مجله البيان (صفحة 3744)

دراسات في الشريعة والعقيدة

دمعة على حب النبي صلى الله عليه وسلم

نظرات متأملة للواقع في حب النبي صلى الله عليه وسلم

(2 - 2)

عبد الله الخضيري

في الحلقة السابقة أومأ الكاتب إلى أن الحب أسمى العلاقات وأرقها، ليقف بنا

على المستوى الذي يبلغه محب الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يلاقيه هذا الحب

في أيامنا هذه من إهدار من قبل وسائل الإعلام، وقد قدَّم لنا في تلك الحلقة صوراً

من حب المسلمين وتقديرهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وما كان يفعله علماؤهم إذا

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عندهم أو حدثوا عنه في دروسهم؛ فقد ذكر عن

مالك - رحمه الله - أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني،

ومن ذلك أيضاً ما روي عن عبد الله بن مهدي أنه كان إذا قرأ حديث رسول الله

صلى الله عليه وسلم أمر الحاضرين بالسكوت، فلا يتحدث أحد، ولا يُبرى قلم،

وغير ذلك من المواقف والمشاهد.

- البيان -

ومن صور الجفاء الممض الذي طبقه الكثيرون - من غير استشعار للجفاء -

هجر السنن المكانية؛ وشواهد هذا الجفاء في حياتنا كثيرة؛ فترى من الناس من

يحج كل عام ويعتمر في السنة أكثر من مرة، ومع ذلك تمر عليه سنوات كثيرة لم

يعرِّج فيها على المدينة النبوية إلا أقل من أصابع اليد الواحدة، وقد يعتب بعضهم

على أهل الآفاق أو الوافدين الذين لا يقدمون الديار المقدسة في العمر إلا مرة،

ويأتون المدينة فيصلون فيها ويغتنمون أوقاتهم، وترى من أولئك الآفاقيين حرصاً لا

تكاد تجد بعضه عند سكان الجزيرة، بل يعتصر الإنسان أسى على أننا في هذه

الديار، وقلَّ منْ يهتم بالزيارة، وقد يزورها لكن على عجل وخوف من فوات

مصالح يظنها كذلك، وإن زارها فلا اهتمام بالسنن والشعائر، وهذا لعله من

النسيان والانشغال بغير السنن والبعد عن قراءة السيرة النبوية؛ فإن الإنسان بحمد

الله يجد من الأمن والأنس والطمأنينة القلبية في المدينة النبوية ما لا يجده في غيرها

إلا مكة:

ويا حبها زدني جوىً كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدكِ الحشرُ

وصلتكِ حتى قيل: لا يعرف القِلى ... وزرتكِ حتى قيل: ليس له صبر

وإني لتعروني لذكراكِ هزة ... كما انتفض العصفورُ بلَّله القَطرُ

هل الوجد إلا أن قلبي لو دنا ... من الجمر قيد الرمح لاحترق الجمرُ

«وجديرٌ لِمَواطن عُمِّرت بالوحي والتنزيل، وتردَّد بها جبريل وميكائيل،

وعرجت منها الملائكة والروح، وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت

تربتها على جسد سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وانتشر عنها من دين الله وسنة

رسول صلى الله عليه وسلم مدارس آيات، ومساجد، وصلوات، ومشاهد الفضائل

والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومواقف سيد المرسلين صلى الله عليه

وسلم، ومتبوّأ خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم» [1] أن يُعتنى بها، وأن تحل في

القلوب وتخالط بشاشتها، وأن يكون في زيارتها ما يحدو إلى اتباع السنة وتعظيم

نبي الأمة صلى الله عليه وسلم.

ومن السنن في المدينة: الصلاة في المسجد النبوي، وهي صلاة مضاعفة،

كما قال صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما

سواه إلا المسجد الحرام» [2] .

ومن السنن المكانية الصلاة في مسجد قباء، وقد قال النبي صلى الله عليه

وسلم فيما رواه أُسيد بن ظُهير: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» [3] .

وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول: «لأن أصلي

في مسجد قباء ركعتين أحبُّ إليَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، ولو يعلمون ما

في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل» . قال الحافظ في الفتح: «إسناده صحيح» [4] .

وهو محمول على عدم شد الرحال له خلا المسجد النبوي؛ فقد قال صلى الله

عليه وسلم: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا،

والمسجد الأقصى» [5] . «فيستحب السفر إلى مسجده» [6] .

ومما نسي في المدينة من السنن المكانية الصلاة في الروضة الشريفة، وهي

من رياض الجنة التي ينبغي التنعم فيها والاعتناء بها؛ إذ هي من أماكن نزول

الرحمة وحصول السعادة وأسبابها [7] . وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:

«ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي» [8] .

قال ابن حجر - بعد أن ذكر الأقوال في المراد بمعنى الروضة -: «والخبر

مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها» [9] .

ولكن المحروم من حرم الخير وصدف عن طريقه:

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر فقد راحا

ويلحق بزيارة المدينة النبوية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والسلام

عليه وعلى صاحبيه، رضي الله عنهما. وهل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم

كلما دخل المسجد [10] ممن كان من أهل الآفاق؟ مسألة فيها خلاف [11] ؛ لكن

شرف الزيارة والسلام والصلاة مما أجمع عليها المسلمون، وأن يزور قبور البقيع

من الصحابة، وقبور الشهداء، وقبر حمزة رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله

عليه وسلم كان يزورهم ويدعو لهم، ولعموم الأحاديث في زيارة القبور [12] ؛ وأن

يدعو لهم، وأن يستشعر فضائلهم، ومناقبهم، وجهادهم، وأن يلين قلبه ويتذكر

الآخرة لعل الله أن ينصر به دينه كما نصره بهم، وأن يجمعه بهم مع النبيين

والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، والله المستعان [13] .

والسنن المكانية لا تختص بالمدينة فقط، بل في غيرها، مثل مكة كالصلاة

داخل «الحِجْر» لأنه من الكعبة، أو خلف المقام، أو ما يتعلق بالبقعة في غيرهما

من الأرض مما هو مشروعٌ التعبد فيه مكاناً.

ومن الجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم علمياً وتربوياً عدم معرفة

الخصائص والمعجزات التي خص الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا

مما ينبغي أن يتفطن له المتعلمون قبل غيرهم، وينبغي مراعاة الفروق بين

الخصائص والشمائل والمعجزات والكرامات، وأن الكرامات هي ما يبارك الله في

أصله مثل تكثير الطعام والاستسقاء، أو ما يحدثه الله - عز وجل -من الخوارق

التي يعجز عنها الإنس، والجن؛ فيهيئها الله لعباده من غير قاعدة سابقة [14] ، ولا

تكون الكرامات إلا لمن استقام ظاهراً وباطناً على الطريق المستقيم، وقد تجري

لغيرهم لكن ليس على الدوام. أما المعجزات فلا تكون إلا للأنبياء للاستدلال بها

والتحدي، وهي على الدوام على بابها في التعجيز، وليست من جنس الخوارق [15] .

وأما الخصائص فهي الأحكام التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم مثل

الجمع بين أكثر من أربع زوجات، والقتال في الحرم المكي. والشمائل هي:

الأخلاق الكريمة التي كانت محور حياة النبي صلى الله عليه وسلم كالعفو والصفح

والرحمة ولين الجانب.

ويزدادُ الجفاءُ سوءاً حين يبتعد المرء عن الجادة والشرع إلى سلوك الابتداع

في الدين ومشابهة حالة المخلِّطين من تعظيم مشايخ الطرق ورفعهم فوق منزلة

الأنبياء بما معهم من الأحوال الشيطانية والخوارق الوهمية، أو الغلو في الأولياء

الذين يُظَن أنهم كذلك، وإطراؤهم في حياتهم وتقديسهم بعد مماتهم، ودعاؤهم من

دون الله، والنذر لهم وذبح القرابين باسمهم، والطواف حول قبورهم أو البناء عليها،

وهذا هو الشرك الذي بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم لإزالته وهدمه وإقامة

صرح التوحيد مكانه في الأرض وفي القلوب، فأقام الله دينه، ونصر عبده، وأعز

جنده المؤمنين، وأقرَّ الله أعينهم بإزالة علائم الشرك وأوثان الجاهلية حين كان

النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها ويحطمها بيده وهو يقول: [جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ

البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] (الإسراء: 81) ، [جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ

وَمَا يُعِيدُ] (سبأ: 49) [16] . وقد قال الله - تعالى -: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي

وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ]

(الأنعام: 162-163) .

