مجله البيان (صفحة 3579)

الحضارة والتحضر السقوط في التبعية الاصطلاحية

قضايا ثقافية

الحضارة والتحضر

السقوط في التبعية الاصطلاحية

محمود سلطان

عندما انتقد (جاكوبز وستيرن) مصطلح (حضارة) ووصفه بأنه (مصطلح

فضفاض مشكوك في قيمته) [1] كان يعني أن ثمة طعنًا على صدقية الاجتهادات

التي تصدت لتعريف المصطلح، ولأنها أي تلك الاجتهادات - يشوبها شكوك في

حيدتها العلمية، على الأقل، وربما يكون اتساع شقة الخلافات بين علماء

السوسيولوجيا (علماء الاجتماع) حول المضمون المعرفي للمصطلح - والذي لا

يزال قائمًا حتى الآن - هو الذي حمل (جاكوبز) على انتقاد النزعة نحو الإسراف

في الاحتكام إلى مصطلح (حضارة) ومشتقاته في قياس مستويات تحضر

المجتمعات. بيد أن ثمة ملاحظات أخرى أكثر أهمية، هي - في اعتقادتنا - في

طليعة الأسباب التي تدعونا إلى عدم الارتياح (للوظيفة المعيارية) للمصطلح،

ولعل أبرزها: أن الصياغات المختلفة التي تناولته يُشْتَمُّ منها رائحة التحيزات

الأيديولوجية والسياسية والعرقية (السلالية) بشكل واضح، وإذا علمنا أن جل هذه

الصياغات قد خرجت من تحت عباءة علم الاجتماع الرأسمالي (أو الاشتراكي)

الغربي، فإن استخدام المصطلح، لم يكن بريئًا (للأغراض العلمية) ، وإنما دخل

حلبة (التنظير الأيدلوجي) للحضارة الغربية، على النحو الذي يحفظ (للأخيرة)

استعلاءها (وازدارءها) لثقافة الآخرين وحضارتهم.

فعندما استخدم kant كلمة حضارة بمعنى (السلوك) قوبل بنقد شديد، خاصة

من علماء الاجتماع الغربيين في الوقت الحديث من الذين عاصروا صعود

الرأسمالية الغربية في الفترة من القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين،

وكانوا - في غالبيتهم - شديدي الحرص على استبعاد الاتجاهات التي ثبت في

يقينها أن الحضارة تعبر عن الإنجاز (الروحي والأخلاقي) للأمة! إذ إن التسليم

بهذا التعبير الأخير يعني تراجع الحضارة الغربية من مركزيتها الاستعلائية لتتبوأ

منزلة أدنى، وهي المكانة التي يأبى الغربيون أن يروا حضارتهم فيها، ومن ثم

درجوا على استخدام (فائض المادي) معيارًا للحضارة؛ إذ إن هذا الاستخدام -

وبحكم تقدمهم التكنولوجي - يُدخِل لهم إحساسًا زائفًا بالتفوق الحضاري.

نذكر هنا - على سبيل المثال لا الحصر - أن ألمانيا في عهد النازية الهتلرية

والولايات المتحدة الأمريكية حتى عشية الحرب العالمية الثانية كانتا تفتقران إلى

أي مشروع أخلاقي (أو إنساني) يمكن أن يحملاه إلى العالم؛ فالأولى ارتكزت إلى

(التفوق العرقي) الذي أباح للألمان اجتياح العالم وتدميره بوحشية، أما الثانية

فكان يطاردها شؤم الإبادة الجماعية للهنود الحمر، بالإضافة إلى افتقارها إلى

التراكم الحضاري الممتد عبر التاريخ، أي أنهما كانا يعانيان - بوعي أو بغير

وعي - من عقدة العجز عن القيام بدورهما الرسالي، ولم يجدا عوضًا عن هذا

العجز إلا أن يشهرا في وجه العالم (تقدمهما المادي) لإيهامه بأنهم الأكثر

(تحضرًا) ولقد شارك واحد من أبرز علماء الاجتماع الألمان، وهو

(ألفريد فيبر) - والذي عاصر صعود الهتلرية - في تزييف الوعي بمفهوم

(الحضارة) للتستر على السقوط الأخلاقي للنازية؛ حيث حمل على كل من

رأي في الحضارة تعبيرًا عن الإنجازات الروحية للشعوب، واعبرها دلالة على

(العلم والتكنولوجيا فحسب) وبالمثل نحا علماء الاجتماع الأمريكيون المنحى نفسه،

حتى إن (ميرتون) استبدل في مؤلفاته - عشية إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي

