إشراقات قرآنية
محمد بن عبد العزيز الخضيري
ما من مسلم في الأرض يشهد لله بالوحدانية إلا وهو يقر إقرارًا جازمًا لا مراء
فيه بأن القرآن الكريم تنزيل من حكم حميد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه، وأنه قد بلغ الذروة من الفصاحة والبلاغة التي يتقاصر البلغاء - فضلاً عمن
سواهم - عن سبر غورها وإدراك أعماقها، وهذا الإقرار من كثير منهم قد جاء
بناءًا على خبر الصادق - كما نطقت به آي الكتاب وكلمات الرسول صلى الله عليه
وسلم - خلافًا لما كان عليه الناس في القرون الأُول حين كانوا يتذوقون تلك البلاغة
ويدركون حقيقة الإعجاز الذي أخبروا عنه.
ولكي أطلعك - أخي - على لون من ألوان بلاغة القرآن جار مجرى التمثيل
والتدليل لتنتقل بإيمانك من العلم إلى اليقين إلى عين اليقين فإني استعرض لك في
هذه المقالة بعض ما دوًّنه أئمتنا في بلاغة آية نرددها الدهر كله، لكن لفساد تذوقنا
اللغوي. وضعف تدبرنا وقلة زادنا؛ فإن ما أُدع في هذه الآية من بديع الحكمة
وعمق البلاغة لا يخطر لنا على بال فضلاً عن استرواحنا له واستلذاذنا به.
وإذا كان هذا الشأن في آية؛ فكيف يكون القول فيه بقية الآي؟
إنها قوله - تعالى -: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) . فإليك
لطائف من بلاغتها لترى بأم عينك ما انعقد عليه قلبك.
المسألة الأولى: حكمة تقديم المعمول (إياك) :
إن تقديم المعمول [إِيَّاكَ] (الفاتحة: 5) على عاملها [نَعْبُدُ]
(الفاتحة: 5) نموذج رائع على بلاغة القرآن وبلوغه الذروة العليا من الفصاحة
والبيان، فلا يشق له في ميدان البلاغة غبار؛ وحق له أن يكون كذلك؛ وكيف لا،
وهو كلام رب العالمين؟
ولعلي أطلعك على صدق مقالي في هذا البحث اللطيف لترى كيف تجول أقلام
أحبار الأمة في بيان بلاغة تقديم (إياك) على عاملها فتبصر العجب، وإنما هو
عجب في الأذهان، وليس بمستبعد ولا غريب على القرآن.
وقد بين العلماء - رحمهم الله تعالى - وجوهًا كثيرة في سر التقديم أسوق
موضحًا باقة منها يتضح من خلالها ما تضمنته الآي من آيات الصدق الشاهدة على
أن هذا الكلام من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
الوجه الأول:
في التقديم إيذان بالحصر أو الاختصاص؛ فهو في قوة (لا نعبد إلا إياك،
ولا نستعين إلا بك) ، والحاكم في ذلك كما قال ابن القيم - رحمه الله -: (ذوق
العربية واستقراء موارد استعمال ذلك مقدمًا) [1] .
والحصر في الأول حقيقي؛ لأن المؤمنين الملقًّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا
الله، وأما في الثاني فهو حصر ادعائي إضافي كما ذكر ذلك الطاهر بن عاشور -
رحمه الله - ومعناه هنا: لا نستعين في عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس
إلا بالله - تعالى -[2] .
وقد زعم قوم أن التقديم هنا لا يفيد الاختصاص بل الاهتمام؛ والصحيح
خلاف ما قالوه. وسيبويه - رحمه الله - ذكر الاهتمام ولم ينف غيره [3] ، ولأنه
يقبح من قائل قد أعتق عشرة من الأعبد ثم قال لأحدهم: إياك أعتقت؛ فإن من
يسمعه ينكر ذلك عليه ويقول: وغيره أيضًا أعتقت: ولولا فهم الاختصاص لما قَبُح
هذا الكلام، ولا حسن إنكاره [4] . قال ابن القيم: ولا عبرة بجدل من قلَّ فهمه وفتح
عليها باب الشك والتشكيك؛ فهؤلاء هم آفة العلوم وبليًّة الأذهان والفهوم) [5] اهـ.
