دراسات تربوية
سالم أحمد البطاطي
الأصل في العملية التربوية أنَّ الفرد الذي يدعى يجب أن تتركز الجهود
التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين، وأن تكون صلته القوية بالله تعالى
وبمنهجه القويم، وألا يتعلق بالبشر؛ لأنَّ البشر من الممكن أن يتغيروا، ولكن الله
الحي الذي لا يموت يُغيِّر ولا يتغيَّر كما قال سبحانه: [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]
(الرحمن: 29) .
وإنَّ مشكلة التعلق بالأشخاص لها سلبيات منها: أن الفرد يتغير بتغير المتعلق
به، ولذلك جاء القرآن ليقرر هذه الحقيقة الأولية حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق
بالأشخاص ولو كانوا رسلاً. ففي سورة آل عمران وهو يتحدث عن غزوة أحد
يقول سبحانه: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ] (آل عمران: 144) يقول أحد الباحثين: «وكأنما أراد الله سبحانه
بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى
الله عليه وسلم وهو حيٌّ بينهم، وأن يصلهم مباشرة بالنبع النبع الذي لم يفجِّره محمد
صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء فقط ليومئ إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق،
كما أومأ إليه من قبله الرسل، ودعوا القافلة للارتواء منه؛ وكأنما أراد الله
سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة،
وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط، حتى يستشعروا تبعتهم
المباشرة التي لا يخليهم عنها أن يموت الرسول أو يقتل فهم؛ إنما بايعوا الله، وهم
أمام الله مسؤولون، وكأنما كان سبحانه يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة
الكبرى حين تقع، وهو سبحانه يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم، فشاء أن
يدربهم عليها هذا التدريب، وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم
الدهش والذهول» .
ويضيف قائلاً: «والمسلم الذي يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد
كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً،
الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة، وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه
بظهره، والنبل يقع عليه ولا يتحرك، ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه
ويستشهدون واحداً إثر واحد، وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان
يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من
مجرد ذكره صلى الله عليه وسلم، هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب مطلوب
منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها
للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت؛ إنَّ الدعوة أقدم من
الداعية» .
وكما كان القرآن يربي الصحابة والأمة من بعدهم على التعلق بالمنهج وذم
التعلق بالأشخاص، كذلك كان صلى الله عليه وسلم هذا منهجه، ومنهج كل من دعا
إلى الله على بصيرة، وإليك بعض النماذج:
1 - عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم موعظة وَجِلَتْ منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول
الله! كأنها موعظة مودع، فأوصنا! قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة،
وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات
الأمور؛ فإنَّ كل بدعة ضلالة « [1] .
الشاهد قوله:» كأنها موعظة مودع «،» فعليكم بسنتي «فربما كان قد وقع
منه صلى الله عليه وسلم تعريض في تلك الخطبة بالتوديع، وأنه مغادر الحياة،
فأوصاهم بالتعلق بسنته بعده، وقول الصحابة:» فأوصنا «فيه أنهم لما فهموا أنه
مودع استوصوه وصية ينفعهم التمسك بها بعده.
2 - في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
» لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا.. « [2]
فأوصاهم بأخذ سنته واتباع هديه الذي هو الدين الذي بلغه عن ربه؛ ففيه تعليق
الصحابة بمنهج الله، وتربيتهم على ذلك وهو حيٌّ بين أيديهم.
3 - جمعه الناسَ بماء بين مكة والمدينة يسمَّى خُمّاً، وخطبهم فقال:
» يا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب « [3] ثم حض
على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته. الشاهد تعريضه بأنه مغادر الحياة،
وحضه بالتمسك بكتاب الله وبمنهج الله.
4 - خرج الإمام أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال:» أنا محمد النبي الأمي قال ذلك ثلاث
مرات ولا نبي بعدي؛ أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة
النار وحملة العرش، وتُجُوِّز بي، وعوفيت وعوفيت أمتي؛ فاسمعوا وأطيعوا ما
دمت فيكم؛ فإذا ذُهِبَ بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه « [4] .
الشاهد قوله:» فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله «. فلم يعلقهم بنفسه الشريفة
ولا بذاته إنما علقهم بكتاب الله وبمنهج الله؛ وفي هذا تربيتهم على التعلق بالمنهج.
يتضح مما سبق من هذه الأحاديث كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يوجه الصحابة ويحضهم ويعلقهم بمنهج الله الذي هو الكتاب والسنة ولم يكن يعلقهم
بشخصه وذاته.
