الافتتاحية
حقيقة الولائم المنتنة
وحرية الفكر المزعومة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فإنه من الملاحظ في السنوات الأخيرة ظهور أعمال أدبية وبخاصة في فن
الرواية والقصص قام مؤلفوها بتضمينها فكرهم المادي وتوجهاتهم الشعوبية في
قوالب لا تخلو من المشاهد الإباحية، ويزيد الطين بلة أن يأتي هذا النسق الرديء
في كثير من الأحيان محتوياً التهجم على الإسلام وقيمه وأخلاقياته ورموزه؛ فمن
«آيات شيطانية» لسلمان رشدي إلى «مسافة في عقل رجل» لوحيد حامد،
وأخيراً إلى «وليمة لأعشاب البحر» للمدعو حيدر حيدر، وقد أثارت هذه
الروايات الساقطة ردود أفعال شديدة من الرأي العام المسلم تمثَّلَ في نقدها والدعوة
لمصادرتها ... إلى غير ذلك مما جعل كُتَّابها محل سخط الشعوب المسلمة
ومقتها.
ولم يتخذ أي إجراء صارم حيال تلك التجاوزات بدعوى أنها أعمال إبداعية
فنية؛ ولذلك توالت أمثال تلك الأعمال المسفة، بل تجرأ بعضهم على إعادة نشر
روايات مصادرة رسمياً كما فعلت مجلة (القاهرة) من نشر فصول من رواية
(أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، وما قام به المشرف الثقافي لصحيفة الجمهورية
اليمنية في تعز من نشر رواية (صنعاء مدينة مفتوحة) للروائي الشيوعي اليمني
الهالك «محمد عبد الولي» والتي سماها أحدهم: «وليمة يمنية صغيرة» لمجيئها
بعد تداعيات ومتابعات رواية حيدر حيدر [انظر: جريدة الحياة، الصادرة في 14/
3/1421هـ] .
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يدفع بعض الكتاب والقصاصين إلى
مهاجمة الإسلام والسخرية من تعاليمه في أعمالهم الأدبية في دول إسلامية تدين
بالإسلام، وتحتوي دساتيرها على معاقبة كل من يتهجم على دين الأمة؟ لا شك في
أن دافعهم في استمرائهم هذا العبث هو عدم معاقبة من يقوم بمثله بما يستحقه،
وكذلك ما استقرَّ في أذهانهم من أن الحرية للأديب مكفولة ليقول ما يقول؛ وهذه
مقولة خاطئة وتصور منحرف للحرية؛ فالحرية ينبغي أن تمارس لكن ليس على
حساب المبادئ والقيم؛ ولذا يلزم مصادرة حرية الأديب متى انحرف وضل ليبقى
للمجتمع توازنه واستقامته؛ فانضباط الفرد ضمان لحريته وصون لكرامته، وهذا
ليس مصادرة للحرية بقدر ما هو تهذيب للحرية وتسديد لطريقها [1] .
لكننا نفاجأ أن هذه الدساتير والقائمين عليها يقفون بغير مبالاة أمام هذه الأعمال ويصمتون صمت القبور حيال تلك المخالفات بالدعوى ذاتها أن الحرية في هذه
الدساتير مكفولة للجميع؛ بينما لو تجرأ كاتب أو قاصٌّ سواء في مقالة أو قصة أو
رواية بالإساءة للنظام القائم والحط منه أو حتى الإساءة لحكومة صديقة للنظام حينها
يستيقظون من نومهم ويعلنون الطوارئ، وتصدر الأحكام بالإيقاف والسجن
والمساءلة والمصادرة لتجاوز نظام المطبوعات! !
فهل أصبح الإسلام وتعاليمه وقيمه وحريته في مرتبة دنيا حينما يُمَسُّ،
ويصبح للنظام الموضوع وواضعيه مكانة يجب ألا تمس؟ فأين الثرى من الثريا؟!
بل أين الغيرة لله ولدينه ولرسوله وللمؤمنين؟ وأين الغضب لله الذي هو
عنوان الإيمان حينما يساء للإسلام وقيمه ورموزه في مثل تلك الأعمال المشبوهة؟
إن الإعلام العربي في جل الدول العربية علماني الاتجاه يسوسه نفر من
متطرفي العلمانية الذين يذهبون مذهب الآداب الأجنبية شرقية أو غربية، ويسير
على إثرهم المستغربون من العلمانيين والشعوبيين الذين يتبنون الدعوة لتحرير
الأدب من الطابع الأخلاقي ودفعه إلى تصوير الغرائز والأهواء باسم حرية الأدب
المعروفة بـ (الفن للفن) ، والتي أنشأت صراعاً مريراً بين الدين والفن؛ ومردُّ
ذلك اعتبارهم الفنَّ نوعاً من التعبير مقطوع الصلة بكاتبه؛ فلا عبرة لديهم
بالموضوع في حد ذاته وإنما العبرة بتقنيات التعبير؛ فالأدب عندهم لا حَجْرَ عليه
من تصوير ما يشاؤون من المشاعر والأحاسيس ولو خرج في ذلك على الدين والقيم
والأخلاق.
