مجله البيان (صفحة 3558)

الإجماع عند المفسرين العناية به ودواعيه وأسباب مخالفته لدى بعض المفسرين

دراسات في الشريعة والعقيدة

الإجماع عند المفسرين

العناية به ودواعيه وأسباب مخالفته

لدى بعض المفسرين

محمد بن عبد العزيز الخضيري

الإجماع أصل من أصول الشريعة، وهو في الوقت ذاته ظاهرة واضحة في

كتب التفسير اختلفت مشارب المفسرين حيالها اختلافاً بيِّناً تبعاً للاختلاف العقدي في

كثير من الأحيان، أو تبعاً لمنهجية المفسر ودقته في تحرير المسائل وذكر الدلائل،

وفي هذه المقالة ذكر لبعض جوانب هذا الأصل في كتب التفسير بعيداً عن الساحة

المعتادة لدراسة الإجماع، وهي كتب الأصول أو الفقه، كما أن فيها تجلية لأهم

دوافع الفِرَق الضالة في خرق إجماعات السلف، واستحداث إجماعات مخالفة لما

كانت عليه القرون المفضلة في أبواب الاعتقاد والعمل.

عناية المفسرين بالإجماع:

عُني المفسرون بذكر المسائل المجمَع عليها في كل موطن استدعى ذكر

الإجماع، أو أُثِرَ فيه إجماع، في شتى العلوم الإسلامية: عقيدةً، وفقهاً، وأصولاً،

وتفسيراً، ولغةً، وتاريخاً.

ويكاد ألاَّ يوجد هذا المقدار الكبير بهذا التنوع في كتب أيٍّ من الفنون

الإسلامية، مما يؤهِّل كُتُبَ التفسير لأن تكون من أهم مصادر المسائل المجمع عليها

في الشريعة، وما ذاك إلا لكون القرآن الكريم هو مدار جميع علوم الإسلام.

ولشدة عناية المفسرين بالإجماع فإنهم قلَّ أن يطَّلعوا على إجماع في مصدر

من المصادر التي يعتمدونها في تفاسيرهم إلا ويقوم المفسِّر بنقل ذلك الإجماع

للاستدلال به؛ لعلمه بعظم هذا الأصل، وقوة حجيته.

ومن أظهر الشواهد على ذلك: الإجماعات التي يحكيها ابن عطية رحمه الله

مما تجد معظمها قد نقلها القرطبي وأبو حيان رحمهما الله في تفسيريهما؛ لكونهما

اعتمدا تفسير ابن عطية، وضمنا كتابيهما معظم ما فيه؛ لجلالته، وقوة نظر مؤلفه،

وتحريره للأقوال. وابن عطية يعتمد غالباً فيما يحكيه من الإجماع والخلاف على

تفسير الطبري، وقلَّ أن يخالفه في شيء من ذلك.

وكذلك الشوكاني في تفسيره ينقل كثيراً من الإجماعات من تفسير القرطبي؛

لأنه اعتمد تفسير القرطبي، ولخصه في كتابه، وما يقال عن الشوكاني يقال عن

صدِّيق حسن خان في تفسيره «فتح البيان» ؛ فإنه قد ضمنه خلاصة «فتح

القدير» .

وجملة من إجماعات الإمام الطبري قد اعتنى ابن كثير بنقلها في تفسيره.

ولم تكن عنايةُ المفسرين مقصورةً على حكايته ونقله، بل عنوا أيضاً بمناقشته

والاعتراض عليه من جهة، أو تأييده بالأدلة من جهة أخرى.

فأما مناقشة الإجماع والاعتراض عليه فقد تكون إبطالاً بالكُلية، وقد تكون

استدراكاً وتقويماً.

فمن أمثلة الأول: وهو إبطالُه بالكلية:

1 - ما ذكره القرطبي: من أنه لا خلاف بين العلماء على أن المراد

بالخليفة: آدم، في قوله تعالى: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

خَلِيفَةً] (البقرة: 30) ، وقد تعقبه ابن كثير بذكر الاختلاف في المراد، ورجح

القول الآخر في المسألة.

2 - ما ذكره ابن عطية من أن السلوى: طير بالإجماع. وقد تعقبه القرطبي

والآلوسي وغيرهما بذكر القول الآخر في تفسير السلوى، وهو العسل.

ومن أمثلة الثاني: وهو الاستدراك على الإجماع وتقويمه: ما حكاه الطبري

من الاختلاف في المراد بحاضري المسجد الحرام، فقال محرراً موضوع النزاع:

«اختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله: [ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ

الحَرَامِ] (البقرة: 196) ، بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به،

وأنه لا متعة لهم» فقد استدرك عليه ابن عطية ذلك، فقال: «واختلف الناس في

[حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ] (البقرة: 196) بعد الإجماع على أهل مكة وما

اتصل بها. وقال الطبري: بعد الإجماع على أهل الحرم، وليس كما قال..» ثم

بيَّن الدلالة على ذلك.