(هيروشيما) و (ناكازاكي) اليابانيتين - كلمة (حضارة) بمصطلح (المستوى

التكنولوجي) ، تمهيدًا لتسويق النموذج الأمريكي في التكنولوجيا والاقتصاد

والأنساق السياسية، والذي كان يقفز قفزات واسعة نحو (العولمة) في ذلك

الوقت.

وكان أبرز تجليات (خروج المصطلح) وانفلات صياغاته عن (الحياة

العلمية) ودخوله ساحة (التحيزات الأيديولوجية) هو ظهور مصطلح (حضارة

الأطلسي) الذي زعم أن الأوربيين استوطنوا أمريكا وأن حضارة الأخيرة كانت

بالنتيجة وثيقة الصلة بأوربا بالمعنى الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي. ولا شك

في أن الدعاية لهذا المصطلح كان يهدف إلى إثبات أن أمريكا دولة قديمة وأنها

ليست (مقطوعة) حضاريًا، وأنها سليلة الحضارة الأوربية من جهة، والتأكيد

على وجود (جذور) تاريخية بين الحلف العسكري - السياسي الراهن بين المنظمة

المعروفة باسم (حلف شمال الأطلسي - الناتو) من جهة أخرى [2] .

وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعريف الذي وضعه (تاليور) صلى الله عليه وسلم. رضي الله عنه. Tylor

لمفهوم الحضارة في كتابه (الثقافة البدائية) لا يزال يحظى برضى قطاع ليس

بالقليل من علماء الاجتماع والأنثروبولجيا الأكثر رشدًا واستنارة في العالم وقبولهم

له، ويصفه (جي روشية) بأنه أكثر التعريفات جدة [3] . وقد استخدم (تايلور)

مفهومي: (ثقافة، وحضارة) بمعنى واحد، ويمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر؛

إذ يقول في مطلع كتابه: (إن الثقافة أو الحضارة، بالمعنى الأثنوغرافي الواسع

للكلمة هو هذا المجموع المتشعب الذي يضم المعارف والمعتقدات والفن والقانون

والأخلاق والتقاليد وجميع الإمكانات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه

عضوًا في مجتمع معين) [4] .

لقد اقترب هذا التعريف من المضمون الأكثر قبولاً لمفهوم الحضارة، وأعاد

للبعد الروحي والأخلاقي مكانته المركزية في تقييم درجات (التحضر) والتخلف

لدى الشعوب، وفي هذا الإطار يقول د. حسين مؤنس: (فقد يكون الأمي البسيط

أقرب إلى مفهوم الحضارة من المتعلم، بل المتبحر إذا كان الأول محتفظًا مستواه

المعنوي وكرامته الإنسانية متمسكًا بالفضائل خاليًا - ما أمكن - من الأحقاد

والمطامع، وإذا كان الثاني قد انتقل من يده ميزان القيم واضطرب مقياسه الخلقي

والمعنوي) [5] ، أي أنه ليس من الضرورة أن يفرز مجتمع متقدم ماديًا (حضارة)

تفي بحاجات بنية، فربما تمنحهم الإحساس (باللذة الحسية) ولكنها تفتقر إلى

منظمة القيم التي تشعرهم بالأمان؛ فالمجتمع العربي المسلم ربما يعتبر (متخلفًا)

إذا ما تم النظر إليه بمعايير (التقدم المادي) ، ولكن التزام أبنائه بالزكاة مثلاً أو

بالهدي النبوي الشريف: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد،

إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [6] ، يعد أكثر

تحضرًا من نظيره الغربي المتقدم عنه ماديًا والذي يستقي قيمه وتقاليده من (تمجيد

الفردية) التي جعلت الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان كما وضح ذلك (هوبز) .

