مجله البيان (صفحة 3743)

دراسات في الشريعة والعقيدة

أحكام اللُّقَطَة

رأفت الحامد

أولاً: تعريف اللقطة:

اللقطة في اللغة: من اللقط، واللَّقْط - بسكون القاف - أخذ الشيء، ومنه

قوله - تعالى -: [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ] (القصص: 8) .

شرعاً: مال محترم، غير محرز، لا يعرف الواجد مستحقه.

توضيح التعريف: «مال محترم» : هو المال المعصوم الذي لا يجوز لأحد

التصرف فيه بغير إذن صاحبه [1] .

- ويخرج بقيد «غير محرز» الأموال المحفوظة في مواضع مصونة.

- ويخرج بقيد «لا يعرف الواجد مستحقه» ما عُرف مستحقه، وما ليس له

مستحق من الأموال العامة المباحة التي هي لآخذها.

ثانياً: أركان اللقطة؛ وهي ثلاثة:

1 - اللقط.

2 - الملتقط.

3 - الملقوط [2] .

الركن الأول: اللقط:

وهو وضع اليد على الملقوط، وفيه معنى الأمانة والولاية ابتداءاً، ومعنى

الاكتساب والتملك انتهاءً.

حكم اللقط:

مذهب الحنفية والشافعية هو استحباب اللقط، وعند المالكية [3] والحنابلة هو

كراهة اللقط. وقد يكون اللقط دائراً على الأحكام التكليفية الخمسة [4] :

1 - اللقط الواجب: إذا خيف على المال الضائع التلف، وتعين اللقط طريقاً

لحفظها.

2 - اللقط المندوب: عند عدم خوف التلف عليها، ووثوق الملتقط بنفسه

وقدرته على التعريف.

3 - اللقط المحرم: عندما يأخذ الملتقط المال الضائع لا لحفظه ورده إلى

صاحبه بل لتملكه.

4 - اللقط المكروه: وذلك في حق من يشك في أمانة نفسه.

5 - اللقط المباح: إذا استوى الترك واللقط.

قال الحافظ ابن حجر: «ومن ثم كان الأرجح من مذاهب العلماء أن ذلك

يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ فمتى رجَح أخذها فوجب أو استحب، ومتى

رجَح تركها حرم أو كره وإلا فهو جائز» [5] .

الإشهاد على الالتقاط:

يجب الإشهاد على الالتقاط؛ بأن يُشْهِدَ الملتقطُ عليه رجلاً عدلاً واحداً فأكثر

لحديث عياض بن حمار مرفوعاً: «من وجد لقطة فليُشهِدْ ذا عدل في لفظ

(ذوي عدل) لا يكتم ولا يُغيِّب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه؛ وإلا فهو مال الله

يؤتيه من يشاء» [6] .

والوجوب مذهب الظاهرية [7] وقول عند الشافعي، وإليه ذهب

الشوكاني [8] والصنعاني [9] ، وذهب الحنابلة [10] والمالكية - وقول عن

الشافعي [11]- إلى استحباب الإشهاد احتياطاً.

وسبب الوجوب: أنه يمتنع به من الخيانة، وأنه قد يموت فجأة فتصير اللقطة

من تركته فتفوت على مالكها.

كيفية الإشهاد: فيه طريقتان:

الأولى: يُشهِد أنه وجد لقطة ولا يُعلِم بالعِفاص ولا غيره لئلا يتوصل بذلك

الكاذب إلى أخذها.

الثانية: يُشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوارث.

وأشار بعض الشافعية إلى التوسط بين الوجهين، فقالوا: لا يستوعب

الصفات ولكن يذكر بعضها. قال النووي: «وهو الأصح» [12] .

- ما تقدم في حكم الالتقاط والإشهاد إنما في غير التقاط الحيوان من الجمادات

وما يشبهها.

التقاط الحيوان:

ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى القول بعدم التقاط

الحيوان للنهي الوارد في حديث زيد بن خالد، وحمل بعضهم النهي على من التقطها

ليتملكها لا ليحفظها فيجوز له، وهو قول للشافعية [13] ، وأما الحنفية فقد جعلوا

الحيوان كغيره في حكم الالتقاط.

