دراسات في الشريعة والعقيدة
شبهات حول حجية السنة النبوية
ومكانتها التشريعية والرد عليها
د. عماد الشربيني
إننا لو فتشنا عن المحاربين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنهم
يتظاهرون بإجلال القرآن واحترامه، وأنه الحجة التي ليس وراءها حجة.
فيقولون: علينا الاكتفاء بالقرآن الكريم فقط؛ فهو كتاب الله الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام، وهو الذي سلم من
التغيير والتبديل إلى آخر ما يقولونه تظاهراً بحبهم للإسلام، ودفاعاً عنه، وغيرة
على ما في كتاب الله من شريعة وأحكام، غير أنهم لا يريدون مع ذلك أن يضبطوا
أنفسهم وعقولهم بهذا الذي أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به من اتباع سنة
المصطفى صلى الله عليه وسلم، مصطنعين لأنفسهم ما يشاؤون من آيات القرآن
الكريم يستدلون بها على الاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم حجية السنة والحاجة إليها.
وما استدلوا به من آيات قرآنية بنوا عليها شبهتين جعلوهما قاعدتين ينطلقون
منهما تشكيكاً في حجية السنة المطهرة.
الشبهة الأولى: شبهة الاكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السنة النبوية.
الشبهة الثانية: شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفَّل الله بحفظها.
أما الشبهة الأولى: فاستدلوا لها من آيات القرآن الكريم بآيات عدة منها قوله
تعالى: [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ] (الأنعام: 38) ، وقوله تعالى:
[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ] (النحل: 89) ، وقوله تعالى: [أَفَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً] (الأنعام: 114) .
واستدل بهذه الآيات وما في معناها عدد من أعداء السنة المطهرة المنكرين
لحجيتها قديماً وحديثاً، الزاعمين أن القرآن في غنى عن السنة؛ لأن فيه بيان كل
شيء وتفصيله.
فقديماً على سبيل المثال لا الحصر كانت الطائفة التي ناظر الإمام الشافعي
واحداً من أتباعها [1] .
وحديثاً: أمثال الدكتور توفيق صدقي [2] ، ومحمود أبو رية [3] ، ومحمد
نجيب [4] ، ومصطفى كمال المهدوي [5] ، وأحمد صبحي منصور [6] ، وقاسم
أحمد [7] ، وجمال البنا [8] ، ورشاد خليفة [9] ، وإسماعيل منصور [10] ،
وغيرهم.
وللجواب عن هذه الشبهة نقول: رغم أن بعض هذه الآيات المراد فيها
بالكتاب: اللوح المحفوظ الذي حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال
المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على
التفصيل التام كما جاء في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «كتب
الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال:
وعرشه على الماء» [11] .
ومن هذه الآيات قوله تعالى: [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ]
(الأنعام: 38) والتي وردت عقب قوله تعالى: [وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ
طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم] (الأنعام: 38) والمثلية في الآية ترشح
أن المراد بالكتاب (اللوح المحفوظ) لأن القرآن الكريم لم ينظم للطير حياة كما نظمها
للبشر، وإنما الذي حوى كل شيء للطير والبشر، هو اللوح المحفو [12] .
وبعض هذه الآيات المراد من الكتاب (القرآن) ، وهَبُوا أن المراد بالكتاب
في جميع هذه الآيات (القرآن الكريم) ولكننا نقول لكم: إن هذا العموم غير تام،
بل هو مخصص بقول الله تعالى: [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (النحل: 64) .
ونقول لكم: نعم لم يفرط ربنا عز وجل في كتابه في شيء من أمور الدين
على سبيل الإجمال، ومن بين ما لم يفرط في بيانه وتفصيله إجمالاً بيان حجية
السنة، ووجوب اتباعها والرجوع والتحاكم إليها؛ فالقرآن جامع دون تفريط كل
القواعد الكبرى للشريعة التي تنظم للناس شؤون دينهم ودنياهم، والسنة النبوية هي
المبينة لجزئياتها وتفاصيلها، وهي المنيرة للناس طريق الحياة، وتنسجم هذه الآية
مع الآيات الأخرى التي تؤكد بالنص أهمية السنة تجاه ما في الكتاب من القواعد
التي تحتاج إلى تخصيص أو تقييد أو توضيح أو تبيين.. . إلخ.
