قضايا ثقافية
سليمان بن عبد العزيز الربعي
الحديث عن تشكيل قيم الوعي المادية والروحية؛ حديث هويةٍ جمعيَّة لا ينفك
عن ظروف الأمم ومناهج تفكيرها، وهو بكل حال حديث ذو شجون قلَّ أن يتاح
لمرء مناقشته في فرصة، أو تشخيصه في مقالة؛ ولذا فكتابة اليوم أمشاج فِكَر
تنتمي إلى مرحلة بعدية منه، أرجو ألا أجانب المنهج العلمي إن قلت: إن البحث
فيها مدخل ضروري لفهم أوَّلياتها؛ وهي أوليات مهمة بلا ريب آمل أن يتسع الوقت
لمناقشتها لاحقاً.
وبدءاً، لا مناص من الإشارة إلى أنّ رُتْبَتَيِ القِيَم: المادة والروح مرتبطتان
تماماً بالفعل الجمعي، مما يجعله بحثاً شاملاً لمناهج السيكيولوجيين والديموغرافيين
المتميزة بالتباين المنهجي والتكامل البحثي، وهو أمر يشير كذلك إلى أهمية
اصطحاب المناهج التطبيقية في البحوث المشاكلة، وصلة القيم بهذا تتأتى من القول
بأن ملامح القسمين الآنفين تفريعٌ غنيُّ الدلالة لتلك المناهج؛ فالمعطى المادي قيمياً
في التفكير والممارسة قريب الصلة بالعلاقات الإنسانية المتصفة بالجماهيرية
والوقتية وعدم الفرز، مما يمنحها نعوت البراءة في التطبيق لمصطلح (العولمة)
في مجالات بعينها. أما القيمة الروحية النوعية فعلى العكس؛ إذ ترتبط غالباً
بالتشكيل الذاتي، وقد تخرج إلى فضاءات أرحب نسبياً، وتتميز بالتحليل والتروي
والتفكير الطويل.
ما أرمي إليه من هذه المقدمة، أولاً، التأكيد على أن قيم الروح تشكل في
مناخات بالغة الحساسية، متميزة بالجدية والعملية والمعيارية، وهذا ما يجعلها
صعبة على الطبيعة الإنسانية المجبولة على ضد هذه الصفات من تعلُّق باللهو
والكسل وعدم الانضباط، وكل هذه الصفات وما ناظرها تؤول بسببٍ إلى الهوى
الغلاب أو الجهل بحقائق الاستخلاف ومقاصده. والناظر في النصوص الشرعية
يجد هذه المعالم بارزة أشد ما يكون في قصص المرسلين وحواراتهم عليهم صلوات
الله وسلامه مع مخالفيهم، بل وفي مجمل النص خبراً وإنشاءاً، بحسب الأصوليين.
والقصد الأبعد التالي هو التركيز على أن صراع القيم في المجتمعات صراع
طبعي قد قدره الله تعالى، بل إنه سبحانه خلق الخلق على شاكلة مختلفة في الطاعة
والمعصية. وأهل المعصية مختلفون متفرقون فيها، دون (أهل التوحيد) إذ هم
الأمة الواحدة يدل عليه قوله تعالى: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ....] (هود: 118-119) .
فالناس لا يزالون «مختلفين في أديانهم على أديان وملل وأهواء شتى، (إلا من
رحم ربك) فآمن بالله وصدق رسله؛ فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق
رسله، وما جاءهم من عند الله» [1] ، ويؤكد هذا المعنى أن الآية الكريمة وضَّحت
أن الخلق قد جاؤوا على هذا التقدير الحكيم: [وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] (هود: 119) ،
أي: «وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم» [2] ، دون أن يُفهم منه أن المختلفين
غير ملومين على اختلافهم كما فهمت المعتزلة؛ بل اللام هنا بمعنى (على) [3] ،
أي: وعلى هذا التقدير خلقهم. بل أبعد من هذا الأسلوب الخبري: أن تتضمن
آيات الذكر الحكيم والحديث الشريف أساليب إنشائية كثيرة تحث على الموازنة بين
قيم المادة والروح، وأبعد: أن تنهى عن القعود والتبتل والانقطاع التام عن الدنيا؛
إذ فيه أي الانقطاع مفاسد تتنافى مع حِكَمِ المولى تبارك وتعالى في الاستخلاف.