ولقد أدت سيادة التعريفات الغربية المتحيزة لمفهوم الحضارة (الذي بيناه في

مستهل هذه الدراسة) في أوساط النخبة العربية المتأوربة إلى الانزلاق في مأزق

(التبعية الفكرية والثقافية) للدول الصناعية الكبرى، ويظهر ذلك بجلاء

عندما تستشار - هذه النخبة - حول الإشكالية التي لم ينفضَّ الجدل بشأنها، منذ

بدايات القرن الحالي وإلى الآن وهي: ماذا يؤخذ من الغرب المتقدم، وما يُرَدُّ؟

إذ يكاد هؤلاء يُجمِعون على أن يؤخذ كل ما تنتجه أوربا ولا يراد منه شيء، أي

نقل (الآلة) بجانب (الحضارة) أو الثقافة أو مجموعة القيم السائدة التي تطورت

الآلة في كنفها، وقسر الواقع العربي أو جلده إلى أن ينصاع لها أملاً في إحداث

ثورة صناعية توازي تلك التي ينعم الأوربيون بها. ولعنا نتذكر دعوة (طه

حسين) الشهيرة، في بداية هذا القرن في كتابه المثير للجدل (مستقبل الثقافة في

مصر) [7] حين دعا صراحة إلى أن نحذو حذو أوربا في حلوها ومرها، خيرها

وشرها ... ! بل إن الأمر تطور إلى ما هو أخطر من ذلك؛ إذ حلت (قيم) الغرب

محل المعيار الرباني الخالد (القرآن والسنة) في قياس القيم السائدة في المجتمع،

وما ينفع المسلم وما يضره، حيث قاس (قاسم أمين) قيمًا حضارية إسلامية

كـ (الحجاب) مثلاً بمعايير (حضارة الغرب) ؛ لأنه الطرف (الأكثر تفوقًا ماديًا)

إذ يقول (هل يظن المصريون أن أولئك القوم (بقصد الأوروبيين) بعد أن بلغوا

من كمال العقل والشعور مبلغًا مكنهم من اكتشاف قوة البخار، والكهرباء،

يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا فيه خيرًا؟ كلاً!) [8] .

وقاسم أمين ليس استثناءًا، إذ إن رواد ما يسمى بـ (حركة النهضة العربية

الحديثة) اعتقدوا جميعًا أن (الحضارة) هي وليدة عبادة (العلم) ، أو أن يحل

(العقل) محل (الله) ! ! ولعلنا نذكر دعوة (شبلي شميِّل) إلى الاستعاضة

عن الدين بالعلم وبالأخص العلم الطبيعي (الإلحادي) [9] ، وإلى هذا النحو ذهب

أقرانه من دعاة (الظلامية) والمتخذين من (التنوير) واجهة للتخريب الفكري

والعقلي الذي مارسوه باسم الاستنارة والتحديث.

وصفوة القول هنا: أن الحضارة هي مرادف آخر لتشكيلة من القيم الأخلاقية

المنبثقة من أسس دينية (إما من نبوة أو من دعوة حق) كما يقول ابن خلدون [10] ،

وتأسيسًا على ذلك التحضر يعني (التدين) لأن المتدين يضبط علاقاته بالمجتمع

والكون والعالم (مبدأ) أخلاقي معين، بينما من يتحرر من سلطة القيم والمثل

والأخلاق يعطي نفسه الحق في الحصول على ما يبغي، ولو كان على حساب

الآخرين. ولنا أن نتوقع ما يمكن أن يحدث لو أن المجتمع يشكِّله مثل هذا الأنموذج

الوحشي من البشر؛ إن النتيجة التي لا يمكن تحاشيها هي (حرب الجميع ضد

الجميع) .

فالحضارة أو التحضر - إذن - هي منهج هداية بضبط علاقة الإنسان

بمحيطة الاجتماعي (والمادي أيضًا) ، وإن غياب هذا المنهج يعني: الاستباحة

والتحلل الأخلاقي، والتفسخ الاجتماعي، يعني: (التخلف) بمعناه الشامل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015