ومن هنا فالقول بأن القرآن الكريم بيان لكل شيء قول صحيح في ذاته
بالمعنى الإجمالي السابق، ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة
والاكتفاء بالقرآن ليؤوِّلوه حسب أهوائهم. وإلا فربُّ العزة هو القائل في سورة
النحل نفسها، وقبل الآية التي استدلوا بها على عدم الحجية: [وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ]
(النحل: 38- 39) .
وقال تعالى: [بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (النحل: 44) . وقال تعالى: [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ
لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (النحل: 64) .
فتلك ثلاث آيات كريمات في سورة النحل نفسها هي سابقة لآية: [وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ] (النحل: 89) .
والثلاث آيات تسند صراحة مهمة البيان والتفصيل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم صاحب السنة المطهرة؛ فهل يُعقَل بعد ذلك أن يسلب الله عز وجل هذه المهمة
البيان التي هي من مهام الرسل جميعاً كما قال عز وجل: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] (إبراهيم: 4) ويُوقِع التناقض بآية: [الكِتَابَ تِبْيَاناً
لِّكُلِّ شَيْءٍ] (النحل: 89) .
إن كل الرافضين لحجية السنة لا بد أن يلتزموا بهذه النتيجة التي تعود
بالنقض على الإيمان بالكتاب، وبمن أنزل الكتاب جل جلاله سواء أقروا بلسانهم
بهذا النقض أم لا، وتنبهوا إلى ذلك أم لا! !
ومما هو جدير بالذكر أن بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم يتمسحون بإيمانهم
بالسنة البيانية، ثم يصفون قيمة تلك السنة بقولهم: «إنها للاستئناس لا للاستدلال، وللبيان لا للإثبات مما يجعل الآخذين بها والرافضين لها أمام الشرع على حد
سواء؛ فلا إلزام لأي طرف منهما على قبول رأي الآخر؛ فالآخذ بها فعله مقبول،
والرافض لها فعله مقبول كذلك» [13] .
أما الشبهة الثانية: «أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها» فاحتجوا
لذلك بقوله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) وقالوا: لو كانت السنة حجة ووحياً مثل القرآن لتكفل الله عز وجل بحفظها، كما تكفل
بحفظ القرآن الكريم.
وممن قال بتلك الشبهة الدكتور توفيق صدقي [14] ، وإسماعيل منصور [15] ،
وأيدهما جمال البنا [16] وفرقة أهل القرآن بالهند وباكستان [17] ، والدكتور ...
مصطفى محمود قائلاً: «القرآن هو الكتاب الوحيد الذي تولى رب العالمين حفظه
بنفسه من أي تحريف، وقال في محكم كتابه: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ولم يقل لنا رب العالمين إنه حفظ لنا كتاب
البخاري» [18] .
ونقول رداً على ذلك: إن رب العزة قد تكفل بحفظ ما صح من حديث رسوله
صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك القرآن الكريم؛ فقد قال تعالى: [وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] (النحل: 44) ، وقال تعالى: [إِنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ] (القيامة: 17-19) ، ففي الآيتين دليل على أن الله عز وجل قد تكفل أيضاً بحفظ السنة؛ لأن حفظ
المُبيَّن يستلزم حفظ البيان للترابط بينهما.
والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه
وسلم من قرآن أو سنة يبين بها القرآن، لقوله تعالى: [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]
(القيامة: 19) أي بيان القرآن. والبيان كما يكون للنبي صلى الله عليه وسلم يكون
لأمته من بعده، وهو يكون للنبي صلى الله عليه وسلم بالإيحاء به ليبلغه للناس،
وهو المراد في الآية السابقة [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ] (النحل: 44) فالسنة النبوية على هذا منزلة من عند الله عز وجل
(بوحي غير متلو) .
