مجله البيان (صفحة 3504)

متابعات

نظرات في العالمية الإسلامية الثانية

صلاح الخليفة أحمد الحسن

حدثني أحد الأكاديميين بلهجةٍ قوية عن كتاب من جزأين عنوانه: (العالمية

الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) من تأليف (أبو القاسم حاج

حمد) باعتبار هذا الكتاب يمثل نقطة تحول في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر.

وقد تشوقت نفسي إلى اقتناء الكتاب المذكور أملاً أن أجد فيه ما يجعلني أشعر بأن

هناك جهوداً ضخمة تبذل من قِبَل المفكرين المسلمين المعاصرين في خدمة الدعوة

الإسلامية، وقد عكفت لأيام متصلة على قراءة الكتاب واستيعاب قضاياه، وأرجعت

البصر فيه كرتين، وقد خرجت من قرءاتي للكتاب المذكور بأشياء كثيرة منها:

1 - رؤية الكتاب للمذاهب الغربية:

استطاع الكاتب أن يبين الثغرات التي تشتمل عليها الشيوعية والرأسمالية،

وقد انتقدهما بقوة، وأكَّد على اضمحلال الفكر الشيوعي والرأسمالي ووراثة الإسلام

لذلك. وقد تميز العرض والنقد والتقييم والتقويم الذي قام به الكاتب تجاه المذاهب

الغربية بالقوة والمنطقية، وكان الأمل أن يسير على النهج نفسه في تناوله لبعض

القضايا التي عرضها في كتابه.

2 - منهج جديد للحديث النبوي:

كانت المفاجأة الأولى عند قراءتي للكتاب المذكور أن وجدت الكاتب قد ابتدع

منهجاً جديداً للحديث النبوي حيث يحدثنا الكاتب عن ضوابط الاستخدام المنهجي

النبوي للغة فيقول: «سق أن أكدت على الاستخدام الإلهي المميز لمفردات اللغة

العربية؛ فإني أؤكد أيضاً على التوافق والانسجام التامَّين بين لغة الرسول صلى الله

عليه وسلم ولغة القرآن بحيث لا يحدث التضارب في المعاني والدلالات، واتخذت

نموذجاً لذلك الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والذي يَرِدُ فيه

القول:» لكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته « [1] وأوضحت تضاربه مع آيتين

وردتا في القرآن الكريم، الأولى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا

انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (البقرة: 104) والثانية: [مِنَ الَّذِينَ

هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ

وَرَاعِنَا لَياًّ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا

لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء:

46) ، إن دلالات (راعنا) التي نهى الله عنها مرتين واستبدلها بـ (انظرنا)

خطيرة جداً؛ فراعنا تحط من قدر الناس بتحويلهم إلى (رعية) من مرعى؛ حيث

يقودها الراعي بعصاه، أما (انظرنا) فمن النظر والعناية والتكافؤ، ولم يستخدم

الله في كل القرآن مفردة مراعاة أو رعاية وإنما استخدم مفردة (عناية) رجوعاً إلى

العين والنظر؛ فالمسألة هنا منهجية؛ إذ ترتبط بمضمون العلاقة بين الله والبشر

وبين الأنبياء والبشر، فلا تنحط إلى دونية البهائم؛ فالله لا يستلب الإنسان ولا يحط

من قيمته، وقد عزا الله ذلك إلى تحريفات اليهود في آية النساء رقم 46؛ فلغة

الرسول صلى الله عليه وسلم تتوافق بالضرورة المنهجية مع لغة القرآن؛ كما أن

الذين جاؤوا بهذا المتن حول الرعية والمراعاة لم يتبينوا موقف القرآن من مجتمعات

البداوة والرعي؛ فقد أظهر الله ما تنطوي عليه سلوكيات تلك المجتمعات من قسوة

ونفاق» [2] . وهكذا يرفض الكاتب الحديث النبوي الثابت: «كلكم راعٍ وكلكم

مسؤول عن رعيته» وفقاً لمنهجه الجديد الذي يجعل لغة القرآن مرجعاً لتوثيق متن

الأحاديث أياً كان سندها. ووفقاً لمنهجه هذا لا بد من مراجعة الأحاديث التي وردت

في صحيحي البخاري ومسلم اللذين تلقتهما الأمة بالقبول.