المهم: إدراك أن الاختلاف القيمي سُنَّة ربانية لا سبيل لدفعها؛ ولذا فالحديث
يرمي إلى محاور ذاتية داخل حيز الحقيقة الكونية الكبرى، وهي ما تمثل مجالات
البحث والمراجعة والتقويم. ولئن كانت الآية الكريمة تقرر هذه الحقائق بسبيل عام
ومقاصد كبرى فإن في الواقع الواحد الذي يتميز أهله بأنهم (لا يختلفون في توحيد
الله.. . إلخ) كثيراً من سلبيات التطبيق للقيم وممارساتها الفردية والجمعية،
وكثيراً من الآثار المترتبة على الخلل المنهجي والمضموني في تعامل مؤثرات
التوعية وآلياتها مع الجماهير، ولعلي أكتفي هنا بالإشارة إلى مفارقات الوعي بين
نوعي القيم؛ حيث طغت على الأجيال الجديدة القيم المادية المرتبطة كما سلف
بالهوى والكسل على حساب قيم فضلى تمثل على سبيل الحقيقة صِمَام أمان للمجتمع
من الفراغ النفسي والروحي، وهذا الاهتمام السالب يتوجه بأوَّلية إلى النشاط الذهني
والفكري لأثرهما الكبير على المناشط الأخرى.
والحقيقة الكبرى التي لا ينبغي أن تغيب عنا؛ أن هذه الأجيال لا تتحمل تبعة
المفارقات القيمية وحدها؛ بل ثمة روافد كثيرة ومؤثرات عدة، تعمل عملها في
تشكيل مخيلات التوعية لهم وللأمة بعموم؛ فالبيت مثلاً وهو النواة الأولى للأجيال،
كثيراً ما تنعكس سلبياته على التشكيل القيمي للشاب. وفي ظروف كثيرة يعمل
التخلخل العلائقي بين قطبي البيت على تمزيق القيم الإيجابية لدى المُشاهد الراصد
(المؤثَّر فيه) = الابن، ومن ثم تجد القيم السلبية طريقها الرحب في وعيه
المنعكس على سلوكه. إن كثيراً من مشكلات الشباب القيمية أياً كان نوعها هي في
الغالب حصيلة طبيعية لمآسٍ ذاقوا ويلاتها وتجرعوا غصصها، فلم يجدوا سوى
السلوك المشين للتعبير عن رفضها والسخط عليها هذا من جهة. وهم لم يجدوا
سوى الحرية غير المؤطرة لإشباع رغباتهم النفسية الظامئة من جهة أخرى؛ فهم
ناقمون ظامئون.
مشكلة المؤثرات التي تنصهر في مثال البيت أنها بعيدة عن إدراك حاجة
الجيل للقيم الروحية. ومشكلة آليات تشكيل الوعي أنها لا تنظر إلى النفس قدر
نظرتها إلى أهداف أخرى؛ فالقنوات الفضائية (الفضائحية) تتعامل مع القيم
والمجتمع تعاملاً تجارياً صرفاً، همها الأول والأخير: الاستقطاب. ولا بأس
عندهم أن يكون هذا الاستقطاب على حساب القيم الشعورية والروحية للمشاهد؛ إذ
هي أبعد ما تكون عن الإسهام في تشكيل القيم الإيجابية في النشء، ناهيك عن
القنوات التي ترمي، أصلاً، إلى خلخلة القيم بشكل صريح، وكثير من الكتّاب
الصحفيين مشغول بغير شغل، وجُلُّ دور النشر تقذف التشكيك العقدي، (وتسهم)
بدفع الروايات الخواء للجيل!
في هذا الجو الملوث تتشكل القيم! غير أنها القيم المادية التي تعمل في
النفوس عملها السالب، فتضخم الشك، وتفرغ الفكر، وتسلم متلقيها إلى مهاوي
الردى! في مثل هذه الظروف الصعبة، وإن تنوعت درجاتها، تتصف القيم
المشكَّلة بالسلبية الحادة التي لا يمكن دفعها بآمال عابرة، ويُصاب الجيل بأزمة قيمية
عنيفة ينعكس صداها على سلوكهم اليومي في مناشط الحياة كافة. والذي يحز في
النفس أن تتعامل بعض الدوائر التربوية والأكاديمية إزاء ظاهرة الهبوط القيمي لدى
الشباب بـ (سوريالية) غير مفسَّرة، وذلك عندما تحلل أسبابها أي الظاهرة بضيق
أفق ظاهر، بعيداً عن تلمس المؤثرات الفاعلة. إن الجيل الذي يُمارس فاعليته
السلبية في القيم والوعي هو على العموم ضحية العوامل المؤثرة، وهو في الوقت
ذاته يعيش فراغاً نفسياً هائلاً يندر فيه الموجه الحكيم!
إن كثيراً من الذين نرى فيهم الشر والنزعة الجامحة لقيم المادة الطاغية، إنما
هم في الأعم الأغلب ذوو نفوس حيرى، قد أرهقهم الضيم الذي عايشوه، وأودى
بهم القَيِّم غير الكفء، ونفوسهم في الوقت ذاته نفوس عطشى لمتجرد نبيل ينتشلها
من سَوْرَاتِ الخوف والضنك في مثالها الذي تعيشه من قيم دنيا، إلى رحاب
الطمأنينة والحب والخير متجسدة في قيم الروح الفاضلة. وهكذا كلُّ نفس تجد في
مربيها الصد والخوف، تسعى لأمانها الضائع، وتهش لبارقة أمل من حكيم يُخرجها
من تيه المادة إلى يقين الروح.