وفي هذا رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور بأن البيان للذِّكر لم ينزل
مع الذكر (القرآن) وإلا لكان النص على نحو: «وأنزلنا إليك الذكر
وبيانه» [19] .
ولو شغَّب مشاغب بأن هذا الخطاب: «علينا بيانه» متوجه إلى الله عز
وجل فقط دون الأمة وإلا قال عز وجل: «عليكم بيانه» لما أمكنه هذا الشغب في
قوله تعالى: [إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ] (القيامة: 17) . فمن الذي جمع القرآن
الكريم؟ الله عز وجل بذاته المقدسة، كما زعم الدكتور مصطفى محمود في مقالاته
السابقة، أم قيض رب العزة لذلك رجالاً من خلقه، وعلى رأسهم من أنزل عليه
صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؟ !
وفي ذلك رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور بأن حفظ الرجال للسنة
يجعلهم يتساوون مع الله عز وجل في القدرة بحفظه كتابه عز وجل فتستوي بذلك
قدرة الله وقدرة المخلوقين « [20] .
إن في القرآن مجملاً كثيراً في العبادات من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج،
ومعاملات، وأخلاق.. إلخ وتولت السنة المطهرة بيان ذلك، فإذا كان بيانه عليه
الصلاة والسلام لذلك المجمل غير محفوظ، ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد
بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر شرائعه المفترضة علينا فيه، ولم ندرِ
صحيح مراد الله تعالى منها، وما أخطأ فيه المخطئ، أو تعمد فيه الكذب الكاذب،
ومعاذ الله من هذا.
فعلم من ذلك أن حفظ السنة المطهرة من أسباب حفظ القرآن، وصيانتها
صيانة له، ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن فلم يذهب منها ولله الحمد شيء
على الأمة، وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة.
ثالثاً: شبهة عرض السنة النبوية على القرآن الكريم:
احتج خصوم السنة النبوية على عدم حجيتها بأحاديث من وضع الزنادقة،
تدور في نظرهم على وجوب عرض كل ما يروى من أحاديث على كتاب الله
ومقارنتها به، فإن كانت توافق الكتاب فهي حجة يجب التمسك بها، والعمل
بمقتضاها، وإن كانت تخالف الكتاب ولو مخالفة ظاهرية يمكن الجمع بينهما فهي
باطلة مردودة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، وليست من سنته، ومن هذه
الأحاديث التي يستشهدون بها:» إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن
فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني «.
وبهذه الشبه قال الزنادقة قديماً كما حكاه الحافظ السيوطي [21] . وقال به بعض
من سبق ذكرهم كالدكتور توفيق صدقي، وجمال البنا، ومحمد نجيب، وإسماعيل
منصور، ومحمود أبو رية، وقاسم أحمد، وأحمد صبحي منصور، في كتبهم
السابق ذكرها.
يقول جمال البنا:» هناك أحاديث جاءت بما لم يأت به القرآن، نحن نحكم
عليها في ضوء القرآن، فما لا يخالف القرآن يقبل، وما يخالفه يستبعد؛ فتحريم
الجمع بين المرأة مع عمتها أو خالتها، وتحريم لحم الحمر الأهلية، أمور لا نرى
مانعاً فيها، ونجد فيها قياساً سليماً « [22] .
الجواب:
أولاً: الحديث الذي استشهدوا به على شبهتهم لا وزن له عند نقاد الحديث
وصيارفته، وتكلم فيه العلماء كلاماً يستلزم أن يكون من أشد الموضوعات أو
الضعيف المردود، ونختار من أقوالهم ما بيَّنه الإمام ابن عبد البر بقوله:» وقد
أمر الله عز وجل بطاعته واتباعه أمراً مطلقاً مجملاً لم يقيد بشيء، كما أمرنا باتباع
كتاب الله، ولم يقل ما وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ، قال عبد الرحمن
بن مهدي: الزنادقة وضعوا ذلك الحديث، وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله
عليه وسلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم،
وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك،
قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ لأننا لم نجد في كتاب
الله ألاَّ يقبل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا
كتاب الله يطلق التأسي به، والأمر بطاعته، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على
كل حال « [23] .