ومع هذا الرفض التام لكلمة (رعى) من الكاتب ولكل ما اشتق منها فيما

يتعلق بالأحاديث النبوية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي

الله عنهم يناقض الكاتب نفسه في موضع آخر من كتابه؛ إذ يقول: (إن نظرة

وضعية للفارق بين الوعي المفهومي الجديد الذي طرحه (محمد) على العرب

وتركيب العرب العقلي ضمن حالة التعدد الإحيائي توضح لنا إلى أي مدى كانت

المهمة شاقة وصعبة بل ومستحيلة دون تدخُّل الله الغيبي؛ فقد كان على أمة من

الرعاة أن تصبح سيدة الحكمة في عصرها) [3] .

3 - حجية السنة:

جاء كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) بمنهج جديد للحديث النبوي؛ فما وجه

الاعتراض عليه؟ يقرر العلاَّمة عبد الغني محمد عبد الخالق رحمه الله تعالى أن ما

جاء عن الله تعالى لا يمكن أن يكون فيه اختلاف مع الحديث النبوي؛ إذ كلٌّ من

القرآن والسنة من عنده عز وجل.

فلا يمكن أن توجد سنة صحيحة الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

تخالف الكتاب في الواقع وإن حصلت مخالفة في ظاهر اللفظ؛ لأن المراد من

أحدهما حينئذ عين المراد من الآخر؛ وكل ما في الأمر أن هذا المراد قد يخفى في

بادئ الأمر على المجتهد [4] .

وهناك من تمسَّك بأحاديث تدعو إلى عرض السُّنَّة على كتاب الله، ولكن

أحاديث العرض على كتاب الله كلها ضعيفة لا يصح التمسك بها؛ فمنها ما هو

منقطع، ومنها ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول، ومنها ما جمع بينهما؛ وقد بين

ذلك ابن حزم في الإحكام، والسيوطي في مفتاح الجنة نقلاً عن البيهقي

بالتفصيل [5] .

فكل ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو: حسن جميل،

معروف عند العقل السليم، وقد يقصر عقلنا عن إدراك حسنه وجماله، فلا يكون

ذلك سبباً في إبطال صدوره عنه، أو حجيته، بل إذا رواه لنا الثقات وجب علينا

قبوله، وحَسُنَ الظن به، والعمل بمقتضاه، واتهام عقولنا [6] .

ولكن كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) لا يتهم عقله في هذا الصدد إنما يتهم

الثقات في رواية أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4 - رده للحدود الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة:

يقول كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) : «فلا يمكن أن تكون شرعة القرآن

هي شرعة (التخفيف والرحمة) ثم تستجيب لروايات تنسب إلى الرسول صلى الله

عليه وسلم تطبيق شرعة (الإصر والأغلال) فإذا استجبنا لذلك فإن المسألة ستنتهي

لما هو أخطر؛ فالقول بأن الرسول قد طبق شرعة الإصر والأغلال فذاك يعني أنه

أي الرسول ليس هو النبي الأمي المبشَّر به في سورة الأعراف والذي من علائمه

أنه يضع عن اليهود ومعتنقي الديانات السابقة شرعة الإصر والأغلال، ويتحول

بالدين نحو الخطاب العالمي» [7] .

ويقرر الكاتب بأن الرجم وغيره من الحدود الشرعية هو من كيد اليهود؛

وذلك بهدف إبطال النبوة الخاتمة التي تنزلت على غيرهم [8] .

والسؤال: هل اليهود يريدون للحدود الشرعية أن تطبق في واقع المسلمين

حتى يدسوا مثل هذه الأحاديث بين المسلمين؟ إن الكاتب من حيث يدري ولا يدري

يخدم الأهداف اليهودية التي لا تريد للحدود الشرعية أن تطبق في المجتمع المسلم

باعتبارها تمثل حجر الزاوية في مجال الضبط الاجتماعي في الإسلام.

يريد الكاتب من المسلمين أن يتخلوا عن الحدود الشرعية باعتبارها شرعة

توراتية حتى يقتنع الإنسان المعاصر بالدعوة الإسلامية؛ فالإصرار على تطبيق

الحدود الشرعية (من شأنه حصر الإسلام ضمن حدود عالميته التقليدية حيث

يتعامل مع الناس من منطلق الإيمان الوراثي) [9] .