وقد تكون المناقشة في الإجماع على نحو مُغَاير لما تقدم؛ حيث يكون

الاعتراض على مخالف الإجماع، وبيان سقوط قوله، ومجافاته للصواب. ومن

أمثلة ذلك:

ما حكاه المفسرون من الإجماع على أن القَسَم في قوله تعالى: [لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ

لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ] (الحجر: 72) ، إنما هو بحياة محمد صلى الله عليه وسلم،

وخالف الزمخشري ذلك مدعياً بأن القسم إنما هو بحياة لوط عليه الصلاة والسلام

فانبرى له ابن القيم والآلوسي بالرد والنقض.

دواعي ذكر الإجماع عند المفسرين:

لقد كان النصيبُ الأوفر من مسائل الإجماع الكثيرة المبثوثة في كتب التفسير

لآيات الأحكام.

أما الإجماع المتصل بتفسير القرآن الكريم فإن المفسرين لم ينصوا عليه في

جميع موارده التي وقع فيها إجماع في القرآن الكريم، وسبب ذلك عائد في نظري

إلى كثرتها إلى الحد الذي يصعب معه حصرها، ويضاف إلى ذلك: أن المرويات

في التفسير كثيرة قد يعزُّ على المصنف في التفسير الإحاطة بها فضلاً عما دخل تلك

المرويات من ضعف وقلة تمحيص، ولذلك فإنهم يكادون ألاَّ يذكروا الإجماع في

تفسير لفظ، أو تحديد معنى معين إلا لسبب يدعوهم لذكره.

ومن أهم تلك الدواعي والأسباب ما يلي:

السبب الأول: وجودُ الاشتراك في المعنى: بحيث يرد في الآية لفظ مشترك

بين معنيين فأكثر، وقد يتسع السياق لحمل المشترك على أيٍّ من معانيه، لكن يقوم

دليل على قصر المشترك على أحد تلك المعاني، ويُجْمِع العلماء عليه.

ومن أمثلة ذلك:

قوله تعالى: [وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ

سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ] (البقرة: 231) ، فإن «البلوغ» لفظ مشترك يطلق في

اللغة على المقاربة وعلى الانتهاء. وقد أجمع العلماء على حمل البلوغ هنا على

المقاربة؛ لأنه إذا انتهى أجل المطلقة وانقضت عِدَّتُها فلا يَدَ لزوجها عليها؛ وقد دل

لذلك أدلة كثيرة ليس هذا موضعَ بيانها. وهذا بخلاف معنى «البلوغ» في الآية

التي تليها، وهي قوله تعالى: [وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن

يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ] (البقرة: 232) ، فإن معنى

«البلوغ» هنا: هو الانتهاء، وذلك لكون المعنى يضطر إليه، والسياق يدل

عليه، هذا فضلاً عن أدلة أخرى، من أهمها: سبب نزول الآية.

السبب الثاني: تحريرُ محل النزاع في الآية: وهذا كثير عند المفسرين،

وذلك أنهم حينما يذكرون الخلاف في تفسير لفظ أو في معنى يبدؤون أولاً بذكر ما

أجمع المفسرون عليه تحريراً لمحل النزاع، وقد يكون ما ذكروه من الإجماع أمراً

واضحاً لا إشكال فيه، لكن دعا إلى ذكره بيانُ المحلِّ المتنازع فيه. ومن أكثر

المفسرين ذكراً للإجماع لهذا السبب الإمامان: الطبري، وابن عطية رحمهما الله.

ومن أمثلة ذلك:

1 - قوله تعالى: [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]

(البقرة: 53) ، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بـ «الكتاب» : هو

التوراة، وهذا إجماع لا يُشك فيه، بل ولا يُحتاجُ لذكره لبداهته لولا أن الذي دعاهم لذكره هو الاختلاف الواقع في المراد بالفرقان، حيث اختلف المفسرون فيها على خمسة أقوال.

السبب الثالث: الرد على المخالفين:

فقد كثرت دعاوى الفرق المنحرفة في الاحتجاج على بدعهم وضلالاتهم

بالقرآن الكريم، فانبرى العلماء لرد احتجاجهم بسقوط تلك الدعاوى، وبيان أن

تفسيرهم للآيات على الوجه الذي ذكروه مخالف لإجماع السلف الذين هم أدرى

بالتنزيل، وأعرف بلغة العرب، وأبعد عن الأهواء، وأسلم من الزيغ، وإجماعهم

سابق على وجود من بعدهم، سواء قيل: إنهم أجمعوا على قول معين، أو قيل:

إنهم اختلفوا على قولين أو أكثر، وخلافهم عليها إجماع منهم على عدم الزيادة عليها، كما تقدم تقريره.