ومع أن أحاديث عرض السنة على القرآن الكريم لا وزن لها عند أهل العلم،
إلا أن معناها صحيح، وعمل بها المحدِّثون في نقدهم للأحاديث متناً، فجعلوا من
علامات وضع الحديث مخالفته لصريح القرآن الكريم، والسنة النبوية والعقل، إلا
أنهم وضعوا لذلك قيداً وهو: استحالة إمكان الجمع. فإن أمكن الجمع بين ما ظاهره
التعارض مع الكتاب أو السنة أو العقل جمعاً لا تعسف فيه يصار إلى الجمع والقول
بهما معاً ولا تعارض حينئذ، وإن كان وجه الجمع ضعيفاً باتفاق النظار؛ فالجمع
عندهم أوْلى» [24] .
وإعمال الأدلة أوْلى من إهمال بعضها، وإلا فلنتعرف على الناسخ والمنسوخ
فنصير إلى الناسخ ونعمل به، ونترك المنسوخ ولا نعمل به، وإلا نرجح بأحد
وجوه الترجيحات المفصلة في كتب الأصول، وعلوم الحديث، والعمل بالأرجح
حينئذ واجب، وهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأساً، إما جهلاً به أو عناداً
منهم كما قال الإمام الشاطبي [25] .
ولا أعلم نقلاً عن أحد من العلماء برفض الحديث بمجرد المخالفة الظاهرية مع
القرآن الكريم مع إمكان الجمع، أو التأويل، أو الترجيح، حتى من نقل عنهم
الأصوليون إنكار الترجيح وردوا عليهم إنكارهم، قالوا عند التعارض: يلزم
التخيير أو الوقف، ومعلوم بأن التوقف أوْلى من التعبير بالتساقط؛ لأن خفاء
ترجيح أحد الدليلين على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع
احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه، وفوق كل ذي علم عليم «.
مثال على ما سبق:
حديث:» لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين
في - ذات الله - الحديث « [26] . قالوا هذا الحديث لا يصح؛ لأنه يتعارض مع ... قوله تعالى: [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ] (مريم: 41) .
وتناسوا بقية الحديث وما جاء فيه مؤكداً لكتاب الله عز وجل وأنه لا تعارض ففي الحديث:» ثنتين «في الله: قوله: [فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ] (الصافات: 89)
وقوله تعالى: [بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا] (الأنبياء: 63) وواحدة في شأن سارة
وقوله:» أختي «.
وجمع العلماء ووفقوا فقالوا: ليس المراد بالكذب هنا حقيقته، وإنما هو من
باب المعاريض، وكان ذلك من إبراهيم عليه السلام على طريق الاستفهام الذي
يقصد به التوبيخ. وعلى كل الأحوال فالحديث هنا لم يعارض القرآن بل جاء مؤكداً
لما جاء في القرآن، وإلا فليبينوا لنا هم حقيقة هذا التعارض؟ ! !
رابعاً: شبهة أن الوضع وكثرة الوضاعين للحديث
أضعفت الثقة بالسنة الشريفة:
واستدل بتلك الشبهة من استدل بالشبهة السابقة، ونزيد عليهم هنا السيد صالح
أبو بكر [27] ، وحسين أحمد أمين [28] ، وأحمد أمين [29] وعبد الله النعيم [30] ،
وسعيد العشماوي [31] ، وصالح الورداني [32] ، والمستشار عبد الجواد ياسين [33] ، ونصر أبو زيد [34] ، وزكريا عباس داود [35] ، وحولة نهر [36] ، وموريس
بوكاي [37] ، ومرتضى العسكري [38] ، والدكتور مصطفى محمود في مقالاته عن
الشفاعة المشار إليها سابقاً.
