلوم، واستخدام وسائل في ذلك لا تخلو من شبه وتحامل وانحراف
ومناكر؛ وفي بعضها التحريم ظاهر؛ فتخرج جيلاً عاطفياً متماوتاً، ألِفَ الدعة
والراحة، والليونة والدعابة لا يحمل همّ دينه وأمته والأمانة التي في عنقه؛ فلا
يطيق الحياة الجادة، ولا يحتمل التربية السامية؛ إذ يسأم من العلم، ويملّ الحزم،
ويخاف داعي الجهاد، ويفر من المسؤولية، ويُهزَم بالخوف مسيرة شهر.
إن هؤلاء ينظرون للعلم الشرعي (نظرة تآمرية) تتجسد في أنّه صعب شديد،
لا يلائم أكثر الطبقات ولا يحتملون نوعه ومادته. ولا يملكون أدوات استماعه
والنظر فيه، ولا امتلاك الفائدة منها؛ فمثلاً هم يعتقدون أن العلم عقيدة وتوحيد،
والعلم شروط الصلاة، وشروط النكاح والبيع، وتخريج الأحاديث والأسانيد
وأشباهها، وأغفلوا جوانب واسعة في العلم، جراء هذه النظرة الشانئة. والله
المستعان.
لذا فإنهم يرون إقصاءه وعزله عن أكثر المؤسسات الدعوية، وتبقى الدعوة
تساق في إطار التلاين والهزال الموصوف سلفاً.
وإننا نقول لهؤلاء: إن مثل هذا التصور جناية فادحة تعكس الصورة التي
يعيشها هؤلاء عقلاً ودعوة وثقافة، وينبغي أن يعلم هؤلاء أن العلم الشرعي يأخذ
صوراً شتى ويتنوع إلى فنون عديدة، يمكن أن يستفاد من جوانب عديدة في دعوة
هؤلاء، تحقق اللين الشرعي الصحيح لا التلاين السيئ الجديد.
فعلى سبيل المثال سوق الآيات الكريمات بأصوات حسنة خاشعة،
والأحاديث النبوية الشريفة المسوقة في جانب الوعظ والرقائق. وعندنا قصص
تربوية ومواقف بطولية قد زخرت بها كتب الفضائل والمغازي والمناقب، كما
في الصحيحين والسنن الأربعة، يمكن سوقها وعرضها لهؤلاء بديلاً نفيساً بهيجاً
عن الغثاء الهزلي والركام السقيم الذي تعج به هذه المؤسسات والمحطات؛ وفي ذلك
من الفوائد للمدعوين ما لا يخفى، ومنها:
1 - عرض دعوة جادة، مبنية على أصول شرعية صحيحة.
2 - ربطهم بالعلم الشرعي المفيد.
3 - تجسيد معاني الجد والتضحية والعلاء في حياتهم.
4 - توثيق صلتهم بتراثهم المجيد، وما يجب عليهم تجاهه.
5 - تحقيق الصفاء الدعوي المنشود.
6 - إلغاء جوانب السفه والترويح المبالغ فيها.
وإني لأعتقد أن قصة من السيرة النبوية تشع بمعاني النور والعلم والصبر
والبسالة، أو آثاراً لإمام أو عالم من كتب التراجم والسير لهي خير من كثير من
التشويش والتزوير المخترع المصنوع.
ويستطيع المشرفون الأمناء إذا امتلكوا (الثقافة الشرعية) و (السعة الفكرية)
أن يسهلوا كثيراً من أبواب العلم ومسائله وقضاياه، ويمكنهم الإفادة في جوانب
الاعتقاد والفقه بأساليب تربوية ميسرة يغشاها الرفق السديد، واللين الصحيح،
واليسر المحمود.
أما أن يتعمد هؤلاء قصر مؤسساتهم وتنظيماتهم على جوانب الترفيه والمرح
دون حساب أو مراجعة وتصحيح، فهذا مما لا يسوغ شرعاً ولا عقلاً ولا أدباً؛
فكيف يستجيز أقوام دعوة بهذا (الوصف المحقق) الذي يصل فيها جانب المرح
إلى 90%؟ ! !