والصحيح أنه لا يجوز لقط الإبل لما ورد مرفوعاً من حديث زيد بن الحارث:

«ما لك ولها؟ ! معها حذاؤها وسقاؤها: ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها

ربها» [14] ، وهو كما سبق؛ فإن الجمهور قاسوا على الإبل كل حيوان يقوى على

الامتناع من صغار السباع [15] ، ويقوى على ورود الماء، وذهبوا إلى جواز التقاط

الإبل من قِبَل الإمام أو نائبه عند الضرورة كحالة الخوف عليها من الهلاك، أو

النهب في أوقات اضطراب الأمن، وإن كان الملتقط من العامة لزمه تسليمها للإمام.

أما ضالة الغنم فيجوز التقاطها لما ورد في حديث زيد بن خالد صريحاً:

«خذها؛ فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» [16] ، وقاس عليها الجمهور

ما يشبهها في الضعف واحتمال الضياع [17] .

التقاط لقطة الحاج:

جاء في الشرع ما يدل على النهي عن لقطة الحاج، أي التقاط ما ضاع من

الحاج أو ما ضاع في مكة المكرمة لحديث أبي هريرة مرفوعاً: « ... ولا يلتقط

ساقطتها - أي مكة - إلا منشد» [18] . ولحديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن لقطة الحاج» [19] [20] ، وحمل

الفقهاء هذا النهي عن التقاطها للتملك لا للتعريف كما هو نص الحديث، وهذا

مذهب الظاهرية [21] ، ورواية عن الشافعي [22] ، ورواية عن أحمد [23] واختارها

الشوكاني [24] . وذهب الحنفية [25] ، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في رواية

عنه [26] إلى أنه لا فرق بين لقطة الحرم وغيره.

والصحيح أن هذا الحكم من خصوصيات بلد الله الحرام.

الركن الثاني: «الملتقط» :

وهو من له أهلية الاكتساب أو الاحتفاظ. قال النووي في صفته: «أن يكون

حراً، مسلماً، مكلفاً، أمينا» [27] ، ومن أهل العلم من أجاز التقاط الذمي؛ لأنه

من أهل الاكتساب، فهو كالمسلم [28] .

وكذلك الصغير والمجنون والسفيه، فإذا التقط واحد منهم مالاً ضائعاً ثبتت يده

عليه؛ لأنه اكتساب فيصح منه، كالاصطياد والاحتطاب، ولكن يختلف ناقص

الأهلية كالمجنون والصغير في أن وليه ينزع اللقطة منه ويتولى حفظها وتعريفها،

هذا عند الشافعية [29] والحنابلة [30] ، فأما الحنفية فيصح عندهم التقاط الصبي ولا

يصح التقاط المجنون [31] .

تعدد الملتقط:

1 - لو التقط اثنان مالاً ضائعاً، ثم ترك أحدهما حقه منه للآخر لم يسقط

حقه [32] .

2 - لو أقام كلاهما البينة على أنه هو الملتقط وحده ولا تاريخ في البينتين،

تبقى اللقطة لمن هي بيده؛ لأنه صاحب اليد عليها.

3 - لو أمر إنسان آخر بالتقاط شيءٍ رآه فالتقطه فهو للآمر إن قصد ذلك

الملتقط، وإن قصد أنها له وللآمر فلهما [33] .

4 - إن رأياها معاً فبادر أحدهما فأخذها، أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه

فأخذها فهي لآخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ لا بالرؤية كالاصطياد [34] .

الركن الثالث: «الملقوط» :

وهو المال المحترم شرعاً الذي لا يعرف الملتقط مالكه، وهو إما حيوان

ويسمى «ضالة» أو غير حيوان ويسمى «لقطة» ، أما المال المباح فلا يصير

لقطة؛ لأنه ليس له مالك.

ذكر ما يشتبه في كونه لقطة أو مملوكاً لا يعرف مالكه:

1 - إذا أخذ ثياب غيره أو متاعه أو حذاءه قصداً أو سهواً وترك غيره؛ فهل

يعتبر المتروك لقطة عند المأخوذة ثيابه أم لا؟ الجواب: إن لم يتعمد الأخذ

فالمتروك لقطة، وإن تعمد الأخذ جاز للمأخوذة ثيابه بيع المتروك، واستيفاء حقه

منه، ومن أهم علامات تعمد الأخذ أن يكون المأخوذ أفضل من المتروك. ولو كان

المتروك خيراً من المأخوذ أو مثله دل ذلك على السهو والغفلة؛ فهو بمنزلة الضائع

تجري عليه أحكام اللقطة [35] .