قال الشوكاني: (وتقديمه على الفعل: لقصد الاختصاص، وقيل للاهتمام والصواب
أنه لهما؛ ولا تزاحم بين المقتضيات) [6] .
الوجه الثاني:
إفادة الاهتمام فإن عادة العرب جارية على تقديم ما القصد الأول إليه،
والاهتمام متوجه نحوه من الفاعل والمفعول؛ وإن كان في ذكر الجملة القصد أن
جميعًا فإنك تقول: بالأمير استخف الجند. وإذا كان القصد الأول ذكر من وقع به
الاستخفاف، وتقول: الأمير استخف بالجند. إذا كان مقصودك الأول هو التنبيه
على من أقدم على الاستخفاف بهم.
ولما كان القصد الأول في الآية ذكر المعبود دون الإخبار عن إيجاد عبادتهم
كان تقديم ذكره أوْلى؛ وعلى هذا قوله - تعالى -[قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ
أَيُّهَا الجَاهِلُونَ] (الزمر: 64) [7] .
ومنه أيضًا ما حُكي أن أعرابيًا سب آخر فأعرض المسبوب، فقال الساب:
إياك عني. فقال الآخر: وعنك أعرض. فانظر كيف قدم كل منهما ما قصده إليه
أول [8] .
الوجه الثالث:
فيها أدبهم مع ربهم - جل وعلا - حيث قدموا ذكره على ذكر عبادتهم، ومنه
يؤخذ تعليمهم الأدب مع المتفضل المنعم عليهم فيقدموا ذكره في كل شأن من
شؤونهم [9] .
الوجه الرابع:
أن الله - تعالى - قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد من أول وهلة على أن المعبود
هو الله؛ فلا يتكاسل في التعظيم، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالاً [10] .
الوجه الخامس:
وفيه التنبيه للعبد بأنه إذن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من
قيام وركوع وسجود فاذكر: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] (الفاتحة: 5) لتذكرني، وتخضر في
قلبك معرفتي؛ فإذا ذكرت ذلك سهلت عليك عبادتي [11] .
الوجه السادس:
من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة؛ كان نظره في وقت
الابتلاء إلى المبتلى لا إلى البلاء فيكون في كل أحواله متعلقًا بالله، بخلاف من
يخالف ذلك، ولذا قال الله - تعالى - لأمة موسى: [اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ]
(البقرة: 40) ، وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]
(البقرة: 152) [12] .
الوجه السابع:
وليلفت نظر العبد إلى أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات، ثم إلى العبادة من
حيث إنها وصلة إليه وراحلة تفد عليه [13] .
الوجه الثامن:
إن الله هو الأول؛ فوجب أن يقدم ذكره ليوافق الوضع الطبع.
الوجه التاسع.
وليعرِّض بالمشركين الذين يعبدون مع الله غيره، ويستعينون بغيره، فقد
كانوا فريقين:
- فريقًا عبد غير الله على قصد التشريك، إلا أن ولعه بغير الله أنساه عبادة
الله كما عبدت الفرس النور.
- وفريقًا أشرك مع الله غيره؛ وهذا حال معظم العرب؛ فقد جعلوا الآلهة
بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله، فيجمعوا بين العبادة لهم والاستعانة بهم.
قال الطاهر بن عاشور: (وإنما قلنا: إن استفادة الرد على المشركين بطريق
التعريض؛ لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضًا، لأن
معناه حاصل على الحقيقة كما أشار السلكوتي في حاشية التفسير) [14] .
وإلى هنا أوقف سباحة الفكر في أوجه تقديم المعمول على العامل في الآية،
ففي ما ذكر ذكرى لمن ادّكر.
ويحسن بي أو أورد إشكالاً ذكره الرازي في تفسيره بقوله: (إن قال قائل:
جميع ما ذكرتم قائم في قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] (الفاتحة: 2) وقد قدم فيه ذكر
(الحمد) على ذكر (الله) .