ويعمل الكاتب على إيراد تفسير جديد لقول الله تبارك وتعالى: [لِكُلٍّ جَعَلْنَا

مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً] (المائدة: 48) ، فيقول: «قد أراد الله عبر هذا النص أن

يطلعنا على تسببه التشريع المنزل تبعاً للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية

المختلفة. إن عقوبات القطع والرجم والجلد كانت سارية المفعول في ذلك العصر

التاريخي السابق على الإسلام. إن الثابت في التشريع هو (مبدأ العقوبة) أو

الجزاء؛ أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر حسب أوضاعه

وأعرافه وقيمه بهذا استوعب القرآن متغيرات كل العصور، ويبقى كما أراد له الله

صالحاً لكل زمان ومكان» [10] .

هكذا تفعل منهجية الحداثة فعلها في رد النصوص الشرعية ومتابعة الهوى في

تفسيرها.

5 - الأصول العامة لمنهج المبتدعة في الاستدلال:

تشمل الأصول العامة لمنهج المبتدعة في الاستدلال الآتي:

الأصل الأول: رد النصوص والجرأة في الاعتراض عليها. ...

الأصل الثاني: العبث في الأصول الشرعية للاستدلال وتشويهها.

الأصل الثالث: إحداث أصول بدعية جديدة للاستدلال والتلقي [11] .

فهل يخرج كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) عن الأصول العامة لمنهج

المبتدعة في الاستدلال؟ لقد أخذ الكاتب بحظٍ وافر من تلك الأصول في رده

للأحاديث الصحيحة وتشويهه للأصول الشرعية وتأسيسه لمنهج مبتدَع في هذا

الصدد، والكاتب لا يخرج في ذلك عما نبه إليه ابن تيمية من قول بعض رؤوس

الجهمية بشر المريسي أو غيره أنه كان يوصي أصحابه إذا جادلوا أهل السنة قائلاً:

«إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم

بالتأويل» [12] هذا هو منهج المبتدعة في تعاملهم مع الكتاب والسنة.

وللفلسفة وزن كبير في التكوين الفكري للكاتب في الوقت الذي نجد أن العلوم

الشرعية عنده تكاد تكون غائبة، وذلك له أبلغ الأثر في فكره الذي طرحه عبر

(العالمية الإسلامية الثانية) ، وكما يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى «ومن المعلوم

أن المعظِّمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونها هم أبعد الناس عن معرفة الحديث، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه وحديث مكذوب موضوع عليه، وإنما

يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم سواء كان موضوعاً أو غير

موضوع» [13] .

ولله درُّ ابن تيمية؛ إذ نجد أن الكاتب يردُّ بعض الأحاديث المتواترة في الوقت

الذي يقبل فيه حديثاً باطلاً لا أصل له مع شهرة لفظه وهو: «اطلبوا العلم ولو

بالصين» إذ أورده في كتابه (1/255) في الوقت الذي قال فيه ابن حبان: هو

باطل لا أصل له، وفي إسناده أبو عاتكة وهو منكر الحديث. وقد أخرج هذا

الحديث البيهقي في الشعب ولفظه مشهور وأسانيده ضعيفة، وقد أورده ابن الجوزي

في الموضوعات [14] .

6 - منهجه في تفسير القرآن الكريم:

يقرر الكاتب بأن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم هو (حاكمية كتاب)

مطلق لتتوارثه الأجيال؛ لذلك فهو يرفض من يقول بأن الرسول قد وضع تفسيراً

للقرآن [15] . وهو بذلك يرد ما أوردته كتب السنة من تفسير نبوي لبعض آيات

الكتاب المبين الذي نص القرآن على أن الرسول صلى الله عليه وسلم من ضمن

رسالته أن يبين للناس آيات التنزيل:.

ويقرر الكاتب بأنه ليس ضد فهم السلف للقرآن بموجب التركيبة التي تناولوه

من خلالها؛ غير أن تكشُّف القرآن عن تركيبة أخرى يجعلنا في مواجهة عطاء

جديد ظل مكتوباً لمرحلة تاريخية خطيرة، مرحلة يهيمن بها القرآن على كل مناهج

الفكر الوضعي، ويتجاوز بها كل معطيات الوضعية السلفية الدينية [16] .