2 - ومن ترك مختاراً دابة بمهلكة فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلصها من

الهلاك فهي له؛ لأنها كالمال المباح؛ لِمَا أخرجه أبو داود بسند حسن عن رجال من

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: «من وجد دابة قد عجز عنها أهلها

أن يعلفوها، فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له» [36] . وهذا مذهب الحنابلة [37] ،

وقال مالك والشافعي وابن المنذر: هي لمالكها، والآخر متبرع [38] .

فإذا تحققت الأركان الثلاثة السابقة فعليه:

أولاً: معرفة اللقطة:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد بمعرفة اللقطة، فقال:

«اعرف عِفاصها ووِكاءها» .

والوِكاء: هو الخيط الذي يربط به، والعِفاص: هو الوعاء الذي تكون فيه

النفقة [39] .

والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النفقة [40] .

يلحق بذلك كل ما يلزم لمعرفة اللقطة ويبين أوصافها مثل جنسها ونوعها

وقدرها وما تتميز به، وكل هذا لمعرفة صدق أوصافها إذا ادُّعي ملكيتها [41] ، وقال

الحافظ: «اختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب لظاهر

الأمر» [42] .

وعند التعريف باللقطة يستحب بعض أهل العلم كتابة أوصافها خوف النسيان،

هذا قول الإمام أحمد والنووي [43] .

وجوب تعريف اللقطة:

معنى التعريف: إشاعة الخبر في الناس حتى يمكن وصول علمها إلى

صاحبها.

صورة تعريف اللقطة: بأن يذكر للناس عينها ولا يبين أوصافها بل يذكرها

بوصف عام، وأجاز الحنابلة [44] ذكر جنسها من ذهب أو فضة، وقال الشافعية:

يفصل ذكر أوصافها، ويحرم استيعابها، والأوْلى الأخذ بالاحتياط، والإيغال في

الإبهام.

ويؤخذ وجوب التعريف من قوله صلى الله عليه وسلم: «عرفها سنة» وقد

قال بهذا الجمهور [45] .

وقد ورد في السنة ما يدل على تحريم أخذ اللقطة بنية التملك وعدم التعريف؛

فمن ذلكم ما رواه مسلم عن زيد بين خالد مرفوعاً: «من آوى ضالة فهو ضال ما

لم يعرِّفها» [46] . وعن الجارود مرفوعاً: «ضالة المسلم حرق النار» [47] .

ويستثنى من هذا الوجوب ما يلي:

1 - ما يعلم أن مالكه لا يطلبه، كقشر الرمان أو النوى، ونحو ذلك مما

يرميه الناس، ولكنه إذا وجده في يد الملتقط فله أن يأخذه؛ لأن إلقاءه يفيد إباحة

الانتفاع به من ملتقطه، ولا يفيد التمليك، وملك المبيح لا يزول بالإباحة، وإن كان

للمباح له الانتفاع به [48] ، وعند الحنابلة يملكه الملتقط؛ لأن صاحبه تخلى عنه.

2 - اللقطة التافهة: إذا كانت مما يؤكل، ويتسارع إليها الفساد كالتمرة،

ونحوها لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال:

«لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها» [49] ، فظاهر الحديث يدل

على عدم اشتراط التعريف، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية [50] .

3 - اللقطة اليسيرة: إذا لم تكن مما يؤكل، فهذه لا يجب تعريفها عند

المالكية والحنابلة، وهو مما لا تتبعه همة أوساط الناس لما رواه أبو داود عن جابر

قال: «رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، والسوط، والحبل،

وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به» [51] ، ولكن يرد عليه ما رواه أحمد من حديث

يعلى بن مرة مرفوعاً: «من التقط لقطة يسيرة حبلاً أو درهماً أو شبه ذلك فليعرِّفها

ثلاثة أيام؛ فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام» [52] ، وزاد الطبراني: «فإن

جاء صاحبها، وإلا فليتصدق بها» . قال الشوكاني: «وفي إسناده عمر بن عبد

الله بن يعلى، وقد صرح جماعة بضعفه؛ فإذا صح هذا الحديث حمل على الذي

قبله؛ فيكون تعريف اللقطة اليسيرة ثلاثة أيام حملاً للمطلق على المقيد [53] .