فالجواب: إن قوله: [الْحَمْدُ] (الفاتحة: 2) يحتمل أن يكون لله ولغيره
(أي يجوز إطلاق الحمد لغير الله) ، فإذا قلت: (لله) تفيد بأن يكون لله، أما لو قدم
(نعبد) احتمل أن يكون لله، واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر: والنكتة أن
الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله؛ لا جرم حسن تقديم الحمد، أما
ها هنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله قدم قوله: (إياك) على (نعبد)) [15] .
المسألة الثاني: حكمة تكرار (إياك) :
كررت (إياك) في الآية مرتين وأعيدت مع العاملين (نعبد، نستعين) ،
وكان يمكن أن يقال: لو لم تكرر لكان أخصر، ولكنا حين نعلم اللطائف في
تكرارها نقضي عجبًا من فصاحة القرآن، ولا يكون عندنا ريب في أن ورودها
مكررة مع عامليها هو الحق الذي لا يكون غيره مكانه، مع أنه قد ورد في القرآن
الاقتصار على ذكر أحد المفعولين في آيات كثيرة منها قوله - تعالى -:
[مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى] (الضحى: 3) : أي ما قلاك، وكذلك الآيات التي
بعدها في معناها [16] (فآواك، فهداك، فأغناك) ، ولكن هذه الآية العظيمة [إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) لها شأن غير شأن سواها من الآيات , ونبين
حكمة ذلك فيما يلي:
أولاً: أنه لو حذفت [إِيَّاكَ] (الفاتحة: 5) في الثاني لفاتت فائدة التقديم،
وهي قطع الاشتراك بين العاملين؛ إذ لو قال: (إياك نعبد ونستعين) لم يظهر أن
التقديم (إياك نعبد وإياك نستعين) بل قد يحتمل غيره في التقدير ك (إياك نعبد
ونستعينك) مثلا [17] .
ثانيًا: وكرر للتنصيص على تخصيص: (الله تعالى) بكل واحدة من العبادة
والاستعانة [18] .
ثالثًا: ولأنه لو لم يكرر لصح أن يعتقد أن الاستعانة تكون بغير الله - عز
وجل -[19] .
رابعًا: وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف ما لو جاءت هكذا: (إياك
نعبد ونستعين) فإنه يحتمل أن يكون إخبارًا بطلب العون، أي: وليطلب العون،
من غير أن يعيّن ممن يطلب [20] .
خامسًا: ولأنه ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله - تعالى - إلا بالجمع بينهما،
والواقع خلافه [21] .
سادسًا: وليكون في التكرار تعليمًا للعباد بأن يجددوا ذكر الله - تعالى - عند
كل حاجة [22] .
سابعًا: وليكون في التكرار إبراز الاستلذاذ بمناجاة الله وخطابه [23] .
ثامنًا: وليشعر أن حيثية تعلق العبادة به - تعالى - غير حيثية تعلق الاستعانة
منه، ولو قال: (إياك نعبد ونستعين) لتوهم أن الحيثية واحدة، والشأن ليس كذلك،
إذ لا بد في طلب الإعانة عن توسط صفة، ولا كذلك في العبادة، فلاختلاف
التعلق أعاد المفعول ليسير بها إليه [24] .
تاسعًا: ولأن بين الحصرين فرقًا فالحصر في: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ]
(الفاتحة: 5) حقيقي كما تقدم والحصر في [إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5)
ادعائي؛ فإن المسلم قد يستعين بغير الله، ولكنه لا يستعين في عظم الأمور إلا
بالله، ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله.
ومن المفسرين من جعل التكرار للتوكيد كما تقول: (بين زيد وبين عمر
خصومة) فتعيد (بين) ، وقد رجح هذا الواحدي في بسيطه [25] .
وردّ عليه الآلوسي بأن التكرار إنما يكون توكيدًا إذا لم يكن معمولاً لفعل ثان،
(وإياك) الثاني في الآية معمول لـ (نستعين) ، مفعول له؛ فكيف يكون
تأكيدًا؟ [26] .
المسألة الثالثة: سر الإتيان بنون الجمع في الفعلين:
لسائل أن يقول: إن المتكلم بالآية واحد فما معنى الإتيان بالنون المفيدة للجمع
أو التعظيم في هذا المقام؟
ونقول: قد اختلفت مشارب العلماء في الإجابة على هذا التساؤل وكل منهم
بنى على ما رآه فوائد استنبطها من مدلول الآية حسب ما يراه.