ومن أمثلة ذلك:

1 - قوله تعالى: [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] (الحجر: 99) حيث

حكى العلماءُ الإجماعَ على أن المراد باليقين: الموت. رداً على غلاة الصوفية

الذين زعموا أن اليقين منزلةٌ من بلغها سقطت عنه العبادة.

وهذا أحد الأسباب التي تستدعي حكاية الإجماع في كل زمن بحسبه؛ بحيث

يقوم العلماء برد مقالة كل ضال متقوِّل في القرآن برأيه أو هواه، مُفسِّر له على

غير تنزيله وتأويله الذي أطبق عليه السلف، مبينين مجافاة ذلك القول لإجماع

السلف.

السبب الرابع: ذكر الإجماع على تفسير آية للاحتجاج به في ترجيح قول

على قول في تفسير آية أخرى. وذلك عندما يذكر المفسرون الخلاف في تفسير آية، فإنهم يستعينون في الترجيح بين الأقوال على جملة من المرجحات، ومن أهمها:

ورود إجماع في آية لها علاقة بالآية المختلف فيها، وأكثر المفسرين استعمالاً لهذا

الإمام الطبري رحمه الله.

ومن أمثلة ذلك:

1 - لما ذكر رحمه الله الخلافَ بين المفسرين في اليوم الذي عنى الله

تعالى بقوله: [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]

(آل عمران: 121) ، فقيل: المراد به غزوة أحد، وقيل: بل عنى يومَ

الأحزاب، وقيل: بل عنى يومَ بدر. ثم رجح الطبريُّ أن المعنيَّ بها يوم أحد،

وقال معللاً ترجيحه لهذا القول بأن «الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها:

[إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا] (آل عمران: 122) ، ولا خلاف بين أهل

التأويل: أنه عُني بالطائفتين بنو سَلِمة وبنو الحارثة، ولا خلاف بين أهل السِّيَر

والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر الله من أمرهما

إنما كان يوم أُحُدٍ دون يوم الأحزاب» علماً بأنه لم يذكر الإجماع على ذلك

عندما فسر قوله: [إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا] (آل عمران: 122) .

ولأجل هذا السبب غالباً ما تجد الإجماع في تفسير الآية في غير مظنته، مما

يعني ضرورةَ جمعِ ما حكى المفسرون الإجماع عليه في تفاسيرهم، ليوضع في

مَظِنته، تسهيلاً لمراجعته.

السبب الخامس: دفع توهم معنى فاسد:

اعتنى المفسرون رحمهم الله في تفسيرهم للقرآن بدفع ما يتوهم من المعاني

الباطلة التي قد تقع في أذهان بعض الناس لسبب من الأسباب، وقد يحكون الإجماع

في تفسير الآية؛ لأجل دفع ذلك الوهم الفاسد.

ومن أمثلة ذلك:

1 - ما ذكره المفسرون عند قوله تعالى: [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ

فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ] (البقرة: 34) ؛ حيث ذكروا

أن السجود لآدم لا يراد به سجودُ التعبد إجماعاً، قال الرازي: «أجمع المسلمون

على أن ذلك السجود ليس سجودَ عبادة» .

2 - ما ذكره ابن عطية من إجماع المفسرين على أن السجود الواردَ في قوله

تعالى: [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً] (يوسف: 100) ، كان

سجودَ تحيةٍ لا عبادة.

السبب السادس: مخالفة تأويل الآية للظاهر أو الغالب في الاستعمال:

ومن أمثلة ذلك:

1 - ما ذكره المفسرون من الإجماع على أن المراد بقوله تعالى: [فَاقْتُلُواْ

أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ] (البقرة: 54) ، هو الأمر بأن يقتلَ بعضهم

بعضاً؛ وذلك لأن ظاهر الأمر في الآية دالٌّ على أن كل واحد يقتل نفسه بيده؛ بيد

أن المراد هو أن يقتل بعضهم بعضاً، لكنه نُزِّل منزلة النفس، لبيان شدة الاتصال

وكمال القرب.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً]

(النساء: 29) ، وقوله جل ذكره: [وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ] (الحجرات: 11) .

السبب السابع: ألا يرد في ألفاظ الآية ما يدل على المراد بها صراحة، مما

لا يتم معناها إلا به، فيحتاج المفسر إلى التصريح بالإجماع على ذلك المراد لقطع

احتمال غيره.

ومن أمثلته:

ما حكاه المفسرون من الإجماع على أن القيام المذكور في قوله تعالى:

[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ]

(البقرة: 275) ، إنما هو في يوم القيامة.

وقريب منه: أن يذكر الإجماع على إلحاق ما لم يذكر في الآية لقوة الصلة،

وانعدام الفرق بين المذكور والمحذوف.