ويقرر الكاتب بكل ثقة بأنه مُقْدِم على عمل كبير في دراساته القرآنية التحليلية

جعله الله من بدايات القرن الخامس عشر الهجري يشمل فهماً جديداً ناسخاً لمفهومات

الوضعية العلمية والوضعية الدينية على سواء [17] .

ولا يرى الكاتب أي غضاضة من أن يذكر بأن المنهج عبر التحليل قد أصبح

بديلاً عن النبوة وذلك ليستدرك الإنسان بالتطور ضمن مقوماته الوضعية ما لم

يستدركه بالتزكية النفسية ضمن مقوماته الروحية [18] .

7 - محاكمة النصوص إلى الدماغ المعاصر:

لا يختلف الكاتب عن العلمانيين الذين يشن عليهم هجومه في كتابه من حين

لآخر وذلك في محاكمته للنصوص الشرعية إلى الدماغ المعاصر؛ فالإسلام يحاكم

غيره ولا يتحاكم إلى غيره بأي حال. ويتضح بيان منهج الكاتب في محاكمة

النصوص القرآنية إلى الدماغ المعاصر في قوله: «إذا تتبعنا مراحل التطور في

التفكير الإنساني على ضوء فرضيات (جون ديوي) و (آثر بتلر) نستطيع أن

نميز خصائص السلوك الفكري العربي في تلك الآونة بانتمائه إلى مرحلة الحركة

الذاتية (sefaction) وهي مرحلة تتميز خصائصها بمحاولة الإنسان تفسير كل

ظاهرة من ظواهر الكون بمعزل عن غيرها من الظواهر، فلم يكن الإنسان في تلك

المرحلة قد أدرك ما بين ظواهر الكون جميعاً من علاقات، وقد أطلق رجال علم

الأجناس البشرية على تلك المرحلة اسم الأنيميا (صلى الله عليه وسلمnimistic stage) . وبغضِّ

النظر عن حقيقة التطورية أو بطلانها فالمهم أن التطورية بمدارسها المختلفة غير

الدارونية الآن هي جزء من الدماغ المعاصر وتتضمن إسقاطاته النظرية على كل

المواضيع بما فيها آيات الكتاب» [19] .

وقد استخدم الكاتب مصطلح (التاريخيانية) ومصطلح (القطيعة المعرفية)

بنفس المعنى المستخدم عن أهل النظرة العلمانية.

8 - إنكاره للمعجزات النبوية ما عدا القرآن الكريم:

يولع بعض الباحثين على شاكلة كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) في

تصوير حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً عن الخوارق والمعجزات، وإذا أمعنا

في منبع هذه النظرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أنها في الأصل فكرة

بعض المستشرقين والباحثين من الأجانب أمثال (جوستاف لوبون) و (أوجست

كونت) و (هيوم) و (جولد زيهر) وغيرهم، ثم تلقَّف هذه النظرية منهم أناس

من المسلمين كان من سوء حظ العالم الإسلامي أن جندوا كل مساعيهم وعلومهم

للتبشير بأفكار أولئك الأجانب دون أي مؤيد سوى الافتتان بزخرف خداعهم،

وانخطاف أبصارهم بمظهر النهضة العلمية التي هبت في أنحاء أوروبا، وكان من

هؤلاء المسلمين الشيخ محمد عبده، ومحمد فريد وجدي، وحسين هيكل [20] .

يقول كاتب (العالمية الإسلامية الثانية) : «ثم يأتي من يفترض له معجزات

كجريان لبن من بين أصابعه، أو تكثير خبز ليضاهوه بمن سبقه من الأنبياء،

وهؤلاء مع غيرتهم قد جهلوا منهاج نبوته ورسالته وخصائصه وخصائص نبوته،

فاختصروه إلى وعيهم الذاتي وهو أكبر من ذلك بكثير وبما لا يدرك منه إلا

قليلاً» [21] .

فالكاتب بإنكاره لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية يخدم أهداف

علماء الاجتماع الغربي والمستشرقين بعيدة المدى، ويجتر نظرياتهم العتيقة في هذا

الخصوص ليجدد الدماء في عروقها؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.

9 - تقييمه لفكر ابن عربي:

يقرر الكاتب بأنه قد نسب إلى ابن عربي زوراً وجهلاً القول بوحدة الوجود

والاستبطان الغنوصي والتأثر بالفلسفات الإغريقية والهندية؛ غير أن الدراسات

المعاصرة قد قيَّمت فلسفته خارج إطار تلك المنسوبات من هذه الدراسات القيمة على

حد قول الكاتب ما أصدره الدكتور (نصر حامد أبو زيد) [22] ، فمن هو (نصر

حامد أبو زيد) الذي استند إليه الكاتب في تقييمه لفلسفة ابن عربي؟!