فيرى جمع أن النون للجماعة؛ فهي بذلك على حقيقتها، فكأن المصلي أخبر
عن نفسه وعن جنس العباد وهو واحد منهم لا سيما إن كان في جماعة أو كان إمامًا
لهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه بالعبادة التي خلقوا لأجلها [27] .
قالوا: ففيه التنبيه على أن هذه الصلاة إنما بنيت على الاجتماع؛ فينبغي ألا
تفعل إلا جماعة [28] .
وفيه أيضًا إغاظة للمشركين بإعلامهم أن المسلمين صاروا في عز ومنعة [29]
وقالوا فيه أيضًا: بالغ الثناء على الله لئلا تخلو مناجاتهم لربهم عن ثناء له بأنه قد
شهد له الجماعات بأنهم عبيده وطلبوا منه العون، فكان الحامد لما انتقل من الحمد
إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقنص فيها الثناء إلا انتهزها [30] .
وفيه أيضًا إيذان بقصور نفسه، وعدم لياقته للوقوف في مواقف الكبرياء
منفردًا، وعرض العبادة، واستدعاء المعونة والهداية مستقلاً، وأن ذلك، إنما
يتصور من عصابة هو من جملتهم، وجماعة هو من زمرتهم [31] ، فلسان حال
العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث استحق أن أذكرها وحدها؛ لأنها
ممزوجة بجهات التقصير وأنواع التفريط؛ غير أني أخلطها بعبادات جميع العابدين
وأذكر الكل بعبارة واحدة [32] .
ثم إنه لو قال: (إياك أعبد) لكان ذلك بمعنى أنا العابد؛ لكنه عندما يقول:
(إياك نعبد) كان المعنى: إني واحد من عبيدك؛ وفرق بين الأمرين، كما يرشد إليه
قوله - تعالى - حكاية عن الذبيح: [سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ]
(الصافات: 102) ، وقوله - سبحانه - حكاية عن موسى - عليه السلام -:
[سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً] (الكهف: 69) . فصبر الذبيح لتواضعه يعدِّ نفسه
واحدا من الصابرين، ولم يصبر كليم الرحمن لإفراده نفسه مع أن كلاً منهما قد قال:
(إن شاء الله) [33] .
ومع ذلك فهو يذكر نفسه مع إخوانه لينأى عن ساحة الكبر والاعتداد بالنفس،
فإنه لو قال: (إياك نعبد، أو إياك عبدت) لكان معظماً لنفسه قد ولج باب الكبرياء
وتدنس بالعجب؛ فإن هذا بمعنى: (أنا العابد) فكأنه وحيد الميدان هو الأهل لهذا
الشأن دون غيره، لكنه بقوله: (إياك نعبد) يكون متجلببًا ببُرد التواضع ولسان
حاله يقول: (لست أهلا لأن أتقدم إلى جنابك العظيم وحدي؛ بل أضم نفسي إلى
سائر عبيدك لأكون داخلاً في ضمنهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فعسى أن
أكون مقبول العبادة مجاب الدعوة [34] .
ثم إنه إذا قال: (إياك نعبد) كأنه قد صار ساعيًا في إصلاح نفسه وإصلاح
مهمات إخوانه المؤمنين، وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته [35] وفيه أيضًا احتراز
من الكذب؛ فإن العبد لا يزال يذل لغير الله ويستعين به؛ فكيف يقول: (إياك أعبد
وإياك أستعين) ؟ [36] .
ومن العلماء من يرى بأن النون للتعظيم؛ ووجه ذلك عندهم: أن العبد لما
أشتغل قلبه وقالبه بعبادة الله يقال له: قد عظم قدرك عند ربك؛ فقال على سبيل
التعظيم: (إياك نعبد) ليظهر للكل أن كل من كان عبدًا لله كان ملكًا في الدنيا
والآخرة.
أما إن كنت خارج الصلاة فلا تقل: (نحن) ولو كنت في ألف ألف من
العبيد.
ومن العلماء من يرى بأن النون للتواضع؛ وقد مضى شرح كونها للتواضع؛
وحيث إن النتيجة واحدة فقد ذُكرت مع قول من يرى بأنها لحقيقة الجمع، والله أعلم.