كيف يحمدون دعوة نابذت العلم، وأهدرت الفائدة، وحطّمت الجد والعزة
والمصابرة؟ ! !
إن هؤلاء ما هُدوا لأحسن الطرق، ولا أصابوا قصد السبيل.
ولَكُم أن تتصوروا برنامجاً دعوياً يمكث سنين طوالاً على هذا المسلك مع
طبقة غزيرة من الشباب - تبحث عما ينفعها ويهديها ويشبع رغباتها - ما هو حالهم؛
وكيف تكون نهايتهم ومصيرهم؟ ! ! ثم يُراد منهم بعد ذلك العمل للدين، ورفع
رايته، والتضحية من أجله والثبات عليه!
ثم إن حصلت استجابة صار تلاميذ الأمس شيوخ اليوم، ومضوا على طريقة
مربيهم ومعلميهم حذو القذة بالقذة.
إن هذا المسلك المحدَث الغريب ذريعة لتغييب الدعوة عن العلم وتجهيل
المدعوين، وإيقاعهم في متاهات الجهل والشُّبه والتخلف، فينشأ هذا الجيل وقد حيل
بينهم وبين التعلق بحياة الجادين البارزين، وذوي الهمم الصامدين الذين عزت بهم
الدعوة الإسلامية وكبرت مجالاتها، واتسعت آفاقها.
قال - تعالى -: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) .
قال ابن كثير - رحمه الله -: «يقول - تعالى - آمراً رسوله محمداً صلى
الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة» .
قال ابن جرير: «وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة، والموعظة الحسنة،
أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، وذكرهم بها ليحذروا بأس الله -
تعالى -، وقوله: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125) أي من احتاج
منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب
كقوله - تعالى -: [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ] (العنكبوت: 46) .
كيف تصح دعوة وتربية وهي خالية من العلم والرشاد، ومجردة من العلو
والحزم، وقائمة على اللهو والتسلية إلى مدى لا ينتهي بدعوى اللين والرفق
والحكمة؟ والله المستعان.
وأستطيع أن ألخص هُزال هذا المنهج وضعفه في الأمور الآتية:
أولاً: أنه منهج محدث مخترع، ليس له حظ من الأثر ولا النظر ولا الخبرة
والتجربة.
ثانياً: مجانبته لدعوات الرسل والأنبياء والمصلحين، فلا يعرف له سالف من
أهل العلم والفقه والأثر الذين حفظ التاريخ سِيَرهم وأخبارهم.
ثالثاً: أنه سبيل لفصل الدعوة عن العلم وتجريدها من الوعي والفقه والهدى؛
فتصبح مظاناً للجهل والتيه والتذبذب.
رابعاً: أنه تغييب لحياة العلم الوارفة، وآفاقه النيرة البهية؛ وفي هذا تقليل
لشأن العلم لا يخفى.
خامساً: أنه قضاء على أصول التربية الجادة، وإضعاف لأركانها ومناهجها.
سادساً: يثمر جيلاً مترفاً استروح نعومة العيش وليونة العمل؛ فلا يحتمل
بعدها أدنى قوة ولا جهاد أو مثابرة.
سابعاً: الواقع يشهد بفساد ثمراته وتكدر منابعه؛ إذ قد أسهم في قلب صورة
الدعوة الصحيحة ونال من مواهبها وطاقاتها، وأكسبها ضعفاً متيناً، وفتوراً رخواً
هزيلاً، والله المستعان.
ثامناً: فيه قلب لمعنى اللين الشرعي الصحيح، وإدراج ما لا يصح منه،
واستغلاله لمقاصد غير جادة.
تاسعاً: التلطخ بمخالفات شديدة وحمل شبهات أقل أحكامها الكراهة.
عاشراً: أنه يعالج خلاف الهَدْي النبوي السديد.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.