والحقيقة أن الطيور على أشكالها تقع، فقد طُرِحَتْ آراء مشبوهة من أمثال

(فرج فودة) و (سعيد العشماوي) و (محمد أحمد خلف الله) ثم ما أثاره مؤخراً

(نصر حامد أبو زيد) في كتاباته ومنها: (مفهوم النص) و (إشكاليات القراءة

وآليات التأويل) و (نقد الخطاب الديني) التي دعا فيها إلى محاكمة «النص

القرآني» وتأويل تعاليمه بما يخرجها عن معناها الشرعي، وقد صدرت فتوى من

علماء الأزهر بردة (نصر حامد أبو زيد) على ضوء ما كتبه من آراء وأفكار

منحرفة في حق الإسلام، والحُكمِ بالتفريق بينه وبين زوجته [23] .

وهكذا يعمل المبتدعة على تصوير ابن عربي مفكراً له إشراقاته وبصماته

على الفكر الإسلامي، في الوقت الذي تشهد عليه آثاره بخلاف ذلك؛ فالعلامة ابن

خلدون رحمه الله تعالى يحكم على الكتب المتضمنة لفلسفة ابن عربي مثل:

الفصوص، والفتوحات المكية وأمثالها بإذهاب أعيانها إن وجدت بالتحريق بالنار

والغسل بالماء حتى ينمحي أثر الكتابة لما في ذلك من المصلحة في الدين [24] .

10 - رؤيته بأن ربط توقيت فرض الصلاة بليلة الإسراء من

الإسرائيليات:

جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من دواوين السنة أن الله تبارك

وتعالى قد فرض الصلاة في ليلة المعراج مع ما هو معلوم من قصة موسى عليه

السلام مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن؛ ولكن كاتب (العالمية

الإسلامية الثانية) يرى أن ربط توقيت فرض الصلاة بليلة الإسراء (خدعة

إسرائيلية) انطلت على المسلمين، وهي ليست مجرد خدعة عبثية، ولكنها

مقصودة تهدف إلى التقليل من شأن النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وإظهاره

بمظهر المتلقي عن موسى بما يبطل إمامة محمد صلى الله عليه وسلم لموسى عليه

السلام، وبما يبطل نسخ القرآن للتوراة، هكذا قالوا: إن الصلاة فرضت في ليلة

الإسراء؛ حيث فرضها الله علينا (خمسين) ركعة في اليوم لولا (إقناع) موسى

عليه السلام المتكرر لمحمد صلى الله عليه وسلم للعودة مجدداً وأكثر من مرة إلى

ربه ليخفض عدد الركعات، وهكذا بوساطة موسى عليه السلام وتوجيهه لمحمد

صلى الله عليه وسلم أصبحت صلواتنا خمساً. ويقرر الكاتب أن الآثار المنسوبة إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد تجمع بين السخافة والبطلان؛ فمحمد

صلى الله عليه وسلم إمام لموسى عليه السلام وليس العكس، وشريعته القرآنية

ناسخة للشريعة التوراتية [25] .

أرأيتم كيف أن هذا الكاتب يخلط الأوراق؟ وقد سبق لي أن دخلت في

محاورة عبر بعض الصحف اليومية مع أحد منكري السنة النبوية قال بنفس قول

هذا الكاتب الذي ذكرته آنفاً.

أين السخافة والبطلان في أن يراجع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه في

شأن الصلاة؟

أليس في هذه المراجعة مكرمة له صلى الله عليه وسلم؟ ففي الوقت الذي كان

يراجع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه في هذا الخصوص كان نبي الله موسى

عليه السلام منتظراً في مكانه؛ فأيهما أفضل حسب هذه الرواية؟ وإذا كانت الرواية

من نسج اليهود لقالوا بأن الذي كان يراجع الرب تبارك وتعالى في هذا الشأن هو

موسى عليه السلام وليس محمداً صلى الله عليه وسلم. وهل يرضى اليهود بأن

يروِّجوا بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد عُرج به إلى السماء حتى ينسجوا

مثل هذه الرواية التي تثبت معراجه صلى الله عليه وسلم، مما ينكره صراحةً أولئك

الذين ينكرون السنة النبوية ومعجزاته الحسية صلى الله عليه وسلم. إن إنكار مثل

هذه المرويات المقطوع بصحتها فيه خدمة عظيمة لليهود والنصارى؛ إذ يعني

تشكيك أهل الملة الإسلامية في معتقداتهم وبلبلة أفكارهم؛ فاليهود.. . اليهود هم

الذين يروِّجون لمثل هذه الأفكار في المجتمع المسلم.