المسألة الرابعة: سر تقديم العبادة على الاستعانة:
وثَمَّ مسألة نفسية جالت فيها أفهام المفسرين، وتنوعت في تأوليها أقوالهم،
وهي برهان ساطع على اتساع اللفظ القرآني للمعاني الكثيرة بلا تعارض بينها، بل
يصدق بعضها بعضاً، ألا وهي تقديم العبادة على الاستعانة، أو تقديم (إياك نعبد)
على (إياك نستعين) .
وللعلماء في ذلك مسلكان، إليك بيانهما، والله المستعان.
المسلك الأول:
وهو أن التقديم لم يكن لشيء من الحكم المقتضية له، بل لما كان في الآية
تلازم وارتباط شديد استوى تقديم إحداهما أو تأخيره. وفي هذا يقول الطبري -
رحمه الله -: (لما كان معلوماً أن العبادة لا سبيل إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه،
وكان محالاً أن يكون العبد عبداً إلا وهو معان، وأن يكون معانًا عليها إلا وهو لها
فاعل - كان سواءاً تقديم ما قدم منها على صاحبه، كما سواءاً قولك للرجل إذا
قضى حاجتك: (أحسنت إلي فقضيت حاجتي) فقدمت ذكر الإحسان على ذكر
قضاء الحاجة؛ لأنه لا يكون قاضيًا حاجتك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك
إلا، وهو لحاجتك قاضٍ؛ فكذلك سواء قول القائل: (اللهم إنا إياك نعبد فأعنا على
عبادتك) ، وقوله (الله أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد) [37] .
ولذا فإن بعض من يرى هذا الرأي يستدل له بأن الواو لا تقتضي
الترتيب [38] بل لمطلق الجمع عند النحاة.
المسلك الثاني:
وهو أن التقديم كل لحكمة اقتضت ذلك، وقد أسهب العلماء - رحمهم الله -
في ذلك أيّما إسهاب، وجالوا في فنون القول حتى أطربوا وأغربوا وأروا غيرهم
اللطائف البيانية تناب في الآية كأنما الآية خزينة ملئت حكمًا، وسأذكر ما وقفت
عليه من ذلك، فالله المستعان، ومنه التوفيق، وعليه التكلان:
الوجه الأول:
أن تقديم العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص [39] .
الوجه الثاني:
ولأن (إياك نعبد) متعلق بألوهية، واسمه: (الله) ، (وإياك نستعين)
متعلق بربويته، واسم: (الرب) فقدم (إياك نعبد) على (إياك نستعين) كما تقدم
اسم الله على اسم الرب في أول السورة [40] .
الوجه الثالث:
ولأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس؛ فكل عابد لله عبودية
تامة مستعين به، ولا ينعكس؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به
على شهواته، فكانت العبادة أتم وأكمل [41] .
الوجه الرابع:
ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص وغيره؛
فتقدم ما كان الإخلاص أساسه [42] .
الوجه الخامس:
ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة،
وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته،
وتقديم مطلوبه أولى من تقديم مطلوب العبد [43] .
الوجه السادس:
ولأن العبادة شكر نعمته عليك، والله يجب أن يشكر والإعانة فعله بك وتوفيقه
لك، فإذا التزمت عبوديته ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول
تحت رقها سببًا لنيل الإعانة من الله له أعظم [44] .
الوجه السابع:
ولأن [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] (الفاتحة: 5) له، و [إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]
(الفاتحة:5) به، وما له مقدم على ما به؛ لأن ما له متعلق بمحبته أكمل مما تعلق
بمشيئته؛ فإن الكون متعلق بمشيئته، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار،
والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته طاعتهم وإيمانهم، فالكبار أهل مشيئته،
والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا، وكل ما فيها فإنه
به تعالى وبمشيئته [45] .
الوجه الثامن:
ولأن (إياك نعبد) قِسْم الرب، فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله
لكونه أولى به و (إياك نستعين) قِسْم العبد فكان مع قسمه [46] .
الوجه التاسع:
ولكون الأولى وسيلة للثانية فإن العبد يقر ويعترف بعبوديته لله، ويجعل هذا
الإقرار، والاعتراف وسيلة لحصول الثاني، فتقديم الوسائل سبب لحصول
المطالب [47] .