والجواب:
نقول: صحيح أنه كان هناك وضاعون وكذابون لفَّقوا أقوالاً، ونسبوها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة التي تخيلها
أصحاب هذه الشبهة، وأثاروا بها الوساوس في النفوس، وقد جهلوا أو تجاهلوا
الحقائق التي سادت الحياة الإسلامية فيما يتعلق بالسنة النبوية، فقد كان إلى جانب
ذلك عدد وفير من الرواة الثقات المتقنين العدول، وعدد وفير من العلماء الذين
أحاطوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسياج قوي يعسر على الأفاكين
اختراقه، واستطاع هؤلاء المحدِّثون بسعة اطلاعهم، ونفاذ بصيرتهم أن يعرفوا
الوضاعين، وأن يقفوا على نواياهم ودوافعهم، وأن يضعوا أيديهم على كل ما نسب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الوضع والكذب فهؤلاء الوضاعون
لم يترك لهم الحبل على الغارب يعبثون في الحديث النبوي كما يشاؤون، ولم يترك
لهم المجال لأن يندسوا بين رواة الأحاديث النبوية الثقات العدول دون أن يعرفوا.
وإلا فمَنْ إذن الذي كشف كذب الكفرة والزنادقة وغلاة المبتدعين؟
ومَنِ الذي عرَّف بالموضوع، وبأسبابه، وبأصنافه، وبعلاماته، وصنف فيه
المصنفات المتعددة؟
إنهم حراس الدين خلفاء الله وجنوده في أرضه، إنهم الجهابذة الذين قال فيهم
هارون الرشيد لما أخذ زنديقاً فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لِمَ تضرب عنقي؟ قال: لأريح العباد منك، فقال: يا أمير المؤمنين! أين أنت من ألف حديث وفي
رواية أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم، أحرِّم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام،
ما قال النبي منها حرفاً؟ فقال له هارون الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي
إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك؟ فإنهما ينخلانها نخلاً فيخرجانها حرفاً
حرفاً [39] .
يقول الأستاذ محمد أسد:» فوجود الأحاديث الموضوعة إذن لا يمكن أن
يكون دليلاً على ضعف نظام الحديث في مجموعه؛ لأن تلك الأحاديث الموضوعة
لم تَخْفَ قط على المحدثين كما يزعم بعض النقاد الأوروبيين عن سذاجة، وتابعهم
على ذلك بعض أدعياء من أبناء أمتنا الإسلامية « [40] .
ونختم هذه الشبهة بما ذكره الإمام ابن قيم الجوزية: قال الإمام أبو المظفر
السمعاني:» فإن قالوا: قد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلطت عليهم، قلنا:
ما اختلطت إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة
الدراهمَ، والدنانيرَ، فيميزون زيوفها ويأخذون خيارها، ولئن دخل في أغمار
الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث،
ورواته العلماء حتى إنهم عدُّوا أغاليط من غلط في الإسناد والمتون، بل تراهم
يعدون على كل واحد منهم كم في حديث غلط، وفي كل حرف حرَّف، وماذا
صحَّف، فإن لم تَرُجْ عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون فكيف يروج عليهم
وضع الزنادقة، وتوليهم الأحاديث التي يرويها الناس حتى خفيت على أهلها؟ وهو
قول بعض الملاحدة، وما يقول هذا إلا جاهل ضال مبتدع كذاب يريد أن يهجِّن بهذه
الدعوة الكاذبة صحاح أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وآثاره الصادقة، فيغالط
جهال الناس بهذه الدعوى، وما احتج مبتدع في رد آثار رسول الله صلى الله عليه
وسلم بحجة أوهن ولا أشد استحالة من هذه الحجة؛ فصاحب هذه الدعوى يستحق
أن يُسَفَّ في فِيهِ، ويُنفى من بلد الإسلام « [41] .