ومن أمثلته:

1 - ما حكاه المفسرون من الإجماع على أن شَحْمَ الخِنزير داخل في عموم

تحريم لحمه المذكور في قوله تعالى: [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ]

(البقرة: 173) .

اختلاف التنوع والإجماع:

أكثر الخلاف الوارد في التفسير بين مفسري السلف هو من باب اختلاف

التنوع.

وقد قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أحسن تقرير فقال: «الخلافُ بين

السلف في التفسير قليلٌ، وخلافهم في الأحكام أكثرُ من خلافهم في التفسير، وغالب

ما يصح عنهم من الخلاف: يرجع إلى اختلاف تنوع، لا إلى اختلاف تضاد» [1] .

وقال الشاطبي رحمه الله: «من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف، وهو

ضربان:

أحدهما: ما كان من الأقوال خطأً مخالفاً لمقطوع به في الشريعة، وقد تقدم

التنبيه عليه.

والثاني: ما كان ظاهره الخلاف، وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك

في تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب

أقوالاً مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة [2] كالمعنى

الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل

فلا يصحُّ نقلُ الخلافِ فيها عنه، وهكذا يتفق في شرح السنة، وكذلك في فتاوى

الأئمة وكلامهم في مسائل العلم، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه؛ فإنَّ نقل الخلاف

في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ، كما أن نقل الوِفاق في موضع الخلافِ لا

يصح» [3] .

إذا تقرر هذا فإن الحديث عن أثر اختلاف التنوع على الإجماع يدعو إلى

معرفة أقسام اختلاف التنوع بين المفسرين [4] ، وهي على النحو الآتي:

الأول: اختلاف في اللفظ دون المعنى، وهذا لا تأثير له في تفسير الآية.

ومن أمثلته: ما ذكره المفسرون من الاختلاف في تفسير كلمة «قضى» من قوله

تعالى: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ] (الإسراء: 23) ، فقال ابن عباس:

[وَقَضَى] (الإسراء: 23) : أمر. وقال مجاهد: [وَقَضَى] (الإسراء:

23) : وصَّى. وفسَّرها الربيع بن أنس بـ «أوجب» . وهذه التفسيرات معناها

واحد أو متقارب، فلا تأثير لهذا الاختلاف في معنى الآية.

الثاني: اختلاف في اللفظ والمعنى، والآية تحتمل المعنيين لعدم التضاد

بينهما، فتُحْمَل الآية عليهما وتفسر بهما، ويكون الجمع بين هذا الاختلاف أن كل

واحد من القولين ذُكِرَ على وجه التمثيل لما تعنيه الآية أو التنويع، وهذا يشمل

نوعين:

أوّلهما: ما عبَّر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «أن يعبر كلُّ واحد منهم

عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمَّى غير المعنى الآخر

مع اتحاد المسمَّى» [5] كتفسيرهم: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] (الفاتحة: 6) ،

بالقرآن، وبالإسلام، وبالسنة والجماعة.

ثانيهما: أن يذكر كل واحد منهم من الاسم بعض أنواعه على سبيل المثال؛

كتفسيرهم: [ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ] (فاطر: 32) [6] . بالذي يؤخِّر العصرَ إلى

الاصفرار، أو بآكل الربا، أو مانع الزكاة، و [مُّقْتَصِدٌ] (فاطر: 32) : بالذي

يُصلِّي في أثناء الوقت، أو الذي يؤتي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا،

و [سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ] (فاطر: 32) : بالذي يصلي في أول الوقت، أو

بالمُحسن بأداء الواجبات مع المستحبات، وبالمتصدق مع إخراجه

الزكاة [7] .

وبناءاً على هذا التقسيم يمكن الإجابة عن أثر اختلاف التنوع في الإجماع بأن

يقال:

أما القسم الأول: فإنه لا أثر للاختلاف فيه على حكاية الإجماع؛ لأن اختلاف

الألفاظ في التعبير عن المعنى المراد أمرٌ معهود، بل لا يكاد يُسْلَم منه، وإذا كان

المقصود من التفسير هو الوصول إلى المعنى فإن اختلاف اللفظ في التعبير عنه لا

يضرُّ قطعاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن الأقوال الموجودة عنهم (أي السلف)

ويجعلها بعض الناس اختلافاً أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة؛ فإن

الترادف في اللغة قليل. وأما في ألفاظ القرآن فإما نادرٌ وإما معدومٌ، وقَلَّ أن

يعبروا عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه،

وهذا من أسباب إعجاز القرآن» [8] .

ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ابن عطية في قوله تعالى: [وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ

بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً] (المائدة: 12) ؛ حيث حكى الإجماع

على أن النقيب «هو كبيرُ القوم القائم بأمورهم التي ينقِّب عنها وعن مصالحهم

فيها» .