ولا يخفى على عاقل مهتد عقله بنور الشريعة أن الطواف حول القبور

والأضرحة، والعكوف عندها وسؤال الموتى قضاء الحاجات، وشفاء المرضى،

أو سؤال الله بهم، أو بجاههم مما أُحدِثَ في الدين، وأن الطواف الشرعي لا يكون

إلا حول الكعبة، وأن النفع والضر والشفاعة لله وحده، كما في القرآن والسنة

والإجماع، وقد أبلغ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي نزل عليه من السماء في

سورة الجن مستجيباً لما أُمِرَ به: [قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنِّي

لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ]

(الجن: 21-23) ؛ وهو من هو صلى الله عليه وسلم؛ فكيف بغيره؟ ! ! وهذا

هو الفرقان الذي يتميز به أهل الإيمان عن غيرهم، فكل من صرف تعظيماً

للمخلوقين فإنما ينتقص من عِظَمِ الخالق تبارك وتعالى، وكل تذلل للمخلوقين فهو

ضعف وجهل، وهذا باب من الذل لا يخفى.

ومن الجفاء الذي يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ويخالف هديه ودعوته، بل

يخالف الأصل الذي أرسله الله به وهو التوحيد من هذا الجفاء: الغلو في النبي

صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق منزلة النبوة وإشراكه في علم الغيب، أو سؤاله

من دون الله، أو الإقسام به، وقد خاف النبي صلى الله عليه وسلم وقوع ذلك فقال

في مرض موته: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد

الله ورسوله» [17] .

ومعلوم أن النصارى تعبد مع الله عيسى ويسمونه: (الابن) ، تعالى

الله عما يقولون علواً كبيراً. ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم من دون الله عبادة له،

والعبادة لا تصرف إلا لله وحده، وكذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ

قبره عيداً ومزاراً؛ حيث قال: «لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ؛ فإن

صلاتكم تبلغني حيث كنتم» [18] .

ويبلغ الحد في التنفير من الغلو في ذاته صلى الله عليه وسلم أن لعن الذين

اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود

والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [19] ، يحذر ما صنعوا.

ولما همَّ طائفة من الناس بالغلو فيه فقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا

وابن خيرنا. قال لهم صلى الله عليه وسلم: «قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا

يستهوينكم الشيطان» [20] . ويلحق بالغلو فيه صلى الله عليه وسلم الحلف والإقسام

به، فإنه من التعظيم الذي لا يصرف إلا لله وحده، وقد قال صلى الله عليه وسلم:

«من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» [21] .

ومجموع الأحاديث في هذا الباب ميزان عدل لا ينبغي الزيادة عليها ولا

النقص منها، وكل متجرد للحق يجد بغيته في تلك النصوص، والله وحده هو

الموفق.

ومن الجفاء أيضاً ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لفظاً أو خطّاً إذا مرّ

ذكره وهذا قد يحدث في بعض مجالسنا؛ فلا تسمع مصلياً عليه صلى الله عليه وسلم؛

فضلاً عن أن تسمع مذكِّراً بالصلاة والسلام عليه، وهذا على حد سواء في

المجتمعات والأفراد؛ وأي بخل أقسى من هذا البخل؟ وبهذا الجفاء يقع الإنسان في

أمورٍ لا تنفعه في آخرته ولا في دنياه، ومنها:

1- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «رَغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكِرْتُ عنده

فلم يصلِّ عليّ» [22] .

2- إدراك صفة البُخل التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال:

«البخيل: من ذُكِرت عنده فلم يصلِّ عليَّ» [23] .