الوجه العاشر:
إن قوله: (إياك نعبد) يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى،
وذلك يورث العجب، فأردف بقوله: (وإياك نستعين) ليدل ذلك على أن تلك
الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصل من قوة العبد، بل إنما حصلت بإعانة الله،
فالمقصود من ذكر قوله: (وإياك نستعين) وإزالة العجب، وإفناء تلك النخوة
والكبر [48] .
الوجه الحادي عشر:
أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رؤوس الآي مما يضفي جمالا على النظم
القرآني [49] .
الوجه الثاني عشر:
ولأن الاستعانة مركبة على كونه معبودًا للمستعين منه [50] .
الوجه الثالث عشر:
أن العبادة هي المقصود الأعظم من العبد، والاستعانة وسيلة إليها، والحزم
تقديم ما هو الأهم.
الوجه الرابع عشر:
أن المصلي إذا دخل في الصلاة فكأنه يقول: شرعت في العبادة، فاستعين بك
على إتمامها؛ فلا تمنعني من إتمامها بالموت والمرض، وقلب الدواعي،
وغيرها [51] .
الوجه الخامس عشر:
ولأن العبادة فرض لازم على العبد؛ بينما الاستعانة تابعة للمستعان فيه في
الوجوب وعدمه [52] .
الوجه السادس عشر:
أن طلب العبد الاستعانة لا بد أن يكون مسبوقًا بملاحظة فعل من أعاله وهو
العبادة ليستعينه - تعالى - في إيقاعه [53] ، قلت: وهذا وجه لمن قال بأن الاستعانة
مقيدة بالعون على العبادة، وليست مطلقة؛ والصحيح الذي سنذكره فيما بعد خلافه
وهو إطلاق الاستعانة وإن كان أعظم مقاصدها العون على العبادة.
الوجه السابع عشر:
أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: (إياك نعبد) وما بعده يطلب به العبد من
ربه التمكين؛ فالأول كله حمد وثناء وتمجيد ثم إفراد للعبادة لله؛ فناسب أن يكون
الباقي في ذلك سؤالاً وطلبًا [54] .
المسألة الخامس: سر الالتفات في الآية وفائدة:
ومن القضايا التي لفتت أنظار المفسرين والبلاغيين في الآية الكريمة قضية
الالتفات، وهي من روائع ما في كلام العرب. وقبل ذكر الالتفات في الآية وذكر
فائدته نذكر مقدمة يسيرة بين يدي الموضوع في تعريف الالتفات وأضربه ليتسنى
لنا فهمه جليًا.
قال علماء البلاغة: (والالتفات من أجلِّ علوم البلاغة، وهو أمير جنودها
والواسطة في قلائدها، وعقودها، وسمي بذلك آخذًا من التفات الإنسان يمينًا وشمالاً،
فتارة يُقبل بوجهه، وتارة كذا، وتارة كذا، وهكذا حال هذا النوع من علم
المعاني) [55] ، وأبو الفتح بن جني يسمي الالتفات: (شجاعة العربية) كأنه
عني أنه دليل حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف الشجاع في مجال الوغي بالكر
والفر) [56] .
ومعناه في مصطلح علماء البلاغة: العدول من أسلوب في الكلام إلى أسلوب
آخر مخالف للأول [57] .
وحكمته هي - كما قال الزمخشري - أنه إنما يكون إيقاظًا للسامع من الغفلة
وتطريبًا له بنقله من خطاب إلى خطاب آخر، فإن السامع ربما ملّ من أسلوب
فينقله إلى أسلوب آخر، تنشيطًا له في الاستماع، واستمالة له في الإصغاء إلى ما
يقول له، وقد يكون له غير ما ذكره الزمخشري من الحكم التي يقتضيها سياق
الكلام [58] .
وأما أضربه: فهي ثلاثة:
الضرب الأول:
ما يرجع إلى الغيبة والخطاب والتكلم، ومنه ما في سورة الفاتحة؛ حيث
رجع من الغيبة في قوله: [الْحَمْدُ لِلَّهِ] (الفاتحة: 2) إلى الخطاب في قوله:
[إِيَّاكَ] (الفاتحة: 5) ثم رجع إلى الغيبة في قوله: [غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ]
(الفاتحة: 7) .