وقد فسره الحسن بأنه: الضمين، وفسره قتاده بأنه: الشاهد، وفسره الربيع

بن أنس بأنه: الأمين، قال ابن عطية بعد ذكر هذه الأقوال: «وهذا كله قريب

بعضه من بعض» ، وقال ابن الجوزي: «وهذه الأقوال تتقارب» .

أما القسم الثاني بنوعيه: فإن الخلاف أيضاً لا يؤثر على حكاية الإجماع؛

لأن الأقوال متفقة على المعنى، فإذا حُكيَ الإجماع على نحو تجتمع فيه الأقوال،

وليس فيه إلغاءٌ لأحدها، فإن الإجماع صحيح، ولا يُنتَقض أو يُعترض عليه بمثل

هذا الاختلاف.

قال ابن جُزي رحمه الله مبيناً أقسام اختلاف التنوع:

الأول: اختلاف في العبارة مع اتفاق في المعنى، فهذا عَدَّهُ كثير من المؤلفين

خلافاً، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه، وجعلناه نحن قولاً واحداً، وعبرنا

عنه بأحد عبارات المتقدمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها.

الثاني: اختلاف في التمثيل، لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد، وليس

مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العام الذي تندرج تلك

الأمثلة تحت عمومه؛ فهذا عدَّه كثير من المؤلفين خلافاً، وليس في الحقيقة بخلاف؛ لأن كل قول منها مثال، وليس بكل المراد، ولم نعده نحن خلافاً؛ بل عبرنا عنه

بعبارة عامة تدخل تلك تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل مع

التنبيه على العموم المقصود « [9] .

ومن الشواهد على ذلك الخلاف: ما ذكره المفسرون في تفسير (المحروم)

في قوله تعالى: [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] (المعارج:

24-25) ، قال ابن عطية:» واختلف الناس في (المحروم) اختلافاً هو عندي

تخليط من المتأخرين؛ إذ المعنى واحد، وإنما عبر علماء السلف في تلك العبارات

على جهة المَثُلات، فجعلها المتأخرون أقوالاً «وذكر جملة من أقوالهم ثم قال:

» والمعنى الجامع لهذه الأقوال: أنه الذي لا مال له، لحرمان أصحابه « [10] .

هذا إذا حُكي الإجماع على قول يجمع بين الأقوال، أما إذا حُكِي الإجماع على

أحد تلك الأقوال، فإن حكايته على هذا النحو قد تكون إلغاءاً للأقوال الأخرى؛ لذا

فإنه يُستفصلُ عند حكاية الإجماع: هل المراد به أن يكون القول الذي حُكِيَ الإجماعُ

عليه هو أحدُ ما يراد بالآية وتفسر به، أو هو المراد وحده مع نَفْي ما عداه؟

فإن كان الثاني فإن حكاية الإجماع لا تصح؛ لوجود الخلاف، وإن كان الأول

فلا يقال بأنه صحيح بإطلاقٍ لوجود الاحتمال، وإن كان الغالب الصحة.

ومن أمثلته:

ما ذكره الماوردي في تفسير (الحق) من قوله تعالى: [بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا

جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ] (ق: 5) ؛ حيث ذكر أن المراد به:» القرآن في

قول الجميع «، وقد وَرَدَ عن المفسرين في الآية ستة أقوال أخرى، فقيل: الإسلام،

وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: البعث، وقيل: هو ضد الباطل،

وقيل غير ذلك.

وعليه فقولُ الماوردي:» إنه القرآن في قول الجميع «، إن كان مرادُه أن

الجميع لا يقولون إلا بهذا، فهذا لا يُسَلَّمُ له، وإن كان مراده أن التكذيب بأيِّ واحد

من هذه الأمور المذكورة فسيؤول إلى التكذيب بالقرآن، أو كان مراده أن التكذيب

بالقرآن يعني التكذيب بها؛ لأنه جامع لجميع هذه الأمور، فهذا صحيح لا شك فيه.

الأسباب التي توقع المفسر في مخالفة الإجماع:

أكثرُ من رأيتُهُ ينقل خلافَ المأثور عن سلف الأمة هم متأخرو المفسرين،

وخصوصاً أهلَ البدع في العقائد منهم كالمعتزلة وسائِر فرق المبتدعة؛ ولذلك

أسباب عدة أكتفي بالإشارة إلى أهمها:

الأول: ضعفُ عنايتهم بآثار السلف وإجماعِهم وخلافِهم، وعدمُ التمييز بين

صحيح الروايات الواردة عنهم وضعيفها، فإذا نقلوا فإنهم يروون الغرائب

والضعاف والمناكير التي لا توجد في الكتب المعتمدة من كتب التفسير بالمأثور،

والتي تُعْنَى بنقل أقوال السلف، وتحرير ألفاظهم وعباراتهم. قال ابن الحاجب:

» وكانوا يعني المعتزلة من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين « [11] ؛

ولذلك تراهم ينقلون الخلاف فيما أجمع عليه السلف، وينقلون الإجماع فيما اختلفوا

فيه، وقد يكون للسلف في تفسير الآية قولان، وهذا كما تقدم إجماع منهم على عدم

جواز الزيادة، فيأتي هؤلاء بأقوال أخرى، فيخرقون الإجماع.