إن السحرة الذين حشرهم فرعون لمواجهة موسى عليه السلام مع الإشارة إلى
الفرق في المثال قد جاؤوا بنفوس ظاهرها الحرص على الشر والرغبة في المغالبة
يُقصيهم عن الود كفرهم بالله، وذاك الخطاب الشهير يوم الزينة؛ إذ جاء مكثفاً
بالتذلل والخنوع لفرعون الذي يقول لبني إسرائيل: [مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي] (القصص: 38) ، [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] (النازعات: 24) ، ويقول لموسى: [قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ] (الشعراء: 29) . إنهم
يقولون، في مواجهة الداعية عليه السلام مستظهرين العزة، محاولين الترهيب
بالقسم: [بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ] (الشعراء: 44) . هؤلاء
المتظاهرون بالطغيان والجبروت، ما هم في الحقيقة سوى أصحاب نفوس ضائعة،
نفوس فارغة من الهم، مكتظة بالفراغ، سابحة في الضيق الذي لا ترى منه
مخلصاً إلا بالعبّ من الشهوات. وهم لذلك لم يشترطوا على حاشرهم (فرعون)
إلا المال فقضيتهم التمتع فحسب، ولو كانوا أولي هدف لعملوا لنصرة سيدهم ورب
نعمتهم؛ أما وقلوبهم هواء من برد اليقين، غريبة غرابة مواجدهم، فليسألوا المال
طرداً للهمِّ بالهمِّ. إنهم بعيدون في شعورهم من مشاركة فرعون مشاركة وجدانية،
بل هم أُجراء: [أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ] (الشعراء: 41) . وحين
يرى هؤلاء آيات اليقين وأمارات الطمأنينة بالإيمان ينجلي الغبش وتهفو النفس.
وحين يعاتبهم الطاغية على اليقين ويستكثر عليهم الطمأنينة تصدع النفوس قبل
الألسن بأنه كان سبب السلب الحقيقي وأداة القيمة المادية الفاعلة: [إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا
لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى] (طه: 73) ،
إنه كان يُكرههم على القيمة السالبة بسخرتهم في تعلم السحر وصرفهم إليه صغاراً،
فهو متجبر في القوامة، قد سلبهم أمانَ النشء ويقين الفطرة، وغشهم في الرعاية.
إن علماء النفس والاجتماع الغربيين يتحدثون عن إشكاليات خطيرة في واقع
الأجيال، وهي مشكلات تزداد صعوبة في كل يوم في أزمنة القيم المادية المشرعة؛ فمثلاً نجد أن المنتسبين إلى حركة (حافظي الوعد) (Promise keeprs)
الغربية وهم في ازدياد قد سئموا سُعار المادة الطاغي، فأجمعوا على بنود سبعة
تمثل بالنسبة لهم أسس الممارسة، وعليها بناء الوعي القيمي لشبابهم، وهي بنود
تطغى عليها الديانة النصرانية وتتوجه إلى ربط الجيل بمستوى أخلاقي نوعي؛ إذ
يشير البند الثالث إلى أن على المنتسب للحركة الالتزام بممارسة (الطهارة الروحية
والمعنوية والأخلاقية والجنسية) وفي فقرة أخرى نلحظ الاهتمام بالتكافل الاجتماعي
ولو على نطاق ضيق [4] . ونحن مع التسليم بضلالهم المبني على سوء الاعتقاد
بالله ورسله واليوم الآخر، لا نرمي إلى مناقشة تلك الأسس من منظور إسلامي،
بل القصد: الإشارة إلى الرغبة الطاغية لأمم الأرض اليوم في استعادة شيء من
الهوية، وحرصها على تشكيل الجيل تشكيلاً جديداً ينأى به عن طغيان المادة وفراغ
الحضارة الموحش. ونرمي من وراء ذلك كله للتساؤل الملحّ: أفليس المسلمون
وهم أهل الحق والدين القويم أجدر الأمم بالعمل على استعادة تاريخهم المجيد بتربية
أجيالهم على قيم الدين المستقيم؟ أفليس المسلمون أوْلى الناس بالعمل على مغالبة
أزمنة الوهن بتحصين أجيالهم وتشكيل وعيهم تشكيلاً قيمياً نافعاً؟ ولا ريب أنها
مهمة كبيرة على المربين، غير أن ثمة بواعث واقعية ينبغي أن تجعلهم يستسهلون
الصعب، كان من آخرها المسابقة التي أجرتها إحدى الإذاعات العربية؛ حيث لم
يستطع مستمع واحد أن يذكر اثنين من المبشَّرين بالجنة، في حين لم يتخلف أحد
عن الإجابة الصحيحة في ذكر «اللقب» الشهير للمطرب الذي رحل يوم كان
المستمعون الآن ما يزالون في أصلاب آبائهم!!