وقفات
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
منذ أن بدأ الصراع العربي الإسرائيلي في منتصف الأربعينيات الميلادية
والهوية الحقيقية للصراع مغيَّبة عن الأمة؛ فمن الشعارات القومية التي تعالت
صيحاتها من الخليج إلى المحيط، والتي تمخضت أخيراً عن شعار الحرب العربي:
(ارْمِ سلاحك وانسحب!) .. وإلى شعار: (سلام الشجعان!) . لقد جهد هؤلاء
العلمانيون في تزييف وعي الأمة، وخداعها بالمزايدات الإعلامية، ونصبوا لها
تمثالاً من الوهم، وراحوا يسبحون بحمده ويقدسون..!
حتى في ثنايا النكبات والدماء التي ملأت أرض الإسراء في الانتفاضة
الإسلامية الأخيرة، ما زالت الشعارات المجدبة المقفرة تقفز هنا وهناك، ترقص
على جراح الأمة، وتزايد عليها، وكأني باليهود يخاطبوننا بقول حافظ إبراهيم:
قد ملأنا البر من أشلائهم ... فدعوهم يملؤوا الدنيا كلاما!
انتفاضة الأقصى رسالة إلى بني صهيون تذكِّرهم بأن جيل العزة والشموخ لم
يمت بحمد الله؛ فقد ظهر النور من جديد وعرف الناس حقيقة المعركة، وأن أبناء
جيل (عبد الناصر) و (ميشيل عفلق) و (أنطون سعادة) قد ولَّى، وجاء جيل
جديد تربى على آيات الأنفال والتوبة وآل عمران، وراح يردد بكل ثقة:
ولست بخالع درعي وسيفي ... إلى أن يخلع الليلَ النهارُ!
انتفاضة الأقصى رسالة إلى المهزومين من دعاة التطبيع تخبرهم بأن النفوس
الأبية الصادقة المتعطشة لنور الحرية قد عرفت طريقها، فرُبَّ حجر في كفِّ طفل
مستضعف أنكى في العدو من مؤتمرات تعقد، وقرارات تستنكر وتشجب.. ربّ
حجر يُقذَف باسم الله تعالى تحوطه تكبيرات الصادقين أبلغ في زعزعة كيان العدو
من أسلحة مهترئة تُرفَع باسم العروبة، فلا تلبث أن تسقط وتتهاوى؛ فقد نخرها
الصدأ وعلاها الوهن.
علمتنا انتفاضة الأقصى أن العقيدة الإسلامية إذا رسخت في القلب أثمرت يقيناً
راسخاً لا تهده الجبال، وعزيمة صادقة لا تردها الأعاصير، وإقبالاً سريعاً على
الموت في سبيل الله لا يعوقه الفزع أو الجبن.
أنا من ربوع القدس طفل فارسٌ ... أنا مؤمن بمبادئي أنا مسلمُ
سكت الرصاص فيا حجارة حدثي ... أن العقيدة قوةٌ لا تُهزَمُ [1]
انتفاضة الأقصى أظهرت عوار الاتفاقات والمعاهدات التي يتشدق بها أدعياء
السلام، وذكّرت الأمة بقول الله تعالى: [أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] (البقرة: 100) .
انتفاضة الأقصى بيَّنت حقيقة زعماء الوطنية الذين تتكشف سوءاتهم يوماً بعد
يوم، [وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ] (المائدة: 13) ، عرف
الناس أن هذه الزعامات معاول هدم ترمي إلى وأد الانتفاضة، أو تغيير مسارها،
أو قطف ثمارها، ولهذا ليس غريباً أن يقول المفكر اليهودي (ياحوشفات هاركابي)
في كتابه العقل العربي: «إن العرب هم أفضل أداة وأمضى سلاح لقتل فكرة
المقاومة!» .
إن دهشتنا بلغت الذروة ونحن نسمع بعض من يسمون بالنخب المثقفة ودعاة
التطبيع يصرون على تجديد العهد على هذا المسار، على الرغم من الأشلاء
المتناثرة على عتبات المسجد الأقصى..!
ألا فليثق هؤلاء المهزومون أنهم لن يروا حقاً ينتصر، أو أرضاً تعاد، أو
كرامة ترتفع، ما داموا يتسترون وراء أقنعتهم الرقيعة، وأكاذيبهم الهزيلة..!
وصدق الرافعي إذ يقول: «إذا أسندت الأمة مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس
كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم» [2] .
دربٌ سلكناه والرحمن غايتنا ... ما مسنا قطُّ في لأْوائه ندمُ
نمضي ونمضي وإن طال الطريق بنا ... وسال دمعٌ على أطرافه ودمُ
يحلو العذابُ وعين الله تلحظنا ... ويعذُب الموت والتشريد والألمُ [3]