اقتصاديات
د. زيد بن محمد الرماني
«ذات يوم أوقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله
(وقيل جابر بن عبد الله) رضي الله عنهم وسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال
عبد الله: للسوق. فقال له الفاروق: لماذا؟ ! فأجاب: لأشتري لحماً، وسوَّغ
ذلك الشراء بأنه اشتهى لحماً فخرج للسوق ليشتري بعضاً منه، فقال له الفاروق:
أكلما اشتهيتَ شيئاً اشتريتَه؟» [1] .
إنها حكمة اقتصادية خالدة، وقاعدة استهلاكية رشيدة، خاصة ونحن نشهد في
أيامنا هذه سباقاً محموماً يترافق معه أساليب تسويقية جديدة، وأساليب إعلانية مثيرة،
ووسائل إعلامية جذابة، ودعايات كثيفة من أجل الشراء والمزيد منه.
وقد تبيّن من خلال تحقيقات عديدة أن شريحة واسعة من الناس تشتري ما لا
تحتاج، وتستهلك من المنتجات والسلع أكثر من اللازم.
يقول وليام بنّ: «إن ما ننفقه على أغراض الزينة الزائفة يكفي لكساء جميع
العراة في العالم» [2] .
وهكذا أصبحت حياتنا المترفة تملأ البطون بما لذّ وطاب، وتغذي الأرواح
بأشياء فارغة وفاسدة؛ فكم هو سخف الإنسان الذي يتظاهر دوماً بالذكاء والمعرفة!
يقول سمايل: «إن الحياة السهلة المترفة لا تدرّب الرجال على بذل الجهد أو
مواجهة الصعاب، ولا توقظ فيهم تلك المقدرة اللازمة للجهد الفعال في الحياة» [3] .
بعض الرجال يعتبر اهتمام النساء الزائد بالموضات وبضرورة التجاوب معها
انعكاساً لعدم تحلّيهن بقدر كاف من المعقولية في التفكير.
يقول علي غلوم: «الشائع بيننا أن المرأة أكثر إسرافاً من الرجل، سواء في
ملبسها أو إنفاقها، ولكن هناك من الرجال مَنْ هم أكثر إسرافاً في أموالهم وسلوكهم
ومقتنياتهم؛ فالأمر نسبي ويرتبط بحجم ما يتوفر لدى الفرد من مغريات نحو
الإسراف» [4] .
وتقول صباح المالكي في معرض حديثها عن الإسراف: «من أسباب
الإسراف حاجة المرأة لتملك بعض الأشياء التي ترى أنها في حاجة إليها لتجميل
منزلها، أو لإضفاء البهجة على الأسرة والأبناء بوجه خاص من ألعاب وملابس
واحتياجات» [5] .
وتؤدي الأنانية والنفعية الشخصية في كثير من الأسر والمجتمعات إلى
الإسراف في استغلال مصادر الدخل.
ومن ثم ظهر على الساحة هوس تسوقي غريب وإدمان شرائي كبير، وحمى
استهلاكية عجيبة، يؤجّج ذلك كله إعلانات مثيرة ودعايات جذابة ومسابقات مغرية
وحوافز مشجّعة.
وأكثر الإعلانات أثراً هي تلك التي يمكن إعادتها بصيغات متعددة، وفي
أماكن يمكن رؤيتها من قِبَل أعداد كبيرة من الناس كبرامج التلفزيون المحبّبة
للمشاهدين والصحف والأسواق المركزية.
تقول فوزية خليل في معرض مشاركتها في تحقيق حول «هوس التسويق
عن المرأة» : إن هوس التسوق عادة ما يكون انفعالياً، ويمثِّل عند المرأة طريقة
تعويض عن معاناة عاطفية، أو نتيجة حرمان أو قلق أو تعاسة زوجية أو قلة حنان،
وقد يكون هذا الهوس التسوقي عند النساء أكثر شيوعاً [6] .
وفي التحقيق نفسه تقول بدرية هطيري: هناك من النساء من يشترين
أغراضاً ليست ضرورية ولا في حدود إمكانياتهن، ويدفعن بالرجال إلى دفع الكثير
من أجل إرضاء رغباتهن الجنونية.