ومن هنا فلا عجب أن يتجرأ هؤلاء الكتاب والقصاصون ويتمادوا في
انحرافاتهم وزيفهم، والنقاد العلمانيون يحوطونهم من ورائهم، يمجدون أعمالهم
ويثنون عليها بدعوى أنها قمة الإبداع الفني والفكري، وأن من يرفضها إنما هم
متخلفون وظلاميون. ومن أشهر النقاد في هذا الباب المدعو (جابر عصفور) وهو
أحد متطرفي العلمانية العربية وأحد منظِّريها الذين يشنون الحملات الكاذبة والظالمة
على التيارات الإسلامية مدَّعين أن ما يكتبه العلمانيون ما هو إلا تنوير وإبداع لا
يصح بحال محاكمته أو تحريمه أو مصادرته.
والأعجب أن يكون هناك تلاميذ لـ (جابر عصفور) ومدرسته في الاحتفاء
بتلك الأعمال المشبوهة مثل: «وليمة أعشاب البحر» فهذا كاتب يقول عن هذه
الرواية بأنها: «عمل باسق، وكاتبها قلعة شامخة ومترسخة في فضاءات السرد
العربية» . [انظر: جريدة البلاد، الصادرة في 23/2/1421هـ] .
ويقول الآخر عمن هاجم تلك الرواية ناقداً لهم بأنهم: «يستندون في نقدهم
لما هو منشور عنها في الصحف والمجلات والفضائيات بما في ذلك بيان الأزهر،
وأن هذا مع أهميته لا يكفي للحكم على عمل أدبي» . [انظر: الرياض، الصادرة
في 9/3/1421هـ] فإلى متى يدافَع عن هذا الإجرام بحق الإسلام بدعاوى تافهة
ورديئة؟
ورواية حيدر حيدر كما يبدو تصوير لحال كاتبها؛ حيث سجل فيها جزءاً من
إخفاقه السياسي بالعراق؛ ففي نهاية الخمسينيات نكب الشيوعيون بالعراق، وكان
معهم؛ إذ كان مقيماً آنئذٍ في العراق؛ حيث تفرقوا شذر مذر في كثير من البلدان
العربية، وكان نصيبه أن ذهب للجزائر، وكان يظن أنه سيكون شيئاً مذكوراً،
لكنه أخفق، وهذا الإحباط جعله يصور نفسيته تلك والتي كان يسب ويشتم فيها
المبادئ والقيم الإلهية بأسلوب إلحادي لا يستغرَب من منحرف عقدياً وفكرياً،
والرواية بمضمونها أنموذج للأدب المنحرف والفكر الضال، والدفاع عنها أسلوب
لتمجيد التيارات المعادية للإسلام يلزم فضحه وتعريته.
لكن ما لم يقله النقد المهاجم لهذه الرواية أن كاتبها (حيدر حيدر) هو كاتب
باطني والشيء من معدنه لا يستغرب.
والغريب أن فيها لمزاً وسخرية من الأنظمة السياسية؛ فكيف يفوت ذلك على
الرقيب الذي يبدو أن همه شيء آخر معروف للجميع، والأعجب في المسألة أن
تغار الدول الكافرة على دينها وقيمها وأخلاقها وتصادر أي عمل أدبي يتضمن المس
بشيء من تلك القيم كما حصل مؤخراً من مصادرة الصين الوثنية لرواية جنسية
اعتبرتها المؤسسة الحاكمة تهديداً للأخلاقيات [انظر: القدس العربي، الصادر في 9/2/1421هـ] .
وفي فرنسا صودرت رواية (بادية فرنسا) بسبب ما قيل فيها من عبارات
مهينة لليهود ولمعاداتها للسامية [انظر: المدينة، العدد الصادر في 4/3/1421هـ،
في مقالة (د. محمد خضر عريف) ] .
فهل يكون الوثنيون والنصارى أكثر غيرة منا نحن المسلمين على القيم
والأخلاق والمبادئ؟ ولماذا يترك للعلمانيين الغلاة والفرق الضالة الإساءة لديننا
ونحن نتجاهل ذلك بدعاوى ساذجة ومزاعم متهالكة؟ !
إننا باسم الإسلام ندعو إلى إيقاف ذلك المد الإلحادي المتوالي المسيء لديننا
وقيمنا والذي بلغ إلى حد ادعاء النبوة من بعض المهووسين أمثال (صلاح بريقع)
ومهاجمة الإسلام بشكل جلي من بعض الشاذين فكرياً مثل المدعو (محسن صالح)
بمصر، وندعو في الوقت نفسه إلى تطبيق شرع الله في أولئك المفترين؛ فقد حكم
القرآن الكريم في أحد المنافقين المستهزئ بالصحابة حينما قال: «ما أرى قرَّاءنا
هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسِنة، وأجبننا عند اللقاء» ولما رُفِعَ ذلك
للرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد ارتحل وركب ناقته، فقال هذا المنافق
للرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في القرآن الكريم: [إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ] (التوبة: 65) فقال صلى الله عليه وسلم: [قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] (التوبة: 65-66)
[انظر: تفسير ابن كثير للآيات] .
ولذا أجمع علماء الإسلام قديماً وحديثاً أن من يفتري على الله ورسوله فهو
مرتد قبل توبته كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (الصارم المسلول
على شاتم الرسول) .
هذا هو حكم الإسلام الذي إن أُعْمِلَ فلن يجرؤ بعده أي منحرف أو ملحد على
المساس بآيات الله وشعائر الإسلام، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ !
والله المستعان.