3- فوات الصلاة المضاعفة من الله عليه: إذا لم يصلِّ على النبي صلى الله

عليه وسلم وآله وسلم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليّ صلاة

صلى الله عليه بها عشراً» [24] .

4- ومنها فوات الصلاة من الله والملائكة لتركه الذكر النبوي، قال - تعالى-:

[هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]

(الأحزاب: 43) .

(فهذه الصلاة منه - تبارك وتعالى - ومن الملائكة، إنما هي سبب الإخراج

لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله - تبارك وتعالى -

وملائكته وأُخرجوا من الظلمات إلى النور، فأي خير لم يحصل لهم؟ ! ! وأي شر

لم يندفع عنهم؟ ! فيا حسرة الغافلين عن ربهم! ماذا حُرموا من خيره وفضله؟

وبالله التوفيق) [25] . كما أن في تركها وحشة القلب وفزعه لبعده عن الذكر؛ إذ

كلما أكثر المرء من الذكر ازدادت الطمأنينة في قلبه، كما قال تعالى: [الَّذِينَ

آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] (الرعد: 28) .

5- فوات أثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يصلِّ عليه،

كتفريج الهموم وغفران الذنوب. وفي حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه

وسلم عند ذكره خلاف ليس هذا مكان بسطه [26] .

لكن من كان أحب إليك من نفسك وأهلك ومالك فكيف أنت عند ذكره؟ أو

كيف أنت في الثناء عليه؟ والدعاء له؟

خيالك في ذهني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي؛ فأين تغيب؟

ورحم الله الشافعي؛ إذ يقول: «يُكرَه للرجل أن يقول: قال رسول الله،

ولكن: يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ تعظيماً لرسول الله صلى

الله عليه وآله وسلم» [27] .

ومن الجفاء ما يتقمصه الكثيرون على اختلاف في النيات، وتنوعٍ في صور

الجفاء يجمعها عدم معرفة قدر الصحابة ومنازلهم وفضائلهم وهم الجيل الأغر حظ

النبي صلى الله عليه وسلم من الأجيال، وهو حظهم من الأنبياء، لهم شرف

الصحبة كما لهم نور الرؤية، ولذا تزخر كتب السنة المطهرة بأحاديث الفضائل

والتعديل للأفراد وللعموم، للمهاجرين والأنصار، وما حظنا منها إلا الفخر بذلك

الجيل الأشم، وفي آيات التنزيل الثناء والتفضيل، ومنها قوله تعالى: [وَالسَّابِقُونَ

الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا

عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ]

(التوبة: 100) ، [لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي

سَاعَةِ العُسْرَةِ] (التوبة: 117) ، [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ

فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ

أَجْراً عَظِيماً] (الفتح: 10) ، وفي آية أخرى يقول تعالى: [مِنَ المُؤْمِنِينَ

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا

تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 23) .

وكيف بمن ترك ماله وولده بل وخاطر بنفسه ليهاجر الهجرتين إلى الحبشة أو

يهاجر إلى المدينة مخلفاً حياة العز الظاهر في مكة؟ أَيُشَكُّ بعدُ في إيمانه وصدقه

وإخلاصه؟

وقد ألمح الله - تعالى - إلى من خالف جماعة المسلمين وشذ عنهم وترك ما

جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو أشار به أو ألمح إليه أو ما أقامه صلى الله

عليه وسلم مقامه فقال - تعالى -: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى

وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً]

(النساء: 115) .

وأما ما وقع بينهم من الخلاف فهم بشر ليسوا بمعصومين، ومَن نحن حتى

ننصب أنفسنا حكاماً ومعدِّلين لهم؛ فلتسلم ألسنتنا كما تسلم قلوبنا، وهذا هو المذهب

الأسلم والأحكم، ثم إن «القدر الذي ينكر من فعلهم قليل نزرٌ مغمورٌ في جنب

فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة

والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة،

وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان

ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها

على الله» [28] .