قال النووي:» أما الشيء الحقير فيجب تعريفه زمناً يظن أن فاقده لا يطلبه

في العادة أكثر من ذلك الزمان « [54] .

4- إذا خشي الملتقط من الاستيلاء على لقطته ظلماً من قِبَل ذي سلطان جائر

لم يجز له التعريف، وتكون أمانة عنده، وهذا قول عند الشافعية [55] .

مدة التعريف:

الأصل في مدة التعريف سنة كاملة، وهو ما دل عليه حديث خالد بن زيد في

قوله صلى الله عليه وسلم:» عرفها سنة «متفق عليه، وهذا محل إجماع، قال

ابن قدامة:» لا نعلم فيه خلافاً « [56] .

ويستثنى من هذا الأصل ما يلي:

1 - إذا كانت اللقطة يسيرة فيعرفها ثلاثة أيام أو زمناً يظن بعده أن فاقدها لا

يطلبها.

2 - ما يخشى فساده إذا كان كثيراً أو يسيراً كالفاكهة والخضروات فإنه

يعرِّفها مدة لا يخشى فيها عليه الفساد، وهذا قول الحنفية والحنابلة.

زمن التعريف:

يكون التعريف في الأوقات المناسبة - كالنهار مثلاً - ويتكرر بالقدر الذي

يحصل به مقصود التعريف حتى يمكن وصول خبرها إلى صاحبها [57] .

قال ابن الهُمام:» واعلم أن الأمر بتعريفها سنة يقتضي تكرار التعريف عرفاً

وعادة، وإن ظرفية السنة للتعريف يصدق بوقوعه مرة واحدة، ولكن يجب حمله

على المعتاد من أنه يفعله وقتاً بعد وقت، ويكرر ذلك كلما وجد مظنة « [58] .

الفورية في التعريف:

الراجح في التعريف أنه واجب على الفور، ولا يجوز تأخيره عن زمن

تطلب فيه اللقطة عادة، وهذا يختلف باختلاف مقدارها [59] .

مكان التعريف:

يجري التعريف في الأماكن التي يظن فيها بلوغ خبرها إلى صاحبها، وأوْلى

هذه الأماكن مكان التقاطها [60] ، ويعرف في:

- مجامع الناس كالأسواق، وأبواب المساجد [61] ، الصحف، الإعلانات

الكبيرة المعلقة، الإذاعة.

من يتولى التعريف:

يتولى أمر التعريف الملتقط، أو نائبه [62] ، ويشترط أن يكون عاقلاً، فلا

يصح تعريف السفيه عند الشافعية إنما يجب على وليه [63] ، ولا يعتد بتعريف

الفاسق؛ لأنه يخون، وكذلك لا يعتد بتعريف الصبي غير المميز، والمجنون،

ويتولى ذلك وليهما، ويعتد بتعريف الصبي المميز [64] .

مؤنة التعريف:

يتحمل الملتقط مؤنة التعريف عند الحنفية والحنابلة [65] ، وعند المالكية

يتحملها صاحب اللقطة [66] ، وعند الشافعية لا يتحملها الملتقط إن كان قصده حفظها

لصاحبها، ويجعلها القاضي من بيت المال قرضاً أو يبيع قسماً منها لنفقة تعريفها.

وإن كان التقطها لتعريفها ثم تملكها إن لم يظهر صاحبها فمؤنة التعريف تكون على

الملتقط، وإذا كان الملتقط صبياً أو مجنوناً فيعرفها الولي، ولكنه لا يدفع مؤنة

التعريف من مال الصبي والمجنون؛ إنما يرفع الأمر إلى القاضي ليبيع قسماً من

اللقطة أو ليقترض على حساب مالك اللقطة، ومالَ صاحب» الإنصاف «الحنبلي

إلى قول الشافعية [67] .

مسألة: إذا قام الملتقط بالتعريف؛ فيتصور أحد حالين:

- أن يأتي صاحبها ويطالب بها أثناء مدة التعريف، أو أن تنتهي مدة

التعريف ولا يطالب بها أحد.