ولشيخ الإسلام تحريرٌ بالغُ الأهمية لهذه القضية؛ حيث قرر أن معرفة أقوال

السلف وأعمالِهم، خيرٌ وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم، فقال:

» ومعرفةُ إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين، خيرٌ وأنفعُ من معرفة ما يذكر

من إجماع غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا

تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلبُ الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم

بخطأ قولٍ من أقوالهم حتى يعرفَ دلالة الكتاب والسنة على خلافه « [12] .

» وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتَهم وسلوكَ سبيلهم، ولا لهم خبرة

بأقوالهم وأفعالهم، بل هم في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به لا يعرفون

طريق الصحابة والتابعين في ذلك، من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف،

فهؤلاء تجد عُمدتَهم في كثير من الأمور المهمة في الدين إنما هو عما يظنونه من

الإجماع، وهم لا يعرفون في ذلك أقوالَ السلف البتة، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا

سائرها؛ فتارة يحلُّون الإجماع ولا يعلمون إلا قولهم وقول من ينازعهم من الطوائف

المتأخرين ... وتارة عرفوا بعض أقوال السلف يحكون إجماعاً ونزاعاً ولا يعرفون

ما قال السلف في ذلك البتة، بل قد يكون قول السلف خارجاً عن أقوالهم، وهم إذا

ذكروا إجماعَ المسلمين لم يكن لهم علم بهذا الإجماع؛ فإنه لو أمكن العلم بإجماع

المسلمين لم يكن هؤلاء من أهل العلم به؛ لعدم علمهم بأقوال السلف؛ فكيف إذا كان

المسلمون يتعذر القطع بإجماعهم في مسائل النزاع، بخلاف السلف؛ فإنه يمكن

العلم بإجماعهم كثيراً « [13] .

الثاني: كونُهم يعتقدون أشياءَ باطلة ثم يحملون القرآن عليها، ولو كان

مخالفاً لما أجمع عليه السلف، فيقعون في المخالفة اتباعاً لبدعتهم، وتحكيماً لهواهم.

يقول الشاطبي:» وكثيراً ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب

والسنة، يحمِّلونهما مذاهبهم، ويُغَبِّرون بمشتبهاتهما على العامة، ويظنون أنهم على

شيء؛ فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأَقْوَمُ في العلم ...

والعمل « [14] .

الثالث: تفسير القرآن بمجرد اللغة، من غير نظر إلى المتكلِّم بالقرآن،

والمُنَزَّلِ عليه، والمخاطَب به.

وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذين السببين أعنى الثاني والثالث هما

أكثرُ ما يُوقع من يفسر بالرأي والنظر في الخطأ في تفسير كتاب الله؛ لأن الأوَّلِين

راعَوُا المعنى الذي رأوه، من غير نظرٍ إلى ما تستحق ألفاظ القرآن من الدلالة

والبيان، والآخرين راعَوا مجرد اللفظ، وما يجوز أن يُراد به في لسان العرب،

دون أن ينظروا إلى ما يصلح للمتكلم به، ولسياق الكلام [15] .

ثم بين رحمه الله أن الأوَّلين تارة يسلبون لفظَ القرآن ما دلَّ عليه وأُريد به،

وتارةً يَحْمِلونه على ما لم يدلَّ عليه ولم يُرَد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما

قصدوا نفيَه أو إثباته من المعنى باطلاً؛ فيكون خطؤُهم في الدليل والمدلول؛ وذلك

مثلُ كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم، ممن يفسرون القرآن بمعان

صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها [16] .

قال رحمه الله:» فالذين أخطؤوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل

البدع اعتقدوا مذهباً يخالف الحقَّ الذي عليه الأمةُ الوسَط الذين لا يجتمعون على

ضلالةٍ كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم، تارة

يستدلون بآيات على مذهبهم، ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يُخالف مذهبهم بما

يحرفون به الكلمَ عن مواضعه. ومن هؤلاء فرقُ الخوارج والروافض والجهمية

والمعتزلة والقدرية والمُرجئة، وغيرهم. وهذا كالمعتزلة مثلاً فإنهم من أعظم

الناس كلاماً وجدالاً، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم « [17] .

ثم قال:» والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظَ القرآن عليه

وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، لا

في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر

من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين:

- تارة من العلم بفساد قولهم.

- وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن، إما دليلاً على قولهم، أو جواباً

على المعارض لهم.