كما ينبغي أن يعلم أن جمهور الصحابة، وجمهور أفاضلهم لم يدخلوا في فتنة،

وقد ثبت بإسناد قال عنه ابن تيمية: «إنه من أصح إسناد على وجه الأرض» ،

عن محمد بن سيرين قال: «هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه

وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين» [29] . ولعل

حسنة من أحدهم تعدل آلاف الحسنات من غيرهم، كما في النص الآتي قريباً،

ولعل العاقل البصير المتجرد للحق وللحق وحده أن يدرك أن الله - عز وجل - لا

يختار لصحبة نبيه وملازمته من كان مفسداً للدين مُبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم؟

وقد سُئل النصارى فقيل لهم: مَنْ أفضلُ أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى.

وسئلت طائفة ممن تنتسب للمسلمين: مَنْ شرُّ أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد

صلى الله عليه وسلم! ! وطائفتان إحداهما لمزت مريم عليها السلام بالزنا،

والأخرى لمزت عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها بالزنا؛ فتأمل - رحمك الله -

كيف يجتمع الهوى والضلال في تلك الطائفتين! ! وقد قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدّ

أحدهم ولا نصيفه» [30] .

ولك أن تنظر في الذب عن الصحابة حينما دخل عائذ بن عمرو على عبيد الله

بن زياد كما روى مسلم فقال: «إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

» إن شر الرعاء الحُطَمة؛ فإياك أن تكون منهم «، فقال: اجلس فإنما أنت من

نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وهل كان لهم أو فيهم نخالة، إنما

كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم» [31] . وصدق - رضي الله عنه وأرضاه -:

أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حباً لذكرك فليلمني اللوَّمُ

ويأتي في النهاية ما قد يكون السبب في التزام الجفاء والتقنع به وهو

الحساسية المفرطة من بعض المنتسبين إلى السنة والجماعة حيال كل ما يتصل

بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتقديره وتعظيم أهل بيته الصالحين، سواء عند

ذكره أو ذكرهم أو القصد إلى ذكره أو ذكرهم، خشية التشبه ببعض الطوائف،

وهذا قصد في غير محله، وهذا التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يُقصد به

الخروج عن التعظيم الشرعي الوارد في الكتاب والسنة، ولا الاحتفال بالموالد، ولا

التواجد عند السماع، أو التلذذ بالمدائح وحدها، وضابط ذلك التعظيم ما كان عليه

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعرفة المحب الصادق من غيره في الاتباع،

ومن إذا ذكرت له هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثله، وانتهى عما أحدثه

في الدين، ومن إذا ذكرت له السُّنَّة تركها واتبع هواه.

وقد يحتاج هذا الكلام - أعني الحساسية المفرطة - إلى توضيح بالمثال؛ فلا

زلت أذكر أحد أهل العلم ممن له حضور في الساحة الدعوية، وكان كثير الصلاة

والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في دروسه ومحاضراته وأشعاره، فكان

يُنتقد من بعض المتعلمين بسبب ذلك؟ ! وأين هم من حديث أُبَيُّ بن كعب - رضي

الله عنه -: «أجعل لك صلاتي كلها» [32] ، وقد يقول بعضهم: إن الجافي ترى

عنده رقة في الدين وضعفاً في اليقين، بخلاف المحب الصادق؛ فإن عنده رقة

للدين وقوة في اليقين. وماذا يضير الإنسان إذا كان مقتدياً بالسنة المطهرة أن

يُصَنَّف أي تصنيف؟ أيُلام المحب على محبة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ! ! أي

شرف هذا الشرف؟ وأي عز هذا العز؟

ولئن نطقتُ بحبهم فلي في الصالحين قبلي سلف وقدوة:

لا بد للعاشق من وقفة ... ما بين سلوان وبين غرام

وعندها ينقل أقدامه ... إما إلى خلف وإما أمام

وليمتثل القارئ الكريم بهذا العنوان الجميل لحياة المحب الصادق:

ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهمُ معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي

والزم - رعاك الله - الحقَّ، وإن كنت وحدك؛ فلا بد من أُنْسٍ وإن طال

الطريق وكثر قُطّاعه، والله وحده هو الهادي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015