ففي الحالة الأولى: يجب دفع اللقطة إلى من يذكر أوصافها ولا يشترط إقامة

البينة، ولا اليمين لوجوب الدفع لقوله؛ لظاهر الحديث. قال عليه الصلاة والسلام:

» فإن جاءك أحد يخبرك بعددها، ووعائها، ووكائها فادفعها إليه «رواه البخاري

عن أبي بن كعب، ومسلم عن سلمة بن كهيل، واللفظ له [68] ، ولا يضمن الملتقط

إذا ظهر مستحق للقطة، ولهذا المستحق الرجوع إلى الواصف الآخذ فقط، وهذا

ظاهر مذهب الحنابلة والمالكية وأهل الظاهر، وهو الراجح، وعند الحنفية

والشافعية لا بد من البينة [69] .

وأما الحالة الثانية: تدخل اللقطة في ملك الملتقط عند تمام مدة التعريف غنياً

كان أو فقيراً، وتورث عنه؛ فإن جاء صاحب اللقطة ضمنها له إن كان حياً أو

ضمنه له الورثة إن كان الملتقط ميتاً، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة [70] ،

واستدلوا بما رواه زيد بن خالد مرفوعاً:» فإن لم تعرف فاستنفقها «، وفي لفظ:

» وإلا فهي كسبيل مالك «، وفي لفظ:» فشأنك بها «، وفي لفظ:» فاستمتع

بها «، وفي لفظ:» فاخلطها بمالك «، والمعنى واحد. قال الحافظ:» الأمر

للإباحة؛ فتكفي النية للتملك وهو الأرجح دليلاً « [71] .

وذهبت المالكية إلى أن الملتقط إذا كان فقيراً فإن له أن يأكل، وإن كان غنياً

فإنه يتصدق بها، ويجوز أكلها بعد الحوْل [72] ، وذهبت الحنفية إلى أن الملتقط إذا

كان فقيراً فإنه يملكها، وإن كان غنياً فإنه يتصدق بها ولا يأكلها [73] ، قلت:

الراجح قول الشافعية والحنابلة لقوة ما استدلوا به، والله أعلم، ونسبة العلم إليه

أسلم.

ضمان اللقطة:

تعتبر اللقطة أمانة، أو مضمونة بيد ملتقطها حسب نيته.

1 - فإن كان قد التقطها بنية حفظها وردها لصاحبها فهي أمانة فلا يضمنها

إلا بالتعدي والتقصير [74] .

2 - وإن كان قد التقطها بنية أخذها لنفسه وعدم ردها إلى صاحبها فهي

مضمونة عنده؛ لأنها بحكم المغصوب، وهذا قول الجمهور [75] ، وتعرف نية

الملتقط عند أبي حنيفة وأبي يوسف بالتصديق والإشهاد [76] .

فإذا هلكت اللقطة وجاء صاحبها، وصدق الملتقط بأنه أخذها للحفظ والرد فلا

ضمان عليه لثبوت أمانته بهذا التصديق، وإن كذبه المالك وكان الملتقط قد أشهد

على التقاطه فلا ضمان عليه لظهور أمانته بالإشهاد، وإن لم يكن قد أشهد فتثبت

أمانته بيمينه؛ لأن القول قول الأمين مع اليمين، وهذا قول أبي يوسف، والمالكية،

والشافعية، والحنابلة.

3- وإذا التقطها بنية الحفظ والرد ثم رد اللقطة إلى مكانها الذي أخذها منه؛

فلا ضمان عليه عند الحنفية [77] والمالكية، وعند الشافعية والحنابلة [78] يضمن؛

لأنها صارت أمانة في يده فلزمه حفظها [79] ، ورُد عليهم بأنه قد يأخذها على ظن

قدرته على حفظها فتبين له عجزه فردها، أو يكون أخذها ليعرف صفاتها ثم يرشد

صاحبها إلى مكانها.

أحكام الضالة:

اعلم أخي الكريم أن وصف الضالة لا يقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال

له لقطة [80] . وضالة الحيوان على نوعين:

النوع الأول: ضالة الإبل، وما يشبهها.

النوع الثاني: ضالة الغنم، وما يشبهها.

فأما النوع الأول: وهو ضالة الإبل، وما يشبهها فوصفها كما يلي:

1 - أن تصل بنفسها إلى المرعى والماء.

2 - أن تمتنع على صغار السباع، إما: بقوة جسمها كالبقر والخيل، أو

ببعد أثرها لسرعة عَدْوِها كالظباء والأرنب، أو بجناحها لسرعة طيرانها كالحمام،

أو بنابها كالكلاب والفهود.