11 - نظرة عصرية جديدة للإبداع الفني:

يقرر الكاتب بأن سائر أنواع الجماليات التي تجسد حيوية الإنسان، وتفاعله

مع الحياة تعد مقدمة ضرورية في بناء الإنسان الحضاري الحر المنطلق؛ ويقصد

بهذه الأنواع النحت والرسم والموسيقى وسائر الجماليات الأخرى [26] .

ويشير الكاتب في هذا الصدد إلى دراسة قيمة على حد زعمه كتبها (عبد

المجيد وافي) بعنوان: (محمد والفنون) صدرت ضمن مجموعة مقالات: (محمد

نظرة عصرية جديدة) ، وقد كفت هذه الدراسة الكاتب كما يقول عناء الموضوع،

على ما في المعاناة من متعة؛ فقد أوضح وافي موقف القرآن والرسول من هذه

الفنون بقوله: ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم موقف مباشر يهدف إلى

إباحة شيء بعنوان الفنون، أو تحريم شيء بعنوان الفن [27] . هذا القول المغلوط

لا يمكن الأخذ به بكل هذه البساطة؛ فما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا

من بعد ما بيَّن للأمة كل جزئية تقربهم من الله تبارك وتعالى أو تبعدهم عنه،

وللإسلام كلمته القاطعة فيما يتعلق بالآداب والفنون، يؤخذ ذلك من كتاب الله تعالى

وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهناك (أدب إسلامي) وفن (إسلامي) كما

أن هناك (أدباً جاهلياً) و (فناً جاهلياً) ولكن الكاتب الذي يتجرأ في رد أحاديث

النبي صلى الله عليه وسلم القطعية الثبوت له رؤية أخرى في هذا الموضوع؛ إذ

يقول: «والملاحظ هنا أن حجج المجوِّزين تعتمد على القرآن فيما رواه عن

(سليمان) و (عيسى) ، وحجج المحرِّمين تعتمد على أسانيد (الأحاديث) وأهمها

الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم برواية ابن عمر رضي الله

عنهما وهو حديث متفق عليه في قوله:» الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم

القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم «وكان بإمكاننا حل المسألة في هذه الحدود

بتكذيب مسندات الأحاديث؛ لأنها متعارضة مع نص قرآني. والرواة كما نعلم

ليسوا أنبياء مهما تحققوا من مصادر الإسناد» [28] . والهوى يجعل الكاتب يرى أن

الحدود الشرعية التي وردت في القرآن الكريم تتعلق بشرعة الإصر والأغلال التي

جاء بها موسى عليه السلام فهي منسوخة، والهوى يجعله يرى أن ما أورده القرآن

عن (سليمان) و (عيسى) عليهما السلام فيما يتعلق بالصور والتماثيل غير

منسوخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم!! !

وبالرغم من أن الكاتب قد انتقد المذاهب الغربية بقوة كما بينا آنفاً إلا أنه عاد

يكيل المدح لها مشيداً بروائعها الفنية والجمالية والحضارية؛ لأنه يريد للمسلمين أن

يحذوا حذوها شبراً بشبر وذراعاً بذراع في هذا المجال، يقول (محمد أبو القاسم

حاج حمد) : «هناك تصدح في ساحات (فيينا) كل مساء روائع الموسيقى التي

أصبحت عالمية، وفي زواياها تنتصب تماثيل العباقرة من أبنائها الذين استلهموا

معنى النغمة من الحياة» [29] .