ومن هؤلاء من يكون حَسَن العبارة فصيحاً، ويدسُّ البِدَعَ في كلامه، وأكثر

الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يَرُوج على خَلْق كثير ممن

لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله. وقد رأيت من العلماء المفسرين

من يذكر في كتابه من تفسيرهم ما يوافق أصولَهم التي يَعْلَم أو يعتقد فسادها، ولا

يهتدي لذلك، ثم إنه لسبب تطرُّف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية، ثم

الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغُ من ذلك، وتفاقَمَ الأمر في الفلاسفة

والقرامطة والرافضة؛ فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالِمُ منها عجَبَه « [18] .

والحاصل: أن من أعظم أسباب وقوع الاختلاف: البدع المضلة» التي

دَعَتْ أهلها إلى أن حرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعه، وفسَّروا كلام الله ورسوله صلى الله

عليه وسلم بغير ما أُريد به، وتأوَّلُوه على غير تأويله؛ فمن أصول العلم بذلك: أن

يعلم الإنسان القول الذي خالفوه، وأنه الحق، وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف

تفسيرهم، وأن يعرفَ أن تفسيرهم محدَثٌ مبتدَع، ثم أن يعرف بالطرق المُفصَّلة

فسادَ تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق « [19] .

وإذا كان منشأُ الخلافِ هو البدعَ المضلَّة، واتباع الأهواء فإنه لا اعتداد

بمخالفة من خالف لهذه العلة، قال الخبَّازي:» ولا يعتبرُ (أي في الإجماع)

مخالفة أهل الأهواء فيما نسبوا به إلى الهوى « [20] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:» فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم

في تفسير الآية قولٌ، وجاء قوم فسَّرُوا الآية بقولٍ آخرَ لأجل مذهب اعتقدوه وذلك

المذهبُ ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة

وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.

وفي الجملة: من عدلَ عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما

يخالف ذلك كان مخطئاً في ذلك، بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له

خطؤه « [21] ، بل قال أيضاً:» من فسَّر القرآن أو الحديث أو تأوَّله على غير

التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مُفترٍ على الله، مُلْحدٌ في آيات الله،

محرفٌ للكلم عن مواضعه، وهذا فتحٌ لبابِ الزندقة والإلحاد، وهو معلوم

البطلان بالاضطرار من دين الإسلام « [22] .

وقد أحسن الشاطبي رحمه الله حين بيَّن سبب عدم الاعتداد بأقوال أهل

الأهواء، فقال:» إذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حِرصاً على الغلبة

والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدَّى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء

لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق. وإذا

صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم يُنْتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة

الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء؛ فاتباع الهوى من حيث يظن

أنه اتباع للشرع ضلالٌ في الشرع؛ ولذلك سميت البدعُ ضلالات، وجاء أن «كل

بدعة ضلالة» [23] ؛ لأن صاحبها مخطئٌ من حيث توهم أنه مصيبٌ. ودخولُ

الأهواء في الأعمال خفي؛ فأقوالُ أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر

في الشرع، فلا خلاف حينئذٍ في مسائل الشرع من هذه الجهة « [24] .

فإن قيل: إن العلماء قد اعتدُّوا بخلافهم ونقلوا أقوالهم؛ فكيف يقال: إنه لا

اعتداد بخلافهم؟

وقد أجابَ عن هذا السؤال الإمام الشاطبي من جهتين:

أولاً: أنَّا لا نسلِّم أنهم اعتدُّوا بها، بل أتوا بها ليردوها، ويبينوا فسادها، كما

أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها.

ثانياً: إذا سُلِّم اعتدادُهم بها فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق، وإنما

المتبعُ للهوى بإطلاق من لم يصدِّق بالشريعة رأساً، أما من صدَّق بالشرع فإنه متبع

للشرع في الجملة، لكن إذا زاحم هواه الشرعَ قدم الهوى، فأصبح بذلك مشاركاً

لأهل الهوى في دخول الهوى نحلته، وشارك أهلَ الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه

دليل على الجملة؛ ولذلك حُكِيت أقوالهم، واعْتُدَّ بتسطيرها، والنظر فيها» [25] .

ثم قال: «وفي الحقيقة، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حَصَل التآلف، ومن

جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة، وإذا كان كذلك فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في

الحقيقة؛ لصحتها واتحاد حكمها، وجهةُ الاختلاف فهم مخطئون فيها قطعاً،

فصارت أقوالُهم زلاتٍ، لا اعتبار بها في الخلاف» [26] .

ويضاف إلى هذه الأسباب جملة أخرى من الأسباب التي يقع بعض المفسرين

لأجلها في خرق الإجماع أذكرها متمماً لما سبق على سبيل الإيجاز.