فهذا النوع لا يجوز التقاطه؛ لأنه يقوم بحفظ نفسه [81] .

مسائل تتعلق بهذا النوع:

1 - سبق أنه لا يجوز لقط الإبل وما في معناها، وهذا قول الجمهور،

وحكمة النهي عن التقاط الإبل:» أن بقاءها حيث فقدت أقرب إلى وجدان مالكها

لها من تطلُّبه لها في رحال الناس « [82] ، وقال بعضهم:» لاستغنائها عن الحافظ

والمتفقد « [83] .

2 - لولي الأمر أو نائبه أخذ ضوال الإبل، وما يشبهها في الامتناع من

صغار السباع، على وجه الحفظ لصاحبها، ولا يلزمه تعريفها [84] .

3 - على ولي الأمر أن يجعل لها حمى ترعى فيه حتى يأتي صاحبها، وإذا

رأى أن المصلحة في بيعها وحفظ ثمنها لصاحبها جاز له ذلك [85] .

4 - ولو التقطها غير الإمام لم يجز له ذلك، ويكون ضامناً لها ولا يبرأ إلا

بردها إلى صاحبها، وإذا ردها إلى مكانها لا يبرأ ولا يمتلكها بعد مضي سنة إذا لم

يحضر مالكها [86] .

5 - وعلى مدعي ملكيتها إقامة البينة، ولا يكتفى منه بالوصف؛ لأنها كانت

ظاهرة بين الناس.

وأما النوع الثاني: وهو ضالة الغنم وما يشبهها؛ فوصفها كما يلي:

1 - أن يعجز عن الوصول إلى الماء والمرعى.

2 - ألاَّ يمتنع من صغار السباع فلا يدفع عن نفسه افتراس الأذى، كصغار

الإبل وهي الفصلان، وصغار البقر وهي العجول، وصغار الخيل وهي الأفلاء،

والدجاج والأوز [87] .

مسائل تتعلق بهذا النوع:

1 - سبق أنه يجوز التقاط ضالة الغنم، وما في معناه، وحكمة أخذ ضالة

الغنم: هي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد، وفي ذلك إتلاف لماليتها على

مالكها [88] .

2 - يخير ملتقط الغنم بين ثلاثة أمور:

أ - أكلها، وعليه قيمتها إذا ظهر صاحبها، وهذا قول المذاهب الأربعة [89] ،

إلا أن الإمام مالكاً أجاز الأكل، ومنع القيمة على الملتقط، والصحيح الأول [90] .

ب - بيعها وحفظ ثمنها حتى يظهر صاحبها بعد معرفة أوصافها [91] .

ج - حفظها لصاحبها، والإنفاق عليها دون أن يتملكها، وتكون النفقة من قِبَل

الملتقط، على جهة التطوع عند الشافعية والحنابلة، وفي رواية أخرى عن

مالك [92] .

3 - وإذا تلفت ضالة الغنم فعلى الملتقط الضمان، وهذا قول الجمهور [93] ،

وعند الشافعية لا ضمان على الملتقط؛ لأن يده يد أمانة [94] ، وعند الحنابلة

التفصيل: فإن فرط فعليه الضمان، وإلا فلا [95] وهو الأظهر.

4 - يجب تعريف ضالة الغنم سنة كاملة عند الجمهور، وقال مالك: لا

تعريف في ضالة الغنم [96] . قال ابن قدامة:» ولنا أنها لقطة لها خطر؛ فوجب

تعريفها كالمطعوم الكثير، وإنما ترك ذكر تعريفها؛ لأنه ذكرها بعد بيانه التعريف

فيما سواها، فاستغنى بذلك عن ذكره فيها، ولا يلزم من جواز التصرف فيها في

الحول سقوط التعريف كالمطعوم [97] .

نماء الضالة:

ينقسم نماء الضالة إلى قسمين:

الأول: نماء متصل بالضالة كسمنها، وهذا يكون لمالكها إذا استردها.

الثاني: نماء منفصل عن الضالة كنسلها، وفي هذه الحالة ينظر إن حدث قبل

التملك فهي للمالك، وإذا كان النماء بعد التملك فهو للملتقط؛ لأنه نماء حصل في

ملكه فيكون له [98] [*] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015