وهل إنتاج أوروبا الفني والجمالي والحضاري نشأ من فراغ دون أن يكون

لمذاهبها التأثير في تكوينه؟ وهل يتفق ذلك مع المذهبية الإسلامية؟

12 - د. طه جابر العلواني وتقديمه لكتاب

العالمية الإسلامية الثانية:

د. طه جابر العلواني تقلَّد منصب رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي

يتخذ من الولايات المتحدة الأمريكية مقراً له لفترة طويلة، ويشغل الآن منصب

رئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بالولايات المتحدة أيضاً، وله آثار علمية

طيبة وكثيرة، وهو الذي سعى إلى طباعة كتاب العلاَّمة الدكتور عبد الغني محمد

عبد الخالق رحمه الله تعالى: (حجية السنة) بواسطة المعهد العالمي للفكر

الإسلامي مع التقديم له بمقدمة طيبة، والذي يمثل سهاماً موجهة إلى نحر كل من

يسعى إلى الغمز واللمز في السنة النبوية المطهرة كما فعل كاتب (العالمية الإسلامية

الثانية) .

والشيء الذي أستغرب له هو: كيف قدَّم د. طه جابر العلواني لكتاب

(العالمية الإسلامية الثانية) في طبعته الثانية بمقدمة لا تخلو من الإطراء والإعجاب

بمحتوياته دون أن يبين ما حواه من قضايا منهجية خطيرة تُعد حرباً على الإسلام؟

ولا يشفع للدكتور قوله في المقدمة: (ومهما كان حول بعض ما أورده من

ملاحظات أو تحفظات قد تتراوح بين النقد والقبول أو المراجعة، كل ذلك لا ينبغي

أن يأخذ أو يلفت أنظارنا وعقولنا عن قضية الكتاب الأساسية التي هي قضية

المنهجية المطلوبة لبروز العالمية الإسلامية الثانية، وظهور الدين على الدين كله،

وبروز كلمة الله مرة أخرى في الأرض) [30] .

فهل المنهجية المبتدعة التي حواها هذا الكتاب من شأنها أن تخدم الدعوة

الإسلامية؟

إن تقديم د. طه جابر العلواني للكتاب قد فتن ثلة من الباحثين المسلمين الذين

يعملون في حقل تأصيل العلوم؛ فهل مثل هذا المنهج الذي جاء به يفيد عملية

التأصيل؟

وقد قررت د. منى عبد المنعم أبو الفضل وهي ذات نشاط ملحوظ في أعمال

المعهد العالمي للفكر الإسلامي كتاب (العالمية الإسلامية الثانية) ضمن منهاج النظم

العربية للسنة النهائية بقسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة [31] .

وقد بذل الكاتب شكره لأولئك الذين استضافوه في مراكزهم العلمية وجامعاتهم

وندواتهم ومؤتمراتهم، وقد خص بالذكر منهم: المركز الإسلامي الثقافي في مالطا،

وجمعية الدعوة الإسلامية العالمية في طرابلس، والجامعة العالمية في ماليزيا طلاب

جامعة اليرموك بالأردن، منظمي مؤتمرات الاتجاه الإسلامي ولجنة فلسطين

الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية وجمعية الترقية الاجتماعية لولاية بسكرة

بالجزائر [32] .

أما كان الحق يحتم أن تتدارس تلك الجهات الدعوية التي ذكرها الكاتب ما

حواه كتابه وحمله فكره بتأنٍ ومراجعة شاملة لمنهجه، ووزن ذلك بميزان الكتاب

والسنة قبل أن يحتفوا به؟ فما وافق الكتاب والسنة فهو الحق المبين، وما خالفهما

لا بد من بيانه للناس بالتفصيل؛ فهذه قضية غاية في الأهمية وليس كما قرر د.

طه جابر العلواني؛ فالجامعات والجمعيات والمراكز العلمية الإسلامية ذات تأثير

واسع في حقل الدعوة إلى الله تعالى ويتحتم عليها أن تضبط مسيرتها القاصدة إلى

الله تعالى بالكتاب والسنة.

ونأمل أن يجد هذا الكتاب الاهتمام المطلوب من المختصين فينبري له من يرد

على كل جزئية من جزئياته بالتفصيل حتى لا ينطلي زخرفه على بعض الناس.

ونأمل أن يراجع (محمد أبو القاسم حاج حمد) ما سطره في كتابه:

(العالمية الإسلامية الثانية جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) وفقاً للثوابت الإسلامية

دون أن يجعل للهوى نصيباً في ذلك؛ فما أكرم أن يرجع الإنسان إلى سبيل الحق

المبين: [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ

النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] (الرعد: 17) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015