الرابع: الاعتداد بالقول الشاذ: أو بما يُسَمَّى: «زلة العالم» ، حيث يذكر

بعض المفسرين الخلاف في مسألة قد وقع فيها إجماع سابق، بناءاً على اعتبار قول

لا يعتد به لشذوذه.

وقد قرر الإمام الشاطبي: «أن زلة العالم لا يصحُّ اعتمادها من جهة، ولا

الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع؛ ولذلك عُدَّت زَلّة،

وإلا فلو كانت معتداً بها لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزللُ فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبُها إلى التقصير، ولا يشنَّعَ عليه بها، ولا

يُنتقَص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً؛ فإن هذا خلاف ما

تقتضي رتبته في الدين» [27] .

ثم بيَّن رحمه الله: «أنه لا يصح اعتمادُها خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها

لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من

صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال

غير المجتهد، وإنما يُعدُّ في الخلاف الأقوالُ الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة

كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم

مصادفته [28] فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتدَّ بها في الخلاف، كما لم يعتدَّ السلفُ

الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة ... ، وأشباهها من المسائل التي

خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها» [29] .

ونصَّ رحمه الله على أن من الخلاف الذي لا يعتد به في الخلاف «ما كان

من الأقوال خطأً مخالفاً لمقطوع به في الشريعة» [30] .

وقد تساءل رحمه الله عن كيفية معرفة ما هو من الأقوال كذلك مما ليس

كذلك؟ وأجاب: بأن هذا من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف؛ لأن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب، فمن الأقوال ما يكون خلافاً لدليل قطعي، من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي، ومنها ما يكون خلافاً لدليل

ظني، والأدلة الظنية متفاوتة.

أما غير المجتهدين من المتفقهين فإن لمعرفة ما كان من الأقوال كذلك ضابطاً

تقريبياً، وهو أن ما كان معدوداً من الأقوال غلطاً وزللاً قليلٌ جداً في الشريعة،

وغالبُ الأمر أن أصحابها منفردون بها، وقلَّما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا

انفرد صاحبُ قولٍ عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من

المجتهدين لا من المقلدين [31] .

ومن أمثلة الأقوال الشاذة:

1 - قولُ نوفٍ البكالي في أن موسى الذي جرت له القصة مع الخضر

والمذكورة في سورة الكهف ليس موسى بن عمران كليم الرحمن، بل هو موسى

آخر، وقد رد ذلك عليه ابن عباس رضي الله عنهما وأغلظ في الرد عليه، فقال:

«كذب عدو الله» ، ثم ساق الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل

قطعاً على أن المراد به موسى بن عمران عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

قال ابن الجوزي عن قول نوفٍ هذا: «وليس بشيء» . وقال الشوكاني:

«وهذا باطلٌ قد ردَّه السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم» .

2 - ما روي عن الحسن وعطاء الخراساني أنهما قالا في تفسير قوله تعالى

[اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ] (القمر: 1) : «إنه سينشق يوم القيامة»

والمفسرون قاطبة مجمعون على أن المراد بالآية: انشقاقه معجزةً لرسول الله صلى

الله عليه وسلم عندما طلب منه المشركون ذلك. قال ابن الجوزي عن المروي عن

الحسن وعطاء: «هذا القولُ الشاذُّ لا يقاوم الإجماع» .

الخامس: الاعتدادُ بقولٍ قد انعقد الإجماع قبل حدوثه: وهو قريب من الذي

قبله ومن أمثلة ذلك:

إجماعُ العلماء على حرمة الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وقد حكى بعضُ

العلماء مخالفةَ بعض الظاهرية وبعض الرافضة. وهي مخالفة جاءت بعد انعقاد

الإجماع، فلا عبرة بها. قال الرازي: «إن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة

فلا عبرة بمخالفته» وقال الآلوسي: «وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحَصْر:

الإجماعُ، فإنه قد وقع، وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف» .

السادس: الاعتمادُ في نقل الخلاف على روايات ضعيفة لا تثبت عمن نسبت

إليه.

ومن أمثلة ذلك:

ما روي عن ابن عباس من أنه كان يرى: أن الأم لا يحجبها من الثلث إلى

السدس إلا ثلاثةٌ من الإخوة فأكثر؛ لأن الآية وردت بذكر «الإخوة» ، والاثنان

ليسا بإخوة. وهذا ضعيف عن ابن عباس، وقد حكى جمع من العلماء: الإجماع

على أن الاثنين من الإخوة يحجبان الأم من الثلث إلى السدس. ولا تصح المخالفة

عن ابن عباس، والله أعلم.

السابع: عدم فهم الخلاف الوارد عن السلف: إذ كثير من خلافهم كما تقدم

شرحه من باب اختلاف التنوع، فيأتي من المتأخرين من يحمله على اختلاف

التضاد فينقض الإجماع بذلك.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015