الضرب الثاني:
مختص بالأفعال وهو الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، أو عن
الماضي إلى الأمر؛ وفي هذا رجوع من الإخبار إلى الإنشاء.
مثال للأول: [إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ]
(هود: 54) .
ومثال الثاني: [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ]
(الأعراف: 29) .
الضرب الثالث:
مختص بالأفعال، وهو الرجوع من الماضي إلى المضارع أو العكس.
مثال الأول: [وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ] (فاطر: 9) .
فقال [أَرْسَلَ] (فاطر: 9) ثم قال: [فَتُثِيرُ] (فاطر: 9) ثم رجع إلى
الماضي [فَسُقْنَاهُ] (فاطر: 9) [59] .
ومثال الثاني: [وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي
الأَرْضِ] (النمل: 87) .
ونعود بعد هذه التقدمة إلى ما استأثر به هذا المقام الجليل في الآية من النكت
الرائعة الدالة على تخصيص العبادة والاستعانة به تعالى، ولو جرى الكلام على
أصله لقال: (إياه نعبد) فعدل عن ضمير الغائب إلى ضمي المخاطب لنكتة
(الالتفات) . قال أبو حيان: (ونظير هذا أن تذكر شخصًا متصفًا بأوصاف جليلة
مخبرًا عنها إخبار الغائب ويكون ذلك الشخص حاضرًا معك، فتقول له: إياك
أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ
(إياه) [60] .
هذا وقد صارت حكمة الالتفات معترك ألباب أولي التفسير فاختلفت وجهات
نظرهم في توجيهه، وليس بين كثير منها تعارض، بل يصح أن يكون بعضها مع
آخريات منها مرادًا، وها أنا أسوق ما ذكروه، وأنقل إليك ما كتبوه:
الأول: أن العبد لما ذكر لله نعوت الجلال وصفات الكمال التي أوجبت له -
تعالى - أكمل تميز، وأتم ظهور؛ بحيث تبدل جفاء الغيبة بجلاء الحضور،
فاستدعى ذلك استعمال صيغة الخطاب والإيذان بأن حق التالي بعدما تأمل فيما سلف
من تفرده - تعالى - وكماله وجلاله أن ينتقل من عالم الغيبة إلى عالم الشهود حتى
كأنه واقف لدى مولاه ماثلا بين يديه وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرع
بالضراعة باب المناجاة بـ (إياك نعبد وإياك نستعين) [61] .
الثاني: أن المصلي كان أجنبيًا عند الشروع في الصلاة؛ فلما أثنى على الله
بأنواع المحامد كأن الله قال له: حمدتني وأثنيت علي ومجدتني، فنِعْم العبد أنت قد
رفعنا الحجاب فتكلم بالخطاب [62] .
الثالث: أنه من أول السورة إلى هذه الآيات ثناء، والثناء في الغيبة أولى،
ومن البداية إلى النهاية دعاء، والدعاء في الحضور أولى، وأحسن السؤال ما وقع
على سبيل المشافهة، ألا ترى أن الأنبياء - عليهم السلام - لما سألوا ربهم شافهوه
بالسؤال [63] ؟
الرابع: أن الحمد لما كان لا يتفاوت غيبة وحضورًا، بل هو مع ملاحظة
الغيبة أدخل وأتم، وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى الله -
سبحانه - عن إبراهيم: [فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ] (الأنعام: 76) لا
جرم، عبَّر عن الحق بطريق الغيبة، وعنها بطريق الخطاب، إعطاءاً لكل منهما
ما يليق به النسق المستطاب [64] .
الخامس: أنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإن خطبها عظيم،
ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب، قرن - سبحانه -
العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية من الكلال، عارية من الفتور
والملال، مقرونة بكمال النشاط لتمام الانبساط.
بهذا - أخي القارئ - نأتي على نهاية ما تيسر لنا جمعه وعرضه من
اللطائف البلاغية، والنكات اللغوية في هذه الآية القرآنية سائلين المولى - جل
وعلا - أن ينفعنا به جميعاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.