وكان يربيهم على هذه الحقيقة الأولية وهو بين ظهرانيهم، ويركز عليها
ويذكرهم بها في أكثر من موقف كما سبق؛ وما ذاك إلا لأهمية هذه الحقيقة التي
ربما يغفل عنها الناس؛ فكان الواجب تذكيرهم والتركيز عليها.
وأيضاً لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يربي بعضهم بعضاً، ولا غرابة
في ذلك؛ فقد رباهم صلى الله عليه وسلم على ذلك من قبل، ويذكِّر بعضهم بعضاً
بهذه الحقيقة المهمة حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق بالأشخاص؛ فمتى جنحت
العاطفة نحو الأشخاص ضعفت النفوس وتقهقرت، ويظهر ذلك فيما يلي:
1 - قال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس:» أن أبا بكر خرج
وعمرُ يكلم الناس، وقال: اجلس يا عمر. قال أبو بكر: أما بعد: فمن كان يعبد
محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى:
[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]
(آل عمران: 144) . قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية
حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم؛ فما أسمع بشراً من الناس إلا
يتلوها «، وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال:» والله! ما هو إلا أن
سمعت أبا بكر تلاها فعرقتُ حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى
الأرض «.
2 - قال ابن أبي نجيح عن أبيه:» إن رجلاً من المهاجرين مر على رجل
من الأنصار يتشحط في دمه فقال له: يا فلان، هل شعرت أن محمداً صلى الله
عليه وسلم قد قتل؟ وكان ذلك في أحد فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد
بلَّغ. فقاتلوا عن دينكم « [5] .
3 - في غزوة أحد لما انهزم الناس لم ينهزم أنس ابن النضر رضي الله عنه
وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين
والأنصار قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فقال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال:
يا سعد، واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أحد، فقاتل حتى قتل، ووُجِد به بضع
وسبعون ضربة، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه.
إنه من واجب المربين ومن هم في موضع القدوة أن يربوا أتباعهم على
التعلق بالله وعدم التعلق بالأفراد.
مظاهر التعلق بالأشخاص:
1 - ترك الالتزام بعد موت المربي أو سفره أو سجنه.
2 - ترك العمل لهذا الدين بابتعاد المربي عنه.
3 - عدم الصبر على مفارقته.
4 - مقابلة أقوال المربي غير الصائبة بأقوال من تأخذ الأمة الفتوى عنهم.
5 - التساهل في الكثير من الأخطاء بحجة أن المربي يعملها.
6 - تعظيم المربي ومدحه وإطراؤه والثناء عليه إلى درجة الغلو.
7 - التسويغ الكثير لأخطاء المربي، وعدم قبول أن المربي قد يخطئ بل
يُجعل دائماً هو المصيب بلسان الحال أو المقال.
8 - عدم مناقشة المربي في بعض القضايا التربوية التي لم يفهمها المتربي
بحجة أن مربيه قد يغضب عليه عندما يناقشه.
9 - عدم الوضوح في كثير من قضاياه وأموره بحجة أن المربي ربما يتغير
تجاهه.
10 - التخفي في عمل بعض الأمور التي لا تنبغي فضلاً عن المعاصي
بحجة أن المربي يغضب عليه وتتغير نظرته له.
11 - التحرج من أن يعرف المربي أموره الخاصة حتى لا تتغير نظرته له.
12 - الطاعة العمياء للمربي في خطئه.
13 - نصرة مربيه عند الآخرين حتى في خطئه.
14 - تقديم مصالح مربيه الدنيوية على مصالح والديه وأهل بيته.
15 - تقليد المربي في بعض الصفات المذمومة (عشوائية تهور عجلة
فوضوية) .
16 - الانصدام بواقع المربي إذا حصل منه خطأ مما يسبب له النكوص،
فيجعل زلة المربي سبباً في الابتعاد عن الحق، وكان الإمام سفيان بن عيينة يطلق
على مثل هؤلاء الذين يجعلون زلات القدوات والمربين سبباً للابتعاد عن الحق
صفة: (الحماقة) فقد لاحظ أحدهم منه خشونة وشدة على طلبته فتجرأ وسأله:
» إن قوماً يأتونك من أقطار الأرض، تغضب عليهم، يوشك أن يذهبوا ويتركوك «
فرد عليه:» هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي «. فأراد سفيان
أن يفهم السائل القاعدة التي هي: (التعلق بالحق وترك التعلق بالأفراد) ،
فالمربي والقدوة لا يعني أنه هو الحق وهو الدعوة، وفرق أن يوجد عيب أو زلل في
المربي أو أن يوجد الزلل والخطأ في الحق.