ومن أهم نتائج تحقيق أجري حول «الإعلانات التجارية والإسراف» :
الإعلانات تدفع المرأة للشراء والمزيد منه، كما أن المرأة تشتري السلعة عادة على
سبيل التجريب نتيجة الإعلان عنها [7] .
والمسابقات العديدة تغري الأطفال بالشراء بكثافة، ووصل التحقق إلى نتيجة
مهمة: الإعلانات التجارية مسؤولة إلى حد كبير عن دفع الناس إلى الإسراف
وخاصة المرأة، جرياً وراء التفاخر والمباهاة أو حباً للاستطلاع أو رغبة في التقليد.
إن عادة التقليد بين الناس لا تقتصر على قطر من الأقطار أو جنس من
الأجناس، بل إنها عادة عالمية يصعب تغييرها.
إن النفس البشرية نفس لا تشبع، وفي الوقت نفسه لا تقنع؛ فهي طُلَعة لكل
نوع، متشوِّفة لكل شكل، فضولية لكل لون.
نعوذ بالله من عين لا تدمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تقنع، ومن
بطن لا يشبع، ومن دعاء لا يستجاب له.
التخمة، والسمانة، والسرف، والتبذير، والترف، والتبديد، والاستنزاف،
وتلال النفايات والقمامة، والترهل، واللامبالاة، وكفر النعمة ... ما هذه إلا بعض
آثار لا شك أنها تتولد من السلوك الشرائي غير المنضبط، ومن الإدمان الاستهلاكي
غير المتزن، ومن الإنفاق البذخي غير الرشيد.
إن صناديق القمامة تشهد أكياساً من الزبالة وألواناً من النفايات المنزلية أشبه
بالتلال نتيجة الاستهلاك المنزلي الشره، وصدق من قال: إن الاستهلاك هو طوفان
التلوث القادم [8] .
فإذا أضفنا إلى ما سبق شيوع أخلاقيات الأنا والحسد والجشع والمباهاة والتقليد
وكسر قلوب الفقراء والمساكين والمحتاجين واختلال الميزانيات الأسرية والاستدانة،
فإن هذا كله يستلزم أن نقف في وجه الوحش الاستهلاكي والغول الشرائي
والإدمان الإنفاقي والهوس التسويقي من أجل أن يغلق وبشكل نهائي الملف الأسود
للاستهلاك في كل بيت، وعند كل أسرة وداخل كل مجتمع وفي أي دولة.
إننا لو جمعنا كل ما ينفق على الأمور التافهة في صندوق موحد، ثم أُنفق هذا
على إزالة أسباب المأساة من حياة الكثيرين لصلحت الأرض وطاب العيش فيها.
وإذا تمثلت أعمالنا بالتدبير وحسن التصرف فإننا نستطيع التخلص من
النقيضين وهما: الإفراط في الإنفاق والاستهلاك، وحالات العوز والفقر؛ إذ يمكن
للأول سدّ حاجات الثاني بحيث يقترب النقيضان إلى معدل معقول.
إننا نرحب بالمعلومات الجيدة التي يجري تفسيرها بتعقل، ولكننا لا نريد من
أطبائنا الاقتصاديين إخفاء الحقائق عن المريض.
أيها المستهلك! اسعَ لأن تكون سعيداً لا ثرياً؛ ففي السعادة قناعة لا يوفرها
الثراء، وإن أردت السعادة فوجّه اهتمامك إلى قضاء حاجاتك الأساسية، ولا تكترث
بما هو زائد عنها، ولتكن حاجاتك قليلة، واقضها بنفسك.
وفي الختام أقول: هل ما زلنا مصرِّين على أن نشتري كل ما نشتهي؟ إذا
كانت الإجابة بـ (نعم) فإن علينا أن نواجه مستقبلاً مخيفاً وغولاً خطيراً، ونهاية
سيئة، وإن كانت الإجابة بـ (لا) فعلينا أن نصحح أوضاعنا، ونقوّم استهلاكنا،
ونرشِّد إنفاقنا لنكون أفراداً صالحين، ولنبني مجتمعاً متماسكاً، ولنحافظ على هوية
أمتنا الإسلامية [9] .