أسباب داء التعلق بالأشخاص:
لبعض الأشخاص صفات شخصية من أهمها:
1 - بروز الصفات الجاذبة عند المربي (الخطابة العلم الذكاء ... ) .
2 - كثرة الجلسات غير الهادفة والمبنية على تجانس الطبع.
3 - فقدان القدوة منذ النشأة الأولى.
4 - عدم ربط المتربي بالقدوة المعصوم صلى الله عليه وسلم.
5 - عدم ربط المتربي بالاتصال بالله والتعلق بدين الله.
6 - تغليب جانب العاطفة في التعامل مع المتربي وتحكيمها.
7 - عدم التركيز على بعض المفاهيم الدعوية التربوية مثل: (الفرق بين
حب الله وحب الأفراد، وبين الحب في الله والحب مع الله) .
8 - عدم تحذير المتربين من خطورة التعلق بالأشخاص.
9 - التسويف في التحذير من خطورة التعلق بالأشخاص بحجة اجتذابه وعدم
تنفيره، والزعم أنه في أول الطريق.
10 - عدم انتباه المربي لهذه المشكلة مما يجعل الأمر مستفحلاً.
11 - عدم مصارحة الأفراد الذين يقعون في هذه المشكلة.
12 - تزيين الشيطان للمربي بأنه مهم وجذاب مما يغبِّش عليه خطورة هذه
المشكلة.
13 - الخلل في عملية تقييم الأفراد.
14 - إهمال جانب التربية الذاتية وتغليب جانب التربية الجماعية على
الفردية.
آثار داء التعلق بالأشخاص:
1 - ترك الالتزام بالكلية بعد موت المربي أو سجنه أو سفره.
2 - ترك العمل لهذا الدين ببعد المربي عنه.
3 - الوقوع في معصية الغلو والتعظيم.
4 - الوقوع في كثير من الأخطاء.
5 - الوقوع في معصية الوالدين بتقديم مصالح مربيه الدنيوية على مصالح
والديه.
6 - فقدان شخصيته المتميز بها.
7 - إخراج جيل هش تستملكه العواطف.
8 - جعل العاطفة هي الحكم في كثير من القضايا.
9 - عدم قبول العمل لهذا الدين في بيئة بعيدة عن بيئة مربيه.
10 - الرياء وعدم العمل إلا بمرأى من مربيه.
11 - عدم نصح المربي إذا أخطأ.
12 - الوقوع في التهور والعجلة والفوضوية المرتسمة في مربيه.
علاج داء التعلق بالأشخاص:
1 - التركيز في السنوات الأولى للعملية التربوية على معاني التعلق بالله
وحده، والمعنى الحقيقي للحب في الله.
2 - التركيز على الأصول الإيمانية ومعاني الشرك وخاصة في المحبة.
3 - الحث على صبغ الجلسات الخاصة بين الأفراد بالأهداف القيمة.
4 - مصارحة الأفراد الذين يقعون في هذه المشكلة وعدم الانتظار حتى يتفاقم
الأمر.
5 - انتباه المربي لهذه المشكلة وتحذيره الدائم للفرد من خطورة التعلق
بالأشخاص.
6 - تكرار التقويم للأفراد حتى تتسنَّى معالجتهم قبل استفحال الأمر.
7 - مناقشة مثل هذه القضية في جلسة نقاش مفتوحة يشترك فيه جميع الأفراد.
8 - تعليق الأفراد بالله وبمنهجه.
9 - ربط المتربين بقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم.
10 - التركيز على جانب التربية الذاتية.
11 - التركيز على جانب الإخلاص وأن العمل لا يكون إلا لله، وما كان لله
فهو الذي يبقى، وما كان لغيره فإنه يفنى.
12 - بث روح العمل لهذا الدين في أي مكان وزمان كان.
وأخيراً.. اعلم:
1 - اعلم أن من الأخطاء في العملية التربوية التعلق بالأشخاص وضعف
التعلق بالمنهج.
2 - اعلم أن القرآن الكريم قد قرر هذه الحقيقة، وهي حقيقة التعلق بالمنهج
ونبذ التعلق بالأشخاص، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا هو منهجه
ومنهج كل من دعا إلى الله على بصيرة من الصحابة ومن تبعهم.
3 - اعلم أن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء.
4 - اعلم أن الدعوة أقدم وأبقى من الداعية.
5 - اعلم أن منهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى
الناس.
6 - اعلم أن الجهود يجب أن تتركز في توثيق صلة الناس بربهم.
7 - اعلم أن البشر من الممكن أن يتغيروا ولكن الله الحي الذي لا يموت يغير
ولا يتغير.
بارك الله في الجهود، وسدد الله الخطا، ورزقنا الله الإخلاص في القول
والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.